ج3وج4.معانى القرآن للفراء أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء
كانوا
يقعدون لمن آمن بالنبىّ على طرقهم يتوعّدونهم بالقتل. وهو الإيعاد والوعيد. إذا
كان مبهما فهو بألِف، فإذا أوقعته فقلت: وعدتك خيرا أو شرا كان بغير ألف؛ كما قال تبارك
وتعالى: {النارُ وعدها الله الذِين كفروا}.
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا
فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن
نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ }
وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا...}
يريد: اقض بيننا، وأهل عُمَان يسمون القاضى الفاتح
والفتَاح.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن
بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
}
وقوله: {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ...}
ثم قال:
{ونطبع} ولم يقل: وطبعنا، ونطبع منقطعة عن جواب لو؛ يدلّك على ذلك قوله: {فَهُمْ
لاَ يَسْمَعُونَ}؛ ألا ترى أنه لا يجوز فى الكلام: لو سألتنى لأعطيتك فأنت غنىّ,
حتى تقول: لو سألتنى لأعطيتك فاستغنيت. ولو استقام المعنى فى قوله: {فَهُمْ لاَ
يَسْمَعُونَ} أن يتصل بما قبله جاز أن تردّ يفعل على فعل فى جواب لو؛ كما قال الله
عز وجل: {ولو يعجل الله لِلناسِ الشر استِعجالهم بِالخيرِ لقضِى إليهم أجلهم فنذر
الذِين لا يرجون} فنذر مردودة على (لقضِى) وفيها النون. وسهَّل ذلك أنّ العرب لا
تقول: وذرت، ولا ودعت؛ إنما يقال بالياء والألف والنون والتاء؛ فأوثرت على فعلت
إذا جازت؛ قال الله تبارك وتعالى: {تبارك الذِى إن شاء جعل لك خيرا مِن ذلِك} ثم قال: {ويجعل لك قصورا} فإذا أتاك جواب لو
آثرت فيه (فعل على يفعل) وإن قلته ينفعل جاز، وعطف فعل على يفعل ويفعل على فعل
جائز، لأن التأويل كتأويل الجزاء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ
الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ }
وقوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ...}
ويقرأ:
(حقيقٌ علىّ أن لا أقول) وفى قراءة عبدالله: (حقيق بأن
لا أقول على الله) فهذه حجة من قرأ (على) ولم يِضِف. والعرب تجعل الباء فى موضع
على؛ رميت على القوس، وبالقوس، وجئت على حال حسنةٍ وبحال حسنةٍ.
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ }
وقوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ...}
هو الذكر؛ وهو أعظم الحيّات.
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ }
وقوله: { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ...}
فقوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ
أَرْضِكُمْ} من الملأ {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} من كلام فرعون. جاز ذلك على كلامهم
إياه، كأنه لم يحك وهو حكاية. فلو صرّحت بالحكاية لقلت: يريد أن يخرجكم من أرضكم،
فقال: فماذا تأمرون. ويحتمل القياس أن تقول على هذا المذهب: قلت لجاريتك قومى فإنى
قائمة (تريد: فقالت: إنى قائمة) وقلَّما أتى مثله فى شعر أو غيره، قال عنترة:
الشاتَمِىْ عِرْضى ولم أشتِمْهُما * والناذرَيْنِ إِذا
لقيتهما دمى
فهذا شبيه بذلك؛ لأنه حكاية وقد صار كالمتصل على غير
حكاية؛ ألا ترى أنه أراد: الناذرَين إذا لقينا عنترةَ لنقتلنّه، فقال: إذا لقيتهما،
فأخبر عن نفسه، وإنما ذكراه غائبا. ومعنى لقيتهما: لقيانى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي
الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ }
وقوله: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ...}
جاء التفسير: احبسهما عندك ولا تقتلهما، والإرجاء تأخير
الأمر. وقد جزم الهاءَ حمزةُ والأعمش. وهى لغة للعرب: يقفون على الهاء المكنىّ
عنها فى الوصل إذا تحرك ما قبلها؛ أنشدنى بعضهم:
أنحى علىَّ الدهر رجلا ويدا * يُقسم لا يُصلح إلا أفسدا
* فيصلح اليوم ويفسدُهْ غدا *
وكذلك بهاء التأنيث؛ فيقولون: هذه طلحهْ قد أقبلت، جزم؛
أنشدنى بعضهم:
لما رأى أن لاّدعَهْ ولا شِبَعْ * مال إلى أرطاة حِقْف
فاضطجع وأنشدنى القَنَانىّ:
لستُ إذاً لزَعْبَلَهْ إن لم أُغَـ * يِّرْ بِكْلَتِى إن
لم أُساوَ بالطُوَل
بِكْلَتِى: طريقتى: كأنه قال: إن لم أغيِّرْ بكلتى حتى
أساوَى. فهذه لامرأة: امرأة طُولى و[نساء] طُوَل.
{ قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن
نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ }
وقوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ
نَحْنُ الْمُلْقِينَ...}
أدخل
(أن) فى (إما) لأنها فى موضع أمر بالاختيار. فهى فى موضع نصب فى قول القائل:
اختر ذا أو ذا؛ ألا ترى أن الأمر بالاختيار قد صلح فى موضع إمّا.
فإن قلت: إن (أو) فى المعنى بمنزلة (إمّا وإمّا) فهل
يجوز أن يقول يا زيد أن تقوم أو تقعد؟ قلت: لا يجوز ذلك؛ لأن أول الاسمين فى (أو)
يكو خبرا يجوز السكوت عليه، ثم تستدرِك الشكّ فى الاسم الآخِر، فتُمضى الكلام على
الخبر؛ ألا ترى أنك تقول: قام أخوك، وتسكت، وإن بدا لك قلت: أو أبوك، فأدخلت الشكّ،
والاسم الأول مكتفٍ يصلح السكوت عليه. وليس يجوز أن تقول: ضربت إمّا عبدالله
وتسكت. فلمَّا آذنت (إمّا) بالتخيير من أول الكلام أحدثْتَ لها أن. ولو وقعت إمّا
وإمّا مع فعلين قد وُصِلا باسم معرفة أو نكرة ولم يصلح الأمر بالتمييز فى موقع
إمّا لم يحدث فيها أن؛ كقول الله تبارك وتعالى: {وآخَرُون مُرْجَون لأَمْرِ الله
إمَّّّا يعذِّبُهم وإمَّا يَتُوب عَلَيْهِمْ} ألا ترى أن الأمر لا يصلح ها هنا،
فلذلك لم يكُنْ فيه أن. ولو جعلت (أن) فى مذهب (كى) وصيَّرتها صلة لـ (مرجون) يريد
أُرجئوا أن يعذبوا أو يتاب عليهم، صلح ذلك فى كل فعل تامّ، ولا يصلح فى كان
وأخواتها ولا فى ظننت وأخواتها. من ذلك أن تقول آتيك إما أن تعطى وإما أن تمنع.
وخطأ أن تقول: أظنك إما أن تعطى وإما أن تمنع، ولا أصبحت إما أن تعطى وإما أن تمنع. ولا تُدخلنَّ
(أو) على (إما) ولا (إما) على (أو). وربما فعلت العرب ذلك لتآخيهما فى المعنى على
التوهّم؛ فيقولون: عبدالله إما جالس أو ناهض، ويقولون: عبدالله يقوم وإما يقعد.
وفى قراءة أبَىّ: (وإنا وإيَّاكم لإمَّا على هدى أو فى ضلال) فوضع أو فى موضع إما.
وقال الشاعر:
فقلت لهن امشين إِمَّا نلاقِه * كما قال أو نشف النفوس
فنعذرا
وقال آخر:
فكيف بنفس كلما قلت أشرفت * على البرء من دهماء هِيض
اندمالها
تُهاض بدارٍ قد تقادم عهدُها * وإمّا بأمواتٍ ألمَّ
خيالها
فوضع
(وإمّا) فى موضع (أو). وهو على التوهم إذا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما
بشىء هنالك يجوز التوهم؛ كما تقول: أنت ضاربُ زيدٍ ظالما وأخاه؛ حين فرقت بينهما
بـ (ظالم) جاز نصب الأخ وما قبله مخفوض. ومثله {يا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ
تُعَذِّبَ وإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهم حُسْناً} وكذلك قوله {إِمَّا أنْ تُلْقِىَ
وإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}.
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
}
وقوله: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ...}
و(تَلَقَّفُ). يقال لقِفت الشىء فأنا ألقفه لقفا، يجعلون
مصدره لقفانا، وهى فى التفسير: تبتلع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ...}
معناه:
أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سِحرا لعادت
حبالَنا وعِصينّا إلى حالها الأولى، ولكنها فُقِدت. فذلك قوله (فوقع الحق): فتبين
الحق من السحر.
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ
لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ
مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {آمَنتُمْ بِهِ...}
يقول: صدّقتموه. ومن قال: (آمنتم له) يقول: جعلتم له
الذى أراد.
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ
خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }
وقوله: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ...}
مشدّدة، و(لأَصْلِبنَّكم) بالتخفيف قرأها بعض أهل مكة.
وهو مثل قولك: قتلت القوم وقتَّلتهم؛ إذا فشا القتل جاز التشديد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَقَالَ
الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي
الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }
وقوله: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ...}
لك فى (ويذرك) النصب على الصرف؛ لأنها فى قراءة أبىّ (أتذر
موسى وقومه لِيفسِدوا فِى الأرض وقد تركوك أن يعبدوك) فهذا معنى الصرف. والرفع لمن
أتبع آخر الكلام أوّله؛ كما قال الله عز وجل {من ذا الذِى يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً
حَسَناً فَيُضَاعِفه} بالرفع. وقرأ بن عباس (وإلاهتك) وفسَّرها: ويذرك وعبادتك؛
وقال: كان فرعون يُعبد ولا يَعبد.
{ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن
بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }
وقوله: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ
مَا جِئْتَنَا...}
قال: فأما الأذى الأوّل فقتله الأبناء واستحياؤه النساء. ثم لمَّا
قالوا له: أنَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض قال: أُعِيد على أبنائِهم القتل وأَستحى
النساء كما كان فعل. وهو أذى بعد مجىء موسى.
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ
وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
وقوله {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ...}
أخذهم بالسنين: القحط والجدوبة عاما بعد عام.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا
هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا
إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله:
{فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ...}
والحسنة ها هنا الخفض.
وقوله:
{لَنَا هَاذِهِ} يقولون: نستحقّها {وَإِن تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ} يعنى الجدوبة (يّطّيروا) يتشاءموا (بِموسى) كما تشاءمت اليهود بالنبىّ
صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: غلت أسعارنا وقلّت أمطارنا مذ أتانا.
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ
وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
}
وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ...}
أرسل الله عليهم السماء سَبْتا فلم تقلِع ليلا ونهارا، فضاقت بهم الأرض من تهدّم بيوتهم وشُغُلهم عن ضِياعهم، فسألوه أن يرفع عنهم، فرفِع فلم يتوبوا، فأرسل الله عليهم (الجراد) فأكل ما أنبتت الأرض فى تلك السنة. وذاك أنهم رأوا من غِبّ ذلك المطر خصبا لم يروا مثله قطُّ، فقالوا: إنما كان هذا رحمة لنا ولم يكن عذابا. وضاقوا بالجراد فكان قدر ذراع فى الأرض، فسألوه أن يكشف عنهم ويؤمنوا، فكشف الله عنهم وبقى لهم ما يأكلون، فطغوا به وقالوا (لن نؤمِن لك) فأرسل الله عليهم (القمل) وهو الدّبَى الذى لا أجنحة له، فأكل كلّ ما كان أبقى الجراد، فلم يؤمنوا فأرسل الله (الضفادع) فكان أحدهم يصبح وهو على فِراشه متراكب، فضاقوا بذلك، فلمَّا كُشِف عنهم لم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم (الدم) فتحوّلت عيونهم وأنهارهم دما حتى موّتت الأبكارُ، فضاقوا بذلك وسألوه أن يكشفه عنهم فيؤمنوا، فلم يفعلوا، وكان العذاب يمكث عليهم سبتا، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فذلك قوله {آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} ثم وعد الله موسى أن يغرق فرعون، فسار موسى من مصر ليلا. وبلغ ذلك فرعون فأتبعه - يقال فى ألف ألف ومائة ألف سوى كتيبته التى هو فيها، ومُجَنِّبَتيه - فأدركهم هو وأصحابه مع طلوع الشمس. فضرب موسى البحر بعصاه فانفرج له فيه اثنا عشر طريقا. فلمَّا خرجوا تبعه فرعون وأصحابه فى طريقه، فلما كان أوّلهم يَهُمّ بالخروج وآخرهم فى البحر أطبقه الله تبارك وتعالى عليهم فغرَّقهم. ثم سأل موسى أصحابُه أن يخرج فرعون ليعاينوه، فأخرِج هو وأصحابه، فأخذوا من الأمتعة والسلاح ما اتخذوا به العِجْل.
{ وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي
إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
}
وقوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا...}
فتنصب مشارق ومغارب تريد: فى مشارق الأرض وفى مغاربها،
وتوقع (وأورثنا) على قوله { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. ولو جعلت (وأورثنا) واقعة على
المشارق والمغارب لأنهم قد أُورثوها وتجعل (التى) من نعت المشارق والمغارب فيكون نصبا،
وإن شئت جعلت (التى) نعتا للأرض فيكون خفضا.
وقوله: (وما ظلمونا) يقول: وما نقصونا شيئا بما فعلوا، ولكن
نقصوا أنفسهم. والعرب تقول: ظلمت سِقاءك إذا سقيته قبل أن يُمخض ويخرج زُبْده.
ويقال ظلم الوادى إذا بلغ الماء منه موضعا لم يكن ناله فيما خلا؛ أنشدنى بعضهم:
يكاد يطلع ظلما ثم يمنعه * عن الشواهِق فالوادِى به شِرق
ويقال:
إنه لأظلم من حيَّة؛ لأنها تأتى الجُحْر ولم تحفِره
فتسكنه. ويقولون: ما ظلمك أن تفعل، يريدون: ما منعك أن تفعل، والأرض المظلومة: التى
لم ينلها المطر، وقال ابو الجراح: ما ظلمك أَن تفِىء، لرجل شكا كثرة الأكل. ويقال صَعِق
الرجل وصُعِق إذا أخذته الصاعقة، وسَعِد وسُعِد ورَهِصت الدابة ورُهِصت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ
عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ
يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ }
وقوله: {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ...}
كان جسدا مجوّفا. وجاء فى التفسير أنه خار مرة واحدة.
{ وَلَمَّا
سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ
يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وقوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ...}
من الندامة. ويقال: أسقِط لغة. و(سقِط فى أيديهم) أكثر
وأجود. {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} نصب بالدعاء (لئِن لم ترحمنا
ربنا) ويقرأ (لئِن لم يرحمنا ربُّنا) والنصب أحبّ إلىّ؛ لأنها فى مصحف عبدالله (قالوا ربَّنا لئِن
لم ترحمنا).
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ
أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ
قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي
فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ...}
تقول: عجِلت الشىء: سبقته، وأعجلته استحثثته.
وقوله:
{وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} ذكر أنهما كانا لوحين. وجاز أن
يقال الألواح للاثنين كما قال {فإنْ كان لَهُ إخْوَةٌ} وهما أخوان وكما قال {إن
تَتُوبَا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وهما قلبان.
وقوله
تبارك وتعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} يقرأ (ابن أمَّ، وأُمِّ) بالنصب والخفض، وذلك أنه
كثر فى الكلام فحذفت العرب منه الياء. ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم
المنادَى يضيف المنادِى إلى نفسه، إلاّ قولهم: يا بن عمّ يا بن أمِّ. وذلك أنه يكثرا استعمالهما فى كلامهم.
فإذا جاء مالا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا: يا بن أبى، ويا بن أخى، ويا بن خالتى،
فأثبتوا الياء. ولذلك قالوا: يا بن أمَّ، ويا بن عمَّ فنصبوا كما تنصب المفرد فى بعض
الحالات، فيقال: حسرتا، ويا ويلتا، فكأنهم قالوا: يا أمّاه، ويا عمَّاه. ولم
يقولوا ذلك فى أخ، ولو قيل كان صوابا. وكان هارون أخاه لأبيه وأمّه. وإنما قال له
(يا بن أم) ليستعطفه عليه.
وقوله: {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ} من أشمت، حدّثنا
محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنا سفيان بن عُيينة عن رجل - أظنه الأعرج - عن
مجاهد أنه قرأ (فلا تَشْمِت بى) ولم يسمعها من العرب، فقال الكسائىّ: ما أدرى
لعلهم أرادوا (فلا تَشْمَت بِى الأعداءُ) فإن تكن صحيحة فلها نظائر، العرب تقول
فرغت: وفرِغت. فمن قال فرَغت قال: أنا أفرُغ، ومن قال فرِغت قال أنا أَفرَغ،
ورَكَنت ورِكنت وشمِلهم شر، وشمَلهم، فى كثيرمن الكلام. و(الأعداء) رفع لأن الفعل
لهم، لمن قال: تَشْمَت أو تَشْمِت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً
لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ
مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن
تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }
وقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً...}
وجاء
التفسير: اختار منهم سبعين رجلا. وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذ طرحت (مِن) لأنه مأخوذ من قولك: هؤلاء خير
القوم، وخير من القوم. فلما جازت الإضافة مكان (مِن) ولم يتغير المعنى استجازوا أن
يقولوا: اخترتكم رجلا، واخترت منكم رجلا.
وقد قال الشاعر:
فقلت له اخترها قَلُوصا سمِينة * وناباً علينا مثل نابك
فى الحَيَا
فقام إليها حَبْتَر بِسلاحِهِ * فللّه عينا حَبْتَرٍ
أَيَّما فتى
وقال الراجز:
* تحت الذى اختار له الله الشجو *
وقوله:
{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} وذلك
أن الله تبارك وتعالى أرسل على الذين معه - وهم سبعون - الرجفة، فاحترقوا، فظنّ
موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل، فقال: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، وإنما
أهلكوا بمسألتهم موسى (أرنا الله جهرة).
وقوله {ثم اتخذوا العِجل} ليس بمردود على قوله {فأخذتهم
الصاعقة} ثم اتخذوا؛ هذا مردود على فعلهم الأوّل. وفيه وجه آخر: أن تجعل (ثم) خبرا
مستأنفا. وقد تستأنِف العرب بثم والفعلُ الذى بعدها قد مضى قبل الفعل الأوّل؛ من
ذلك أن تقول للرجل: قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا؛ فتكون (ثم) عطفا على
خبر المخبر؛ كأنه قال: أخبرك أنى زرتك اليوم، ثم أخبِرك أنى زرتك أمس.
وأمّا
قول الله عزَّ وجلّ {خلقكم مِن نفسٍ واحِدةٍ ثم جعل مِنها زوجها} فإن فيه هذا
الوجه؛ لئلا يقول القائل: كيف قال: خلقكم ثم جعل منها زوجها والزوج مخلوق قبل
الولد؟ فهذا الوجه المفسّر يدخل فيه هذا المعنى. وإن شئت جعلت (ثم) مردودة على
الواحدة؛ أراد - والله أعلم - خلقكم من نفس وَحْدها ثم جعل منها زوجها، فيكون (ثم) بعد خلقه آدم
وحده. فهذا ما فى ثم. وخِلْقةُ ثُمَّ أن يكون آخِر. وكذلك الفاء. فأمّا الواو فإنك
إن شئت جعلت الآخِر هو الأوّل والأوّل الآخر. فإذا قلت: زرت عبدالله وزيدا،
فإيَّهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة، وإذا قلت: زرت عبدالله ثم زيدا، أو زرت عبدالله
فزيدا كان الأوّل قبل الآخِر، إلا أن تريد بالآخر أن يكون مردودا على خبر المخبر
فتجعله أوّلا.
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً
أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب
بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا
وَلَاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وقوله: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ...}
فقال: اثنتى عشرة والسِبط ذكر لأن بعده أمم، فذهب
التأنيث إلى الأمم. ولو كان (اثنى عشر) لتذكير السبط كان جائزا.
{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ
يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ
نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
}
وقوله:
{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ...}
والعرب تقول: يُسْبِتون ويَسْبِتون وسَبَت وأَسبت. ومعنى
اسبتوا: دخلوا فى السبت، ومعنى يَسبِتون: يفعلون سبتهم. ومثله فى الكلام: قد
أجمعنا، أى مرَّت بنا جُمعة، وجَمَّعنا: شهدنا الجمعة. قال وقال لى بعض العرب:
أترانا أشهرنا مذ لم نلتق؟ أراد: مرَّ بنا شهر.
{وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} منصوب بقوله: {لاَ
تَأْتِيهِمْ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
وقوله: {قَالُواْ مَعْذِرَةً...}
إعذارا فعلنا ذلك. وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة.
وقد آثرت القراء رفعها. ونصبها جائز. فمن رفع قال: هى معذرة كما قال: {إِلا ساعة مِن
نهارٍ بلاغ}.
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ...}
الجزيةَ إلى يوم القيامة.
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ
الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا
فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
وقوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ
الْكِتَابَ...}
و{خَلْف
أضاعوا الصلاة} أى قرن، بجزم اللام، والخلَف: ما استخلفته، تقول: أعطاك الله
خَلَفا مما ذهب لك، وأنت خَلَف سَوْء، سمعته من العرب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ
الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ...}
ويقرأ (يُمْسِكون بالكتاب) ومعناه: يأخذون بما فيه.
{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ
ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
وقوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ...}
رفع الجبل على عسكرهم فرسخا فى فرسخ. (نَتَقْنا): رفعنا.
ويقال: امرأة مِنتاق إذا كانت كثيرة الولد.
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
وقوله: {وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ...}
ركن إليها وسكن. ولغة يقال: خلد إلى الأرض بغير ألف، وهى
قليلة. ويقال للرجل إذا بقى سواد رأسه ولحيته: إنه مُخْلِد، وإذا لم تسقط أسنانه
قيل: إنه لمخلد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ يَسْأَلُونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ
تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا...}
المرسى فى موضع رفع.
{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ثقل على أهل
الأرض والسماء أن يعلموه.
وقوله:
{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} كأنك حفىّ عنها مقدّم ومؤخر؛ ومعناه
يسألونك عنها كأنك حفِىّ بها. ويقال فى التفسير كأنك حفِىّ أى كأنك عالم بها.
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً
إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ
مِنَ الْخَيْرِ...}
يقول:
لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة
المخصبة، ولعرفت الغلاء فاستعددت له فى الرُخْص. هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ
حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا
لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
وقوله: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً...}
الماء خفيف على المرأة إذا حملت.
{فَمَرَّتْ بِهِ} فاستمرّت به: قامت به وقعدت.
{فَلَمَّآ
أَثْقَلَتْ}: دنت ولادتها، أتاها إبليس فقال: ماذا فى بطنك؟ فقالت: لا أدرى. قال:
فلعله بهيمة، فما تصنعين لى إن دعوت الله لكِ حتى يجعله إنسانا؟ قالت: قل، قال:
تسمّينه باسمى. قالت: وما أسمك؟ قال: الحرث. فسَّمته عبد الحارث، ولم تعرفه أنه
إبليس.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ
فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ...}
إذ قالت: عبد الحارث، ولا ينبغى أن يكون عبدا إلا لله.
ويقرأ: "شِرْكاً".
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ }
وقوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً...}
أراد الألهة بـ (ما)، ولم يقل: من، ثم جعل فعلهم كفعل
الرجال. وقل: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ولا يملِكون.
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ
أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ }
وقوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ...}
فجعل الفعل للرجال.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ
سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }
وقوله: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى...}
يقول: إن يَدْعُ المشركون الآلهة إلى الهدى لا يتبعوهم.
وقوله:
{سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
صَامِتُونَ} ولم يقل: أم صممتُّم. وعلى هذا أكثر كلام العرب: أن يقولوا: سواء علىّ
أقمت أم قعدت. ويجوز: سواء علىَّ أقمت أم أنت قاعد؛ قال الشاعر:
سواء إذا ما أصلح الله أمرهم * علينا أَدَثْرٌ ما لُهُم
أم أَصارِم
وأنشدنى الكسائى:
سواء عليك النفْرُ أم بِتَّ ليلة * بِأهل القِباب مِن
نُميرِ بنِ عامِرِ
وأنشده
بعضهم (أو أنت بائت) وجاز فيها (أو) لقوله: النفر؛ لأنك تقول: سواء عليك الخير
والشر، ويجوز مكان الواو (أو) لأن المعنى جزاء؛ كما تقول: اضربه قام أو قعد. فـ
(أو) إلى معنى العموم كذهاب الواو.
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ
وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }
وقوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ...}
يريد الآلهة: أنها صُوَر لا تبصر. ولم يقل: وتراها لأن
لها أجساما وعيونا. والعرب تقول للرجل القريب من الشىء: هو ينظر، وهو لا يراه،
والمنازل تتناظر إذا كان بعضها بحذاء بعض.
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }
وقوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ...}
وقرأ إبراهيم النخعى (طَيْف) وهو اللمم والذنب {فَإِذَا
هُم مُّبْصِرُونَ} أى منتهون إذا أبصروا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ
لاَ يُقْصِرُونَ }
وقوله {وَإِخْوَانُهُمْ...}
إخوان المشركين (يُمدُّونَهُم) فى الغىّ، فلا يتذكّرون
ولا ينتهون، فذلك قوله: (ثم لا يُقْصِرُونَ) يعنى المشركين وشياطينَهم. والعرب تقول: قد
قَصُر عن الشىء وأقصر عنه. فلو قرئت (يَقْصُرون) لكان صوابا.
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَاذَا
بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ
لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا...}
يقول: هلا افتعلتها. وهو من كلام العرب؛ جائز أن يقال:
اختار الشىء، وهذا اختياره.
{ وَإِذَا
قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
وقوله: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ
وَأَنصِتُواْ...}
قال: كان الناس يتكلمون فى الصلاة المكتوبة، فيأتى الرجل القوم
فيقول: كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا. فنهوا عن ذلك، فحرم الكلام فى الصلاة لما أنزلت
هذه الآية.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الأنفال )
{ يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ }
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ...}
نزلت فى أنفال أهل بدر. وذلك أن النبى صلى الله عليه
وسلم لمّا رأى قِلّة الناس وكراهيتهم للقتال قال: من قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر
أسيرا فله كذا. فلما فرغ من أهل بدر قام سعد بن مُعَاذ فقال: يا رسول الله إن
نفَّلت هؤلاء ما سمَّيت لهم بقى كثير من المسلمين بغير شىء، فأنزل الله تبارك
وتعالى: {قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ}: يصنع فيها ما يشاء، فسكتوا وفى
انفسهم من ذلك كراهية.
{ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }
وقوله: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ...}
على كره منهم، فامض لأمر الله فى الغنائم كما مضيت على
مُخْرَجك وهم كارهون. ويقال فيها: يسألونك عن الأنفال كما جادلوك يوم بدر فقالوا:
أخرجتنا للغنيمة ولم تعْلِمنا قتالا فنستعدَّ له. فذلك
قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}
{ يُجَادِلُونَكَ
فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ
أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }
وقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا
تَبَيَّنَ...}
وقوله: {فاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}
أمر المسلمين أن يتآسوا فى الغنائم بعد ما أمضيت لهم، أمرا ليس بواجب.
وقوله:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ}،
ثم قال {أَنَّهَا لَكُمْ} فنصب (إحدى الطائفتين) بـ "يعد" ثم كرّها على
أن يعِدكم أن إحدى الطائفتين لكم كما قال: {فهل ينظرون إِلا الساعة} ثم قال:{أَن تَأْتِيهم
بغتة} فأَن فى موضع نصب كما نصبت الساعة وقوله: {ولولا رِجال مؤمِنون ونِساء
مؤمِنات} رفعهم بـ "لولا"، ثم قال: {أَن تطئوهم} فأن فى موضع رفع بـ "لولا".
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ
أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ }
وقوله: { بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ...}
ويقرأ (مُرْدَفين) فأما (مردِفين) فمتتابعين، و(مردَفين)
فُعِل بهم.
{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
}
وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ...}
هذه الهاء للإرداف: ما جعل الله الإرداف {إِلاَّ بُشْرَى}.
{ إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ
مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }
وقوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ...}
بات المسلمون ليلة بدر على غير ماء، فأصبحوا مجنِبِين،
فوسوس إليهم الشيطان فقال: تزعمون أنكم على دين الله وأنتم على غير الماء وعدوّكم
على الماء تصلّون مجنِبِين، فأرسل الله عليهم السماء وشربوا واغتسلوا؛ وأذهب الله عنهم
رِجْز الشيطان يعنى وسوسته، وكانوا فى رمل تغيب فيه الأقدام فشدّده المطر حتى
اشتدّ عليه الرجال، فذلك قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ
بَنَانٍ }
وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
كان المَلَك يأتى الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم فيقول: سمعت هؤلاء القوم - يعنى أبا سفيان وأصحابه - يقولون: والله لئن حملوا
علينا لننكشِفَنَّ، فيحدّث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم. فذلك وحيه إلى الملائكة.
وقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} علَّمهم مواضع
الضرب فقال: اضربوا الرءوس والأيدى والأرجل.
فذلك قوله: {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
{ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ
النَّارِ }
وقوله: {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ...}
خاطب المشركين.
ثم قال:
{وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} فنصب (أَنّ) من جهتين. أما إحداهما: وذلك بأن للكافرين عذاب
النار، فألقيت الباء فنصبت. والنصب الآخر أن تضمر فعلا مثل قول الشاعر:
تسمع للأحشاء منه لغطا * ولليدين جُسْأَةً وبَدَدَا
أضمر (وترى لليدين) كذلك قال {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ} واعلموا {َأَنَّ لِلْكَافِرِينَ
عَذَابَ النَّارِ}. وإن شئت جعلت (أن) فى موضع رفع تريد: {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ} وذلكم {أَنَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}
ومثله فى كتاب الله تبارك وتعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وعَلَى سَمْعِهِمْ وعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً} قرأها عاصم فيما
حدّثنى المفضل، وزعم أن عاصما أخذها عليه مرتين بانصب. وكذلك قوله: {وحُورٌ عِينٌ}.
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً
لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ...}
هو استثناء والمتحيِّز غير مَن. وإن شئت جعلته مِن صفة
مَن، وهو على مذهب قولك: إلا أن يوليهم؛ يريد الكرّة، كما تقول فى الكلام: عبدالله
يأتيك إلاّ ماشيا، ويأتيك إلا أن تمنعه الرحلة. ولا يكون (إلا) ها هنا على معنى
قوله {إلى طعام غيرَ ناظرين إنَاهُ} لأن (غير) فى مذهب (لا) ليست فى مذهب (إلا).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ
اللَّهَ رَمَى...}
دعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بكفّ من تراب فحثاه فى وجوه القوم، وقال:
"شاهت الوجوه"، أى قبحت، فكان ذلك أيضا سبب هزمهم.
{ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ
الْكَافِرِينَ }
وقوله: {ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ
الْكَافِرِينَ...}
و(موَهِّن).
فإن شئت أضفت، وإن شئت نوّنت ونصبت، ومثله: (إنّ اللّهَ
بَالِغُ أمْرِهِ، وبَالغٌ أمْرَهُ) و (كاشفاتُ ضُرِّه، وكاشِفَاتٌ ضُرَّه).
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن
تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ
عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ...}
قال أبو جهل يومئذ: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقَّه
بالنصر، فقال الله تبارك وتعالى {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ}
يعنى النصر.
وقوله:
{وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: كسر ألفها
أحب إلىّ من فتحها؛ لأن فى قراءة عبدالله: (وإن الله لمع المؤمنين) فحسَّن هذا
كسرها بالابتداء. ومن فتحها أراد {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ
كَثُرَتْ} يريد: لكثرتها ولأن الله مع المؤمنين، فيكون موضعها نصبا لأن الخفض يصلح
فيها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ...}
أمرهم ثم نهاهم، وفيه طَرََف من الجزاء وإن كان نهيا.
ومثله قوله {يأيها النمل ادخلوا مساكِنكم لا يحطِمنَّكم} أمرهم ثم نهاهم، وفيه
تأويل الجزاء.
{ وَاذْكُرُواْ
إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
}
وقوله: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ
مُّسْتَضْعَفُونَ...}
نزلت فى المهاجرين خاصَّة.
وقوله: {فَآوَاكُمْ} يعنى إلى المدينة، {وَأَيَّدَكُم
بِنَصْرِهِ} أى قوَّاكم.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ
أَمَانَاتِكُمْ...}
إن شئت جعلتها جزما على النهى، وإن شئت جعلتها صرفا
ونصبتها؛ قال:
لا تنه عن خُلُقٍ وتأتِىَ مِثلَه * عار عليك إِذا فعلت
عظيم
وفى إحدىالقراءتين (ولا تخونوا أماناتِكم) فقد يكون أيضا
هنا جزما ونصبا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ
اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
وقوله: {إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَاناً...}
يقول: فتحا ونصرا. وكذلك قوله {يوم الفرقانِ يوم التقى
الجمعانِ} يوم الفتح والنصر.
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
وقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...}
اجتمع
نفر من قريش فقالوا: ما ترون فى محمد (صى الله عليه وسلم) ويدخل إبليس عليهم فى
صورة رجل من أهل نجد، فقال عمرو بن هشام: أرى أن تحبسوه فى بيت وتُطَيِّنوه عليه
وتفتحوا له كُوّة وتضيِّقوا عليه حتى يموت. فأبى ذلك إبليس وقال: بئس الرأى رأيك،
وقال أبو البَخْتَرِىّ بن هشام: أرى أن يحمل على بعير ثم يطرد به حتى يهلك أو
يكفيكموه بعض العرب، فقال إبليس: بئس الرأى! أتخرجون عنكم رجلا قد أفسد عامّتكم
فيقع إلى غيركم! فعلّه يغزوكم بهم. قال الفاسق أبو جهل: أرى أن نمشى إليه برجل من
كل فخذ من قريش فنضربه بأسيافنا، فقال إبليس: الرأى ما رأى هذا الفتى، وأتى جبريل
عليه السلام إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بالخبر، فخرج من مكَّة هو وأبو بكر.
فقوله (ليثبتوك): ليحبسوك فى البيت. (أو يخرِجوك) على البعير (أو يقتلوك).
{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
وقوله: {قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ...}
فى (الحق) النصب والرفع؛ إن جعلت (هو) اسما
رفعت الحق بهو. وإن جعلتها عمادا بمنزلة الصلة نصبت الحق. وكذلك فافعل فى أخوات
كان، وأظنّ وأخواتها؛ كما قال الله تبارك وتعالى {ويرى الذِين أوتو العِلم الذى
أنزِل إليك مِن ربك هو الحق} تنصب الحق لأن (رأيت) من أخوات ظننت. وكل موضع صلحت
فيه يفعل أو فعل مكان الفعل المنصوب ففيه العماد ونصب الفعل. وفيه رفعه بهو على أن
تجعلها اسما، ولا بدّ من الألف واللام إذا وجدت إليهما السبيل. فإذا قلت: وجدت عبدالله هو
خيرا منك وشرا منك أو أفضل منك، ففيما أشبه هذا الفعل النصب والرفع. النصب على أن
ينوى الألف واللام, وإن لم يكن إدخالهما. والرفع على أن تجعل (هو) اسما؛ فتقول:
ظننت أخاك هو أصغُر منك وهو أصغرَ منك. وإذا جئت إلى الأسماء الموضوعة مثل عمرو،
ومحمد، أو المضافة مثل أبيك، وأخيك رفعتها، فقلت: أظنّ زيدا هو أخوك، وأظنّ أخاك
هو زيد، فرفعت؛ إذا لم تأت بعلامة المردود، وأتيت بهو التى هى علامة الاسم، وعلامة
المردود أن يرجع كل فعل لم تكن فيه ألف ولام بألف ولام ويرجع على الاسم فيكون (هو) عمادا للاسم
و(الألف واللام) عماد للفعل. فلمَّا لم يُقدَر على الألف واللام ولم يصلح أن
تُنويا فى زيد لأنه فلان، ولا فى الأخ لأنه مضاف، آثروا الرفع؛ وصلح فى (أفضل منك)
لأنك تلقى (من) فتقول: رأيتك أنت الأفضل، ولا يصلح ذلك فى (زيد) ولا فى (الأخ) أن
تنوى فيهما ألفا ولاما. وكان الكسائىّ يجيز ذلك فيقول: رأيت أخاك هو زيدا، ورأيت
زيدا هو أخاك. وهو جائز كما جاز فى (أفضل) للنية نية الألف واللام. وكذلك جاز فى
زيد، وأخيك. وإذا أمكنتك الألف واللام ثم لم تأت بهما فارفع؛ فتقول: رأيت زيدا هو
قائم ورأيت عمرا هو جالس. وقال الشاعر:
إجِدَّك لن تزال نجِىَّ هَمّ * تبيت الليل أنت له ضجيع
ويجوز النصب فى (ليت) بالعماد، والرفع لمن قال: ليتك
قائما. أنشدنى الكسائىّ:
ليت
الشباب هو الرجيع على الفتى * والشيب كان هو البدئُ الأوّل
ونصب فى (ليت) على العماد ورفع فى كان على الاسم.
والمعرفة والنكرة فى هذا سواء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ
للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ }
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ
فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ...}
دخلت (أَنَّ) فى أوّله وآخره لأنه جزاء بمنزلة قوله {كُتِبَ عليه
أَنه مَنْ تَولاَّهُ فأَنَّهُ يُضِلُّه} وبمنزلة قوله {أَلم يَعْلَمُوا أَنه مَنْ يحادِدِ
اللَّه ورسولَه فأَنَّ له نارَ جهنَّم} ويجوز فى (أنّ) الآخِرة أن تكسرَ ألفها لأن
سقوطها يجوز؛ ألا ترى أنك لو قلت: (اعلموا أنّ ما غنمتم من شىء فللّه خمسه) تصلح،
فإذا صلح سقوطها كسرها.
وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى}: قرابةِ رسول الله صلّى
الله عليه وسلم {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}: يتامى الناس ومساكينهِم، ليس
فيها يتامى بنى هاشم ولا مساكينُهم.
{ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ
فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً
لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ
وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
}
وقوله: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا...}
والعدوة: شاطئ الوادى (الدينا) مما يلى المدينة، و(القصوى)
مما يلى مكّة.
وقوله
{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعنى أبا سفيان والعِيرَ، كانوا على شاطئ البحر.
وقوله {أَسْفَلَ مِنكُمْ} نصبت؛ يريد: مكانا أسفلَ منكم. ولو وصفهم بالتسفل وأراد:
والركب أشد تسفّلا لجاز ورفع.
وقوله: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} كتابتها
على الأدغام بياء واحدة, وهى أكثر قراءة القراء. وقد قرأ بعضهم (حَيىَِ عن بيّنة)
بإظهارها. وإنما أدغموا الياء مع الياء وكان ينبغى لهم ألا يفعلوا؛ لأن الياء
الآخِرة لزمها النصب فى فَعَلَ، فأدغموا لمّا التقى حرفان متحركان من جنس واحد.
ويجوز الإدغام فى الاثنين للحركة اللازمة للياء الآخرة، فتقول للرجلين: قد حَيّا،
وحَيِيا. وينبغى للجمع ألا يدغم لأنّ ياءه يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغى
لها أن تسكن فتسقط بواو الجمع. وربما أظهرت العرب الإدغام فى الجمع إرادة تأليف
الأفعال وأنْ تكون كلها مشدّدة. فقالوا فى حَيِيت حَيُّوا، وفى عيِيت عَيُّوا؛
أنشدنى بعضهم:
يَحِدن بِنا عن كلّ حَىٍّ كأننا * أخاريس عَيُّوا
بالسلام وبالنَّسْبِ
يريد النّسَبَ. وقال الآخر:
مِن الذين إذا قلنا: حَدِيثَكم * عَيُّوا، وإن نحن
حَدَّثناهُمُ شَغِبَوا
وقد اجتمعت العرب على إدغام التحيّة والتحيّات بحركة
الياء الأخيرة فيها؛ كما استحبّوا إدغام عىَّ وحَىَّ بالحركة اللازمة فيها. وقد
يستقيم أن تدغم الياء والياء فى يَحْيا ويَعْيا؛ وهو أقل من الإدغام فى حىّ؛ لأن
يحيا يسكن ياؤها إذا كانت فى موضع رفع، فالحركة فيها ليست لازمة. وجواز ذلك أنك
إذا نصبتها كقول الله تبارك وتعالى {أَليس ذلِك بِقادِرٍ على أَن يُحْيِىَ المَوْتَى}
استقام إدغامها ها هنا؛ ثم تؤلِّف الكلام، فيكون فى رفعه وجزمه بالإدغام؛ فتقول
(هو يُحِىُّ ويُمِيت)؛ أنشدنى بعضهم:
وكأنها بين النساءِ سبِيكةٌ * تمشى بِسُدَّةِ بَيْتها
فَتُعِىُّ
وكذلك يَحَيَّان ويَحَيُّون.
{ وَإِذْ
زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ
إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ...}
هذا إبليس تمثل فى صورة رجل من بنى كِنانة يقال له
سُرَاقة بن جُعْشُم. قال الفرّاء: وقوله {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} من قومى بنى
كنانة ألاَّ يعرضوا لكم، وأن يكونوا معكم على محمد (صلّى الله عليه وسلّم) فلمَّا
عاين الملائكةَ عرفهم فـ "نَكَصَ على عَقِبَيْه"، فقال له الحرث بن
هشام: يا سراقة أفرارا من غير قتال! فقال (إنى أَرَى ما لا تَرَوْن).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ
الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ
الْحَرِيقِ }
وقوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ...}
يريد:
ويقولون، مضمرة؛ كما قال: {ولَوْ تَرَى إذِ
المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهم عِنْدَ رَبِّهِم رَبَّنَا} يريد يقولون:
(رَبَّنا). وفى قراءة عبد الله {وَإِذْ يرفع إِبراهِيمُ القواعِدَ من البيتِ
وإِسماعيلُ} يقولان {رَبَّنا}.
{ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
}
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ...}
(أَنّ) فى موضع نصب إذا
جعلت (ذلك) نصبا وأردت: فعلنا {ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} و بـ {أَنَّ
اللَّهَ}. وإن شئت جعلت (ذلك) فى موضع رفع، فتجعل (أنْ) فى موضع رفع؛ كما تقول: هذا ذاك.
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ...}
يريد: كذّب هؤلاء كما كذّب آلُ فرعون، فنزل بهم كما نزل
بآل فرعون.
الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ
بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ...}
يريد:
إن أسَرتهم يا محمد فنكّل بهم مَن خلفهم ممن تخاف نقضه
للعهد {فَشرِّدْ بِهِمْ}. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فلا ينقضون العهد. وربما
قرئت (مِن خَلْفِهِم) بكسر (مِن)، وليس لها معنى أستحبّه مع التفسير.
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ }
وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً...}
يقول: نقض عهد {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} بالنقض
{عَلَى سَوَآءٍ} يقول: افعل كما يفعلون سواءً. ويقال فى قوله: {عَلَى سَوَآءٍ}:
جهرا غير سرّ. وقوله: {تَخافَنّ} فى موضع جزم. ولا تكاد العرب تدخل النون الشديدة ولا
الخفيفة فى الجزاء حتى يَصِلوها بـ (ما)، فإذا وصلوها آثروا التنوين. وذلك أنهم
وجدوا لـ (إمّا) وهى جزاء شبيها بـ (إمّا) من التخيير، فأحدثوا النون ليعلم بها تفرقةُ
بينهما؛ ثم جعلوا أكثر جوابها بالفاء؛ كذلك جاء التنزيل؛ قال: {فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحربِ
فشَرِّد}، {فإمّا نُرِيَنَّك بعض الذِى نَعِدهم} ثم قال: {فإلينا يرجعون} فاختيرت
الفاء لأنهم إذا نوَّنوا فى (إمّا) جعلوها صَدْرا للكلام ولا يكادون يؤخّرونها.
ليس من كلامهم: اضربه إمّا يقومَنَّ؛ إنما كلامهم أن يقدّموها، فلمّا لزمت
التقديم صارت كالخارج من الشرط، فاسحبوا الفاء فيها وآثروها، كما استحبّوها فى
قولهم: أمّا أخوكم فقاعد، حين ضارعتها.
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ
إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }
وقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ...}
بالتاء لا اختلاف فيها. وقد قرأها حمزة بالياء. ونُرى
أنه اعتبرها بقراءة عبدالله. وهى فى قراءة عبدالله (ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا
أنهم سبقوا إنهم لا يُعْجِزون) فإذا لم تكن فيها (أنّهم) لم يستقم للظنّ ألا يقع
على شىء. ولو أراد: ولا يحسب الذين كفروا أنهم لا يعجزون لاستقام، ويجعل لا (صِلة) كقوله:
{وحَرامٌ على قَرْيةٍ أَهلكناها أَنّهم لا يَرْجِعون} يريد: أنهم يرجعون. ولو كان مع (سبقوا) (أنْ)
استقام ذلك، فتقول (ولا يحسب الذين كفروا أن سبقوا).
فإن
قال قائل: أليس من كلام العرب عسيت أذهب، وأريد أقوم معك، و(أنْ) فيهما مضمرة،
فكيف لا يجوز أن تقول: أظن أقوم، وأظن قمت؟ قلت: لو فعِل ذلك فى ظننت إذا كان
الفعل للمذكور أجزته وإن كان اسما؛ مثل قولهم: عسى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً، والخلقْة
لأنْ، فإذا قلت ذلك قلته فى أظن فقلت: أظن أقوم، وأظن قمت؛ لأن الفعل لك، ولا يجوز
أظن يقوم زيد، ولا عسيت يقوم زيد؛ ولا أردت يقوم زيد؛ وجاز والفعل له لأنك إذا
حوّلت يفعل إلى فاعِل اتصلت به وهى منصوبة بصاحبها، فيقول: أريد قائما؛ والقيامَ
لك. ولا تقول أريد قائما زيد، ومن قال هذا القول قال مثله فى ظننت. وقد أنشدنى بعضهم
لذى الرُّمَّة:
أَظَنَّ ابْنُ طُرْثوثِ عُتَيْبةُ ذاهبا * بعادِيَّتِى
تَكْذابُه وَجعائِلُهْ
فهذا مذهب لقراءة حمزة؛ يجعل (سبقوا) فى موضع نصب: لا
يحسبن الذين كفروا سابقين. وما أحبها لشذوذها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا
تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ
تُظْلَمُونَ }
وقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ...}
يريد إناث الخيل. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال
حدّثنا ابن أبى يحيى رفعه إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القوة:
الرمى".
وقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ}. ولو جعلتها نصبا من قوله: وأَعِدّوا لهم
ولآخرين من دونهم كان صوابا؛ كقوله: {والظالمين أَعَدَّ لهم عذابا أليما}. وقرأ أبو
عبدالرحمن السُلَمِىّ: (ترهبون به عَدُوّاً لِلّهِ وعدوّكم)؛ كما قرأ بعضهم فى
الصفّ (كونوا أَنْصاراً لِلّهِ).
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا...}
إن شئت جعلت (لها) كناية عن السِلم لأنها مؤنثة. وإن شئت
جعلته للفَعْلة؛ كما قال {إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يذكر
قبله إلا فعلا، فالهاء للفعلة.
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
}
وقوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...}
بين قلوب الأنصار من الأوس والخزرج؛ كانت بينهم حرب،
فلمّا دخل المدينة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصح الله به وبالإسلام ذات بينهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
}
وقوله: {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ
اتَّبَعَكَ...}
جاء التفسير: يكفيك الله ويكفى من اتبعك؛ فموضع الكاف فى
(حسبك) خفض. و(مَنْ) فى موضع نصب على التفسير؛ كما قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقّتِ العصا * فحسبُك والضَّحاكَ
سيفٌ مُهَنّد
وليس
بكثير من كلامهم أن يقولوا: حسبك وأخاك، حتى يقولوا: حسبك وحسب أخيك، ولكنا أجرناه
لأن فى (حسبك) معنى واقعٍ من الفعل، رددناه على تأويل الكاف لا على لفظها؛ كقوله
{إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} فردّ الأهل على تأويل الكاف. وإن شئت جعلت (مَنْ)
فى موضع رفع، وهو أحبّ الوجهين إلىّ؛ لأن التلاوة تدلّ على معنى الرفع؛ ألا ترى
أنه قال:
{إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ
مِئَتَيْنِ}.
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن
يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }
وقوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ...}
فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يُغْزِى أصحابه على أنّ
العشرة للمائة، والواحد للعشرة، فكانوا كذلك، ثم شقّ عليهم أن يُقْرِن الواحد
للعشرة فنزل:
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن
يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ}.
{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن
يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ }
وقوله:
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن
يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ...}
فبين الله قوَّتهم أوّلا وآخرا. وقد قال هذا القول
الكسائىُّ ورفع (من).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }
وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى...}
معناه: ما كان ينبغى له يوم بدر أن يقبل فداء الأسرى
{حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}: حتى يغلِب على كثير مَن فى الأرض. ثم نزل:
قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ}.
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ
فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
}
وقوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ...}
فى فداء الأسرى والغنائم. وقد قرئت (أَُسارى)، وكلٌّ
صواب. وقوله: (أَن يَّكُونَ) بالتذكير والتأنيث؛ كقوله (يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتهُم) و(تَشْهَدُ).
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَائِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا
لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ
فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ
وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ...}
ثم قال: {أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فى
المواريث، كانوا يتوارثون دون قراباتهم ممن لم يهاجر.
وذلك
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم}
يريد: من مواريثهم. وكسر الواو فى الولاية أعجب إلىَّ من فتحها؛ لأنها إنما تفتح
أكثر من ذلك إذا كانت فىمعنى النُصْرة، وكان الكسائىّ يفتحها ويذهب بها إلى
النصرة، ولا أراه علم التفسير. ويختارون فى ولِيته وِلاية الكسر، وقد سمعناهما بالفتح
والكسر فى معناهما جميعا، وقال الشاعر:
دعِيهمْ فَهُمْ أَلْبٌ عَلَىَّ وِلايةٌ * وحَفْرُهُمُ
أَنْ يَعْلَموا ذاكَ دائب
ثم نزلت بعد:
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ
وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ
إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }
وقوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ...}
إلا تتوارثوا علىالقرابات تكن فتنة. وذكر أنه فى النصر:
إلا تتناصروا تكن فتنة.
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ
وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وقوله:
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ
وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ...}
فتوارثوا، ونسخت هذه الآخِرة الآية التى قبلها. وذلك
أَنَّ
قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( التوبة )
{ بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ }
وقوله:
{بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}
مرفوعة، يضمر لها (هذه) ومثله قوله: {سُورةٌ
أنْزَلْنَاهَا}. وهكذا كل ما عاينته من اسم معرفة أو نكرة جاز إضمار (هذا) و (هذه)
فتقول إذا نظرت إلى رجل: جميلٌ والله، تريد: هذا جميل.
والمعنى فى قوله (براءة) أن العرب كانوا قد أخذوا
ينقُضُون عهودا كانت بينهم وبين النبىّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه آيات من
أوّل براءة، أُمر فيها بنَبْذ عهودهم إليهم، وأن يجعل الأجَلَ بينه وبينهم أربعةَ
أشهر. فمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر حطّه إلى أربعة. ومن كانت مدّته أقلّ من
أربعة أشهر رفعه إلى أربعة. وبعث فى ذلك أبا بكر وعليا رحمهما الله، فقرأها علىٌّ
علىالناس.
{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي
الْكَافِرِينَ }
وقوله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ...}
يقول: تفرقوا آمنين أربعة أشهر مدّتكم.
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ
يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ }
وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}
تابع لقوله (براءة). وجعل لمن لم يكن له عهد خمسين يوما
أجلا. وكل ذلك من يوم النحر.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ
لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم...}
استثناء
فى موضع نصب. وهم قوم من بنى كنانة كان قد بقى من أجلهم تسعة أشهر.
قال الله تبارك وتعالى: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}؛ يقول: لا تحطّوهم إلى الأربعة.
{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ
فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ...}
عن الذين أجلهم خمسون ليلة. {فَاقْتُلُواْ
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ومعنى الأشهر الحرم: المحرّم وحده. وجاز
أن يقول: الأشهر الحُرُم للمحرم وحده لأنه متّصل بذى الحجة وذى القعدة وهما حرام؛
كأنه قال: فإذا انسلخت الثلاثة.
وقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدتُّمُوهُمْ...}
فى الأشهر الحرم وغيرها فى الحلّ والحرم.
وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ} وحَصْرهم أَن يُمنعوا من البيت
الحرام.
وقوله:
{وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} يقول: على طُرُقهم
إلى البيت؛ فقام رجل من الناس حين قرئت (براءة) فقال: يابن أبى طالب، فمن أراد منا
أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض الأمر بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟
قال علىّ: بلى, لأن الله تبارك وتعالى قد أنزل:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
}
وقوله:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ...}
يقول: ردّه إلى موضعه ومأمنه.
وقوله:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} فى
موضع جزم وإن فُرِق بين الجازم والمجزوم بـ (أحد). وذلك سهل فى (إِنْ) خاصّة دون
حروف الجزاء؛ لأنها شرط وليست باسم، ولها عودة إلى الفتح فتلقى الاسم والفعل وتدور
فى الكلام فلا تعمل، فلم يحفِلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب.
فأما المنصوب فمثل قولك: إنّ أخاك ضربتَ ظلمتَ. والمرفوع مثل قوله: {إِنِ امْرُؤٌ
هَلَك لَيْسَ له وَلَدٌ} ولو حوّلت (هلك) إلى (إنْ يهلك) لجزمته، وقال الشاعر:
فان أَنْتَ تفْعَلْ فللفاعليـ * ن أَنْتَ المجيزين تلك
الغِمارا
ومن فرق بين الجزاء وما جزم بمرفوع أو منصوب لم يفرق بين
جواب الجزاء وبين ما ينصب بتقدمة المنصوب أو المرفوع؛ تقول: إنْ عبدُالله يَقُمْ
يَقُمْ أبوه، ولا يجوز أبوه يقم، ولا أن تجعل مكان الأب منصوبا بجواب الجزاء. فخطأ
أن تقول: إن تأتنى زيدا تَضْرِبْ. وكان الكسائىّ يجيز تقدمة النصب فى جواب الجزاء،
ولا يجوّز تقدمة المرفوع، ويحتجّ بأن الفعل إذا كان للأول عاد فى الفعل راجعُ ذكرِ
الأول، فلم يستقم إلغاء الأوّل. وأجازه فى النصب؛ لأن المنصوب لم يعد ذكره فيما
نصبه، فقال: كأن المنصوب لم يكن فى الكلام. وليس ذلك كما قال؛ لأن الجزاء له جواب
بالفاء. فإن لم يستقبل بالفاء استقبل بجزم مثله ولم يُلْقَ باسم، إلا أَنْ يضمر فى
ذلك الاسم الفاء. فإذا أضمرت الفاء ارتفع الجواب فى منصوب الأسماء ومرفوعها لاغير.
واحتجّ بقول الشاعر:
وللخيلِ أَيّامٌ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لها * ويَعْرِفْ لهَا
أيامَها الْخَيْرَ تُعْقِب
فجعل
(الخير) منصوبا بـ (تعقب). (والخير) فى هذا الموضع نعت للأيام؛ كأنه قال: ويعرف لها أيامها
الصالحة تعقب. ولو أراد ان يجعل (الخير) منصوبا بـ (تعقب) لرفع (تُعْقب) لأنه يريد: فالخير تعقبه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ
وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
وقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ
اللَّهِ...}
على التعجب؛ كما تقول: كيف يُستبقىَ مثلك؛ أى لا ينبغى
أن يستبقى. وهو فى قراءة عبدالله (كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة) فجاز
دخول (لا) مع الواو لأن معنى أوّل الكلمة جحد، وإذا استفهمت بشىء من حروف الاستفهام
فلك أن تَدَعه استفهاما، ولك أن تنوى به الجحد. من ذلك قولك: هل أنت إلاّ كواحد
منّا؟! ومعناه: ما أنت إلا واحد منا، وكذلك تقول: هل أنت بذاهب؟ فتدخل الباء كما
تقول: ما أنت بذاهب. وقال الشاعر:
يقولُ إذا اقْلَوْلَى عليها وأَقْرَدَتْ * أَلاَ هَلْ
أَخُو عيشٍ لَذِيذٍ بدائم
وقال الشاعر:
فاذهَبْ فَأىّ فتى فى الناس أَحرَزه * من يومه ظُلَمٌ
دُعْجٌ ولا جَبَل
فقال:
ولا جبل، للجحد وأوّله استفهام ونِيَّته الجحد؛ معناه
ليس يحرزه من يومه شىء. وزعم الكسائى أنه سمع العرب تقول: أين كنت لتنجو منى، فهذه
اللام إنما تدخل لـ (ما) التى يراد بها الجحد؛ كقوله: {ما كانُوا لِيؤمِنوا}، {وما
كنا لِنَهْتَدىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا الله}.
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ
فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ
وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }
وقوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ...}
اكتفى
بـ (كيف) ولا فعل معها؛ لأن المعنى فيها قد تقدّم فى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل؛ كما
قال الشاعر:
وخبرتمانى أَنما الموتُ فى القُرَى * فكيف وهذى هَضْبَةٌ
وكثيب
وقال الحطيئة:
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خَذَلوكُمُ * فى مُعْظَِمٍ ولا
أَدِيمَكُمُ قدُّوا
وقال آخر:
* فهل إلى عَيْش يا نصابُ وهل *
فأفرد الثانية لأنه يريد بها مثل معنى الأوّل.
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ
وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ...}
ثم قال: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} معناه: فهم
إخوانكم. يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنيّا عنه. ومثله {فإن لَمْ
تَعْلَمُوا آباءَهُم فإخْوَانُكُم} أى فهم إخوانكم. وفى قراءة أُبَىّ (إِن تُعَذِّبْهُم
فعِبَادُك) أى فهم عبادك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ }
وقوله: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}
ذلك أن خُزَاعة كانوا حلفاء للنبىّ صلى الله عليه وسلم،
وكانت الدِيل بن بكر حلفاء لبنى عبد شمس، فاقتتلت الدِيل وخزاعة، فأعانت قريش
الديل على خزاعة، فذلك قوله: {بَدَءُوكُم} أى قاتلوا حلفاءكم.
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }
وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ...}
ثم
جزم ثلاثة أفاعيل بعده يجوز فى كلهن النصب والجزم والرفع.
ورفع قوله: {ويَتُوبُ اللهُ} لأن معناه ليس من شروط
الجزاء؛ إنما هو استئناف؛ كقولك للرجل: ايتنى أُعطك، وأُحِبُّك بعد، وأُكْرِمُكَ،
استئناف ليس بشرط للجزاء. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {فإن يَشَإِ الله يَخْتِمْ
على قَلْبك} تَمَّ الجزاء ها هنا، ثُمّ استأنف فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الباطلَ ويُحِقُّ
الحَقَّ بكلماته}.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ
وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ }
وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ...}
من الاستفهام الذى يتوسّط فى الكلام فيجعل بـ (أم) ليفرق
بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذى لم يتّصل بكلام. ولو أريد به الابتداء لكان إمّا
بالألف وإما بـ (هل) كقوله: {هل أَتَى عَلى الإنْسانِ حِينٌ من الدهر} وأشباهه.
وقوله:
{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ
وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} والوليجة: البطانة من المشركين يتّخذونهم فيُفْشون
إليهم أسرارهم، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عن ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ
الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }
وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ
مَسَاجِدَ الله...}
وهو يعنى
المسجد الحرام وحده. وقرأها مجاهد وعطاء بن أبى رَبَاح: (مَسْجِد الله). وربما
ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد؛ ألا ترى الرجل على البِرذَون
فتقول: قد أخذتَ فى ركوب البراذين، وترى الرجل كثير الدراهم فتقول: إنه لكثير
الدرهم. فأدّى الجماع عن الواحد، والواحد عن الجمع. وكذلك قول العرب: عليه أخلاقُ
نعلين وأخلاق ثوب؛ وأنشدنى أبو الجرَّاح العُقَيلىّ:
جاء الشتاء وقمِيصِى أخلاقْ * شراذمٌ يضحكُ منه التوّاقْ
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ...}
ولم يقل: سُقَاة الحاجّ وعامرى... كمن آمن، فهذا مثل
قوله: {ولكِنّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله} يكون المصدر يكفى من الأسماء، والأسماءُ
من المصدر إذا كان المعنى مستدَلاّ عليه بهما؛ أنشدنى الكسائىّ:
لعمرُك ما الفِتيان ان تنبُت اللِحَى * ولكنما الفِتيانُ
كلُّ فتى ندِى
فجعل خبر الفتيان (أن). وهو كما تقول: إنما السخاء حاتم،
وإنما الشعر زُهَير.
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ
هُمُ الْفَائِزُونَ }
وقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ...}
ثم قال:
{أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} فموضع الذين رفع بقوله: "أعظم درجة".
ولو لم يكن فيه (أعظم) جاز أن يكون مردودا بالخفض على قوله (كمن آمن). والعرب تردّ
الاسم إذا كان معرفة على (من) يريدون التكرير. ولا يكون نعتا لأن (من) قد تكون
معرفة، ونكرة، ومجهولة، ولا تكون نعتا؛ كما أن (الذى) قد يكون نعتا للأسماء؛ فتقول:
مررت بأخيك الذى قام، ولا تقول: مررت بأخيك مَن قام. فلمَّا لم تكن نعتا لغيرها من
المعرفة لم تكن المعرفة نعتا لها؛ كقول الشاعر:
لسنا كمن جعلَتْ إيادٍ دارها * تكرِيتَ تنظُر حَبَّها
أَن تَحْصُدا
إنما أراد تكرير الكاف على إياد؛ كأنه قال: لسنا كإياد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ
شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ }
وقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ
كَثِيرَةٍ...}
نصبت المواطن لأن كلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان
وبعدها حرفان فهو لا يُجْرَى؛ مثل صوامع، ومساجد، وقناديل، وتماثيل، ومحاريب. وهذه
الياء بعد الألف لا يعتدّ بها؛ لأنها قد تدخل فيما ليست هى منه، وتخرج ممّا هى
منه، فلم يعتدّوا بها؛ إذ لم تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أنه مثال
لم يأت عليه شىء من الأسماء المفردة، وأنه غاية للجِماع؛ إذا انتهى الجماع إليه
فينبغى له ألاّ يجمع. فذلك أيضا منعه من الانصراف؛ ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات،
ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربّما اضطُرَّ إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد فى
الكلام ما يجوز فى الشعر. قال الشاعر:
* فهنّ يجمعن حدائِداتِها *
فهذا من المرفوض إلا فى الشعر.
ونعت (المواطن) إذا لم يكن معتلاّ جرى. فلذلك قال:
(كثيرةٍ).
وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وحُنَين وادٍ بين
مكة والطائف. وجرى (حنين) لأنه اسم لمذكَّر. وإذا سمَّيت ماء أو واديا أو جبلا
باسم مذكّر لا علّة فيه أجريته.
من ذلك حنين، وبَدْر، وأُحُد، وحِراء، وثَبِير، ودابِق،
وواسط. وإنما سمّى واسطا بالقصر الذى بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد
البلدة أو اسما مؤنّثا لقال: واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحُنين وبدر، اسما
لبلدته التى هو بها فلا يجرونه؛ وأنشدنى بعضهم:
نصروا نبِيَّهمُ وشَدّوا أَزْرَه * بحُنَينَ يوم تواكُلِ
الأَبطالِ
وقال الآخر:
ألسنا أكرم الثَّقَليْن رَجْلا * وأعظمَه ببطن حِراءَ
نارا
فجعل حراء اسما للبلدة التى هو بها، فكان مذكرا يسمى به
مؤنّث فلم يُجْرَ. وقال آخر:
لقد ضاع قوم قلّدوك أمورَهم * بدابِقَ إذ قيل العدوّ
قريب
رأوا جسدا ضخما فقالوا مقاتل * ولم يعلموا أن الفؤاد
نخيب
ولو أردت ببدر البلدة لجاز أن تقول مررت ببدْرَ يا هذا.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن
شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
}
وقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...}
لا تكاد العرب تقول: نِجْس إلا وقبلها رِجْس. فإذا
أفردوها قالوا: نَجَس لا غير؛ ولا يجمع ولا يؤنث. وهو مثل دَنَف. ولو أُنِّث هو
ومثله كان صوابا؛ كما قالوا: هى ضيفته وضيفه، وهى أخته سَوْغه وسَوْغته، وزوجه
وزوجته.
وقوله:
{إِذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}. قال يومئذ رجل من
المسلمين: والله لا نُغلب، وكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون
يؤمئذ عشرة آلاف، وقال بعض الناس: اثنى عشر الفا, فهزِموا هزيمة شديدة.
وهو قوله:
{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} والباء هاهنا بمنزلة فى؛ كما
تقول: ضاقت عليكم الأرض فى رُحْبها وبرُحْبها. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرَّاء،
قال: وحدّثنى المفضل عن أبى إسحاق قال قلت للبراء بن عازب: يا أبا عُمَارة أفررتم
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال: نعم والله حتى ما بقى معه منا إلا
رجلان: أبو سفيان بن الحرث آخذا بلجامه، والعباس بن عبد المطلب عند ركابه آخذا
بثَفْره، قال فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم كما قال لهم يوم بدر: شاهت
الوجوه،
أنا النبىُّ لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
قال: فمنحنا الله أكتافهم.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً...}
يعنى فقرا. وذلك لمّا نزلت: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا} خاف
أهل مكة أن تنقطع عنهم المِيرة والتجارة. فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً}. فذكروا أن تَبَالة وجُرَش أخصبتا، فأغناهم الله بهما وأطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ }
وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ...}
قرأها
الثقات بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوَّن لأن الكلام ناقص (وابن) فى موضع خبر لعزير. فوجه العمل فى ذلك
أن تنوِّن ما رأيت الكلام محتاجا إلى ابن. فإن اكتفى دون بن، فوجه الكلام ألا
ينون. وذلك مع ظهور اسم أبى الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذلك فأضفت (ابن) إلى مكنّى
عنه؛ مثل ابنك، وابنه، أو قلت: ابن الرجل، أو ابن الصالح، أدخلت النون فى التامّ
منه والناقص. وذلك أن حذف النون إنما كان فى الموضع الذى يُجرى فى الكلام كثيرا،
فيستخفّ طرحها فى الموضع الذى يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرا فيقال:
مِن فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فلا يجرى كثيرا بغير ذلك. وربما حذفت النون
وإن لم يتمم الكلام لسكون الباء من ابن، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنا،
فحذفت استثقالا لتحريكها. قال: من ذلك قراءة القرّاء:(عُزَيْرُ ابن الله). وأنشدنى
بعضهم:
لتجِدَنّى بالأمير بَرّا * وبالقناة مِدْعَسا مِكَرَّا
* إذا غُطَيْفُ السُلَمِىُّ فَرّا *
وقد سمعت كثيرا من القراء الفصحاء يقرءون: {قُلْ هُوَ
اللّهُ أَحدُ اللّهُ الصَّمَدُ}. فيحذفون النون من (أحد). وقال آخر:
كيف نومى على الفراش ولمَّا * تشمِل الشامَ غارةٌ شعواء
تُذْهل الشيخَ عن بنيه وتُبْدِى * عن خِدَامِ العَقِيلةُ
العذراء
أراد: عن خدامٍ، فحذف النون للساكن إذا استقبلتها. وربما
أدخلوا النون فى التمام مع ذكر الأب؛ أنشدنى بعضهم:
جارية من قيس ابن ثعلبة * كأنها حلْيَةُ سيف مُذْهَبه
وقال آخر:
وإلا يكن مال يثاب فإنه * سيأتى ثنائى زيدا ابنَ مُهَلهِل
وكان
سبب قول اليهود: عُزَير ابن الله أن بُخْتَ نَصَّرَ قَتَل كلّ من كان يقرأ التوراة،
فأُتِىَ بعُزَير فاستصغره فتركه. فلمّا أحياه الله أتته اليهود، فأملى عليهم
التوراة عن ظهر لسانه. ثم إن رجلا من اليهود قال: إن أبى ذكر أن التوراة مدفونة فى
بستان له، فاستخرِجت وقوبل بها ما أملَى عزير فلم يغادر منها حرفا. فقالت اليهود:
ما جمع الله التوراة فى صدر عُزَير وهو غلام إلا وهو ابنه - تعالى الله عمّا
يقولون علوّا كبيرا -.
وقوله:
{وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}.
وذُكِر أن رجلا دخل فى النصارى وكان خبيثا منكَرا فلبَّس عليهم، وقال: هو هو.
وقال: هو ابنه، وقال: هو ثالث ثلاثة. فقال الله تبارك وتعالى فى قولهم ثالث ثلاثة: {يُضَاهِئُونَ
قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فى قولهم: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً
مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ
لِيَعْبُدُواْ الهاً وَاحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ }
وقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ...}
قال: لم يعبدوهم، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.
{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ }
وقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ...}
دخلت (إِلاّ) لأن فى أَبيت طَرَفا من الجحد؛ ألا ترى أن (أبيت)
كقولك: لم أفعل، ولا أفعل، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إذا
ظهر أو أتى الفعل محتمِلا لضميره لم تُجِزْ دخول إلاّ؛ كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاك،
ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر:
وهل
لِىَ أُمّ غيرها إِن تركتها * أَبى اللّهُ إِلا أن أكون لها ابنما
وقل الآخر:
إيَاداً وأنمارها الغالبين * إلاَّ صدودا وإلا ازوِرارا
أراد: غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا، وقال الآخر:
واعتلّ إلا كل فرع معرق * مثلك لا يعرف بالتلهوق
فأدخل (إلا) لأن الاعتلال فى المنع كالإباء. ولو أراد عِلّة صحيحة لم
تدخل إلا؛ لأنها ليس فيها معنى جحد. والعرب تقول: أعوذ بالله إلا منك ومن مثلك؛
لأن الاستعاذة كقولك: اللهم لا تفعل ذا بى.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ
الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}
ولم يقل: ينفقونهما. فإن شئت وجَّهت الذهب والفضة إلى
الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه؛ كما قال:
{وإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} فجعله للتجارة،
وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِه بَرِيئاً} فجعله
- والله
أعلم - للإثم، وقال الشاعر فى مثل ذلك:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ * دك راضٍ والرأى مختلِف
ولم يقل: راضون، وقال الآخر:
إنى ضمنت لمن أتانى ما جنى * وأبى وكان وكنت غير غدور
ولم يقل:
غَدورين، وذلك لاتفاق المعنى يُكتفى بذكر الواحد. وقوله: {والله ورَسُولُهُ أحَقُ
أن يُرْضُوهُ} إن شئت جعلته من ذلك: مما اكتفى ببعضه من بعض، وإن شئت جعلت الله
تبارك وتعالى فى هذا الموضع ذُكِر لتعظيمه، والمعنى للرسول صلى الله عيه وسلم؛ كما
قال: {وإِذْ تَقُولُ لِلّذِى أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ألا
ترى أنك قد تقول لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتك، فبدأتَ بالله تبارك وتعالى تفويضا
إليه وتعظيما له، وإنما يقصد قَصْد نفسه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وقوله: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ...}
جاء التفسير: فى الاثنى عشر. وجاء (فيهن): فى
الأشهرالحرم؛ وهو أشبه بالصواب
- والله أعلم - ليتبين بالنهى فيها عِظَمُ حُرْمتها؛ كما
قال: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ثم قال: {والصَّلاَةِ الوُسْطَى} فعظِّمت، ولم
يرخص فى غيرها بترك المحافظة. ويدلّك على أنه للأربعة - والله أعلم - قوله: (فيهن) ولم يقل (فيها).
وكذلك كلام العرب لِما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: لثلاث ليال خلون، وثلاثة أيام خلون إلى
العشرة, فإذا جُزْت العشرة قالوا:
خلت, ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هنّ) و
(هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هى، وهذه) إرادة أن تعرف سِمة القليل من الكثير.
ويجوز فى كل واحد ما جاز فى صاحبه؛ أنشدنى أبو القمقام الفقعسىّ:
أصبحن
فى قَرْحٍ وفى داراتها * سبع ليال غير معلوفاتها
ولم يقل: معلوفاتهن وهى سبع، وكل ذلك صواب، إلا أن
المُؤْثَر ما فسَّرت لك. ومثله: {وقال نِسْوَةٌ فى الْمَدِينَة} فذكَّر الفعل لقلَّة
النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله: {فإذا انْسَلَخَ
الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ولم يقل: انسلخت، وكلٌّ صواب. وقال الله تبارك وتعالى:
{إِنَّ السّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ} لقلّتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان
صوابا.
وقوله: {الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً...}
يقول:
جميعا. والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد
الرجال فتقولَ: كافّين، أو كافّات للنسوة، ولكنها (كافّة) بالهاء والتوحيد فى كل
جهة؛ لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها فى مذهب مصدر؛ مثل الخاصَّة، والعاقبة،
والعافية. ولذلك لم تُدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى
المصدر. وهى فى مذهب قولك: قاموا معا وقاموا جميعا؛ ألا ترى أن الألف واللام قد
رُفِضت فى قولك: قاموا معا، وقاموا جميعا، كما رفضوها فى أجمعين وأكتعين وكلهم إذ
كانت فى ذلك المعنى. فإن قلت: فإن العرب قد تدخل الألف واللام فى الجميع، فينبغى
لها ان تدخل فى كافة وما أشبهها، قلت: لأن الجميع على مذهبين، أحدهما مصدر، والآخر
اسم، فهو الذى شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الذى فى معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه
الألف واللام؛ مثل قوله: {وإِنا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}، وقوله: {سَيُهزَمُ الجَمْعُ
ويُوَلُّون الدُّبُرَ} وأما الذى فى معنى معا وكافّة فقولك للرجلين: قاما جميعا، وللقوم:
قاموا جميعا، وللنسوة: قمن جميعا، فهذا فى معنى كلّ وأجمعين، فلا تدخِلْه ألفا
ولاما كما لم تدخل فى أجمعين.
{ إِنَّمَا
النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ
يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...}
كانت العرب فى الجاهلية إذا أرادوا الصَدَر عن مِنىً قام
رجل من بنى كنانة يقال له (نُعَيم بن ثعلبة) وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذى لا
أعاب ولا أجاب ولا يردّ لى قضاء. فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرا، يريدون: أخِّرْ عنّا
حرمة المحرم واجعلها فى صفر، وأحِلّ المحرم، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذاك توالى
ثلاثةِ أشهر حُرُم لا يُغيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فيفعل ذلك عاما،
ثم يرجع إلى المحرم فيحرِّمه ويحلّ صَفَرا، فذلك الإنساء. تقول إذا أخرت الرجل بدَينه: أنسأته،
فإذا زدت فى الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت: قد نسأت فى أيامك وفى أَجَلك، وكذلك
تقول للرجل: نسأ الله فى أجلك؛ لأن الأجل مزيد فيه. ولذلك قيل للَّبن (نسأته)
لزيادة الماء فيه، ونُسئت المرأة إذا حبِلت أى جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء
فى اللبن، وللناقة: نسأتها، أى زجرتها ليزداد سيرها. والنسىء المصدر، ويكون
المنسوءَ مثل القتيل والمقتول.
وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قرأها ابن
مسعود (يُضَلّ به الذين كفروا) وقرأها زيد بن ثابت (يَضِلُّ) يجعل الفعل لهم، وقرأ
الحسن البصرى (يُضِلّ به الذين كفروا)، كأنه جعل الفعل لهم يُضِلّون به الناس
وينسئونه لهم.
وقوله: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ} يقول: لا يخرجون من
تحريم أربعة.
{ ياأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }
وقوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ...}
معناه والله أعلم: (تثاقلتم) فإذا وصلتها العرب بكلام
أدغموا التاء فى الثاء؛ لأنها مناسبة لها، ويحدثون ألِفا لم يكن؛ ليبنوا الحرف على
الإدغام فى الابتداء والوصل. وكأن إحداثهم الألف ليقع بها الابتداء، ولو حذفت
لأظهروا التاء لأنها مبتدأة، والمبتدأ لا يكون إلا متحركا. وكذلك قوله: {حتى إِذا ادَّارَكُوا
فِيهَا جَمِيعاً}، وقوله: {وَازّيّنَتْ} المعنى - والله أعلم -: تزينت،
و{قَالُوا اطَّيّرْنَا} معناه: تطيرنا. والعرب تقول: (حتى إِذا اداركوا) تجمع بين
ساكنين: بين التاء من تداركوا وبين الألف من إذا. وبذلك كان يأخذ أبو عمرو بن
العلاء ويردّ الوجه الأوّل، وأنشدنى الكسائى:
تُولِى الضجيع إذا ما استافها خَصِرا * عَذْبَ المذاق
إذا ما اتّابع القْبَل
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }
وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
السُّفْلَى...}
فأوقع
(جعل) على الكلمة، ثم قال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} على الاستئناف،
ولم تُرَد بالفعل. وكلمة الذين كفروا الشرك بالله، وكلمة الله قول (لا إله إلا
الله). ويجوز (وكلمةَ الله هى العليا) ولست أستحبّ ذلك لظهور الله تبارك وتعالى؛
لأنه لو نصبها - والفعل فعله - كان أجود الكلام أن يقال: "وكلمته هى
العليا"؛ ألا ترى أنك تقول: قد أعتق أبوك غلامه، ولا يكادون يقولون: أعتق
أبوك غلام أبيك. وقال الشاعر فى إجازة ذلك:
متى تأتِ زيدا قاعدا عِند حوضه * لِتهدِم ظلما حوض زيد
تقارع
فذكر زيدا مرَّتين ولم يَكْنِ عنه فى الثانية، والكناية
وجه الكلام.
{ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً...}
يقول:
لينفر منكم ذو العيال والميسرة، فهؤلاء الثقال. والخفاف:
ذوو العسرة وقلّة العيال. ويقال: {انْفِرُواْ خِفَافاً}: نِشاطا (وثِقالا) وإن ثقل
عليكم الخروج.
{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ }
وقوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ...}
أى {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} بعد غزو تبوك فى جهادٍ
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} به.
ثم قال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} بعدها {الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ
خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
وقوله: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ...}
الإيضاع: السير بين القوم. وكتبت بلام ألف وألف
بعد ذلك، ولم يكتب فى القرآن لها نظير. وذلك أنهم لا يكادون يستمرون فى الكتاب على
جهة واحدة؛ ألا ترى أنهم كتبوا {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} بغير ياء، {وما تُغْنِى
الآيَاتُ والنُّذُرُ} بالياء، وهو من سوء هجاء الأوّلين. {ولأَوْضَعُواْ} مجتمع
عليه فى المصاحف. وأما قوله {أَوْ لاَ أَذْبَحَنَّهُ} فقد كتبت بالألف وبغير الألف.
وقد كان ينبغى للألف أن تحذف من كله؛ لأنها لام زيدت على ألف؛ كقوله: لأخوك خير من
أبيك؛ ألا ترى أنه لا ينبغى ان تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله {لا انْفِصَامَ لَهَا} فتكتب
بالألف؛ لأن (لا) فى (انفصام) تبرئة، والألف من (انفصام) خفيفة. والعرب تقول: أوضع الراكب؛
ووضعت الناقة فى سيرها. وربما قالوا للراكب وضع؛ قال الشاعر:
إنى إذا ما كان يوم ذو فزَعْ * ألفيتنى محتملا بِذى أضع
وقوله:
{يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} المعنى: يبغونها لكم. ولو
أعانوهم على بُغائها لقلت: أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك: أَحلِبنى واحلُبنى.
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ
تَفْتِنِّي...}
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجدَ بن قيس:
هل لك فى جِلاد بنى الأصفر؟ - يعنى الروم - وهى غزوة تبوك، فقال جدّ: لا، بل تأذن
لى، فأتخلفُ؛ فإنى رجل كلِف بالنساء أخاف فتنة بنات الأصفر. وإنما سمى الأصفر لأن
حبشيا غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا
لُعسا. فقال الله تبارك وتعالى {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} فى التخلف عنك.
وقد عُذِل المسلمون فى غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة، وكان أيضا زمان
عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل، فأحبّوا الإقامة، فوبَّخهم الله.
فقال
عز وجل: (يأيّها الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ اْنفِرُوا فِى
سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلتُمْ).
ووصف المنافقين فقال: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا
لاتَّبعوك).
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ
مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ }
وقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ...}
الظفرَ أو الشهادة، فهما الحسنيان. والعرب تدغم اللام من
(هل) و (بل) عند التاء خاصة. وهو فى كلامهم عالٍ كثير؛ هَلْ تدرى، وهتَّدْرِى.
فقرأها القراء على ذلك، وإنما أستحبُّ فى القراءة خاصَّة تبيان ذلك، لأنهما
منفصلان ليسا من حرف واحد، وإنما بنى القرآن على الترسّل والترتيل وإشباع الكلام؛
فتبيانه أحب إلىّ من إدغامه، وقد أدغم القرّاء الكبار، وكلٌّ صواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن
يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
وقوله: {أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً...}
وهو أمر فى اللفظ وليس بأمر فى المعنى؛ لأنه أخبرهم أنه
لن يتقبّل منهم. وهو فى الكلام بمنزلة إنْ فى الجزاء؛ كأنك قلت: إنْ أنفقت طوعا أو
كرها فليس بمقبول منك. ومثله {استغفِر لهم أو لا تستغفِر لهم} ليس بأمر، إنما هو
على تأويل الجزاء. ومثله قول الشاعر:
أسِيئ بنا أو أحسنى لا ملومةٌ * لدينا ولا مَقْلِيّةٌ إن
تقلّتِ
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ
إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ
إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ }
وقوله:
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ
كَفَرُواْ...}
(أنهم)
فى موضع رفع لأنه اسم للمنع؛ كأنك قلت: ما منعهم أن تقبل
منهم إلا ذاك. و(أن) الأولى فى موضع نصب. وليست بمنزلة قوله: {وَما أرسلنا
قَبْلَكَ مِن الْمُرْسَلِينَ إلاّ إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} هذه فيها واو مضمرة، وهى
مستأنفة ليس لها موضع. ولو لم يكن فى جوابها اللام لكانت أيضا مكسورة؛ كما تقول:
ما رأيت منهم رجلا إلا إنه لَيُحْسِن، وإلاّ إنه يحسن. يعرِّف أنها مستأنفة أن تضع
(هو) فى موضعها فتصلح؛ وذلك قولك: ما رأيت منهم رجلا إلا هو يفعل ذلك. فدلّت (هو)
على استئناف إنّ.
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
وقوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...}
معناه: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فى الحياة الدنيا.
هذا معناه، ولكنه أخِّر ومعناه التقديم - والله أعلم - لأنه إنما أراد: لا تعجبك
أموالهم ولا أولادهم فىالحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الآخرة. وقوله
{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أى تخرج أنفسهم وهم كفّار. ولو جعلت
الحياة الدنيا مؤخّرة وأردت: إنما يريد الله ليعذبهم بالإنفاق كرها ليعذبهم بذلك
فى الدنيا، لكان وجها حسنا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ
مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }
وقوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} - أى حرزا - {أَوْ
مَغَارَاتٍ}...}
وهى الغِيران؛ واحدها غار فى الجبال {أَوْ مُدَّخَلاً}
يريد: سَرَبا فى الأرض.
{لَّوَلَّوْاْ
إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} مسرعين؛ الجمح ها هنا: الإسراع.
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ
أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ...}
يقول: بعيبك، ويقولون: لا يقسم بالسَّوِيَّة.
{فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} فلم يعيبوا.
ثم إن الله تبارك وتعالى بيَّن لهم لمن الصدقات.
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ...}
وهم أهل صُفَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا لا
عشائر لهم، كانوا يلتمسون الفضل بالنهار، ثم يأوون إلى مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فهؤلاء الفقراء.
{وَالْمَسَاكِينِ}: الطوَّافين على الأبواب
{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم أشراف العرب، كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ليجترَّ به إسلام قومهم.
{وَفِي الرِّقَابِ} يعنى المكاتَبين {وَالْغَارِمِينَ}:
أصحاب الدَّيْن الذين ركِبهم فى غير إفساد.
{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}: الجهاد {وَابْنِ السَّبِيلِ}:
المنقطَع به، أو الضيف.
{فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} نصب على القطع. والرفع فى
(فريضة) جائز لو قرئ به. وهو فى الكلام بمنزلة قولك: هو لك هبةً وهبةٌ، وهو عليك
صدقةً وصدقةٌ، والمال بينكما نصفين ونصفان، والمال بينكما شِقَّ الشَعرَة وشقٌّ... .
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ
آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ...}
اجتمع قوم على عَيب النبى صلى الله عليه وسلم؛ فيقول رجل
منهم: إن هذا يبلِّغ محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيقع بنا، فـ {وَيِقُولُونَ}:
إنما {هُوَ أُذُنٌ} سامعة إذا أتياناه صدّقَنا، فقولوا ما شئتم. فأنزل الله عز وجل
{قُلْ
أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أى كما تقولون، ولكنه لا يصدّقكم، إنما يصدِّق المؤمنين.
وهو قوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}: يصدق بالله. {وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ}: يصدّق المؤمنين. وهو كقوله: {لِلّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ
يَرْهَبُونَ} أى يرهبون ربهم.
وأما قوله:{والّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} فمتصل بما قبله. وقوله {ورَحْمةٌ للّذِينَ آمَنُوا} إن شئت
خفضتها تتبعها لخير, وإن شئت رفعتها أتبعتها الأذن. وقد يقرأ: (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ
لَكُمْ) كقوله: قل أذن أفضل لكم؛ و(خَيْر) إذا خفض فليس على معنى أفضل؛ إذا خفضت
(خير) فكأنك قلت: أذن صلاح لكم، وإذا قلت: (أذنٌ خير لكم)، فإنك قلت: أذن أصلح
لكم. ولا تكون الرحمة إذا رفعت (خير) إلا رفعا. ولو نصبت الرحمة على غير هذا الوجه
كان صوابا: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمةً) يفعل ذلك. وهو كقوله: {إِنا زَيّنّا
السَّمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظاً}.
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }
وقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ...}
وحّدَ
(يرضوه) ولم يقل: يرضوهما؛ لأن المعنى - والله أعلم - بمنزلة قولك: ما شاء الله
وشئتُ؛ إنما يقصد بالمشيئة قصدُ الثانى، وقوله: "ماشاء الله" تعظيم لله
مقدّم قبل الأفاعيل؛ كما تقول لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتُك, وإن شئت أردت:
يرضوهما فاكتفيت بواحد: كقوله:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ * دك راض والرأى مختلف
ولم يقل: راضون.
{ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً
بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }
وقوله: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ
طَآئِفَةً...}
والطائفة واحد واثنان، وإنما نزل فى ثلاثة نفر استهزأ
رجلان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وضحك إليهما آخر، فنزل {إِن نَّعْفُ
عَن طَآئِفَةٍ} يعنى الواحد الضحاك {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} يعنى المستهزئَينِ.
وقد جاء {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} يعنى واحدا. ويقرأ: "إن يُعْفَ
عن طائفة منكم تُعَذّب طائفةٌ". و"إن يُعْفَ... يُعَذّب طائفَة".
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ }
وقوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ...}
يمسكون عن النفقة على النبى صلى الله عليه وسلم.
{ كَالَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً
وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ
كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خَاضُواْ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
}
وقوله: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ...}
أى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ}. يقول: رضوا
بنصيبهم فى الدنيا من أنصبائهم فى الآخرة.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} أى أردتم ما أراد الذين من
قبلكم.
وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} يريد: كخوضهم
الذى خاضوا.
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ
وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ...}
يقال:
إنها قَرَيات قوم لوط وهود وصالح. ويقال: إنهم أصحاب لوط
خاصَّة. جُمعوا بالتاء على قوله: {والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}. وكأنّ جمعهم إذ قيل {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ
أَتَتْهُمْ} على الشِيَع والطوائف؛ كما قيل: قتلت الفُدَيكات، نسبوا إلى رئيسهم
أبى فديك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ...}
رفع بالأكبر،
وعُدِل عن أن يُنْسَق على ما قبله وهو مما قد وعدهم الله تبارك وتعالى، ولكنه أوثر
بالرفع لتفضيله؛ كما تقول فى الكلام: قد وصلتك بالدراهم والثياب، وحُسْنُ رأيى خير
لك من ذلك.
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ
كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ
يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن
فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ
مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
وقوله: {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ
اللَّهُ...}
هذا تعيير لهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم
على أهل المدينة وهم محتاجون، فأَثْرَوا من الغنائم، فقال: وما نقموا إلا الغِنى
فـ (أنْ) فى موضع نصب.
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...}
يراد به: المتطوعين فأدغم التاء عند الطاء فصارت طاء
مشددة. وكذلك (ومن يَطَّوَّعْ خَيْرا)، (والْمُطَّهِّرِينَ).
ولمزهم
إياهم: تنقُّصُهم؛ وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة، فجاء
عمر بصدقة؛ وعثمان بن عفّان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم؛ ثم
جاء رجل يقال له أبو عُقَيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم
إلا رِياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليُذْكر بنفسه، فأنزل الله تبارك
وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقَاتِ} يعنى المهاجرين {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ
جُهْدَهُمْ}. يعنى أبا عُقَيل. والجُهْد لغة أهل الحجاز والوُجْد، ولغة غيرهم
الجَهْد والوَجْد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن
تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ
مَعَ الْخَالِفِينَ }
وقوله: {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ...}
من الرجال، خلوف وخالفون، والنساء خوالف: اللاتى يخلُفن
فى البيت فلا يبرحن. ويقال: عبد خالف، وصاحب خالف: إذا كان مخالفا.
{ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ
لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
}
وقوله: {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ...}
وهم الذين
لهم عُذْر. وهو فى المعنى المعتذرون، ولكن التاء أدغمت عند الذال فصارتا جميعا
(ذالا) مشدّدة، كما قيل يذّكَّرون ويذَّكَّر. وهو مثل (يخَصِّمونَ) لمن فتح الخاء، كذلك فتحت
العين لأن إعراب التاء صار فى العين؛ كانت - والله أعلم - المعتذرون. وأما
المعذِّر على جهة المُفَعِّل فهو الذى يعتذر بغير عذر؛ حدّثنا محمد قال حدّثنا
الفراء قال: وحدّثنى أبو بكر بن عَيَّاش عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس, وأبو
حفص الخرَّاز عن جُوَيبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قرأ: (المُعْذِرون)، وقال: لعن
الله المعذِّرين؛ ذهب إلى من يعتذر بغير عذر، والمُعْذِر: الذى قد بلغ أقصى العذر.
والمعتذر قد يكون فى معنى المُعْذِر، وقد يكون لا عذر له. قال الله تبارك وتعالى
فى الذى لا عذر له:
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}.
{ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ }
وقوله: {حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ...}
(يَجِدُوا)
فى موضع نصب بأن، ولو كانت رفعا على ان يجعل (لا) فى
مذهب (ليس) كأنك قلت: حزنا أن ليس يجدون ما ينفقون، ومثله. قوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ
أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً}. وقوله: {وحَسِبُوا أَنْ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
وكلّ موضع صلحت (ليس) فيه فى موضع (لا) فلك أن ترفع
الفعل الذى بعد (لا) وتنصبه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ
لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
وقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ...}
ثم قال: (لاَ تَعْتَذِرُوا) لا عذر لكم. وقال لَبِيد فى
معنى الاعتذار بالأعذار إذا جعلهما واحدا:
وقُوما فقولا بالذى قد علمتما * ولا تخمِشا وجها ولا
تحلقا الشعر
إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما * ومَنْ يبكِ حولا
كاملا فقد اعتذر
يريد: فقد أعذر.
{ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ
أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً...}
نزلت فى طائفة من أعراب أَسَد وغَطَفان وحاضرى المدينة.
و(أجدر) كقولك: أحرى، وأخلق.
{وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} موضع (أن) نصب. وكل
موضع دخلت فيه (أن) والكلام الذى قبلها مكتفٍ بما خَفَضه أو رفعه أو نصبه فـ (أن)
فى موضع نصب؛ كقولك: أتيتك أنّك محسن، وقمت أنك مسىء، وثَبَتُّ عنك أنك صديق
وصاحب. وقد تبين لك أن (أن) فى موضع نصب؛ لأنك تضع فى موضع (أن) المصدر فيكون نصبا؛
ألا ترى أنك تقول: أتيتك إحسانَك، فدلّ الإحسان بنصبه على نصب أن. وكذلك والآخران.
وأما
قوله: {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} فإن وضعك المصدر فى موضع (أن) قبيح؛ لأن أخلق وأجدر يطلبن الاستقبال
من الأفاعيل فكانت بـ (أن) تبين المستقبل، وإذا وضعت مكان (أن) مصدرا لم يتبّين
استقباله، فذلك قبح. و(أن) فى موضع نصب على كل حال؛ ألا ترى أنك تقول: أظن أنك قائم فتقضى
على (أن) بالنصب، ولا يصلح أن تقول: أظن قيامك، فأظن نظير لخليق ولعسى (وجدير)
وأجدر وما يتصرف منهن فى (أن).
{ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ
مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وقوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ...}
يعنى: الموت والقتل.
يقول الله تبارك وتعالى: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ
السَّوْءِ} وفتح السين من (السوء) هو وجه الكلام، وقراءة أكثر القرَّاء. وقد رفع مجاهد
السين فى موضعين: ها هنا وفى سورة الفتح، فمن قال: "دائرة السَّوء" فإنه
أراد المصدر من سؤته سوءا ومساءة ومَسَائية وسوائية، فهذه مصادر. وَمن رفع السين
جعله اسما؛ كقولك: عليه دائرة البلاء والعذاب. ولا يجوز ضم العين فى قوله: {ما كان
أبوكِ امرَأَ سَوْء} ولا فى قوله: {وظننتُمْ ظَنَّ السَّوْء} لأنه ضدّ لقولك: هذا
رجلُ صِدق، وثوبُ صدق. فليس للسوء ها هنا معنى فى عذاب ولا بلاء، فيضم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ...}
إن شئت
خفضت الأنصار تريد: من المهاجرين ومن الأنصار. وإن شئت رفعت (الأنصار) يَتبعهم قوله: (والسابقون)، وقد قرأها
الحسن البصرىّ: (والذين أتبعوهم بإحسان): من أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة. ورفعت
(السابقون والذين اتبعوهم) بما عاد من ذكرهم فى قوله رضى الله عنهم.
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى
النِّفَاقِ...}
ومَرَنوا عليهِ مَرُووا عليه؛ كقولك: تمردوا.
وقوله: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}. فقال بالقتل
وعذاب القبر.
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ
عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً...}
يقول: خرجوا إلى بدر فشهدوها. ويقال: العمل الصالح
توبتهم من تخلَفهم عن غزوة تَبُوكَ.
{وَآخَرَ سَيِّئاً}: تخلّفهم يوم تبوك {عَسَى اللَّهُ}
عسى من الله واجب إن شاء الله. وكان هؤلاء قد أوثقوا أنفسهم بسَوَارِى المسجد،
وحلفوا ألا يفارقوا ذلك حتى تنزل توبتهم، فلمّا نزلت قالوا: يا رسول الله خذ
أموالنا شكرا لتوبتنا، فقال: لا أفعل حتى ينزل بذلك علىَّ قرآن. فأنزل الله عز وجل:
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...}
فأخذ بعضا.
ثم قال:
{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: استغفر فهم، فإن
استغفارك لهم تسكن إليه قلوبهم، وتطمئن بأن قد تاب الله عليهم. وقد قرئت (صلواتك). والصلاة أكثر.
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا
يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ...}
هم ثلاثة نَفَرٍ مسمَّون، تخلَّفوا عن النبى صلى الله
عليه وسلم فى غزوة تبوك، فلما رجع قال: "ما عذركم"؟ قالوا: لا عذر لنا إلا
الخطيئة، فكانوا موقوفين حتى نزلت توبتهم فى.
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً
وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً...}
هم بنو عمرو بن عوف من الأنصار، بنَوا مسجدهم ضرارا
لمسجد قُبَاءَ. ومسجد قباء أول مسجد بنى على التقوى. فلمَّا قدِم النبى صلى الله
عليه وسلم من غزوة تبوك أمر بإحراق مسجد الشقاق وهدمه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ
يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }
وقوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً...}
يعنى مسجد بنى عمرو. ثم انقطع الكلام فقال: {لَّمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}. ثم
قال: (فيه رجال) الأولى صلة لقوله: (تقوم) والثانية رَفَعت الرجال.
وقوله: {أُسِّسَ...}
و(أُسِّسَ)
ويجوز أساس، وآساس. ويخيَّل إلىّ أنى قد سمعتها فى القراءة.
{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً
فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ...}
يعنى مسجد النفاق (رِيبَةً) يقال: شكّا (إلا أن
تَقَطَّع) و (تُقَطَّع) معناه: إلا أن يموتوا. وقرأ الحسن (إلى أن تَقَطَّع) بمنزلة حتَّى، أى
حتى تَقَطَّع. وهى فى قراءة عبدالله (ولو قُطِّعت قلوبُهم) حجة لمن قال (إلا أن تقطع)
بضم التاء.
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ }
وقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ...}
قراءة أصحاب عبدالله يقدّمون المفعول به قبل الفاعل.
وقراءة العوام: (فَيَقْتُلون ويُقْتَلون).
وقوله:
{وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} خاج من قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ
الّجَنَّةَ} وهو كقولك: علىَّ ألف درهم عِدّةً صحيحةً، ويجوز الرفع لو قيل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ...}
استؤنفت
بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف. وهى فى قراءة عبدالله
"التائبين العابدين" فى موضع خفض؛ لأنه نعت للمؤمنين: اشترى من المؤمنين
التائبين. ويجوز أن يكون (التائبين) فى موضع نصب على المدح؛ كما قال:
لا يَبْعَدَنْ قومى الذين هُم * سُمّ العُدَاة وآفَةُ
الجُزْرِ
النازلين بكل معتَرك * والطيّبينَ معاقِدَ الأزْر
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ
هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ }
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ
إِذْ هَدَاهُمْ...}
سأل المسلمون النبىّ صلى الله عليه وسلم عمّن مات من
المسلمين وهو يصلّى إلى القبله الأولى، ويستحلّ الخمر قبل تحريمها، فقالوا: يا
رسول الله أمات إخواننا ضُلاَّلا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ
قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} يقول:
ليسوا بضلال ولم يصرفوا عن القبلة الأولى، ولم ينزل عليهم تحريم الخمر.
{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ }
وقوله: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ...}
وقوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ...}
و(كاد
تزيغ). [من] قال: (كاد يزيغ) جعل فى (كاد يزيِغ) اسما مثل الذى فى قوله: {عسى أن يكونوا خيرا منهم} وجعل (يزيغ)
به ارتفعت القلوب مذكّرا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {لن ينالَ اللهَ لحومُهَا} و
{لا يحل لك النساء من بعد} ومن قال (تزيغ) جعل فعل القلوب مؤنّثا؛ كما قال: {نريد أن نأكل
مِنها وتطمئن قلوبنا} وهو وجه الكلام، ولم يقل (يطمئن) وكل فعل كان لجماع مذكر أو مؤنث
فإن شئت أنّثت فعله إذا قدمته، وإن شئت ذكَّرته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى
إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
وقوله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ...}
وهم كعب بن مالك، وبلال بن أُمَيَّة، ومُرَارة.
{ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ
مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ
بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ
نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }
وقوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً...}
يريد بالموطئ الأرض {ولا يقطعون واديا} فى ذهابهم
ومجيئهم إلا كتب لهم.
{ وَمَا
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ
مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ
كَآفَّةً...}
لمّا عُيَّر المسلمون بتخلفهم عن غزوة تَبوكَ جعل النبى
صلى الله عليه وسلم يبعث السريَّة فينفرون جميعا، ليبقى النبى صلى الله عليه وسلم
وحده، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ
كَآفَّةً} يعنى: جميعا ويتركوك وحدك.
ثم قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} معناه: فهلاَّ نفر {مِن
كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} ليتفقّه الباقون الذين تخلَّفوا ويحفظوا،
قومهم ما نزل على النبى صلى الله عليه وسلم من القرآن.
{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} يقول: ليفقهوهم. وقد قيل
فيها: إن أعراب أَسَد قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فغلت
الأسعار وملئوا الطرق بالعَذِرات، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ}
يقول: فهلاّ نفر منهم طائفة ثم رجعوا إلى قومهم فاخبروهم بما تعلّموا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وقوله: {يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ...}
يريد: الأقرب فالأقرب.
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن
يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ
فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
وقوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن
يَقُولُ...}
يعنى: المنافقين يقول بعضهم لبعض: هل زادتكم
هذه إيمانا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا...وأما
الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رِجْساً إلى رِجسهم} والمرض ها هنا النفاق.
{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ
عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ }
وقوله: {أَوَلاَ يَرَوْنَ...}
(ويّروا)
بالتاء. فى قراءة عبدالله "أو لا ترى أَنهم"
العرب تقول: أَلا ترى للقوم وللواحد كالتعجب، وكما قيل "ذلك أزكى لهم،
وذلكم" وكذلك (أَلا ترى) و(الا ترون).
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ
قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }
وقوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ...}
فيها ذكرههم وعَيْبهم قال بعضهم لبعض {هَلْ يَرَاكُمْ
مِّنْ أَحَدٍ} أن قمتم، فإن لهم القيام قاموا.
فذلك قوله: {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ
قُلُوبَهُم} دعاء عليهم.
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...}
يقول: لم يبق بطن من العرب إلاّ وقد ولدوه. فذلك قوله
{مِّنْ أَنفُسِكُمْ}.
وقوله:
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (ما) فى موضع رفع؛
معناه: عزيزعليه عَنَتُكم. ولو كان نصبا: عزيزا عليه ما عنتم حريصا رءوفا رحيما،
كان صوابا، على قوله لقد جاءكم كذلك. والحرص الشحيح أن يدخلوا النار.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( يونس )
{ أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ
الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }
وقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ...}
نصبت (عجبا) بـ (كان)، ومرفوعها {أَنْ أَوْحَيْنَآ} وكذلك أكثر ما
جاء فى القرآن إذا كانت (أن) ومعها فعل: أن يجعلوا الرفع فى (أن)، ولو جعلوا (أن) منصوبة ورفعوا
الفعل كان صوابا.
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً
إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ
مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }
وقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ
حَقّاً...}
رفعت المرجع بـ (إليه)، ونصبت قوله {وَعْدَ اللَّهِ
حَقّاً} بخروجه منهما. ولو كان رفعا كما تقول: الحقُّ عليك واجب وواجباً كان
صوابا. ولو استؤنف (وعد الله حق) كان صوابا.
(إنه يَبْدَأ الخَلْقَ) مكسورة لأنها مستأنفة. وقد فتحها
بعض القرّاء. ونُرى أنه جعلها اسما للحق وجعل (وعد الله) متصلا بقوله (إليه مرجعكم) ثم
قال: "حقّا أَنه يبدأ الخلق"؛ فـ (أنه) فى موضع رفع؛ كما قال الشاعر:
أحقّا عباد الله أن لست لاقيا * بُثَيْنَة أو يلقى
الثريا رقِيبُها
وقال الآخر:
أحقا عباد الله جُرْأَةُ محلق * علىَّ وقد أعييت عادا
وتبّعا
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ
نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
}
وقوله:
{جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ...}
ولم يقل: وقدّرهما. فإن شئت جعلت تقدير المنازل القمر
خاصّة لأنّ به نعلم الشهور. وإن شئت جعلت التقدير لهما جميعا، فاكتفى بذكر أحدهما
من صاحبه كما قال الشاعر:
رمانى بأمرٍ كنتُ منه ووالدى * بريئا ومن جُولِ الطَوىّ
رمانى
وهو مثل قوله {والله ورسولُه أَحَقُّ أَن يُرْضُوه} ولم
يقل: أن يرضوهما.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ
اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ
لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وقوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ
اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ...}
يقول:
لو أجيب الناس فى دعاء أحدهم على ابنه وشبهه بقولهم.
أماتك الله، ولعنك الله، وأخزاك الله لهلكوا. و(استعجالهم) منصوب بوقوع الفعل:
(يعجل)؛ كما تقول: قد ضربت اليوم ضربتك، والمعنى: ضربت كضربتك وليس المعنى ها هنا كقولك:
ضربت ضربا؛ لأن ضربا لا تضمر الكاف فيه؛ لأنك لم تشبهه بشىء، وإنما شبهت ضربك بضرب
غيرك فحسنت فيه الكاف.
وقوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ويقرأ: (لقَضَى
إليهم أجلهم). ومثله {فيمسك التى قَضَى عليها الموتَ} و(قُضِى عليها الموتُ).
{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ
أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ
يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ }
وقوله: {مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ
مَّسَّهُ...}
يقول: استمرّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء.
{ قُل
لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
وقوله: {قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ...}
وقد ذكِر عن الحسن أنه قال: "ولا أَدْرَأْتكم
به" فإن يكن فيها لغة سوى دريت وأدريت فلعلّ الحسَن ذهب إليها. وأما أن تصلح
مِن دريت أو أدريت فلا؛ لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحَّتا ولم
تنقلبا إلى ألف؛ مثل قضيت ودعوت. ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها؛ لأنها
تضارع درأت الحدّ وشبهه. وربما غلِطت العرب فى الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون
غير المهموز؛ سمعت امرأة من طىء تقول: رنأْت زوجى بأبياتٍ. ويقولون لبَّأت بالحج
وحلأْت السَوِيق فيغلَطون؛ لأن حَلأْت قد يقال فى دفع العِطاش من الإبل، ولبَّأت
ذهب إلى الِلبأ الذى يؤكل، ورَثَأت زوجى ذهبَتْ إلى رَثِيئة اللبن؛ وذلك إذا حلبت
الحليب على الرائب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ
ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ
مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ }
وقوله: {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن
بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ...}
العرب تجعل (إذا) تكفى من فعلت وفعلوا. وهذا الموضع من
ذلك: اكتُفى بـ (إذا) من (فعلوا) ولو قيل (مِن بعدِ ضراء مستهم مكروا) كان صوابا. وهو فى
الكلام والقرآنِ كثير. ونقول: خرجت فإذا أنا بزيد. كذلك يفعلون بـ (إذْ)؛ كقول الشاعر:
بينما هنَّ الأراك معا * إذا أتى راكب على جملِه
وأكثر الكلام فى هذا الموضع أن تطرح (إذ) فيقال:
بينا تَبَغِيِّهِ العَشَاء وطَوْفِه * وقع العَشاءُ به
على سِرْحانِ
ومعناهما واحد بـ (إذ) وبطرحها.
{ هُوَ
الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ
هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
وقوله: {يُسَيِّرُكُمْ...}
قراءة العامّة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت (ينشركم) قرأها
أبو جعفر المدنىّ كذلك. وكلّ صواب إن شاء الله.
وقوله:
{جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} يعنى الفُلْك؛ فقال: جاءتها،
وقد قال فى أوّل الكلام {وجرين بِهِم} ولم يقل: وجَرَت، وكلّ صواب؛ تقول: النساء
قد ذهبت، وذهبن. والفلك تؤنث وتذكر، وتكون واحدة وتكون جمعا. وقال فى يس {فى الفلك
المشحون} فذكَّر الفلك، وقال ها هنا: جاءتها، فأنث. فإن شئت جعلتها ها هنا واحدة،
وإن شئت: جِماعا. وإن شئت جعلت الهاء فى (جاءتها) للريح؛ كأنك قلت: جاءت الريحَ
الطيّبةَ ريح عاصف. والله أعلم بصوابه. والعرب تقول: عاصف وعاصفة، وقد أعصفت
الريح، وعَصَفت. وبالألف لغة لبنى أَسَد؛ أنشدنى بعض بنى دَبِير:
حتى إذا أعصفت ريح مزعزِعة * فيها قِطار ورعد صوته زجِل
{ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي
الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
وقوله: {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ...}
إن شئت
جعلت خبر (البغى) فى قوله (على أنفسكم) ثم تنصب (متاعَ الحياةِ الدينا) كقولك:
مُتْعَةً فى الحياة الدنيا. ويصلح الرفع ها هنا على الاستئناف؛كما قال {لم يلبثوا
إِلا ساعة من نهارٍ بلاغ} أى ذلك (بلاغ) وذلك (متاع الحياةِ الدنيا) وإن شئت جعلت
الخبر فى المتاع. وهو وجه الكلام.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ
يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ }
وقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى...}
فى موضع رفع. يقال إن الحسنى الحَسَنة.(وزيادة) حدّثنا
محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثنى أبو الأحوص سلاّم بن سُلَيم عن أَبى إسحاق
السَبِيعىّ عن رجل عن أبى بكر الصدِّيق رحمه الله قال: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة: النظر إلى وجه
الرب تبارك وتعالى. ويقال (للذين أحسنوا الحسنى) يريد حَسَنة مثل حسناتهم (وزيادة)
زيادة التضعيف كقوله {فله عَشْرُ أَمثالها}.
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ
سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ
عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً
أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ
سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا...}
رفعت الجزاء بإضمار (لهم) كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة
بمثلها؛ كما قال {ففِدية مِن صِيامٍ} و {فصيام ثلاثةِ أيام فى الحج} والمعنى:
فعليه صيام ثلاثة أيام، وعليه فدية. وإن شئت رفعت الجزاء بالباء فى قوله: {جَزَآءُ
سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} والأوّل أعجب إلىَّ.
وقوله:
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً} و (قطْعا). والقِطَع قراءة العامَّة.
وهى فى مصحف أبى (كأنما يَغْشَى وجوهَهم قِطْع من الليل مظلم) فهذه حجة لمن قرأ
بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تقول قِطْع قطعا من الليل، وإن شئت جعلت المظلم نعتا
للقطع, فإذا قلت قطعا كان قطعا من الليل خاصة. والقطع ظلمة آخر الليل {فأَسِر بأهلك بقطع
من الليل}.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا
بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ }
وقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ...}
ليست من زُلْت؛ إنما هى من زِلْتُ ذا من ذا: إذا فرَّقت
أنت ذا من ذا. وقال (فزيَّلنا) لكثرة الفعل. ولو قَلَّ لقلت: زِلْ ذا من ذا؛ كقولك:
مِزْ ذا من ذا. وقرأ بعضهم (فزايلنا بينهم) وهو مثل قوله: (يراءون ويرءُّون) (ولا تصعِّر،
ولا تصاعر) والعرب تكاد توفّق بين فاعلت وفعَّلت فى كثير من الكلام، ما لم تُرد
فَعَلَتَ بى وفعلتُ بك، فإذا أرادوا هذا لم تكن إلا فاعلت. فإذا أردت: عاهدتك
وراءيتك وما يكون الفعل فيه مفردا فهو الذى يَحتمل فعلت وفاعلت. كذلك يقولون:
كالمت فلانا وكلَّمته، وكانا متصارمين فصارا يتكالمان ويتكلمَّان.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ
وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ
يَفْتَرُونَ }
وقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ...}
قرأها
عبدالله بن مسعود: (تتلو) بالتاء. معناها - والله أعلم -: تتلو أى يقرأ كلُّ نفس
عملها فى كتاب؛ كقوله: {ونخرِج له يوم القِيامةِ كِتابا يلقاه منشورا} وقوله {فأما
من أُوتِى كِتابه بِيمينِه}. وقوله {اقرأ كِتابك} قوّة لقراءة عبدالله. قرأها
مجاهد (تبلو كل نفسٍ ما أسلفت) أى تَخْبره وتراه. وكل حَسَن. حدّثنا محمد قال حدّثنى
الفرّاء قال حدثنا محمد بن عبد العزيز التيمى عن مُغيرةَ عن مجاهد أنه قرأ (تبلو)
بالباء. وقال الفرّاء: حدّثنى بعض المشيخة عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس:
(تبلو) تَخْبر، وكذلك قرأها ابن عباس.
وقوله {وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} (الحقِّ) تجعله
من صفات الله تبارك وتعالى. وإن شئت جعلته نصبا تريد: ردّ إلى الله حقا. وإن شئت:
مولاهم حقا.
{ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا
بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }
وكذلك وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ...}
فيه ما فى الأولى.
{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ
فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
}
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ...}
وقد يقرأ (كلمة ربِك) و (كلمات ربك). قراءة أهل المدينة
على الراجح.
وقوله:
{عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}:
حَقَّت عليهم لأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم لا يؤمنون، فيكون موضعها نصبا إذا ألقيت
الخافض. ولو كسرت فقلت: "إنهم" كان صوابا على الابتداء. وكذلك قوله
{آمنت أنه لا إِله إِلا الذِىِ آمنتْ بِه بنو إِسرائِيل} وكسرها أصحاب عبدالله على
الابتداء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قُلْ
هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ
أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي
إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }
وقوله: {أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى...}
يقول: تعبدون مالا يقدر على النُقْلة من مكانه، إلا أن
يحوّل وتنقلوه.
{ وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن
دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ
لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
وقوله: {وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى...}
المعنى -
والله أعلم -: ما كان ينبغى لمثل هذا القرآن أن يفترى.
وهو فى معنى: ما كان هذا القرآن لِيفترى. ومثله {وما كان المؤمِنون لِينفِروا
كافة} أى ما كان ينبغى لهم أن ينفِروا؛ لأنهم قد كانوا نَفَروا كافَّة، فدلَّ
المعنى على أنه لا ينبغى لهم أن يفعلوا مرَّة أخرى. ومثله {وما كان لِنبىّ أن يَغُلّ}
أى ما ينبغى لنبىّ أن يَغُلّ، ولا يُغَل. فجاءت (أَنْ) على معنى ينبغى؛ كما قال
{مالك أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجِدين} والمعنى: منعك، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذا
كان معناها: ما منعك. ويدلّ على أن معناهما واحد أنه قال له فى موضع: (ما منعك)،
وفى موضع (مالك) وقصَّة إبليس واحدة.
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً
وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً
وَلَاكِنَّ النَّاسَ...}
للعرب
فى (لكن) لغتان: تشديد النون وإسكانها. فمن شدّدها نصب بها الأسماء، ولم يلها
فَعَلَ ولا يَفْعَل. ومَن خفَّف نُونها وأسكنها لم يُعمِلها فى شىء اسمٍ ولا فعل،
وكان الذى يعمل فى الاسم الذى بعدها ما معه، ينصبه أو يرفعه أو يخفضه؛ من ذلك قوله
{ولكِنِ الناسُ أَنفسهم يظلِمون} {ولكِنِ اللّهُ رَمَى} {ولكِنِ الشياطينُ كفروا}
رُفعت هذه الأحرف بالأفافيل التى بعدها. وأمَّا قوله {ما كان محمد أَبا أَحدٍ
مِن رِجالِكم ولكِن رسولَ اللّهِ}
فإنك أضمرت (كان) بعد (لكن) فنصبت بها، ولو رفعته على أن
تضمر (هو): ولكن هو رسول الله كان صوابا. ومثله {وما كان هذا القرآن أن يفترى مِن
دونِ اللّهِ ولكِن تصدِيقَ الذى بين يديه} و (تصدِيقُ). ومثله {ما كان حدِيثا يفترى
ولكِن تصدِيقَ الذى بين يديه} (وتصديقُ).
فإذا ألقيت من (لكن) الواو التى فى أوّلها آثرت العربُ
تخفيف نونها. وإذا أدخلوا الواو وآثروا تشديدها. وإنما فعلوا ذلك لأنها رجوع عمَّا
أصاب أوّل الكلام، فشبِّهت ببل إذْ كان رجوعا مثلها؛ ألا ترى أنك تقول: لم يقم
أخوك بل أبوك ثم تقول: لم يقم أخوك لكن أبوك، فتراهما بمعنى واحد، والواو لا تصلح
فى بل، فإذا قالوا (ولكن) فأدخلوا الواو تباعدت من (بل) إذ لم تصلح الواو فى (بل)،
فآثروا فيها تشديد النون، وجعلوا الواو كأنها واو ودخلت لعطفٍ لا لمعنى بل.
وإنما نصبت العربُ بها إذا شُدّدت نونها لأن أصلها: إنّ
عبدالله قائم، فزيدت على (إن) لام وكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا؛ ألا ترى أن الشاعر قال:
* ولكننِى مِن حُبّها لكَميد *
فلم تدخل اللام إلا لأن معناها إنّ.
وهى فيما وصلت به من أوّلها بمنزلة قول الشاعر:
لهِنَّكِ من عَبْسِيّةٍ لوِسيمةٌ * على هُنُواتٍ كاذبٍ
من يقولها
وصل (إنّ) ها هنا بلام وهاء؛ كما وصلها ثَمَّ
بلام وكاف. والحرف قد يوصل من أوّله وآخره. فما وصل من أوله (هذا)، (ها ذاك)، وصل
بـ (ها) من أوّله. ومما وصل من آخره. قوله: {إمَّا تُرِيَنِّى ما يُوعدون}، وقوله:
لتذهبن ولتجلسن. وصل من آخره بنون وبـ (ما). ونرى أن قول العرب: كم مالك, أنها (ما) وصلت من أولها
بكاف، ثم إن الكلام كثر بـ (كم) حتى حذفت الألف من آخرها فسكنت ميمها؛ كما قالوا:
لِمْ قلت ذاك؟ ومعناه: لِمَ قلت ذاك، ولمَا قلت ذاك؟ قال الشاعر:
يا أبا الأسود لِمْ أسلمتنى * لهموم طارقات وذِكر
وقال بعض العرب فى كلامه وقيل له: منذ كم قعد فلان؟
فقال: كَمُذْ أخذتَ فى حديثك، فردُّه الكاف فى (مذ) يدلّ على أن الكاف فى (كم)
زائدة. وإنهم ليقولون: كيف أصبحت، فيقول: كالخير، وكخير. وقيل لبعضهم: كيف تصنعون الأَقِط؟
فقال: كهيّن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا
يَفْعَلُونَ }
وقوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ...}
(ثم) ها هنا عطف. ولو قيل: ثَمَّ اللّهُ شهيد على ما
يفعلون. يريد: هنالك الله شهيد على ما يفعلون.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً
أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ }
وقوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ
نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ...}
إن شئت جعلت (ماذا) استفهاما محضا على جهة التعجّب؛
كقوله: ويلَهم ماذا أرادوا باستعجال العذاب؟! وإن شئت عظَّمت أمر العذاب فقلت:
بماذا استعجلوا! وموضعه رفع إذا جعلت الهاء راجعة عليه، وإن جعلت الهاء فى
(منه) للعذاب وجعلته فى موضع نصب أوقعت عليه الاستعجال.
{ أَثُمَّ
إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }
وقوله: {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ...}
(الآن)
حرف بنى على الألف واللام لم تخلع منه، وترك على مذهب
الصفة؛ لأنه صفة فى المعنى واللفظ؛ كما رأيتهم فعلوا فى (الذى) و (الذين) فتركوهما
على مذهب الأداة، والألف واللام لهما غير مفارقتين. ومثله قال الشاعر:
فإن الألاءِ يعلمونك منهم * كعلمى مظَّنُّوك ما دمت
أشعرا
فأدخل الألف واللام على (ألاء) ثم تركها مخفوضة فى موضع
النصب؛ كما كانت قبل أن تدخلها الألف واللام. ومثله قوله:
وأنى حُبست اليوم والأمسِ قبله * ببابك حتى كادت الشمس
تغرب
فأدخل الألف واللام على (أمس) ثم تركه مخفوضا على (جهته
الأولى). ومثله قول الآخر:
تفقَّأُ فوقه القَلَع السوارى * وجُنَّ الخازبَازَ به
جنونا
فمثل (الآن) بأنها كانت منصوبة قبل أن تدخل عليها الألف واللام، ثم
أدخلتهما فلم يغيراها. وأصل الآن إنْما كان (أوان) حذفت منها الألف وغيَّرت واوها إلى
الألف؛ كما قالوا فى الراح: الرَيَاح؛ أنشدنى أبو القمقام الفقعسى:
كأن مَكَاكِىَّ الجِواء غُدَيَّةً * نشاوَى تساقَوا
بالرَيَاح المفَلْفَل
فجعل الرياح والأوان على جهة فَعَل ومرة على جهة فعال؛
كما قالوا: زمن وزمان. وإن شئت جعلت (الآن) أصلها من قولك: آن لك أن تفعل، أدخلت
عليها الألف واللام، ثم تركتها على مذهب فَعَلَ فأتاها النصبُ من نصب فعلَ. وهو
وجه جيِّد؛ كما قالوا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيلَ وقالَ وكثرة السؤال،
فكانتا كالاسمين فهما منصوبتان. ولو خفضتا على أنهما أخرجتا من نيَّة الفعل كان
صوابا؛ سمعت العرب تقول: من شُبَّ إلى دُبَّ بالفتح، ومن شُبٍّ إلى دُبٍّ؛ يقول:
مذ كان صغيرا إلى أن دَبّ، وهو فَعَلَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَلَوْ
أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ }
وقوله: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ
الْعَذَابَ...}
يعنى الرؤساء من المشركين، أسَرُّوها من سفلتهم الذين
أضلّوهم، فأسرُّوها أى أخفَوها.
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
وقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ...}
هذه قراءة العامة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ
(فبذلك فلتفرحوا) أى يا أصحاب محمد، بالتاء.
وقوله:
{هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: يَجْمع الكفار.
وقَوّى قولَ زيد أنها فى قراءة أبىّ (فبذلك فافرحوا) وهو البناء الذى خُلِق للأمر
إذا واجهْتَ به أو لم تواجِه؛ إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه
لكثرة الأمر خاصَّة فى كلامهم؛ فحذفوا؛ اللام كما حذفوا التاء من الفعل. وأنت تعلم
أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا على الفعل الذى أوّله الياء والتاء والنون
والألف. فلما حُذِفت التاء ذهبت باللام وأحدثت الألف فى قولك: اضرب وافرح؛ لأن
الضاد ساكنة فلم يستقم أن يُستأنف بحرف ساكن، فأدخلوا ألفا خفيفة يقع بها
الابتداء؛ كما قال: (ادّارَكوا). (واثّاقَلْتُم). وكان الكسائىّ يعيب قولهم
(فلتفرحوا) لأنه وجده قليلا فجعله عيبا، وهو الأصل. ولقد سمعت عن النبىّ صلى الله عليه
وسلم أنه قال فى بعض المشاهد (لتأخذوا مصافّكم) يريد به خذوا مصافّكم.
{ وَمَا
تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ
عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ
عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ
أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
وقوله:
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن
قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً...}
يقول:
الله تبارك وتعالى شاهد على كل شىء. (وما) ها هنا جحد لا
موضع لها. وهى كقوله {ما يكون مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلا هُوَ رابِعهم} يقول:
إلا هو شاهدهم.
{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ
فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ} و(أصغرُ وأكبرُ).
فمن نصبهما فإنما يريد الخفض: يُتْبعهما المثقال أو الذرّة. ومن رفعهما أتبعهما
معنى المثقال؛ لأنك لو ألقيت من المثقال (مِن) كان رفعا. وهوكقولك: ما أتانى من أحد
عاقلٍ وعاقلٌ. وكذلك قوله {ما لكم مِن إِلهٍ غيرِه}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }
وقوله:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ...الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ...}
(الذين) فى موضع رفع؛ لأنه نعت جاء بعد خبر إنْ؛ كما قال
{إِن ذلِكَ لَحَقٌّ تخاصُمُ أَهْلِ النارِ} وكما قال {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ
بِالحَقِّ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} والنصب فى كل ذلك جائِز على الإتباع للاسم الأوّل
وعلى تكرير (إنّ).
وإنما
رفعت العرب النعوت إذا جاءت بعد الأفاعيل فى (إنّ) لأنهم رأوا الفعل مرفوعا، فتوهّموا أن
صاحبه مرفوع فى المعنى - لأنهم لم يجدوا فى تصريف المنصوب اسما منصوبا وفعله مرفوع
- فرفعوا النعت. وكان الكسائىّ يقول: جعلته - يعنى النعت - تابعا للاسم المضمر فى
الفعل؛ وهو خطأ وليس بجائز؛ لأن (الظريف) وما أشبهه أسماء ظاهرة، ولا يكون الظاهر
نعتا لمكنىّ إلا ما كان مثل نفسه وأنفسهم، وأجمعين، وكلهم؛ لأن هذه إنما تكون أطرافا
لأواخر الكلام؛ لا يقال مررت بأجمعين، كما يقال مررت بالظريف. وإن شئت جعلت قوله
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} رفعا.
بقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا}.
{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
وقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا...}
وذكر أن البشرى فى الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها
المسلم أو ترى له, وفى الآخرة الجنة. وقد يكون قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} ما
بشّرهم به فى كتابه من موعوده، فقال {ويبشِر المؤمِنِين الذِين يعملون الصالِحاتِ}
فى كثير من القرآن.
ثم قال لَهُمُ {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أى
لا خُلْف لوعد الله.
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ
جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
}
وقوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ
للَّهِ...}
المعنى
الاستئناف. ولم يقولوا هم ذاك، فيكونَ حكاية. فأمّا قوله: {وقولهم إِنا قتلنا
المسِيح} فإنها كسرت لأنها جاءت بعد القول، وما كان بعد القول من (إن) فهو مكسور على الحكاية فى قال
ويقولون وما صُرِّف من القول. وأمّا قوله {ما قلت لهم إلاَّ ما أَمرْتَنِى بِهِ
أَن اعبُدُوا اللّهَ ربِّى} فإنك فتحت (أن) لأنها مفسِّرة لـ (ما)، (وما) قد وقع عليها
القول فنصبها وموضعها نصب. ومثله فى الكلام: قد قلت لك كلاما حسنا: أن أباك شريف
وأَنك عاقل، فتحت (أَنّ) لأنها فسّرت الكلام، والكلام منصوب. ولو أردت تكرير القول
عليها كسرتها. وقد تكون (أنّ) مفتوحة بعد القول إذا كان القول رافعا لها أو رافعة
له؛ من ذلك أن تقول: قولُك مذ اليوم أَن الناس خارجون؛ كما تقول: قولك مذ اليوم
كلام لا يفهم. وقوله {ولا تقولن لِشىءٍ إنى فاعِل ذلِك غدا إلا أَن يشاء الله}
المعنى: لا تقولنَّ لشىءٍ: إنى فاعل ذلك غدا إلا بالاستثناء: إلا أن تقول: إن شاء
الله. ولوأردت: لا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك: لا تقل إلا أن يشاء الله كان كأنه
أُمر أن يقول إن شاء الله وحدها، فلا بدّ من أن مفتوحة بالاستثناء خاصة؛ ألا ترى
أنك قد تأمره إذا خلف فتقول: قل إن شاء الله، فلمَّا أريدت الكلمة وحدها لم تكن
إلا مكسورة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }
وقوله: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ...}
وقوله: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا...}
أى ذلك متاع فى الدنيا. والتى فى النحل مثله، وهو كقوله
{لم يلبثوا إلا ساعة مِن نهارٍ بلاغ} كله مرفوع بشىء مضمر قبله إمّا (هو) وإما
(ذاك).
{ وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ
عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ
فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ }
وقوله: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ...}
والإجماع:
الإعداد والعزيمة على الأمر. ونصبتَ الشركاء بفعل مضمر؛
كأنك قلت: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. وكذلك هى فى قراءة عبدالله. والضمير ها
هنا يصلح إلقاؤه؛ لأن معناه يشاكل ما أظهرت؛ كما قال الشاعر:
ورأيت زوجك فى الوغى * متقلِّدا سيفا ورمحا
فنصبت الرمح بضمير الحمل؛ غير أن الضمير صلح حذفه لأنهما
سلاح يعرف ذا بذا، وفعل هذا مع فعل هذا.
وقد قرأها الحسن (وشركاؤكم) بالرفع، وإنما الشركاء ها
هنا آلهتهم؛ كأنه أراد: أَجمِعوا أمركم أنتم وشركاؤكم. ولست أشتهيه لخلافه للكتاب،
ولأن المعنى فيه ضعيف؛ لأن الآلهة لا تعمل ولا تُجْمع . وقال الشاعر:
يا ليت شِعرِى والمنى لا تنفع * هل أَغدُوَنْ يوما
وأمرِى مُجْمَع
فإذا أردت جمع الشىء المتفرّق قلت: جمعت القوم فهم
مجموعون؛ كما قال الله تبارك وتعالى {ذلِك يوم مجموع له الناس وذلِك يوم مشهود}
وإذا أردت كسب المال قلت: جَمَّعت المال؛ كقول الله تبارك وتعالى {الذِى جَمَّع
مالا وعدَّده} وقد يجوز جَمَع مالا وعدَّده. وهذا من نحو قَتَلوا وقَتَّلوا.
وقوله {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} وقد قرأها بعضهم: (ثم أَفْضُوا إلىّ)
بالفاء. فأما قوله {اقْضُواْ إِلَيَّ} فمعناه: امضوا إلىّ، كما يقال قد قضى فلان، يراد:
قد مات ومضى. وأما الإفضاء فكأنه قال: ثم توجَّهوا إلىّ حتى تصلوا، كما تقول: قد
أفضت إلىّ الخلافةُ والوجع، وما أشبهه.
{ ثُمَّ
بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ
عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ }
وقوله: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ
نَطْبَعُ...}
يقول: لم يكونوا ليؤمنوا لك يا محمد بما كذَّبوا به فى
الكتاب الأوّل، يعنى اللوح المحفوظ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ
أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ }
وقوله: {قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا
جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا...}
يقول القائل: كيف أدخل ألف الاستفهام فى قوله (أسحِر
هذا) وهم قد قالوا (هذا سحر) بغير استفهام؟
قلت: قد يكون هذا من قولهم على أنه سحر عندهم وإن استفهموا؛ كما ترى
الرجل تأتيه الجائِزة فيقول: أحقّ هذا؟ وهو يعلم أنه حقّ لا شكّ فيه. فهذا وجه. ويكون أن تزيد
الألف فى قولهم وإن كانوا لم يقولوها، فيخرج الكلام على لفظه وإن كانوا لم
يتكلّموا به؛ كما يقول الرجل: فلان أعلم منك، فيقول المتكلم: أقلتَ أحدٌ أعلم بذا منّى؟ فكأنه هو
القائل: أأحد أعلم بهذا منى. ويكون على أن تجعل القول بمنزلة الصلة لأنه فضل فى
الكلام؛ ألا ترى أنك تقول الرجل: أتقول عندك مال؟ فيكفيك من قوله أن تقول: ألك
مال؟ فالمعنى قائم ظهرَ القولُ أوْ لم يظهر.
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ
لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا...}
اللفت: الصرف؛ تقول: ما لفتك عن فلان؟ أى ما صرفك عنه.
ويقول
القائل: كيف قالوا (وتكون لكما الكِبرياء فى الأرض) فإنّ النبىّ صلى الله عليه
وسلم إذا صُدِّق صارب مقاليدُ أُمّته ومُلْكُهم إليه، فقالوه على مُلْك ملوكهم من
التكبر.
{ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ
السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }
وقوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ...}
(ما) فى موضع الذى؛ كما تقول: ما جئت به باطل. وهى فى قراءة عبدالله
(ما جِئتم به سِحر) وإنما قال (السحر) بالألف واللام لأنه جواب لكلام قد سبق؛ ألا
ترى أنهم قالوا لِما جاءهم به موسى: أهذا سحر؟ فقال: بل ما جئتم به السحر. وكل حرف
ذكره متكلم نكرة فرددْتَ عليها لفظها فى جواب المتكلم زدت فيها ألفا ولاما؛ كقول
الرجل: قد وجدت درهما، فتقول أنت: فأين الدرهم؟ أو: فأرِنى الدرهم. ولو قلت:
فأرِنى درهما، كنت كأنك سألته أن يريك غير ما وجده.
وكان مجاهد وأصحابه يقرءون: ما جِئتم به آلسحرُ: فيستفهم
ويرفع السحر من نِيَّة الاستفهام، وتكون (ما) فى مذهب أىّ كأنه قال: أى شىء جئتم
به؟ آلسحر هو؟ وفى حرف أُبىّ (ما أتيتم به سحر) قال الفراء: وأشكّ فيه.
وقد
يكون (ما جئتم به السحرَ) تجعل السحر منصوبا؛ كما تقول: ما جِئت به الباطل والزور.
ثم تجعل (ما) فى معنى جزاء و(جِئتم) فى موضع جزم إذا نصبت، وتضمر الفاء فى قوله
{إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} فيكون جوابا للجزاء. والجزاء لا بدّ له أن يجاب بجزم
مثله أو بالفاء. فإن كا ما بعد الفاء حرفا من حروف الاستئناف وكان يرفع أو ينصب أو
يجزم صلح فيه إضمار الفاء. وإن كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو كان على جهة
فَعَل أو فعلوا لم يصلح فيه إضمار الفاء؛ لأنه يُجزم إذا لم تكن الفاء، ويرفع إذا
أدخلت الفاء. وصلح فيما قد جُزِم قبُل أن تكون الفاءُ لأنها إن دخلت أو لم تدخل
فما بعدها جزم؛ كقولك للرجل: إن شئت فقم؛ ألا ترى أنّ (قم) مجزومة ولو لم يكن فيها
الفاء, لأنك إذا قلت إن شئت قم جزمتها بالأمر، فكذلك قول الشاعر:
من يفعلِ الحسناتِ اللّهُ يشكرها * والشرُّ بالشرِّ عِند
اللّهِ مِثلانِ
ألا ترى أن قولك: (الله يشكرها) مرفوع كانت فيه الفاء أو
لم تكن، فلذلك صلح ضميرها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ
عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ
لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }
وقوله: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن
قَوْمِهِ...}
ففسَّر المفسرون الذرِّيَّة: القليل. وكانوا - فيما
بلغنا - سبعين أهل بيت. وإنما سموا الذرّية لأن آباءهم كانوا من القِبط وأمهاتهم
كنّ من بنى إسرائيل، فسموا الذرّية؛ كما قيل لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى
اليمن فسمَّوا ذراريَّهم الأبناء؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.
وقوله:
{عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}، وإنما قال (وملئهم) وفرعون واحد لان
الملِك إذا ذُكر بخوف او بسفر او قدوم من سفر ذهب الوَهْم إليه وإلى من معه؛ ألا
ترى أنك تقول: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد: بمن معه، وقدم فغلت الأسعار؛ لأنك
تنوى بقدومه قدوم من معه. وقد يكون أن تريد بفرعون آل فرعون وتحذف الآل فيجوز؛ كما
قال {واسأل القرية} تريد أهل القرية والله أعلم. ومن ذلك قوله: {يأيها النبى إذا
طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا
لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً...}
كان فرعون قد أمرَ بتهديم المساجد، فأُمِر موسى وأخوه أن
يُتَّخذ المساجد فى جوف الدور لتخفى من فرعون. وقوله: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ
قِبْلَةً} إلى الكعبة.
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ
زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن
سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }
وقوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ
زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...}
ثم قال موسى (ربنا) فعلت ذلك بهم (ليُضِلُّوا) الناس (عن
سبيلك) وتقرأ (لَيضِلُّوا) هم (عن سبيلك) وهذه لام كى.
ثم استأنف موسى بالدعاء عليهم فقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ}. يقول: غَيِّرها. فذُكر أنها صارت حجارة. وهو كقوله {من قبل أن
نطمس وجوها}. يقول: نمسخها.
قوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. يقول: واختم عليها.
قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ}. كلّ ذلك دعاء،
كأنه قال اللهم {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} وإن شئت
جعلت (فلا يؤمنوا) جوابا لمسئلة موسى عليه السلام إياه؛ لأن المسئلة خرجت على لفظ
الأمر، فتجعل (فلا يؤمنوا) فى موضع نصب على الجواب، فيكون كقول الشاعر:
يا ناقَ سِيرِى عَنَقاً فسِيحا * إلى سليمان فنستريحا
وليس الجواب يسهل فى الدعاء لانه ليس بشرط.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا
وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا...}
نُسبت الدعوة إليهما وموسى كان الداعى وهارون المؤمِّن،
فالتأمين كالدعاء. ويقرأ (دعواتكما).
وقوله: {فَاسْتَقِيمَا} أُمِرا بالاستقامة على أمرهما
والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. ويقال: إنه كان بينهما أربعون سنة.
(قال آمنت أَنه) قرأها أصحاب عبدالله بالكسر على
الاستئناف. وتقرأ (أنه) على وقوع الإيمان عليها. زعموا أن فرعون قالها حين ألجمه
الماء.
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ
صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ
الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقوله: {فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ...}
يعنى بنى إسرائيل أنهم كانوا مجتمعين على الإيمان بمحمد
صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبْعث، فلمَّا بُعث كذَّبه بعض وآمن به بعض. فذلك
اختلافهم. و(العلم) يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وصفته.
{ فَإِن
كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ...}
قاله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم
أنه غير شاكّ، ولم يشكك عليه السلام فلم يسأل. ومثله فى العربية أنك تقول لغلامك الذى
لا يشكّ فى مُلكك إياه: إن كنت عبدى فاسمع وأطع. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه
عيسى صلى الله عليه وسلم {أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله} وهو
يعلم أنه لم يقله، فقال الموفَّق معتذرا بأحسن العذر: (إن كنت قلتُه فقد علمته
تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك).
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ
إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ
الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
وقوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ
إِيمَانُهَا...}
وهى فى قراءة أُبَىّ (فهلاَّ) ومعناها: أنهم لم يؤمنوا،
ثم استثنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله: ألا ترى أن ما بعد (إلاَّ) فى
الجحد يتبع ما قبلها، فتقول: ما قام أحد إلا أبوك، وهل قام أحد إلا أبوك؛ لأن الأب
من الأحد؛ فإذا قلت: ما فيها أحد إلا كلبا وحمارا، نصبت؛ لأنها منقطعة ممّا قبلَ
إلا؛ إذْ لم تكن من جنسه، كذلك كان قوم يونس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء. ولو
كان الاستثناء ها هنا وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وقد يجوز الرفع فيها، كما أن
المختلِف فى الجنس قد يتبع فيه ما بعد إلا ما قبل إلا؛ كما قال الشاعر:
وبلدٍ ليس به أنيسُ * إلا اليعافير وإلا العيسُ
وهذا
قوة للرفع، والنصب فى قوله: {ما لهم به من علم إلا اتِّباعَ الظنِّ}. لأن اتباع
الظن لا ينسب إلى العلم. وأنشدونا بيت النابغة:
*... ... وما بالربع من أحد *
* إلا أَوارىَّ ما إن لا أُبَيِّنها *
قال الفراء: جمع فى هذا البيت بين ثلاثة أحرف من حروف
الجحد: لا، وإنْ، وما. والنصب فى هذا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز، والإتباع من
كلام تميم.
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }
وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يَعْقِلُونَ...}
العذاب والغضب. وهو مضارع لقوله الرجز، ولعلهما لغتان
بدّلت السين زايا كما قيل الأَسْد والأزد.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( هود )
{ الر
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ *
أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ *
وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً
حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن
تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ }
قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ...}.
رَفَعتَ الكتاب بالهجاء الذى قبله، كأنك قلت: حروف
الهجاء هذا القرآن. وإن شئت أضمرت له ما يرفعه؛ كأنك قلت: الر هذا الكتاب.
وقوله {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالحلال والحرام. والأمر
والنهى. لذلك جاء قوله {ألاّ تعبدوا...}.
ثم قال {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ...}
أى فُصِّلت آياته ألاَّ تعبدوا وأن استغفرا. فأنْ فى
موضع نصب بإلقائك الخافضَ.
{ أَلا
إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ }
وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ
لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ...}
نزلت فى بعض مَن كان يَلْقَى النبىَّ صلى الله عليه وسلم
بما يُحبُّ، وينطوى له على العداوة والبغض. فذلك الثَنْى هو الإخفاء. وقال الله
تبارك وتعالى {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ الله} ما
يُخْفُون من عداوة محمَّد صَلَّي الله عليه وسلم.
(حدّثنا محمد قال) حدّثنا الفرّاء قال: وحدَّثنى الثقة
عبدالله بن المبارك عن ابن جُرَيج رجل أظنّه عطاء عن ابن عبَّاس أَنه قرأ
(تَثْنَونى صُدُورُهُمْ) وهو فى العربيَّة بمنزلة تَنْثَنى كما قال عنترة:
وقولكَ للشىء الذى لا تناله * إذا ما هو احلولى أَلا ليت
ذاليا
وهو من الفعل: افعوعلت.
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ }
وقوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا...}
فمستقرُّها: حيث تأوى ليلا أو نهاراً. ومستودَعها:
موضعها الذى تموت فيه أو تُدفن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
وقوله: {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ
إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ...}
(وسِحْر
مبين). فمن قال: (سَاحِرٌ مُبِينٌ) ذهب إلا النبىّ صلى الله عليه وسلم من قولهم.
ومَنْ قال: (سِحْرٌ) ذهب إلى الكلام.
(حدَّثنا محمد قال) حدّثنا الفرَّاء قال: وحدَّثنى أبو
اسرائيل عن الأعمش عن أبى رَزِين عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ فى ثلاثة مواضع
ساحر: فى آخر المائدة وفى يونس وفى الصفّ.
قال الفراء: ولم يذكر الذى فى هود. وكان يحيى بن وثّاب
يقرأ فى أربعة مواضع ويجعل هذا رابعاً يعنى فى هود.
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ...}
فى موضع نصب بالاستثناء من قوله: {ولَئِنْ أَذَقنَاهُ}
يعنى الإنسان ثم استثنى من الإنسان لأنه فى معنى الناس، كما قال تبارك وتعالى:
{وَالعَصْرِ إنَّ الإنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} فاستثنى
كثيراً من لفظِ واحدٍ؛ لأنه تأويل جِمَاع.
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ
وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ
جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }
وقوله - عزَّ وجلَّ -: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا
يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...}.
يقول:
يضيق صدرك بما نوحيه إليك فلا تُلقيه إليهم مخافة أن
يقولوا: لولا أنزل عليك كنز. فأَن فى قوله: {أَنْ يَقُولوا} دليل على ذلك. وهى
بمنزلة قوله: {يُبَيَّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} و(مِن) تَحسنَ فيها
ثم تُلقَى، فتكون فى موضع نصب؛ كما قال - عز وجل: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فىِ آذَانِهِمْ
مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الَموْتِ} أَلا ترى أن (مِنْ) تحسن فى الحَذَر، فإذا
أُلقِيت انتصب بالفعل لا بإلقاء (من) كقول الشاعر:
وأَغفرُ
عوراء الكريم اصطناعَه * وأُعرِض عن ذات الّلئيم تَكَرُّماً
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ
أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ اله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ }
وقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ...} ثم قال جلَّ ذكره: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ...}
ولم يقل: لك وقد قال فى أوَّل الكلام (قُلْ) ولم يقل:
قولوا وهو بمنزلة قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}.
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ }
وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا...}
ثم قال: (نُوَفِّ) لأن المعنى فيها بعد كانَ. وكان قد يبطل
فى المعنى؛ لأن القائِل يقول: إن كنت تعطينى سألتك، فيكون كقولك: إن أعطيتنى
سألتك. وأكثر ما يأتى الجزاء على أن يتَّفق هو وجوابه. فإن قلت: إن تفعل أْفعل
فهذا حَسَن. وإن قلت: إن فعلتَ أفعلْ كان مستجازاً. والكلام إن فعلتَ فعلتُ. وقد قال
فى إجازته زُهَير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنَه * ولو نال أسباب السمّاء
بسُلّم
وقوله:
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} يقول: من أراد بعمله من
أهل القِبلة ثواب الدنيا عُجِّل له ثوابُه ولم يُبْخَس أى لم يُنْقَص فى الدنيا.
{ أَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ
بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ
إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ...}
(فالذى على البيّنة من ربّه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويتلوه شاهد منه) يعنى جِبرِيل عليه السلام يتلو القرآن، الهاء للقرآن. وتَبيَان
ذلك: ويتلو القرآن شاهد من الله {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} رفعتَ الكتاب
بِمِن. ولو نصبت على: ويتلو من قبله كتابَ موسى (إمَاماً) منصوب على القطع من (كتاب موسى) فى
الوجهين. وقد قيل فى قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}: يعنى الإنجيل يتلو القرآن، وإن كان قد
أُنزل قبله. يذهب إلى أنه يتلوه بالتصديق. ثم قال: ومن قَبْلِ الإنجيل كتاب موسى.
ولم يأت لقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّهِ} جوابٌ بيّن؛ كقوله فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {أَفَمَنْ كَانَ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وربما تركت العرب
جواب الشىء المعروف معناه وإن تُرِك الجواب؛ قال الشاعر:
فأُقسم لو شَىْ أتانا رَسولُه * سِوَاك ولكن لم نجد لكَ
مَدْفَعا
وقال
الله - تبارك وتعالى وهو أصدق من قول الشاعر -: {وَلَوْ أَنُّ قُرْآناً سُيِّرَتْ
بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطَّعَتْ بِهِ الأرْضُ} فلم يؤت له بجواب والله أعلم. وقد
يفسّره بعض النحويّين يعنى أن جوابه: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ وَلَوْ أَنَّ قرآناً)
والأوَّل أشبه بالصواب. ومثله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ} {وَلَوْ تَرَى
الذِينَ ظَلَمُوا} وقولُه فى الزمر: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ
سَاجداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ولم يؤت له
بجواب. وكفى قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} من ذلك. فهذا مِمَّا تُرك جوابه، وكَفَى منه ما بعده، كذلك قال فى هود:
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ
مَثَلاً} ولم يقل: هل يستوون. وذلك أَن الأَعمى والأصمَّ من صفةِ واحدٍ والبصير
والسَّميع من صفة واحدٍ كقول القائل: مررت بالعاقل واللبيب وهو يعنى واحداً. وقال
الشاعر:
وما أدرى إذا يمَّمت وجهاً * أريد الخير أيُّهما يلينى
أألخير الذى أنا أَبتغيه * أم الشر الذى لا يأتلينى
قال: أيّهما وإنما ذكر الخير وحده؛ لأن المعنى يُعْرف: أن المبتغى
للخير مُتّق للشرّ وكذلك قول الله جل ذكره: {سَرَابِيلَ تَقِيكُم الْحَرَّ
وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [أى] وتقى البرد. وهو كذلك وإن لم يُذكر.
وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} فيقال: مِن أصناف الكفّار. ويقال: إن كلَّ كافر حِزْب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ
الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }
وقوله:
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ
الْعَذَابُ...}
ثم رءوس الكَفَرة الذين يُضلّون. وقوله: {مَا كَانُواْ
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} على وجهين. فسَّره بعض المفسّرين: يضاعف لهم العذاب بما
كانوا يستطيعون السَّمع ولا يفعلون. فالباء حينئذ كان ينبغى لها أن تدخل، لأنه قال:
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فى غير موضع من التنزيل
أدخلت فيه الباء، وسقوطها جائز كقولك فى الكلام: بأَحسن ما كانوا يعملون وأحسنَ ما
كانوا يعملون. وتقول فى الكلام: لأجزينَّك بما عملت، وما عملت. ويقال: ما كانوا
يستطيعون السَّمع وما كانوا يبصرون: أَى أضلَّهم الله عن ذلك فى اللوح المحفوظ.
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ
الأَخْسَرُونَ }
وقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ...}
كلمة كانت فى الأصل بمنزلة لا بُدَّ أنّك قائم ولا محالة
أَنّك ذاهب، فجرت على ذلك، وكثراستعمالهم إيَّاها، حتَّى صَارت بمنزلة حقّا؛ ألا
ترى أَن العرب تقول: لا جَرَم لآتينك، لا جرم قد أحسنتَ. وكذلك فسّرها المفسّرون
بمعنى الحقِّ. وأصلها من جَرَمت أى كسبت الذنب وجَرَّمته. وليس قول من قال إنّ جَرَمت
كقولك: حَقُقت أو حُقِقت بشىء وإنما لَبَّسَ على قائله قول الشاعر:
ولقد طَعْنتُ أَبا عُيَيْنة طعنةً * جَرَمت فزارةُ بعدها
أن تغضبا
فرفعوا (فَزارة) قالوا: نجعل الفعل لفزارة كأنه بمنزلة حُقَّ لها أو
حقَّ لها أن تغضب وفَزارة منصوبة فى قول الفراء أى جَرَمَتهم الطعنةُ أن يغضبوا.
ولكثرتها فى الكلام حُذفت منها الميم فبنو فزارة يقولون:
لا جَرَ أَنك قائم. وتوصل من أوّلها بذا، أنشدنى بعض بنى كلاب:
إن كلاباً والدِى لاذا جَرَمْ * لأَهْدِرَنَّ اليوم
هدراً صادقا
* هدر المعنَّى ذى الشقاشيق اللهِم *
وموضع أَنْ مرفوع كقوله:
أحقّا
عبادَ الله جُرْأةُ مُحْلِقٍ * عَلَىَّ وقد أَعييتُ عادَ وتُبَّعا
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ }
وقوله: {وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ...}
معناه:
تَخشَّعوا لربّهم وإلى ربّهم. وربَّما جعلت العرب (إلى)
فى موضع اللام. وقد قال الله عزّ وجلّ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وقال:
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا} وقال: {يَهْدِيهِمْ إِلَيْه صِرَاطاً
مُسْتَقِيماً} وقال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} وقد يجوز فى العربيّة أن
تقول: فلان يُخبِت إلى الله تريد: يفعل ذلك بوجهه إلىالله؛ لأن معنى الإخبات
الخشوع، فيقول: يفعله بوجهه إلى الله ولله. وجاء التفسير: وأَخبتوا فَرَقا من الله فمِن يشاكل
معنى اللام ومعنى إلَى إذا أردت به لمكان هذا ومِن أجل هذا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ
مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ
هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ
نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }
وقوله: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا
نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا...}
رفعَتَ
الأراذل بالاتِّباع وقد وقع الفعل فى أوَّل الكلام على اسمه. ولا تكاد العرب تجعل
المردود بإلاَّ إلا عَلَى المبتدأ لا على راجِع ذكره. وهو جائز. فمن البيّن الذى لا نظر فيه أن تقول:
ما قام أحد إلاّ زيد. وإن قلت: ما أحد قام إلا زيد فرفعت زيداً بما عاد فى فعل أحد
فهو قليل وهو جائز. وإنما بَعُد على المبتدأ لأنه كناية، والكناية لا يُفرق فيها
بين أحدٍ وبين عبدالله، فلمَّا قبح أن تقول: ما قام هو إلاّ زيد، وحسن: ما قام أحد
إلا زيد تبيَّن ذلك لأن أحداً كأنّه ليسَ فى الكلام فحسُن الردّ على الفعل. ولا يقال
للمعرفة أو الكناية أَحد إذْ شاكل المعرفة كأنه ليس فى الكلام؛ ألا ترى أنك تقول
ما مررت بأحد إلا بزيد (فكأنك قلت: ما مررت إلا بزيد) لأن أحداً لا يُتَصوّر فى
الوهم أنه مَعْمود له. وقبيح أن تقول: ليس أحد مررت به إلاّ بزيد لأن الهاء لها
صورة كصورة المعرفة، وأنت لا تقول: ما قمت إلا زيد فهذا وجه قبحه. كذلك قال: (ما
نراك) ثم كأنه حذف (نراك) وقال: (ما اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا) فأبْن على هذا
ما ورد عليك إن شاء الله.
{بَادِيَ الرَّأْيِ} لا تهمز (بادى) لأن المعنى فيما
يظهر لنا [و] يبدوا. ولو قرأت (بادئ الرأى) فهمزت تريد أوّل الرأى لكان صوابا. انشدنى بعضهم:
أضحى لخالى شبهى بادى بدى * وصار للفحل لسانى ويدى
فلم يهمز ومثله مما تقوله العرب فى معنى ابدأ بهذا أوّل،
ثم يقولون. ابدأ بهذا آثراً مّا وآثِر ذى أثِير (وأثير ذى أثير) وإثْرَ ذى أثير،
وابدأ بهذا أوَّل ذاتِ يدين وأدْنَى دَنِىّ. وأنشدونا:
فقالوا ما تريد فقلت ألهو * إلى الإصباح آثِر ذى أَثِير
وقوله: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ...} مثل
قوله {يأيّها النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّساَء} لأنهم كذّبوا نوحاً وحده،
وخرج على جهة الجمع، وقولِه {فَإنْ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَكُمْ} فلكم أريد بها
النبىّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: {فاعْلَمُوا} ليست للنبى صلى الله عليه وسلم.
إنما هى لكفّار مكّة ألا ترى أَنه قال {فَهَلْ أَنْتُم مُسْلِمونَ}.
{ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
وقوله: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ...}.
يعنى
الرسالة. وهى نعمة ورحمة. وقوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} قرأها يحيى بن وثّاب
والأعمش وحمزة. وهى فى قراءة أبَىّ (فعمَّاهَا عَلَيْكُمْ) وسمعت العرب تقول: قد
عُمِّىَ علىَّ الخَبَر وعَمِىَ علىَّ بمعنى واحد. وهذا ممّا حوّلت العرب الفعل
إليه وليس له، وهو فى الأصل لغيره؛ ألا ترى أن الرجل الذى يَعْمَى عن الخبر أو
يُعَمَّى عنه، ولكنّه فى جوازه مثل قول العرب: دخل الخاتمُ فى يدى والخُفّ فى رِجْلى،
وأنت تعلم أن الرِجل التى تُدخل فى الخفّ والأصبع فى الخاتم. قاستخفّوا بذلك إِذا
كان المعنى معروفاً لا يكُون لذا فى حال، ولذا فى حال؛ إنما هو لواحد. فاستجازوا
ذلك لهذا. وقرأه العامَّة (فعَمِيَتْ) وقوله {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} العرب تسكّن
الميم التى من اللزوم فيقولون: أَنُلْزِمْكُمُوهَا. وذلك أن الحركات قد توالت
فسَكنت الميم لحركتها وحركتين بعدها وأنها مرفوعة، فلو كانت منصولة لم يُسْتَثْقَل
فتخفَّفَ. إِنما يستثقلون كسرة بعدها ضمةٌ أو ضمةً بعدها كسرة أو كَسْرَتينِ
متواليتين أو يُسْتَثْقَل أو ضمَّتينِ متواليتين. فأمّا الضَّمتان فقوله: {لاَ
يَحْزُنْهُمْ} جزموا النون لأن قبلها ضمة فخّففت كما قال (رُسْل) فأمَّا الكسرتان
فمثل قوله الإبلْ إِذا خُفّفت. وأمّا الضََّمة والكسرة فمثل قول الشاعر:
وناعٍ يُخَبِّرنا بمُهْلَك سَيّدٍ * تَقَطَّع من وجد
عليه الأناملُ
وإن شئت تُقطَّع. وقوله فى الكسرتين:
* إِذا اعوجَجْن قلت صَاحِبْ قوِّمِ *
يريد صَاحبى فإنما يُستثقل الضمّ والكسر لأن لمُخرجيهما
مؤونة على اللسان والشفتين تنضمّ الرَفعة بهما فيثقل الضمَّة ويمال أحد الشِّدْقين
إلى الكسرة فترى ذلك ثقيلاً. والفتحة تَخرج من خَرْق الفم بلا كُلْفة.
{ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن
طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
}
وقوله: {وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ...}.
يقول:
من يمنعنى من الله. وكذلك كلّ ما كان فى القرآن منه فالنصر على جهة المنع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ
فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ }
وقوله: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي...}.
يقول: فعلَىَّ إثمى. وجاء فى التفسير فعلَيَّ آثامى، فلو
قرئت: أجرامى على التفسير كان صواباً. وأنشدنى أبو الجراح:
لا تجعلونى كذوى الأجرام * الدَّهْمَسِيَّيْنِ ذوِى
ضِرغام
فجمع الجُرْم أجراماً. ومثل ذلك {واللهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ} و (أَسْراَرهم) وقد قرئ بهما. ومنه {وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبِّحْهُ
وإِدْبَارَ السُّجُودِ} و (أَدْبَارَ السُّجُودِ) فمن قال: (إِدْبَارَ) أراد
المصدر. ومن قال (أسرار) أراد جمع السِّر.
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن
قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ...}
يقول: (لا تستَكِنْ ولا تحزن).
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }
وقوله: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا...}
كقوله {ارْجِعُونِ} يخرج على الجمع ومعناه واحد على ما فسَّرت لك من
قوله {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ} لنوح وحده، و {عَلَي خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ
قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن
سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }
وقوله: {وَفَارَ التَّنُّورُ...}
هو تنُّور
الخابز: إِذا فار الماء من أحَرّ مكان فى دارك فهى آيْة العذاب فأسر بأهلك. وقوله
{مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} والذكر والأنثى من كل نوع زوجان. وقوله
{وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} حَمَلَ معه امرأة له سوى التى هلكت،
وثلاثةَ بنينَ ونسوتهم، وثمانين إِنسانا سوى ذلك. فذلك قوله {وَمَنْ آمَنَ وَمَآ
آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} و (الثمانون) هو القليل.
{ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا
وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ...}
{إن شئت جَعلت مَجْرها ومَرْساها} فى موضع رَفع بالياءِ؛
كما تقول: إِجراؤهَا وإرساؤهَا بسم الله وبأمر الله. وإن شئت جعلت (بسم الله)
ابتداء مكتفِياً بنفسه، كقول القائِل عند الذبيحة أو عند ابتداء المأكل وشبهه: بسم
الله ويكون (مجريها ومرسيها) فى موضع نصب يريد بسم الله فى مجراها وفى مرساها. وسَمعت العرب
تقول: الحمد لله سِرَارَك وإِهلالك، وسُمع منهم الحمد لله ما إِهلالَك إِلى سرارك
يريدون ما بين إهلالك إِلى سرارك.
والمجرى
والمرسى ترفع ميميهما قرأ بذلك إِبراهيم النَخَعىّ والحسن وأهل المدينة. حدَّثنا محمد قال: حدَّثنا الفراء قال:
حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صُبَيح عن مسروق أنه قرأها (مَجْراها)
بفتح الميم و(مُرسها) بضم الميم. قال: وحدّثنا الفراء قال حدثنا أبو معاوية وغيره
عن الأعمش عن رجل قد سمّاه عن عَرْفَجَة أَنه سمع عبدالله بن مسعود قرأها (مجراها)
بفتح الميم ورفع الميم من مرسيها. وقرأ مجاهد (مُجْرِيها ومُرسِيها) يجعله من صفات
الله عزّ وجلّ، فيكون فى مَوْضع خِفض فى الإعراب لأنه معرفة. ويكون نصباً لأن مثله
قد يكون نكرة لحسن الألف واللام فيهمَا؛ ألا ترى أنك تقول فى الكلام: بسم الله
المجريها والمرسِيها. فإذا نزعت منه الألف واللام نصبته. ويدلّك عَلى نكرته قوله:
{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} وقوله:
{فَلَمّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ} فأضافوهُ إِلى مَعرفة، وجعلوه نعتاً لنكرة. وقال الشاعر:
يا رُبَّ عابِطنا لو كان يأْمُلكم * لا قى مباعدةً منكم
وحرمانا
وقول الاخر:
وَيا رب هاجى مِنْقَرٍ يبتغى به * ليَكْرُم لمّا أعوزته
المكارمُ
وسمع الكسائىّ أعرابيّا يقول بعد الفطر: رُبّ صائمه لن
يصومه وقائمه لن يقومه.
{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ
قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
}
وقوله: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ...}
(قَالَ)
نوح عليه السلام {لاَعَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمرِ الله
إلاَّ مَنْ رَحِمَ} فمَنْ فى موضع نصب؛ لأن المعصوم خلاف للعاصم والمرحوم معصوم.
فكأنه نصبه بمنزلة قوله {مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتّباع الظَّنِّ} ومَن اسْتجاز
رفع الاتباع أو الرفعَ فى قوله:
وبلدٍ
ليس به أنيسُ * إلاَّ اليَعَافِيرُ وَإِلاَّ العِيسُ
لم يَجُزله الرفع فى (مَن) لأن الذى قال: (إلاّ
اليعافيرُ) جعل أنيس البَرّ اليعافِير والوحوش، وكذلك قوله {إلاَّ اتِّبَاع
الظَّنِّ} يقول: علِمهم ظنّ وأنت لا يجوز لك فى وجه أن تقول: المعصوم عاصم. ولكن
لو جَعلت العاصم فى تأويل معصوم كأنك قلت: لا معصوم اليوم من أمر الله لجاز رفع
(مَن) ولا تنكرنّ أن يخرج المفعول على فاعل؛ ألا ترى قوله {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فمعناه والله
أعلم: مدفوق وقوله {فىِ عِيِشَةٍ رَاضِيَةٍ} معناها مرضيَّة، وقال الشاعر:
دعِ المكارمَ لا ترحل لِبُغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم
الكاسى
معناه المكسوّ. تستدلّ على ذلك أنك تقول: رضيتُ هذه
المعيشةَ ولا تقول: رَضِيَتْ ودُفِق الماء ولا تقول: دَفَق، وتقول كُسِى العريان
ولا تقول: كسا. ويقرأ (إلاّ من رُحِم) أيضاً. ولو قيل لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ
من رُحِم كأنَّك قلت: لا يعصم اللهُ اليوم إلاّ من رُحِم ولم نسمع أحداً قرأ به.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ
أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ
وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ...}
وهو جبل بحضَنَين من أرض الموْصِل ياؤْه مشدّدة وقد
حدِّثت أنَّ بعض القراء قرأ (عَلَى الجُودِى) بإرسال الياء. فإن تكن صحيحة فهى مما
كثر به الكلام عند أهله فخفّف، أو يكون قد سمّى بفعلِ أنثى مثل حُطىِّ وأصِرّى
وصَرِّى، ثم أُدخلت الألف واللام. أنشدنى بعضهم - وهو المفضّل -:
وكفرتَ قوماً هُمْ هَدَوكَ لأقدِمى * إِذا زَجْر أبيكَ
سَأْسَاْ واربُق
وأنشدنى بعض بنى أَسَد:
لمّا رأيت أنها فى حُطّى * وفَتكتْ فى كذبى ولَطِّى
والعرب
إذا جعلت مثل حُطّى وأشباهه اسماً فأرادوا أن يغيِّروه عن مذهب الفعل حوّلوا الياء
ألِفا فقالوا: حُطَّا، أصِرَّا، وصِرَّا. وكذلك ما كان من أسْماء العجم آخره ياء؛
مثل ماهى وشاهى وشُنىِّ حوَّلوه إلى ألف فقالوا: ماها وشاها وشنَّا. وأنشدنا بعضهم:
أتانا حِمَاسٌ بابن ماها يسوقه * لِتُبْغِيه خيراً
وليْسَ بفاعل
{وَحَال بَيْنَهُمَا المَوْجُ} أى حال بين ابن نوح وبين
الجَبل الماءُ.
وقوله: {ياأَرْضُ ابْلَعِي} يقال بَلِعَتْ وبَلَعَتْ.
{ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي
أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
وقوله: {يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ...}
الذى و-- أنجيهم ثم قال عزّ وجلّ: {إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صَالِحٍ} (وعامّةَ القراء عليه) حدَّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال:
وحدّثنى حِبَّان عن الكلمىّ عن أبى صَالح عن ابن عباس بذلك يقول: سؤالك إيّاى ما
ليس لك به علم عمل غير صَالح. وعامَّةُ القراء عليه. (حدثنا الفرّاء) قال: وحدثنى
أبو اسحق الشيبانىّ قال حدثنى أبو رَوق عن محمد بن حُجَادة عن أبيه عن عائشة قالت
سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (إنه عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ) (حدثنا الفراء)
قال وحدثنى ابن أبى يحيى عن رجل قد سمَّاه قال، لا أراه إلا ثابتاً البنانىّ عن
شَهْر بن حَوْشب عن أمّ سَلَمة قالت: قلت يا رسول الله: كيف أقرؤها؟ قال (إنه عملَ
غَيْرَ صَالحٍ)
وقوله:
{فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ويقرأ: تسأَلَنىِّ بإثبات اليَاء وتشديد
النون ويجوز أن تُقرأ (فَلاَ تَسْأَلَنَّ مَا لَيْسَ) بنصب النون، ولا توقعها إلاَّ
على (ما) وليس فيها ياء فى الكتاب والقراء قد اختلفوا فيما يكون فى آخره الياء
وتُحذف فى الكتاب: فبعضهم يُثبتها، وبعضهم يُلقيها من ذلك (أَكْرَمَنِ) و
(أهانَنِ) (فَمَا آتانِ اللّهُ) وهو كثير فى القرآن.
{ قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ
مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله: {بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى
أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ...}
يعنى ذُرَيَّةَ من معه من أهل السعادة. ثم قال:
(وَأُمَمٌ) من أهل الشقاء (سَنُمَتِّعُهُمْ) ولو كانت (وَأُمَمًاً سَنُمَتِّعْهُمْ) نصباً
لجاز توقع عليهم (سَنُمتِّعهم) كما قال {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَ عَلَيْهمُ
الضَّلاَلةُ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا
كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ
الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }
وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ...}
يصلح مكانها (ذَلِكَ) مثل قوله {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} والعرب تفعل هذا فى مصادر الفعل إذا لم يذكر مثل
قولك: قد قَدِم فلان، فيقول الآخر: قد فرحت بها وبه. فمَن أنَّث ذَهب بها إلى
القَدْمة، ومن ذكّر ذهب إلى القدوم. وهو مثل قوله { ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وآمَنُوا}.
وقوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ} يقول: لم يكن عِلْمُ
نوح والأمَمِ بعده من علمك ولا عِلم قَومك {مِنْ قبْلِ هَذَا} يعنى القرآن.
{ وَياقَوْمِ
اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ
مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ
مُجْرِمِينَ }
وقوله: {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً...}
يقول:
يجعلها تَدِرُّ عليكم عند الحاجة إلى المطر، لا أن
تَدِرّ ليلا ونهاراً. وقوله {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ذكروا أنه كان
انقطع عنهم الولدُ ثلاث سنين. وقال (قُوَّةً) لأن الولد والمال قوة.
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا
بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا
تُشْرِكُونَ }
وقوله: {إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ...}
كذَّبوه ثم جعلوه مختلِطا وادَّعَوْا أنّ آلهتهم هى التى
خبلته لعيبه آلهتهم. فهنالك قال: إنى أُشهد الله وأُشهدكم أنى برىء منها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ
أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
وقوله:{وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً...}
رُفِع:
لأنه جاء بعد الفاء. ولو جْزم كان كما قال {مَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَيَذرْهُمْ} كان صواباً. وفى قراءة عبدالله
(وَلاَ تَنْقُضُوهُ) جزما. ومعنى لا تضرّوه يقول: هلاككم إذا أهلككم لا ينقصه شيئاً.
و (عادٌ) مُجْرًى فى كل القرآن لم يُختلَف فيه. وقد يترك
إجراؤه، يُجعل اسماً للأُمَّة التى هو منها، كما قال الشاعر:
أحقّا عبادَ الله جُرْأة مُحْلِقٍ * علىَّ وقد أعييتُ
عَادَ وتُبَّعا
وسمع الكسائىُّ بعض العرب يقول: إن عادَ وتَبَّعَ
أَمَّتان.
{ وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ
اله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }
وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً...}
نصبْت صالحاً وهوداً وما كان على هذا اللفظ بإضمار
(أرسلنا).
وقد اختلف القراء فى (ثَمُود) فمنهم من أجْراه فى كلّ
حال. ومنهم من لم يُجْرِه فى حال. حدَّثنا محمد قال: حدثنا الفراء قال: حدّثنى قيس
عن أبى إسحق عن عبدالرحمن بن الأسود بن يزيد النَخَمِىّ عن أبيه أنه كان لا يُجرى (ثمود) فى شىء من
القرآن (فقرأ بذلك حمزة) ومنهم من أجرى (ثمود) فى النصب لأنها مكتوبة بالألف فى كل
القرآن إلا فى موضع واحد {وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} فأخذ بذلك
الكسائىّ فأجراها فى النصب ولم يُجرها فى الخفض ولا فى الرفع إلاَّ فى حرف واحد:
قولِه {أَلا إن ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لثمودٍ} فسألوه عن ذلك
فقال: قرئت فى الخفض من الْمُجْرَى وقبيح أن يجتمع الحرف مرتين فى موضعين ثم
يَختلف، فأجريته لقربه منه.
{ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى
بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ
عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }
وقوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ...}
يقول:
فما تزيدوننى غير تخسير لكم وتضليل لكم، أى كُلَّما
اعتذرتم بشىء هو يزيدكم تخسيراً. وليس غير تخسير لى أنا. وهو كقولك للرجل ما
تزيدنى إلاَّ غضباً أى غضباً عليك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ
كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ }
وقوله: {كَفرُواْ رَبَّهُمْ...}
جاء فى
التفسير: كفروا نعمة ربهم. والعرب تقول: كفرتك. وكفرت بك، وشكرتك وشكرت بك وشكرت
لك. وقال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: شكرت بالله كقولهم: كفرت بالله.
{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى
قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }
وقوله: {سَلاَماً قَالَ سِلْمُ...}
قرأها يحيى ابن وَثَّاب وإبراهيم النَخَعِىَّ. وذُكر عن
النبى صلى الله عليْه وسلم أنه قرأ بهَا. وهو فى المعنى سلام كما قالوا حِلّ وحَلاَل،
وحِرْم وحَرَام لأن التفسير جاء: سَلَّمُوا علْيه فردَّ عليهم. فترى أن معنى سِلْم
وسلام واحد والله أعلم. وأنشدنى بعض العرب:
مررنا فقلنا إيه سِلْم فسلَّمت * كما اكتلَّ بالبرق
الغمامُ اللوائح
فهذا دليل على أنهم سَلَّموا فرَدَّت عليهم. وقرأه
العامَّة (قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ) نصَب الأول ورَفَع الثانى. ولو كانا
جميعاً رفعاً ونصباً كان صواباً. فمن رَفع أضمر (عليكم) وإن لم يظهرها كما قال
الشاعر:
فقلنا السلامُ فاتَّقت من أميرها * فما كان إلاَّ
وَمْؤها بالحواجب
والعرب تقول: التقينا فقلنَا: سَلامٌ سلام. وحُجَّة أخرى
فى رفعه الآخر أن القوم سَلَّموا، فقال حين أنكرهم: هو سلام إن شاء الله فمن أنتم
لإنكاره إيَّاهم. وهو وجه حسن. ويقال فى هذا المعنى: نحن سِلْم لأن التسليم لا
يكون من قومٍ عَدُوًّ. وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أن فى
موضع نصب توقع (لبِث) عليها، كأنّك قلت: فما أبطأ عن مجيئه بعجل: فلمَّا ألقيت الصفة
وقع الفعل عَليها. وقد تكون رفعاً تجعل لبِث فعلا لأنْ كأنك قلت فما أبطأ مجيئُه
بعجلٍ حنِيذ: والحنيذ: ما حَفَرْت له فى الأرض ثم غممته. وهو من فعل أهل البادية
معروف. وهو محنوذ فى الأصل فقيل: حَنِيذ، كما قيل: طَبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول.
{ فَلَمَّا
رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً
قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ }
وقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ
إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ... }
أى إلى الطعام. وذلك أَنها كانت سُنَّة فى زمانهم إذا
ورد عليهم القوم فأُتُوا بالطعام فلم يمَسّوه ظنّوا أَنهم عَدُوٌّ أو لصوص. فهناك
أوجس فى نفسه خِيفة فرأَوْا ذلك فى وجهه، فقالوا: لا تخف، فضحِكت عند ذلك امرأتُه وكانت
قائمة وهو قاعد (وكذلك هى فى قراءة عبدالله: وامرأته قائِمة وهو قاعد) مثبتة فضحكت
فبشرت بعد الضحك. وإنما ضحكت سروراً بالأمن فأتبعوها البشرى بإسحاق، ومن وراء
إسحاق يعقوب. وقد يقول بعض المفسِّرين: هذا مقدّم ومؤخَّر. والمعنى فيه:
فبشَّرْناها بإسحاق فضحكت بعد البشارة وهو ممَّا قد يَحتمله الكلام والله أعلم
بصوابه. وأما قوله (فضحِكتْ): حاضت فلم نسمعه من ثقة وقوله (يَعقُوب) يرفع وينصب
وكان حمزة ينوى به الخفض يريد: (ومن وراء إسحاق بيعقوب). ولا يجوز الخفض إلاّ
بإظهار الباء. ويعقوب ها هنا ولد الولد والنصب فى يعقوب بمنزلة قول الشاعر:
جئنى بمثل بنى بدر لقومهم * أو مثلَ أُسرة منظور بن
سَيَّار
أو عامرَ بن طُفَيل فى مُرَكَّبِه * أو حارثا يوم نادى
القومُ يا حارِ
وأنشدنى بعض بنى باهلة:
لو جيتَ بالخُبز له مُيَسِّرا * والبيضَ مطبوخاً معاً
والسُّكَّرا
* لم يُرضه ذلك حتى يسكرا *
فنصب على قولك: وجِئتَ بالسكَّر، فلمَّا لم يُظهر الفعل
مع الواو نصب كما تأمر الرجل بالمرور عَلى أخيه فتقول: أخاك أخاك تريد: امْرُرْ به.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ
وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }
وقوله: {يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ
وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً...}
وفى قراءة
عبدالله (شَيْخٌ) فذكروا أَنها كانت بنت ثمان وتسعين سنة، وكان عليه السَّلام أكبر
منها بسنة. ويقال فى قوله {رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} البركات:
السعادة.
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ
وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ }
وَقوله: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ
وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ...}
ولم يقل: جادلنا. ومثله فى الكلام لا يأتى إلاَّ بفعل
ماض كقولك. فلمّا أتانى أتيته. وقد يجوز فلمَّا أتانى أَثِبُ عليه كأنه قال: أقبلت
أَثِب عَلَيْهِ. وجداله إيَّاهم أنه حين ذهبَ عنه الخوف قال: ما خَطْبُكم
أيُّها المرسلون، فلمَّا أخبروه أَنهم يريدون قوم لوط قال: أتُهلكونَ قوماً فيهم
لوط قالوا: نحنُ أعلم بمن فيها.
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ }
وقوله: {أَوَّاهٌ...}
دعَّاء ويقال: هو الذى يتأوَّه من الذنوب. فإذا كانت
مِنْ يتأوَّه من الذنوب فهى من أوِّهْ له وهى لغة فى بنى عامر أنشدنى أبو الجراح:
فأوِّهْ من الذكرى إذا ما ذكرتها * ومن بُعد أرض بيننا
وسَمَاءِ
أوِّهْ على فَعِّل يقول فى يَفْعَل: يتأَوَّه. ويجوز فى
الكلام لمن قال: أوَّهْ مقصوراً أن يقول فى يتفعَّل يتأَوَّى ولا يقولها بالهاء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ
كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ
لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ
رَّشِيدٌ }
وقوله: {هؤلاء بَنَاتِي...}
قال
بعضهم: بَنات نفسه. ويقال: بنات قومه. وذلك جائز فى العربيّة؛ لأن الله عَزَّ وجل
قال {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
وهو فى بعض القراءة (وهو أب لهم) فهذا من ذلك.
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى
رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ
إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ
أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }
وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى
رُكْنٍ شَدِيدٍ...}
يقول: إلى عشيرة.
وقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ...}
قراءتنا من أسريت بنصب الألف وهمزِهَا. وقراءةُ أهل
المدينة (فاسْرِ بأَهْلِكَ) من سَريت. وقوله: (بِقِطْعٍ) يقول: بظلمة من آخر
الليل. وقوله: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} منصوبة بالاستثناء: فأسر بأهلك إلا امرأتَك.
وقد كان الحسن يَرْفعها يعطفها على (أحد أى) لا يلتفتْ منكم أحد إلاّ امرأتك وليسَ
فى قراءة عبدالله (ولا يلتفت منكم أحد) وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
لمَّا أتَوا لوطاً أخبروه أَن قومهم هالكون من غَدٍ فى
الصبح، فقال لهم لوط: الآن الآن. فقالت الملائِكة: أليس الصبح بقريب.
{ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا
سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ }
وقوله: {مِّن سِجِّيلٍ...}
يقال: من طين قد طُبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء
(مَنْضُودٍ) يقول: يتلو بعضُه بعضاً عَليهم. فذلك نَضْدُه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }
وقوله:
{مُّسَوَّمَةً...}
زعموا أنها كانت مخطَّطة محمرة وسواد فى بَياض، فذلك
تسويمها أى عَلامتها. ثم قال {مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يقول: من ظالمى
أمَّتك يا محمد. ويقال: ما هى من الظالمين يعنى قولم لوط أَلذى يكن تخطِئهم.
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقَوْمِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ مُّحِيطٍ }
وقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ...}
يقول: كثيرةً أموالُكم فلا تنقصوا المكيال وأموالكم
كثيرة يقال رخيصةً أسعارُكم (ويقال): مدَّهِنين حَسنةً سَحْنتكم.
{ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
وقوله: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ...}
يقول: ما أبقى لكم من الحلال خير لكم. ويقال بقيَّة الله
خير لكم أى مراقبة الله خير لكم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن
نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا
نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ }
وقوله: {أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ...}
ويقرأ {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤَنَا
أَوْ أَنْ نفْعَلَ} معناه: أَوْ تأمرك أن نَترك أَن تَفعل {فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}
فأَنْ مردودة على (نَتْرك).
وفيها
وجه آخر تجعل الأمر كالنهى كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا وتنهانا عن ذا. وهى حينئذ
مردودة عَلى (أَن) الأولى لا إضمار فيه كأنك قلت: تنهانا أن نَفعل فى
أموالنا ما نشاء؛ كما تقول: أضرِبُك أَن تُسِيىء كأنه قال: أنهاك بالضرب عن
الإساءة. وتقرأ (أَوْ أَنْ نَفْعلَ فىِ أمْوالِنَا ما تَشاء) و (نَشَاءُ)
جميعاً.
وقوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} استهزاء
منهم به.
{ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن
يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ
صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ }
وقوله: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي...}
يقول:
لا تحملنكم عداوتى أَن يُصيبكم. وقد يكون: لا يكسبنكم.
وقوله {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} يقول: إنما هلكُوا بالأمس قريباً.
ويقال: إن دراهم منكم قريبة وقريب.
{ قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ
اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ }
وقوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً...}:
رميتم بأمر الله وراء ظهوركم؛ كما تقول: تعظّمون أمر
رهطى وتتركون أن تعظّموا الله وتخافوه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ
إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ }
وقوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ...}
(مَن) فى موضع رفع إذا
جعلتها استفهاماً. ترفعها بعائِد ذكرها. وكذلك قوله (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) وإنما أدخلت العرب
(هو) فى قوله (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) لأنهم لا يقولونَ: مَن قائِمٌ ولا مَن قاعد،
إنما كلامهم: من يقوم ومن قامَ أو من القائِم، فلمَّا لم يقولوهُ لمعرفة أو
لِفَعَل أو يفعل أَدخلوا هو مع قائِم ليكونا جَميعاً فى مقام فَعَل ويفعل؛ لأنهما
يقومان مقام اثينين. وقد يجوز فى الشعر وأشباهه مَنْ قائِم قال الشاعر:
مَنْ شارب مُرْبِح بالكَأس نادمَنى * لا بالحَصُورِ ولا
فيها بسوَّار
وربما تهَيبت العرب أن يستقبلوا مَنْ بنكرة فيخفضونها
فيقولون: مِنْ رجلٍ يتصدَّق فيخفضونه على تأويل: هَل مِن رجل يتصدّق. وقد أنشدونا
هذا البيت خَفْضاً ورفعاً:
مَِن رسولٌٍ إلى الثريّا تأنى * ضِقت ذرعاً بهجرهَا
والكتابِ
وإن جعلتهما مَن ومِن فى موضع (الذى) نصبت كقوله
{يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} وكقوله {وَلَمَّا يَعْلمِ اللّهُ الذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ
مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }
وقوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ...}
فالحَصيدُ كالزرع المحصُود. ويقال: حَصَدهم بالسَّيف كما
يُحصد الزرع.
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }
وقوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ...}
كتب بغير الياء وهو فى موضع رفع، فإن أثبتَّ فيه اليَاء
إذا وصلت القراءة كان صَواباً. وإن حذفتها فى القطع والوصل كان صَوَابا. قد قرأ
بذلك القرّاء فمَر حَذفها. إذا وصل قال: اليَاء ساكنة، وكلّ ياء أو واو تسكُنان
وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور فإن العرب تحذفهما وتجتزئ بالضمة من الواو،
وبالكسرة من الياء وأنشد فى بعضُهم:
كفّاك
كفّ ما تُليق دِرهماً * جُوداً وأخرى تُعطِ بالسيف الدَمَا
ومَن وصل باليَاء وسكتَ بحذفها قال: هِىَ إذا وَصلتُ فى
موضع رفع فأُثبتها وهى إذا سَكتُّ عليها تسكن فحذفتُها. كما قيل: لم يَرْم ولم
يَقْض. ومثله قوله: {ما كُنَّا نَبْغِ} كُتبت بحذف الياء فالوجه فيهَا أن تثبت
الياء إذا وصَلْت وتحذفَها إذا وقفْتَ. والوجه الآخر أن تحذفها فى القطع والوصل،
قرأَ بذلك حمزة. وهو جائز.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ...}
فالزفير أوَّل نهِيق الحمار وشبهِه، والشهِيق من آخره.
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ *
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ...، }
يقول
القائل: ما هَذا الاسْتثناء وقد وعد الله أَهْل النار الخلود وأهلَ الجنّة الخلود؟
ففى ذلك مضيان أحدهما أن تجعله استثناء يَسْتثنيه وَلاَ يفعله؛ كقولك: والله
لأضربنّكَ إلاّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتُك على ضَربه، فكذلك قال {خَالِدِينَ فِيهَا
مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} ولا يشاؤه والله
أعلم، والقول الآخر أن العرب إذا استثنت شيئاً كبيراً مع مثله أو مع ما هو أكبر
منه كان مَعْنى إلاَّ ومعنى الواو سواء، فمن ذلك قوله {خَالِدِينَ فِيهَا مَا
دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ} سِوَى ما يشاء من زيادة الخلود فيجعل (إلاَّ)
مكان (سِوَى) فيصلح. وكأنّه قال: خالدين فيها مقدار ما كانت السَّموات وكانت
الأرض سوى ما زادهم من الخلود (و) الأبد. ومثله فى الكلام أن تقول: لى عَليكَ ألف إلاَّ
الألفين اللذين من قِبَل فلان؛ أفلا ترى أَنه فى المعنى: لى عَليكَ سوى الألفين.
وهذا أحَبّ الوجهين إليَّ، لأنَّ الله عزّ وجل لا خُلْف لوعده، فقد وصل الاستثناء
بقوله {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فاسْتدل عَلى أَن الاستثناء لهم بالخلود غير
منقطِع عنهم.
{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ
أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
وقوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ...}
قرأت
القراء بتشديد (لَمَّا) وتخفيفِها وتشديد إن وتخفيفها، فمنْ قال {وَإنَّ كُلاَّ
لَمَا} جعل (ما) اسماً للناس كما قال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} ثم جَعَل اللام التى فيها جَواباً لإنّ، وجَعَل اللام الَّتى فى
(لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لا ما دخلت عَلى نيّة يمين فيهَا: فيما بين ما وصلتها؛ كما
تقول هذا مَن لَيذهبنَّ، وعندى ما لَغَيْرُهُ خير منه. ومثله {وإنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ
ليُبَطِّئَن} وأَمّا مَنِ شدّد (لمّا) فإنه - والله أعلم - أَراد: لِمن ما
لَيُوَفِّينَّهم، فلمّا اجتمعت ثلاث ميمَات حذَف واحدة فبقيت اثنتان فأدغمت فى
صَاحبتها؛ كما قال الشاعر:
وإنى لَمِمَّا أُصدر الأمرَ وَجْهَهُ * إذا هو اْعيا
بالسبيل مصادرُه
ثم يخفّف كما قرأ بعض القراء (وَالبَغْىِ يَعِظُكْمْ)
بحذف الياء (عند الياء) أنشدنى الكسائىّ:
وأَشمتَّ العُداة بنا فأضحَوا * لدَىَّ تَبَاشَرُونَ بما
لِقينَا
معناه (لدىَّ) يتباشرون فحذف لاجتماع الياءات ومثله:
كأنّ مِن آخرهَا إلقادِمِ * مَخْرِمَ نجدٍ فارعَ المخارم
أراد:
إلى القادم فحذف اللام عند اللام. وأَمَّا مَن جعل
(لَمَّا) بمنزلة إلاَّ فإنه وجه لا نعرفه وقد قالت العرب: بالله لَمَّا قمت عنا،
وإلاَّ قمت عنا، فأمَّا فى الاستثناء فلم يقولوه فى شعر ولا غيره؛ أَلا ترى أنَّ
ذلك لو جَاز لسمعتَ فى الكلام: ذهب الناسَ لَمّا زيدا.
وأَمَّا الذين خفّفوا (إن) فإنهم نصبوا كلا بِ
(لَيُوفَّينَّهم). وقالوا: كأنّا قلنا: وإنْ لَيوَفِّينَّهم كُلاَّ. وهو وجه لا
أشتهيه. لأن اللام إنما يقع الفعل الذى بعدها عَلَى شىء قبله فلو رفعت كلّ لصلح
ذلك كما يصلح أَن تقول: إنْ زيد لقائم ولا يصلح أن تقول: إنْ زيداً لأَضربُ لأن
تأويلها كقولك: ما زيداً إلاّ أضرب فهذا خطأ فى إلاّ وفى اللام.
وقرأ
الزُهرىّ (وإنَّ كُلاًّ لَمًّا ليُوَفِّيَنَّهم) ينوّنها فجعل اللمّ شديداً كما
قال {وَتَأْكُلُون التُرَاثَ أَكْلاُ لَمّاً} فيكون فى الكلام بمنزلة قولك: وانّ
كلا حقّا ليوفينّهم، وإن كلا شديدا ليوفينّهم. وإذا عَجَّلت العرب باللام فى غير موضعها
أعادوها إليه كقولك: إنَّ زيدا لإليك لمحسن، كان موقع اللام فى المحسن، فلمّا
أدخلت فى إليك أُعيدت فى المحسن ومثله قول الشاعر:
ولو أنَّ قومى لم يكونوا أعِزّة * لَبَعْدُ لقد لاقيتُ
لا بدّ مَصْرعَا
أَدخلها فى (بَعد) وليسَ بموضعها ومثله قول أبى الجرّاح:
إنى لبحمد الله لصالح.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً
مِّنَ الْلَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }
وقوله: {زُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ...}
بضمّ اللام تجعله واحداً مثل الحُلُم. والزُلَف جمع
زُلْفة وزُلَف وهى قراءة العامّة وهى ساعة من الليل ومعناه: طرفى النهار وصلاة
الليل المفروضة: المغَربَ والعشاء وصلاة الفجر، وطرفىِ النهار: والعصر.
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ
أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ
فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ }
وقوله: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ
أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ...}
يقول
لم يكن منهم أحد كذلك إلاَّ قليلا أى هؤلاء كانو ينهونَ فنجَوا. وهو استثناء على
الانقطاع ممّا قبله كما قال عَزَّ وجل {إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} ولو كانَ رفعاً كان صَواباً. وقوله:
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} بقول: اتّبعوا فى دنياهم
ما عُوِّدوا من النعيم وإيثار اللذّات على أمر الآخرة. ويقال: اتّبعوا ذنوبهم
وأعمالهم السَّيّئة إلى النار.
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ...}.
يقول:
لم يكن ليهلكهم وهم مصلحونَ فيكونَ ذلك ظلماً. ويقال: لم
يكن ليهلكهم وهم يتعاطَون الحقّ فيما بينهَم وإن كانوا مشركين والظلم الشرك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }
وقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ...}
يقول:
(لا يَزَالونَ) يعنى أهل الباطل {إلاَّ مَنْ رَحِمَ
رَبُّكَ} أهلَ الحقّ (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) يقول: للشقاء وللسعادة. ويقال: {ولا
يزالونَ مختلفينَ إلاّ من رحم ربُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: للاختلاف والرحمة.
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ * وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ
جَهَنَّمَ...}
صار قوله
عزّوجلّ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} يمينا كما تقول: حَلِفى لأضربنَّك، وبدا لى
لأضربنّك. وكلّ فعل كان تأويله كتأويل بلغنى، وقيل لى، وانتهىَ إلىّ، فإن اللام
وأَن تصلحان فيه. فتقول: قد بدا لى لأضربنّك، وبدا لى أن أضربك. فلو كان: وتَمَّت
كلمة ربك أن يملأ جهنم كانَ صواباً وكذلك {ثُمَّ بَدَالَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} ولو كان أن يسجنوه كان صواباً.
وقال: {وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ...}
فى هذه السورة.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( يوسف )
{ نَحْنُ
نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا
الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }
قول الله عزَّ وجَلّ: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا
الْقُرْآنَ...}
(هَذَا الْقُرْآنَ) منصوب بوقوع الفعل عليه. كأنك قلت:
بوحينا إليك هذا القرآنَ. ولوخفضت (هذا) و (القرآنَ) كان صواباً: تجعل (هذا) مكروراً على
(ما) تقول: مررت بما عندك متاعِك تجعل المتاع مردوداً عَلى (مَا) ومثله فى النحل: {وَلاَ تَقُولُوا
لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتِكُمْ الكَذِبَ} و (الكَذِبِ) على ذلك.
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يابُنَيَّ
لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ
الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
وقوله: {يا أبَتِ} لا تقفْ عليها بالهاء وأنت
خافض لها فى الوصل؛ لأن تلك الخَفْضة تدلّ على الإضافة إلى المتكلّم. ولو قرأ قارئ
(يا أَبَتُ) لجاز (وكان الوقف عَلى الهاء جائِزاً). ولم يقرأ به أحد نعلمه. ولو
قيل: (يا أبَتَ) لجاز الوقوف عليها (بالهاء) من جهة، ولم يجز مِن أخرى. فأمّا جواز
الوقوف على الهاء فأن تجعل الفتحة فيها من النداء ولا تنوى أن تصلها بألف الندبة
فكأنه كقول الشاعر:
* كِلِينِى لِهَمٍّ يا أُميمةَ ناصبِ *
وأمّا الوجه الذى لا يجوز الوقف على الهاء فأن تنوى: يا
أبتاه ثم تحذف الهاء والألف؛ لأنها فى النِّيَّة متّصلة بالألف كاتّصالها فى الخفض
بالياء من المتكلّم.
وأَمّا وقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً...}
فإن العرب تجعل العدد بين أحد عشر إلى تسعة عشر منصوباً
فى خفضه ورفعه. وذلك أنهم جَعلوا اسمين معروفين واحداً، فلم يُضيفوا الأوَّل إلى
الثانى فيخرجَ من معنى العدد. ولم يرفعوا آخره فيكونَ بمنزلة بعلبكّ إذا رفعوا
آخرَها. واستجازوا أن يضيفوا (بعل) إلى (بَكّ) لأن هذا لا يُعرف فيه الانفصال من ذا،
والخمسة تنفرد من العشرة والعشرة من الخمسة، فجعلوها بإعراب واحد؛ لأن معناهما في
الأصل هذه عشرة وخمسة، فلمّا عُدِلا عن جهتهما أُعطيا إعراباً واحداً فى الصرف كما
كان إعرابهما واحداً قبل أن يُصرفا.
فأمَّا
نصب كوكب فإنه خرج مفسِّراً للنوع من كل عدد ليعرف ما أخبرْتَ عنه. وهو فى الكلام
بمنزلة قولك: عندى كذا وكذا درهماً. خرج الدرهم مفسراً لكذا وكذا؛ لأنها واقعة على
كلّ شىء. فإذا أدخلت فى أحد عشر الألف واللام أدخلتهما فى أوَّلها فقلت: ما فعلت
الخمسةَ عَشَرَ. ويجوز ما فعلت الخمسةَ العشرَ، فأدخلت عليهما الألف واللام مرّتين
لتوهّمهم انفصَال ذا من ذا فى حال. فإن قلت: الخمسة العشرِ لم يجز لأن الأوّل غير
الثانى؛ ألا ترى أن قولهم: ما فعلت الخمسةُ الأثوابِ لمن أجازه تجد الخمسة هى
الأثواب ولا تجد العشر الخمسة. فلذلك لم تصلح إضافته بألف ولام. وإن شئت أدخلت
الألف واللام أيضاً فى الدرهم الذى يخرج مفسراً فتقول: ما فعلت الخمسة العشر
الدرهم؟. وإذا أضفت الخمسة العشر إلى نفسك رفعت الخمسة. فتقول: ما فعلت الخمسةُ
عشرِى؟: ورأيت خمسةَ عَشْرِى، (ومررت بخمسة عشرى) وإنما عُرِّبت الخمسة لإضافتك العشر،
فلمّا أضيف العشر إلى الياء منك لم يسقم للخمسة أن تضاف إليها وبينهما عشر فأضيفت
إلى عشر لتصير اسماً، كما صَار ما بعدها بالإضافة اسماً. سمعتها من أَبى فَقْعَسْ
الأَسَدىّ وأبى الهيثم العُقَيْلىّ: ما فعلت خمسةُ عشرِك؟ ولذلك لا يصلح للمفسر أن
يصحبهما؛ لأن إعرابيهما قد اختلفا. ب: اختلف، وإنما يخرج الدرهم والكوكب مفسراً
لهما جميعاً كما يخرج الدرهم من عشرين مفسراً لكلّها. فإذا أضفت العشرين دخلَتْ فى
الأسماء وبطل عنها التفسير. فخطأ أن تقول: ما فعلت عِشروك درهماً، أو خمسةُ عشرِك درهماً.
ومثله أنك تقول: مررت بضارب زيداً. فإذا أضفت الضارب إلى غير زيد لم يصلح أن يقع
عَلى زيد أبداً.
ولو نويت بخمسة عشر أن تضيف الخمسة إلى عشر فى شعر لجاز،
فقلت: ما رأيت خمسةَ عشرٍ قطُّ خيراً منها، لأنك نويت الأسماء ولم تنوِ العدد. ولا
يجوز للمفسِّر أن يدخل ها هنا كما لم يجز فى الإضافة؛ أنشدنى العُكْلىّ أبو ثرْوان:
كُلِّف
من عَنَائه وشِقْوتهْ * بنت ثمانى عَشرةٍ من حِجتَّهْ
ومن القُرَّاء من يسكّن العين من عَشرَ فى هذا النوع
كلّه، إلاّ اثنا عشر. وذلك أنهم استثقلوا كثرة الحركات، ووجدوا الألف فى (اثنا)
والياء فى (اثنى) سَاكنة فكرهوا تسكين العين وإلى جنبها ساكن (ولا يجوز تسكين
العين فى مؤنّث العدد لأن الشين من عشرة يسكن فلا يستقيم تسكين العين والشين معاً).
وأمّا قوله {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فإن هذه النون
والواو إنما تكونان فى جمع ذُكران الجنّ والإنس وما أشبههم. فيقال: الناس ساجدون،
والملائِكة والجِنّ ساجدون: فإذا عدَوت هذا صار المؤنّث المذكّر إلى التأنيث.
فيقال: الكِباش قد ذُبَّحن وذُبِّحت ومذبَّحات. ولا يجوز مذبّحون. وإنما جاز فى الشمس
والقمر والكواكب بالنون والياء لأنهم وُصفوا بأفاعيل الآدميين (ألا ترى أن السجود
والركوع لا يكون إلاّ من الآدميين فأُخرِج فعلهم على فعال الآدميَّين) ومثله
{وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنَا} فكأنهم خاطبوا رجالا إذا كلّمتهم
وكلّموها. وكذلك {يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فما أتاك مواقعاً
لفعل الآدميين من غيرهم أجريتَه على هذا.
[قوله] (يَا بُنىَّ) و (يا بُنىِّ) لغتان، كقولك: يا
أَبَتَ ويا أَبَتِ لأن مَن نصب أراد النُّدبةَ: يا أبتاه فحذفها.
وإذا تركت الهمزة من (الرُؤْيا) قالوا: الرُّويَا طلبا
للهمزة. وإذا كان من شأنهم تحويل الهمزة: قالوا: لا تقصص رُيّاك فى الكلام، فأمّا
فى القرآن فلا يجوز لمخالفة الكتاب. أنشدنى أبو الجرَّاح:
لعِرض من الأعراض يُمسى حَمَامُه * ويُضحى على أفنانِهِ
العين يَهتِفُ
أحبّ إلى قلبى من الديك رُيَّة * وبابٍ إذا ما مال للغلق
يَصرِف
أراد: رُؤْية، فلمّا ترك الهمز وجاءت واو
ساكنة بعدها ياء تحولتا ياء مشدّدة، كما يقال: لويته ليَّا وكويته كيّا والأصل
كَوْيا ولَوْيا. وإن أشرت إلى الضمّة قلت: ريّا فرفعت الراء فجائز.
وتكون هذه الضمّة مثل قوله (وحِيلَ) (وسيق) وزَعَمَ
الكسائىّ أنه سمع أعرابيّاً يقول (إِن كُنْتُم للرِّيَّا تَعْبُرُون).
{ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن
تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ
كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ
رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ...}
جواب لقوله {إنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً}
فقيل له: وهكذا يجتبيك ربّك. كذلك وهكذا سواء فى المعنى. ومثله فى الكلام أن يقول
الرجل قد فعلت اليوم كذا وكذا من الخير فرأيتُ عاقبته محمودة، فيقول له القائل:
هكذا السعادة، هكذا التوفيق و(كذلك) يَصلح فيه. و(يَجْتَبِيكَ) يِصطفيك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ *
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ
مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ
}
وقوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ...}
والعُصْبَة: عَشرة فما زاد.
وقوله: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ...}
جواب للأمر ولا يصلح الرفع فى (يَخْلُ) لأنه لا ضمير
فيه. ولو قلت: أعِرْنى ثوباً ألبس لجاز الرفع والجزم لأنك تريد: أَلْبَسُه فتكون
رفعاً من صلة النكرة. والجزم على أن تجعله شرطاً.
{ قَالَ
قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }
قوله: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ...}
واحدة.
وقد قرأ أهل الحجاز (غَياَبَاتِ) عَلى الجمع
{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} قرأه العامّة بالياء لأن (بعض) ذكر وإن أُضيف
إلى تأنيث. وقد قرأ الحسن - فيما ذُكِر عنه - ب: ذكروا (تَلْتَقِطْهُ) بالتاء وذلك
أنه ذهب إلى السَّيارة والعرب إذا أضافت المذكّر إلى المؤنّث وهو فعل له أو هو بعض
له قالوا فيه بالتأنيث والتذكير. وأنشدونا:
على قبضة موجوءة ظهر كفّه * فلا المرء مُسْتحىٍ ولا هو
طاعم
ذهب إلى الكفّ وألغى الظهر لأن الكف يُجزىء من الظهر
فكأنه قال: موجوءة كفُّه وأنشدنى العُكْلِىّ أبو ثَرْوان:
أرى مَرَّ السنين أخذن منى * كما أخَذ السِّرار من
الهلال
وقال ابن مقبِل:
قد صرَّح السير عن كُتْمان وابتُذلتْ * وَقْعُ المحاجن
بالمَهْرِيَّة الذُقُنِ
أراد: وابتذلت المحاجن وألغى الوقع. وأنشدنى الكسائىّ:
إذا ماتَ منهم سَيّد قام سَيّد * فَدانَتْ له أهل
القُرَى والكنائِسِ
ومنه قول الأعشى:
وتَشرَقُ بالقول الذى قد أذعْتَه * كما شرِقت صدرُ
القناة منَ الدَّم
وأنشدنى يونس البصرىّ:
لمّا أتى خبرُ الزُبَير تهدّمت * سورُ المدينة والجبالُ
الخُشّعُ
وإنما جاز هذا كلّه لأن الثانى يكفى مِن الأوَّل؛ ألا
ترى أنه لو قال: تلتقطه السيَّارة لجاز وكفى من (بعض) ولا يجوز أن يقول: قد
ضربْتنى غلامُ جاريتك؛ لأنك لو ألقيت الغلام لم تدلّ الجارية على معناه.
{ قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى
يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
}
وقوله: {لاَ تَأْمَنَّا...}
تشير إلى الرَفْعة، وإن تركْتَ فصواب، كلٌّ قد قُرئ به؛
وقد قرأ يحيى بن وثَّاب: (تيمَنَّا).
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ أَرْسِلْهُ
مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
وقوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ...}
مَنْ سَكّن العين أخذه من القيد والرَّتْعَة وهو يفعل
حينئذ ومن قال (يَرْتَعِ ويَلْعَبْ) فهو يفتعل من رعَيت، فأسقط الياء للجزم.
{ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ }
وقوله: {وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ...}
معناه:
مكذوب: والعرب تقول للكذب. مكذوب وللضعف: مضعوف، وليس له
عَقْد رأْى ومعقودُ رأْىٍ؛ فيجعلون المصدر فى كثير من الكلام مفعولاً. ويقولون:
هذا أمر ليس له مَعْنِىّ يريدون مَعْنىً، ويقولون للجَلَد: مجلود؛ قال الشاعر:
* إن أخا المجلود من صَبَرَا *
وقال الآخر:
حتّى إذا لم يتركوا لعظامه * لحماً ولا لفؤادهِ معقولاَ
وقال أبو ثَرْوان: إنّ بنى نُمَير ليس لحدّهم مكذوبة
ومعنى قوله (بِدَمٍ كذِبٍ) أنهم قالوا ليعقوب: أكله الذئب. وقد غمسوا قميصه فى دم جَدْى.
فقال: لقد كان هذا الذئب رفيقاً بابْنىِ، مزَّق جلده ولم يمزق ثيابه. قال: وقالوا: اللصوص قتلوه،
قال: فلم تركوا قميصه! وإنما يريدونَ الثياب. فلذلك قيل (بِدَمٍ كَذِبٍ) ويجوز فى العربيَّة أن
تقول: جاءوا على قميصه بدم كذباً؛ كما تقول: جَاءوا بأمرٍ باطل وباطلا، وحق وحقاً.
وقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} مثل قوله: {فَصِيَامُ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} {فإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ولو كان: فَصَبَرا جميلاً يكون
كالآمر لنفسه بالصبر لجاز. وهى فى قراءة أُبَىّ (فَصَبْرا جَمِيلاً) كذلك على
النصب بالألف.
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ
فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
}
وقوله:
{يابُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ...}
(وَيَا بشراىَ) بنصب الياء، وهى لغة فى بعض قيس.
وهُذَيلٌ: يا بُشْرَىَّ. كل ألف أضافها المتكلم إلى نفسه جعلتها ياء مشدَّدة.
أنشدنى القاسم بن مَعْن:
تركوا هوَىّ وأعْنَقوا لهواهم * ففقدتهم ولكل جَنْب
مَصْرع
وقال لى بعض بنى سُلَيم: آتيك بمولَيَّ فإنه أروى منّى.
قال:
أنشدنى المفضّل:
يطوِّف بى عِكَبّ فى مَعَدّ * ويطعُن بالصُمُلَّة فى
قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَروا لى من عِكَبّ * فلا أرويتما أبداً
صَدَيَّا
ومن قرأ (يا بُشْرَىْ) بالسكون فهو كقولك: يا بُنْى لا
تفعل، يكون مفرداً فى معنى الإضافة. والعرب تقول: يا نفسُ اصبرى ويا نفسِ اصبرى
وهو يعنى نفسه فى الوجهين و(يا بُشْرَاىَ) فى موضع نصب. ومن قال: يا بشرَىَّ فأضاف
وغيّر الألِف إلى الياء فإنه طلبَ الكسرة التى تلزم ما قبل الياء من المتكلّم فى كل
حال؛ ألا أنك تقول: هذا غلامِى فتحفض الميم فى كل جهات الإعراب فحطُّوها إذا أضيفت
إلى المتكلّم ولم يحطُّوها عند غير الياء فى قولك: هذا غلامك وغلامه؛ لأن (يا
بُشْرَى) من البشارة والإعراب يتبيّن عند كل مكنّى إلاّ عند الياء.
وقوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} ذلك أن الساقى الذى
التقطه قال للذين كانوا معه: إن سَألكم أصْحابُكم عن هذا الغلام فقولوا: أَبضعَناه
أهلُ الماء لنبيعه بمصر.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ
وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
}
وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ...}
قيل: عشرين. وإنما قيل معدودة ليُستدل به على القلَّة؛
لأنهم كانوا لا يزِنون الدراهم حتى تبلغ أُوقِيّة كانت وزن أربعين درهماً.
وقوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} يقول: لم
يعلموا منزلته من الله عَزَّ وجلّ.
{ وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ
هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
وقوله: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ...}
قرأها عبدلله بن مسعود وأصحابه حدثنا الفرّاء قال: حدثنى
بن أبى يحيى عَنْ أبى حبيب عن الشَّعبىّ عن عبدالله ابن مسعود أنه قال: أقرأنى
رسول الله صلى عليه وسلم (هَيْتَ) ويقال: إنها لغة لأهل حَوْران سقطت إلى مكّة
فتكلّموا بها. وأهل المدينة يقرءون هِيتَ لك بكسر الهاء ولا يهمزون وذُكر عن عَلى
بن أبى طالب وابن عبّاس أنهما قرءا (هِئتُ لك) يراد بها: تهيّأت لك وقد قال الشاعر:
أنّ العِراق وَأَهْلَه * سَلْمٌ عَلَيْكَ فَهَيتَ
هَيْتَا
أى هَلُمَّ.
وقوله: {إِنَّهُ رَبِّي} يعنى مولاه الذى اشتراه. يقول:
قد أحسن إلىَّ فلا أخونُه.
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }
وقوله: {أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...}
ذكروا أنه رأى صورة يعقوب عليه السلام.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ...}
يعنى
يوسف وامرأة العزيز وجدا العزيز وابن عمّ لامرأته على الباب، فقالت: {مَا جَزَآءُ
مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} فقال: {هى راودتنى عن [نفسى]} فذكروا أن ابن عمّها قال: {إِنْ كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فلمّا رأَوا
القميص مقدوداً من دُبر قال ابن العمّ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ثم إن ابن العمّ طلب إلى يوسف فقال: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}
أى اكتمه، وقال للأخرى: (استَغْفِرِى) زوجك (لِذَنْبِكِ).
{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ
مِنَ الكَاذِبِينَ }
قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ...}
قال: حدّثنا الفرَّاء قال: وحدّثنى قيس بن الربيع عن أبى حَصِين عن
سَعِيد ابن جُبَير فى قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} قال: صبىّ. قال: وحدّثنى قيس عن
رجل عن مجاهد أنه رجل. قال: وحدّثنى مُعَلَّي بن هلال عن أبى يحيى عن مجاهد فى
قوله {وَشهد شاهد من أهلها} قال: حكم حاكم من أهلها.
ولو كان فى الكلام: (أَنْ إِنْ كان قميصُه) لصلح؛ لأن
الشهادة تُستقبل ب (أن) ولا يكتفى بالجزاء فإذا اكتفت فإنما ذهب بالشهادة إلى معنى
القول كأنه قال: وقال قائل من أهلها، كما قال: {يُوصِيكُمُ اللهُ فىِ
أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} فذهب بالوصية إلى القول،
وأنشدنى الكسائىّ:
وخَبَّرتُما أَنْ إِنَّمَا بَينِ بِيشَةٍ * ونَجْران
أَحْوَى والمحَلّ قَرٍيبُ
(والجناب خصيب) فأَدخل (أن) عَلَى (إنما) وهى بمنزلتها
قال: وسمعت الفرّاء قال: زعم القاسم بن مَعْن أَن بِئشة وزِئنة أرضان مهموزتان.
{ وَقَالَ
نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ
قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا
سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً
وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ
للَّهِ مَا هَاذَا بَشَراً إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }
وقوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً...}
أى خرق شَغَاف قلبها وتقرأ (قَدْ شَعَفَهَا) بالعين وهو
من قولك: شُعِف بها. كأنه ذَهَب بها كلّ مَذهب. والشَعَف: رءوس الجبال.
وقوله:
{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} يقال: اتخذت لهنّ
مجلساً. ويقال: إنّ مُتْكاً غير مهموز، فسمعت أنه الأُتْرُجُّ. وحدّثنى شيخ من
ثقات أهل البصرة أنه قال: الزُّمَاوَرْدُ.
وقوله: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} يقول: وخَدَشنها ولم
يُبِنَّ أيديهن، مِنْ إعظامه، وذلك قوله: {حَاشَ للَّهِ} أَعظمته أن يكون بشراً، وقلن: هذا
مَلَكٌ. وفى قراءة عبدالله (حَاشَا لِلّه) بالألف، وهو فى معنى مَعَاذ الله.
وقوله: {مَا هَاذَا بَشَراً} نصبت (بَشراً) لأن الباء قد استُعملت
فيه فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء، فلمّا حذفوها أحبّوا أن يكون لها أثر
فيما خَرَجت منه فنصبوا عَلَى ذلك؛ أَلاَ ترى أن كلّ ما فى القرآن أتى بالباء
إلاَّ هذا، وقولَه: {مَا هُنَّ أُمّهَاتِهِمْ} وأما أهل نجد فيتكلّمون بالباء وغير
الباء فإذا أسقطوها رفعوا. وهو أقوى الوجهين فى العربية. أنشدنى بعضهم:
لَشتَّان ما أنوِى وينوِى بنو أبى * جَميعاً فما هذان
مستويان
تَمنَّوا لىَ الموتَ الذى يَشْعَب الفتى * وكلُّ فتىً
والموتُ يلتقيانِ
وأنشدونى:
ركابُ حُسَيل أَشهرَ الصيف بُدْن * وناقةُ عَمْرو ما
يُحَلُّ لها رَحلُ
ويزعم
حِسْلٌ أَنه فَرْع قومِهِ * وما أَنت فرع يا حُسيل ولا أصْلُ
وقال الفرزدق:
أَمَا نحن راءُو دارِها بعد هذه * يدَ الدهر إلا أنَّ
يمرّ بها سَفْرُ
وإذا قدّمت الفعل قبل الاسم رفعت الفعل واسمه فقلت: ما
سامعٌ هذا وما قائم أخوك. وذلك أن الباء لم تستعمل ها هنا ولم تدخل؛ أَلا ترى أنه
قبيح أن تقول: ما بقائم أخوك؛ لأنها إنما تقع فى المنفىِّ إذا سَبَق الاسم، فلمَّا
لم يمكن فى (ما) ضمير الاسم قبح دخول الباء. وحسُن ذلك فى (ليس): أن تقول: ليس بقائم أخوك؛
لأنَّ (ليس) فعل يقبل المضمر، كقولك: لست ولسنا؛ ولم يمكن ذلك فى (ما).
فإن قلت: فإنى أراه لا يمكن فى (لا) وقد أَدخلتِ العرب
الباء فى الفعل التى تليها فقالوا:
* لا بالْحَصُور ولا فِيها بسوَّارِ *
قلت: إن (لا) أشبه بليس من (ما) ألا ترى أنك تقول: عبدالله لا قائم
ولا قاعد، كما تقول: عبدالله ليس قاعداً ولا قائماً، ولا يجوز عبدالله ما قائم ولا
قاعد فافترقتا ها هنا.
ولو حملت الباء عَلَى (ما) إذا وليها الفعل تتوَهّم فيها
مَا توهّمت فى (لا) لكان وجهاً، أنشدتنى امرأة من غَنِىّ:
أَما واللهِ أن لو كنتَ حُرّاً * وما بالْحُرّ أنتَ ولا
العَتِيقِ
فأدخلتِ الباء فيما يلى (مَا) فإن ألقيتَها رفعت ولم
يَقْوَ النصب لقلّة هذا. قال: وحدّثنا الفرّاء قال: وحدّثنى دِعامة بن رجاء التَّيْمىّ -
وكان غرّا - عن أبى الْحُوَيرث الحنفىّ أنه قال: (ما هذا بِشِرًى) أى ما هذا
بمشترىً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ
وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }
وقوله: {رَبِّ السِّجْنُ...}
السِّجن: المَحْبِسُ. وهو كالفعل. وكل موضع
مشتقّ من فعلٍ فهو يقوم مقام الفعل؛ كما قالت العرب: طلعت الشمسُ مَطْلِعاً
وغَرَبت الشمس مغرِباً، فجعلوها خلَفاً من المصدر وهما اسمان، كذلك السِّجن. ولو
فتحت السين لكان مصدراً بيناً. وقد قُرئ: (رَبِّ السَّجْنُ).
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ
كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ...}
ولم تكن منه مسألة إنما قال: {إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} فجعَله الله دعاء لأن فيه معنى الدعاء، فلذلك قال: {فَاسْتَجَابَ
لَهُ رَبُّهُ} ومثله فى الكلام أن تقول لعبدك: إلاّ تطِع تعاقَب، فيقول: إذاً
أطيعَك كأنك قلت له: أطع فأجابك.
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ
لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }
وقوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ
الآيَاتِ...}
آيات البراءة قَدّ القميص من دبر {لَيَسْجُنُنَّهُ
حَتَّى حِينٍ} فهذه اللام فى اليمين وفى كل ما ضارع القول. وقد ذكرناه. أَلا ترى
قوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمن اشْتَرَاهُ}
دخلت هذه اللام و (ما) مع الظنّ (والعلم) لأنهما فى معنى القول واليمين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ
أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
وقوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ...}
يقول: من العالمِينَ قد أحسنْتَ العِلْم.
حدّثنا الفراء قال: حدّثنا ابن الغَسيل الأنصارىّ عن عِكرمة قال: الْحِين حينان:
حين لا يدرك وهو قوله عزّ وجلّ:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}
(قال الفرّاء فهذا يقلّ ويكثر) ليست له غاية. قال عكرمة: وحينٌ يدرَك وهو قوله:
{تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} يعنى ستّة أشهر.
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
}
وقوله: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ...}
يقول:
بسببه وألوانه. وقوله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ
كَافِرُونَ} العرب لا تجمع اسْمين قد كُنِى عنهما ليسَ بينهما شىء إلاَّ أن ينووُا
التكرير وإفهام المكلَّم؛ فإذا أرادوا ذلك قالوا: أنت أنت فعلت، وهو هو أخذها. ولا
يجوز أن نجعل الآخرة توكيداً للأولى، لأن لفظهما واحد. ولكنهم إذا وصلوا الاوّل
بناصب أو خافض أو رافع أَدخلوا له اسمه فكان توكيداً. أَمّا المنصوب فقولك: ضربتك
أنت، والمخفوض: مررت بك أَنت، والمرفوع: قمتَ أَنت. وإنما فعلوا ذلك لأن الأوّل
قلّ واختلف لفظه، فأدخلوا اسمه المبتدأ. فإذا قالوا: أَنت فينا أنت رَاغب ففرقوا بينهما
بصفة قالوا ذلك، وكأنه فى مذهبه بمنزلة قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} كأنّ الأوّل مُلْغىً والاتّكاءُ والْخَبَر عن
الثانى. وكذلك قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذَا مِتُّمْ} ثم قال: {أَنَّكُمْ
مخْرَجُون} وهما جميعاً فى معنى واحد، إلا أن ذلك جاز حينَ فُرق بينهما بإذا.
ومثله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
{ وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ
بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ
وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }
وقوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي...}
تهمِز وتُثبت فيهَا الياء. وأصْحَابنا يروون عن الأعمش
{مِلَّةَ آبَاىَ إبراهيمَ} و {دُعَاىَ إِلاَّ فِرَاراً} بنصب الياء لأنه يترك
الهمز ويقصرُ الممدود فيَصير بمنزلة مَحْياىَ وهداىَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي
رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ
قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }
وقوله: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ...}
ذكروا أنه لما عَبَّر لهما الرؤيا فقال للآخر: تصلب رجعا
عن الرُؤْيا، فقالا: لم نر شيئاً فقال يوسف: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ}.
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا
اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }
وقوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ...}.
يقول: أنسى الشيطان يوسفَ أن يجعل ذكره ومستغاثه إلى
الله. ويقال: أنسى الشيطان الساقى أن يذكر أمر يوسف.
وقوله: {ذِكْرَ رَبِّهِ} يقول: ذكر يوسف لمولاه.
وقوله: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} ذكروا
أنه لبث سبعاً بعد خمس والبِضع ما دون العشرة.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا
تَعْبُرُونَ }
وقوله:
{إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ...}
هو من كلام العرب: أن يقول الرجل: إنى أخرج إلى مكّة
وغير ذلك، فعُلم أَنه للنوم ولو أراد الخبر لقال: إنى أفعل إنى أَقوم فيُستدلّ على
أنها رُؤيا لقوله: أَرى، وإن لم يذكر نوماً. وقد بيَّنها إبراهيم عليه السلام
فقال: {إنّى أَرَى فىِ المَنَام أَنِّى أَذْبَحُكَ}
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ
}
وقوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ...}
رَفْع، لأنهم أرادوا: ليس هذه بشى إنما فى أضغاث أحلام.
وهو كقوله: {مَاذَا أَنْزلَ رَبَّكُمْ قالوا أَسَا طِيرُ الأَوَّلِينَ} كفروا
فقالوا: لم يُنزل شيئاً، إنما هى أساطير الأولين. ولو كان (أَضغاثَ أَحلاَمٍ) أى
أنك رأيت أضغاث أحلام كان صواباً.
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ }
وقوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ...}
الأمة: الحين من الدهر. وقد ذُكر عن بعضهم (بَعْدَ
أَمَهٍ) وهو النسيان. يقال رجل مأموه كأنه الذى ليس معه عقله وقد أمِهَ الرجُل.
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ
بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ...}
لو كان الخضر منصوبة تُجعل نعتاً للسّبْع حسن ذلك. وهى
إذا خُفضت نعْت للسنبلات. وقال الله عَزَّ وَجَل: {ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ
اللّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} ولو كانت (طباقٍ) كان صوابا
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ
}
وقوله: {دَأَباً...}
وقرأ بعض قرّائنا (سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً): فَعَلاً. وكذلك
كل حرف فُتح أوَّله وسُكّن ثانيه فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة أو عيناً أو
غيناً أو حاء أو خاء أو هاء.
{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ
يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ }
وقوله: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ...}
يقول ما تقدَّمتم فيه لهنَّ من الزرع.
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن
نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ
امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ }
وقوله: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُّ...}
لمَّا دَعَا النسوة فبرّأته قالت: لم يبق إلا أَن يُقبِل
علىَّ بالتقرير فأقرَّت، فذلك قوله: {حَصْحَصَ الْحَقُّ} يقول: ضاق الكذب وتَبيَّن
الحقّ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ }
وقوله: {ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ...}:
قال ذلك
يوسف لما رجع إليه الساقى فأَخبره ببراءة النسوة إيّاه. فقال يوسف {ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ} وهو متّصل بقول امرأته {اْلآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ} وربّما وُصل الكلامُ
بالكلام، حتى كأنه قولُ واحدٍ وهو كلام اثنين، فهذا من ذلك. وقوله {مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ} اتّصل قول فرعون بقول الملأ: وكذلك
قوله {إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} إلى قوله {وكَذَلكَ يَفْعَلُونَ}
انقطع كلامها عند قوله {أَذِلَّةً} ثم قال عزّ وجَلّ {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ويقال إنه من
قول سليمان عليه السَّلام.
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ
مَا رَحِمَ رَبِّي...}
(ما) فى موضع نصب. وهو استثناء منقطع ممَّا قبله: ومثله {إلاَّ
حَاجَةً فىِ نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} ومثله فى سورة يس {فلا صَرِيخَ لَهُمْ
وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا} إنما هو - والله أعلم - إلا أن يُرحموا.
و (أن) تضارع (ما) إذا كانتا فى معنى مصدر.
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ
عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ }
وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُونِ...}
فى موضع جزم، والنون فى موضع نصب حذفت ياؤها. ولو
جَعلتها رفعاً فنصبت النون كان صواباًَ على معنى قوله ولستم تقربونَ بعد هذه كقوله
{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} و {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَقَالَ
لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
وقوله: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ...}
و (لِفِتْيَتِهِ) قراءتان مستفيضتان.
وقوله:
{لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ} قيل
فيها قولان: أحدهما أن يوسف خاف ألاَّ يكون عند أبيه دراهم، فجعل البضاعة فى
رحالهم ليرجعوا. وقيل إنهم إن عرفوا أنَّها بضاعتهم وقد اكتالوا ردُّوهَا على
يوسف ولم يستحلّوا إمساكها.
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا
مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ }
وقوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ...}
قرأ أصْحَاب عبدالله (يَكْتَلْ) وسائر الناس (نَكْتَلْ)
كلاهما صواب من قال (نَكْتَلْ) جعله معهم فى الكيل. ومن قال (يكْتَلْ) يصيبه كيل
لنفسه فجعل الفعل له خاصّة لأنهم يُزادونَ به كيلَ بعير.
{ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ
أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ }
قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً...}
وحِفْظاً وهى فى قراءة عبدالله (والله خير الحافظين)
وهذا شاهد للوجهين جميعاً. وذلك أنك إذا أضفت أفضل إلى شىء فهو بعضه، وحذف المخفوض يجوز
وأنت تنويه. فإن شئت جَعله خيرهم حفظاً فحذفْت الهاء والميم وهى تُنوى فى المعنى وإن شئت
جعلت (حافظا) تفسيراً لأفضل. وهوكقولك: لك أفضلهم رجلاً ثم تلغِى الهاء والميم
فتقول لك أفضل رَجُلاً وخير رجُلاً. والعرب: تقول لك أفضلها كَبْشا، وإنما هو
تفسير الأفضل.
حدَّثنا
الفراء قال حدّثنا أبو ليلى السجستانىّ عن أبى حريز قاضى سِجِستان أن ابن مسعود
قرأ (فالله خير حافظا) وقد أعلمتك أنها مكتوبة فى مصحف عبدالله (خَيْرُ الحَافِظِينَ)
وكان هذا - يعنى أبا ليلى - معروفا بالخير. وَحدَّثنا بهذا الإسناد عن عبدالله أنه
قرأ {فَلاَ
أُقْسِمُ بِمَوْقعِ النُّجُومِ} {وإنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} يقولون:
مُؤْدُونَ فى السلاح آدى يُؤدِى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِي هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا
رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ
ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ }
وقوله: {ياأَبَانَا مَا نَبْغِي...}
كقولك فى الكلام ماذا تَبغى؟ ثم قال {هَاذِهِ
بِضَاعَتُنَا} كأنهم طيَّبوا بنفسه. وَ (مَا) استفهام فى موضع نصب. ويكون معناها
جحداً كأنهم قالوا: لسنَا نريد منك دراهم. والله أعلم بصواب ذلك.
{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ
مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ
آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
وقوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ...}
يقول: ألاّ أن يأتيكم من الله مَا يَعذركم.
{ وَقَالَ يابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ
مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ }
وقوله: {يابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ...}
يقول: لا تدخلوا مِصر من طريق واحد. كانوا صِبَاحا
تأخذهم العين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَلَمَّا
دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ
اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو
عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ...}
يقول: إنه لذو علم لتعليمنا إيَّاه ويقال: إنه لذو حفظ
لما علمناه.
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ
أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ...}
معناه: لا تستكن من الحزن والبُؤْس. يَقول: لا تحزن.
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ
السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }
وقوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ...}
جواب وربّما أدخلت العرب فى مثلها الواو وهى جَواب على
حَالها؛ كقوله فى أول السورة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعْوا أَنْ
يَجْعَلُوهُ فىِ غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِ} والمعنى - والله أعلم
-: أوحينا إليه. وهى فى قراءة عبدالله (فَلَمَا جَهَّزهُمْ بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ
السِّقَايَةَ) ومثله فى الكلام: لمَّا أتانى وأثِبَ عليه كأنه قال: وثبت عليه.
وربما أَدخلت العرب فى جواب لَمَّا لكن. فيقول الرجل: لَمَّا شتَمنى لكن أَثِبُ
عَليه، فكأنه استأنف الكلام استئنافا، وتوهَّم أنّ ما قبله فيه جوابه. وقد جاء
(الشعر فى كل ذلك) قال امرؤ القَيْس:
فلمَّا أَجَزْنا ساحة الحَىّ وانتحى * بنا بطنُ خَبْت ذى
قِفافٍ عَقَنْقَلِ
وقال الآخر:
حتَّي إِذا قمِلت بطونُكم * ورأيتُم أبْناءكم شَبُّوا
وقلبتم ظهر المِجَنِّ لنَا * إنّ اللّئيم العاجزُ
الْخَبُّ
قمِلت: سمِنت وكبِرَت.
المعاني
الواردة في آيات سورة ( يوسف
)
{ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ
بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }
وقوله: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ...}
وقوله:
الصُّواع ذكر. وهو الإناء الذى كان الملك يشرب فيه.
والصاع يؤنَّث ويذكّر. فمن أنَّثه قال: ثلاث أصْوُع مثل ثلاث أَدْؤُر. ومن ذكّره قال:
ثلاثة أصواع مثل أبواب. وقوله {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقول: كفيل. وزعيم القوم سيّدهم.
{ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ }
وقوله: {تَاللَّهِ...}
العرب لا تقول تالرحمنِ ولا يجعلونَ مكانَ الواو تَاء
إلاّ فى الله عزّ وجلّ. وذلك أنها أكثر الأيمان مُجْرى فى الكلام؛ فتوهّموا أنّ الواو
منها لكثرتها فى الكلام، وأبدلوها تاء كما قالوا: التُّرَاث، وهو من ورث، وكما قال: {رُسُلَنَا
تَتْرَى} وهى من المواترة، وكما قالوا: التُخَمة وهى مِن الوَخَامة، والتُّجاه وهى
مِن واجهك. وقوله {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ} يقول القائل: وكيف
علموا أنهم لم يأتوا للفساد ولا للسرقة؟ فذُكر أنهم كانوا فى طريقهم لا يُنزلون
بأَحد ظلما، ولا ينزلون فى بساتين الناس فيُفسدوها فذلك قوله {مَّا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقول: لو كنّا سارقين ما رددنا
عليكم البضاعة التى وجدناها فى رحالنا.
{ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ
جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
وقوله: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ...}
(من) فى معنى جزاء
وموضعها رفع بالهاء التى عادت. وجواب الجزاء الفاء فى قوله: (فَهُوَ جَزَاؤهُ) ويكون قوله (جزاؤه)
الثانية مرتفعة بالمعنى المحمَّل فى الجزاء وجوابِه. ومثله فى الكلام أن تقول:
ماذالى عندك؟ فيقول: لك عندى إن بشّرتنى فلك أَلف درهم، كأنه قال: لك عندى هذا.
وإن شئت جَعلت (مَن) فى مذهب (الذى) وتدخل الفاء فى خبرِ (مَن) إِذا كانت على معنى
(الذى) كما تقول: الذى يقوم فإنَّا نَقوم معه. وإِن شئتَ جعلت الجزاء مرفوعاً
بمَنْ خاصّة وصلتِها، كأنك قلت: جزاؤه الموجودُ فى رَحْله. كأنك قلت: ثوابه أن يُسْتَرقّ،
ثم تستأنِف أيضاً فتقول: هو جزاؤه. وكانت سنَّتهم أَن يترقّوا مَن سَرق.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ
ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }
ثم قال: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا...}
ذهب إلى تأنيث السَّرقة. وإن يكن الصُّوَاع فى معنى
الصَّاع فلعلّ هذا التأنيث من ذلك. وأن شئت جعلته لتأنيث السِّقاية.
وقوله {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} (مَنْ) فى موضع نصب، أى
نرفع مَنْ نَشَاء درجاتٍ. يقول: نفضِّل من نشاء بالدرجات. ومن قال (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ
مَنْ نشَاءُ) فيكون (منَ) فى موضع خفض.
وقوله {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يقول: ليس
مِن عالِم إِلاّ وفوقه أعلم منه.
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن
قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ
شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ }
وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ...}
أَسَرَّ
الكلمة. ولو قال: (فأسرَّه) ذهب إلى تذكير الكلام كان صَواباً؛ كقوله {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ} و
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ}
{وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}: أضمرها في نفسه ولم يظهرهَا.
{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن
وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ }
وقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ...}
نَصْب لأنه مصدر، وكل مصدر تكلّمت العرب في معناه بفَعَل
أو يفعل فالنصب فيه جائز. ومن ذلك الحمدَ لله لأنك قد تقول فى موضعه يحمد الله.
وكذلك أعوذ بالله تصلح فى معنى معاذَ الله.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً
قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ
أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ }
وقوله: {خَلَصُواْ نَجِيّاً...}
و [نَجوَى] قال الله عزّ جلّ {مَا يَكُون مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ}
وقوله: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ} (ما) التى مع (فَرَّطْتُمْ) فى موضع رفع
كأنه قال: ومن قبلِ هذا تفريطكم فى يوسف.
فإن شئت جعلتها نصباً، أى ألم تعلموا هذا وتعلموا من
قبلُ تفريطكم فى يوسف. وإِن شئت جعلت (ما) صلة كأنه قال: {ومن قبلُ فرَّطتم فى
يوسف}.
{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا
إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ }
وقوله: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ...}
ويقرأ
(سُرِّق) ولا أشتهيها؛ لأنها شاذّة. وكأنه ذهب إلى أنه لا يستحلّ أن يسرَّقَ
ولم يَسرِق: وذُكر أن ميمون بن مِهْران لقى رجاء بن حَيْوَة بمكَّة، وكان رجاء
يقول: لا يصلح الكذب فى جد ولا هزل. وكان ميمون يقول: ربّ كَذْبة هى خير من صدق كثير. قال فقال
ميمون لرجاء: من كان زميلَك؟ قال:
رجل من قيس. قال: فلو أنك إذ مررت بالبِشْر قالت لك
تغلِب: أنت الغاية فى الصدق فمن زميلك هذا؟ فأن كان مِنْ قيس قتلناة، فقد علمتَ ما
قتلتْ قيسٌ منَّا، أكنت تقول: مِن قيس أم من غير قيس؟ قال: بل من غير قيس. قال:
فهى كانت أفضل أم الصدق؟ قال الفراء: قد جعل الله عزّ وجلّ للأنبياء من المكايد ما
هو أكثر من هذا. والله أعلم بتأويل ذلك.
وقوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} يقول: لم
نكن نحفظ غيب ابنك ولا ندرى ما يصنع إذا غاب عنا. ويقال: لو علمنا أن هذا يكون لم
نخرجه معنا.
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ...}
الصبر الجميل مرفوع لأنه عَزَّى نفسَه وقال: ما هو إلا
الصبر، ولو أمرهم بالصبر لكان النصب أسهل، كما قال الشاعر:
يَشْكو إِلىَّ جملى طول السُّرى * صَبراً جميلاً فكلانا
مُبْتَلَى
وقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يقول: لا شكوى فيه إِلاّ إلى
الله جلّ وعزّ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى
تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ }
قالوا: {تَالله تَفْتَؤُاْ...}
معناه
لا تزال تذكر يوسف و (لا) قد تضمر مع الأَيمان؛ لأنها إذا كانت خبرا لا يضمر فيها
(لا) لم تكن إلا بِلاَم؛ ألا ترى أنك تقول: والله لآتينَّكَ، ولا يجوز أن تقول:
والله آتيك إلاَّ أن تكون تريد (لا) فلمَّا تبيَّن موضعُها وقد فارقت الخبر
أُضمرت، قال امرؤ القيس:
فقلت يَمينَ الله أبرح قاعداً * ولو قطعوا رأسى لديكِ
وأوصَالى
وأنشدنى بعضهم:
فلا وأبى دَهْمَاء زالت عزيزةً * عَلَى قَوْمها ما
فَتَّل الزَّنْدَ قادح
يريد:
لا زالت. وقوله: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} يقال: رجل
حَرَض وامرأة حَرَض وقوم حَرَض، يكون موحَّداً عَلَى كلّ حَالٍ: الذكر والأنثى،
والجميع فيه سَوَاء، ومن العرب من يقول للذكر: حارِض، وللأنثى حارضة، فيثنّى ها
هنا وَيجمع؛ لأنه قد خرج على صورة فاعل وفاعل يُجمع. والحارض: الفاسد فى جسمه أو
عقله. ويقال للرجل: إنه لحارض أى أحمق. والفاسد فى عقله أيضاً. وأمّا حَرَض فتُرك
جمعه لأنه مصدر بمنزلة دَنَف وضَنىً. والعرب تقول: قوم دنَف، وضَنىً وَعدْل،
ورِضا، وزَوْر، وعَوْد، وضَيْف. ولو ثُنّى وجمع لكان صَواباً؛ كما قالوا: ضيف
وأضياف. وقال عزّ وجلّ {أنُؤْمِنُ لِبَشَرَينِ مِثْلِنَا} وقال فى موضع آخر: {مَا
أَنْتُمْ إلاَّ بَشَرٌ} والعرب إلى التثنية أسرع منهم إلى جمعه؛ لأن الواحد قد
يكون فى معنى الجمع ولا يكون فى معنى اثنين؛ ألا ترى أَنك تقول: كم عندك من درهم
ومن دراهم، ولا يجوز: كم عندك من درهمين. فلذلك كثرت التثنية ولم يجمع.
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا
الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ }
وقوله: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ...}
ذكروا
أنهم قدِموا مصر ببضاعة، فباعوها بدراهم لا تَنْفُق فى الطعام إلاَّ بغير سعر
الجياد، فسألوا يوسف أن يأخذها منهم ولا ينقصهم. فذلك قوله: { فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} بفضل ما بين السِّعرين.
{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى
وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا
فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }
وقوله: {يَأْتِ بَصِيراً...}
أى يرجع بَصيراً.
وقوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ...}
يقول: تكذّبون وتُعَجِّزون وتضعِّفون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
وقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي...}
قال: حدَّثنا الفراء (عن) شريك عن السُّدِّىّ فى هذه الآية أخّرهم
إلى السّحر (قال أبو زكريا وزادنا حِبّاًن عن الكلبىَّ عن أبى صالح عن ابن عبّاس قال: أخّرهم إلى
السحر) ليلة الجمعة.
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }
وقوله: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ...}
فآيات السَّموات الشمس والقمر والنجوم. وآيات الأرض
الجبال والأنهار وأشباه ذلك.
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ
مُّشْرِكُونَ }
وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ
وَهُمْ مُّشْرِكُونَ...}
يقول:
إذا سألتهم مَن خلقكم؟ قالوا: الله، أو من رزقكم؟ قالوا:
اللهُ، وهم يشركون به فيعبِدون الأصنام. فذلك قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قُلْ
هَاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وقوله: {أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...}
يقول: أنا ومن اتّبعنى، فهو يدعو على بصيرة كما أَدعوا.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً
نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
وقوله: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ...}
أُضِيفت الدار إلى الآخرة وهى الآخرة وقد تُضيف العرب
الشىء إلى نفسه إذا اختلف لفظُه كقوله {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ}
والحقّ هو اليقين. ومثله أتيتك بارحة الأولى، وعام الأوَّل وليلة الأولى ويوم
الخميس. وجميع الأيّام تضاف إلى أنفسها لاختلاف لفظها. وكذلك شهر ربيع. والعرب
تقول فى كلامها - أنشدنى بعضهم
-:
أَتمدح فَقْعَساً وتذمّ عَبْساً * أَلا للهِ أُمُّك من
هَجِين
ولو أقوت عَليك ديار عَبْس * عرفتَ الذُلَّ عِرفان
اليقين
وإنما معناه عرفاناً ويقيناً.
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ
يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }
وقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ...}
خفيف. وقرأها أهل المدينة بالتثقيل، وقرأها
ابن عباس بالتخفيف، وفسَّرها: حتى إذا استيأس الرُسُل من قومهم أن يؤمنوا، وظن
قومُهم أَن الرسل قد كُذِبوا جاءهم نصرنا. وحُكِيَتْ عن عبدالله (كُذِّبُوا)
مشدًّدة وقوله: {فَنَجى مَنْ نَشَاء} القراءة بنونين والكِتَاب أَتى بنون واحدة.
وقد قرأ عاصم (فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ) فجعلها نْوناً، كأنه كره زيادة نون ف
(مَنْ) حينئذ فى موضع رفع. وأما الذين قرءوا بنونين فإن النون الثانية، تخفى ولا تخرج
من موضع الأولى، فلمّاً خفيت حذفت، ألا ترى أنك لا تقول فننجى بالبيان. فلمَّا
خفيت الثانية حذفت واكتفى بالنون الأولى منها، كما يكتفى بالحرف من الحرفين فيدغم
ويكون كتابُهما واحداً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَاكِن
تَصْدِيقَ...}
منصوب، يراد به: ولكن كان تصديقَ ما بين يديه من الكتب:
التوراة والإنجيل. ولو رفعت التصديق كان صواباً كما تقول: ما كان هذا قائماً ولكن
قاعداً وقاعد. وكذلك قوله: {مَا كانَ مُحمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم
وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ} و {رَسُولُ اللهِ} فمن رفع لم يضمر كان أراد: ولكن هو
رسول الله.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الرعد )
{ المر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ
وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }
وقوله قبل هذه الآية: {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ الْحَقُّ...}
فموضع (الذى) رفع تستأنفه على الحقّ، وترفع كلّ واحدٍ بصَاحبه. وإن
شئت جعلت (الذى) فى موضع خفض تريد: تلك آيات الكتاب وآياتِ الذى أنزل إليك من ربك فيكون
خفضاً، ثم ترفع (الحقّ) أى ذلك الحق، كقوله فى البقرة {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فنرفع على إضمار
ذلك الحقّ أو هو الحق. وإن شئت جَعَلت (الذى) خفضا فخفضت (الْحَقّ) فجعلته من صفة الذى ويكون (الذى)
نعتاً للكتاب مردوداً عليه وإن كانت فيه الواو؛ كما قال الشاعر:
إلى الملِك القَرْمِ وابن الهمام * وليث الكَتِيبَة فى
المُزْدَحَمِ
فعطف بالواو وهو يريد واحداً. ومثله فى الكلام: أَتانا
هذا الحديث عن أبى حفص والفاروق وأنت تريد عمر بن الخطّاب رحمه الله.
{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }
قول الله عزّ وجلّ: {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...}.
جاء فيه قولان. يقول: خلقها مرفوعة بلا عمدٍ، ترونها: لا
تحتاجون مع الرؤية إلى خبر. ويقال: خلقها بعَمَد لا ترونها، لا ترَون تلك العَمَد.
والعرب قد تقدم الحجة من آخر الكلمة إلى أوّلها: يكون ذلك جائزاً. أنشدنى بعضهم:
إذا أعجبتك الدهرَ حالٌ من امرى * فدَعهْ وواكِل حالَه
واللياليا
يجئن على ما كان من صالحٍ به * وإن كان فيما لا يرى
الناس آليا
معناه
وإن كان (فيما يرى) الناس لا يألو. وقال الآخر:
ولا أراها تزال ظالمةً * تُحدث لى نكبَةً وتنكؤها
ومعناها: أراها لا تزال.
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ }
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ...}
أى بسط الأرض عَرْضاً وطولا.
وقوله:
{زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الزوجان اثنان الذكر والأنثى
والضربان. يبيّن ذلك قوله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثَى}
فتبيّن أنهما اثنان بتفسير الذكر والأنثى لهما.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ
مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ
وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذالِكَ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
}
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ...}
يقول: فيها اختلاف وهى متجاورات: هذه طيّبة تُنبت وهذه
سَبَخَة لا تُخرج شيئاً.
ثم قال: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ} فلك فى الزرع
وما بعده الرفع. ولو خفضت كان صَوابا. فمن رفع جعله مردوداً على الجنّات ومن
خفض جعله مردوداً على الأعناب أى منْ أعناب ومن كذا وكذا.
وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الرفع فيه سَهل؛
لأنه تفسير لحال النخل. والقراءة بالخفض ولوكان رفعاً كان صواباً. تريد: منه صنوان
ومنه غير صنوان. والصِّنْوان النّخلات يَكونُ أصْلهنَّ واحداً. وجاء فى الحديث
عن النبى صَلى الله عَليه وسلم: إن عَمّ الرجل صِنْو أبيه
ثم
قال: {تُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} و (يُسْقَى) فمن قال بالتاء ذهب إلى تأنيث الزروع والْجَنّات
والنخل. ومن ذكَّر ذهب إلىالنبت: ذلك كلّه يسقى بماء واحدٍ، كلّه مختلف: حامض
وحلو. ففى هذه آية.
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ...}
يقول:
يستعجلونك بالعذاب وهم آمنون له، وهم يرون العقوبات
المَثُلاَت فى غيرهم ممَّن قد مضى هى المَثُلاَت وتميم تقول: المُثْلات، وكذلك
قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} حجازية. وتميم: صُدْقات، واحدها
صُدْقة. قال الفراء: وأهل الحجاز يقولون: أعطها صَدُقتها، وتميم تقول: أعطها
صُدْقتها فى لغة تميم.
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }
وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ...}
قال بعضهم: نبىّ. وقال بعضهم : لكل قوم هادٍ
يتَّبِعُونه، إمَّا بحق أو بباطل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا
تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }
وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ...}
(تَغِيضُ)
يقول: فما تنقص من التسعة الأشهر التى هى وقت الحمل
(وَمَا تَزْدَادُ) أى تزيد عَلَى التسعة أَوَلا ترى أن العرب تقول: غاضت المياه أى
نقصت. وفى الحديث: إذا كان الشتاء قيظاً، والولد غيظاً، وغاضت الكرامُ غَيْضاً
وفاضت اللئام فيضاً. فقد تبيّن النقصان فى الغيض.
{ سَوَآءٌ
مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ
بِالْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
}
وقوله: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
وَمَنْ جَهَرَ بِهِ...}.
(مَنْ)
و (من) فى موضع رفع، الذى رفعهما جميعاً سواء، ومعناهما:
أن من أسرَّ القول أو جهر به فهو يعلمه، وكذلك قوله: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أى ظاهر بالنهار. يقول: هو يعلم الظاهر والسرّ وكلٌّ عنده
سواء.
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }
وقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ...}.
المعقِّبَات:
الملائكة، ملائكة الليل تُعَقِّب ملائكة النهار يحفظونه.
والمعقِّبات: ذُكران إلاَّ أنه جميع جَمع ملائكة معقِّبة، ثم جُمِعت معقِّبة، كما قال: أبنْاوات سَعْدٍ،
ورجالات جمع رجال.
ثم قال عزَّ وجلَّ {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}
فرجع إلى التذكير الذى أخبرتك وهو المعنَى. ويكون (ويحفظونه) ذلك الحفظ من أمر الله وبأمره
وبإذنه عز وجلَّ؛ كما تقول للرجل:
أجيئِك مِنْ دعائِك إِيَّاى وبدعائِك إيَّاى والله أعلم
بصواب ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً
وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ
}
وقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً
وَطَمَعاً... }:
خوفاً على المسافر وطمعاً للحاضر.
وقوله: {وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}
السحاب وإن كان لفظه واحداً فإنه جمع، واحدته سَحابة. جُعل نعته عَلَى الجمع كقوله
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ} ولم يقل: أخضر، ولا
حسن، ولا الثقيل، للسحاب. ولو أتى بشىء من ذلك كان صواباً؛ كقوله: {جَعَلَ لَكُم مِنَ
الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإذَا أَنتُم مِنْهُ تُوقِدُون} فإذا كان نعت شئ من
ذا يرجع إلى صغر أو كبر لم تقله إلاَّ عَلَى تأويل الجمع. فمن ذلك أن تقول: هَذَا تمر طيّب، ولا
تقول تمر صَغير ولا كبير من قِبَلِ أن الطّيب عَامٌّ فيه، فوُحِّد، وأن الصغر
والكبر والطول والقِصَر فى كل تمرة على حِدَتِها.
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن
دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى
الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ
إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }
قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ...}
لا إله إلا الله {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ}
يعنى الأصنام لا تجيب داعيهَا بشىء إلا كما ينال الظمآن المشرف على ماء ليسَ معه
ما يستقى به. وذلك قوله عزّ وجلّ: {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ} ثم
بيَّن الله عزّ وجلّ ذلكَ: {لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}.
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }
وقوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً...}
فيقال: مَنِ الساجد طوعاً وكرهاً من أهل
السموات والأرض؟ فالملائكة تسجد طوعاً، ومن دخل فى الإسلام رغبة فيه أو وُلد عليه
من أهل الأرض فهو أيضاً طائع. ومَن أُكره على الإسلام فهو يسجد كَرْهاً (وَظِلاَلُهُمْ)
يقول: كل شخصٍ فظِلّه بالغداة والعَشِىِّ يسجد معه. لأن الظلّ يَفِىء بالعَشىّ
فيصير فَيْئاً يسجد. وهو كقوله: {عَنِ اليمينِ وَالشَّمَائِلِ} فى المعنى والله أعلم.
فمعنى الجمع والواحد سواء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ
اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ
لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ
كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
}
قوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ...}
ويقرأ (أَمْ هَلْ يَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) وتقرأ
(تَسْتَوِى) بالتاء. وهو قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وفى موضع
آخر: (وَأَخَذَتْ).
{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ
عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ
كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ }
وقوله: {أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا...}
ضربه
مثلا للقرآن إذا نَزَل عليهم لقوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} يقول
قبلته القلوب بأقدارها وأهوائِها.
وقوله:
{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً} يذهب لا منفعة له، كذلك
ما سكن فى قلب مَن لم يؤمن وعبد آلهته وصَار لا شىء فى يده {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} فهذا مَثَلُ المؤمن.
ثم قال عزّ وجلّ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي
النَّارِ} من الذهب والفضة والنُّحاس زَبَد كزَبَد السيل يعنى خَبثه الذى تُحصّله
النار فتخرجه من الذهب والفضّة بمنزلة الزَبَدِ فى السيل.
وأمَّا قوله: {ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} يقول:
يوقدون عليه فى النار يبتغون به الحُلِىّ والمتاع ما يكون من النحاس والحديد هو
زَبدَ مثله.
وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَآءً} ممدود أصله الهمز يقول: جفأ
الوادى غُثَاءه جَفْثا. وقيل: الجُفَاء: كما قيل: الغُثَاء: وكل مصدر اجتمع بعضه إلى بعض مثل
القُماش والدُّقاق والغُثَاء والحُطَام فهو مصدر. ويكون فى مذهب اسم على هذا المعنى؛
كما كان العطاء اسماً على الإعطاء، فكذلك الجُفاءُ والقماش لو أردت مصدره قلت:
قمشته قمشاً. والجُفَاء أى يذهَب سريعاً كما جاء.
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ }
وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن
كُلِّ بَابٍ...}
{سَلاَمٌ عَلَيْكُم...}
يقولون:
سَلام عليكم. القول مضمر؛ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إذِ
المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا} أى يقولون: ربنا ثم
تركت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ اللَّهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }
وقولَه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ
وَيَقَدِرُ...}
أى يوسّع ويَقْدِر (أى يَقْدِر ويقَتّر) ويقال يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر له فى ذلك أى يَخِير له. قال ابن عباس: إنّ الله عزَّ وجلّ
خلق الخلق وهو بهم عالم، فجعل الغنى لبعضهم صلاحاً والفقر لبعضهم صلاحاً، فذلك
الخيار للفريقين.
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى
لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }
وقوله: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ...}
رفع. وعليه القراءة. ولو نصب طُوبَى والحُسْن كان صَوَاباً ما تقول
العَرب: الحمدُ لله والحمدَ لله. وطوبى وإن كانت اسماً فالنصب يأخذها؛ كما يقال فى
السبّ: الترابُ له والترابَ له. والرفع فى الأسماء الموضوعة أجود من النصب.
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأَمْرُ
جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى
النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ
قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ...}
لم يأت بعده جواب لِلَوْ فإن شئتَ جَعَلت جوابها
متقدّماً: وهم يكفرون - ب ولو أنزلنا عليهم الذى سأَلوا. وإن شئتَ كان جوابه متروكا
لأن أمره معلوم: والعرب تحذف جواب الشىء إذا كان معلوماً إرادةَ الإيجاز، كما
قال الشاعر:
وأقسم لو شىء أتانا رَسولُه * سواك ولكن لم نجد لك
مَدْفعا
وقوله: {بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} قال المفسّرون: ييأس: يعلم. وهو فى المعنى
على تفسيرهم لأن الله قد أوقع إلى المؤمنين أنه لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً
فقال: أفلم ييأسوا عِلماً. يقول: يؤيِسهم العلم، فكان فيهم العلِم مضمرا كما تقول فى
الكلام: قد يئِست منك أَلاّ تفلح عِلماً كأنك قلت: علِمته علماً.
وقال الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عباس قال: ييأس فى
معنى يعلم لغة للنَخَع. قال الفراء: ولم نجدها فى العربية إلاّ على ما فسّرت. وقول
الشاعر:
حتى إذا يئِس الرماة وأرْسلُوا * غُضْفاً دواجِن قافلاَ
أعصَامُهَا
معناه حتى إذا يئِسوا من كل شىء ممّا يمكن إلا الذى ظهر
لهم أرسلوا. فهو معنى حتى إذا علمُوا أَن ليس وجه إلا الذى رأوْا أرسلوا. كان ما
وراءه يأساً.
وقوله:
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا
صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} القارعة: السريَّة من السرايا (أَوْ تَحُلُّ) أنت يا محمد بعسكرك
{قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا
لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا
لَهُ مِنْ هَادٍ }
وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ...}
تُرك جوابه ولم يقل: ككذا وكذا لأن المعنى مَعلوم. وقد
بيَّنه ما بعده إذ قال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كأنه فى المعنى قال: كشركائهم
الذين اتَّخذوهم، ومثله قول الشاعر:
تَخَيَّرِى خُيِّرت أُمَّ عالِ * بين قصير شَبْرُه
تِنبَالِ
أذاكِ أم منخرق السربال * ولا يزال آخر الليالى
* مُتلِفَ مال ومفيدَ مال *
تخيّرى
بين كذا وبين منخَرِق السربال. فلمَّا أن أتى به فى الذكر كفى من إعادة الإعراب
عليه.
وقوله: {فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ}
باطل المعنى، أىْ أنه ظاهر فى القول باطل المعنى.
ويقرأ: {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} وبعضهم (وصَدُّوا)
يجعلهم فاعلين.
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى
الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ }
وقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ...}
يقول:
صفات الجنة. قال الفراء: وحدَّثنى بعض المشيخة عن
الكلبىّ عن أبى عبد الرحمن السُّلَمِىّ أَن عليّاً قرأهَا: (أَمثالُ الجنّة) قال
الفراء أظن دون أبى عبد الرحمن رجلا قال: وجاء عن أبى عبد الرحمن ذلك والجماعة على
كِتَاب المصحف.
وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} هو الرافع. وإن شئتَ للمَثَل
الأمثال في المعنى كقولك: حِلْية فلان أسمر وكذا وكذا. فليس الأسمر بمرفوع بالحِلية، إنما هو
ابتداء أى هو أحمر أسمر، هو كذا.
ولو دخل في مِثْل هذا أنّ كان صواباً. ومثله في الكلام
مَثَلك أنك كذا وأنك كذا. وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَي طَعَامِهِ إنَّا}
من وَجْهِ {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}
ومن قال {أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ} بالفتح أظهر الاسم؛ لأنه مردود على الطعام
بالخفض أو مستأنف أى طعامُه أنا صَببنا ثم فعلنا.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ
وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }
وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ...}
جاء التفسير:
لكل كتاب أجل. ومثله {وَجَاءَتْ سَكْرَة المَوْتِ بالْحَقِّ} وذلك عن أبى بكر الصّديق رحمه الله:
{وجاءتْ سَكرةُ المَوْتِ بالحقِّ} لأن الحقّ ا أتى بها وتأتّى به. فكذلك تقول: لكل
أجلٍ مؤجَّل ولكل مؤجَّل أجل والمعنى واحد والله أعلم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ
أُمُّ الْكِتَابِ }
قوله: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ...}
(ويُثَبِّتُ)
مشدّد قراءة أصحاب عبدالله وتقرأ و (يُثْبِتُ) خفيف.
ومعنى تفسيرها أنه - عزَّ وجلَّ - تُرفع إليه أعمال العبد صغيرُها وكبيرها، فيثبت
مَا كان فيه عقاب أو ثواب ويمحو ما سوى ذلك.
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ }
وقوله: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ...}
وأنت حَىّ.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} يكون بعد موتك {فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا
مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ }
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ
نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا...}
جاء: أولم ير أهل مكّة أنا نفتح لكَ ما حَولها. فذلكَ قوله
(نَنقُصُهَا) أى أفلا يخافون أن تنالهم. وقيل {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بموت
العلماء.
وقوله: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} يقول: لا رادّ
لحُكْمه إذا حَكَم شيئَا والمعقّب الذى يَكُرّ عَلَى الشىء. وقول لَبِيد:
حتّى تُهجَّر فى الرَّوَاح وهَاجه * طلبُ المعقِّب
حَقَّه المظلومُ
من
ذلك لأن (المعقِّب صَاحب الدَيْن يرجع على صَاحبه فيأخذه منه، أو من أُخِذَ منه
شىء فهو راجع ليأخذه).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ
الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ
لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ }
وقوله: { وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ...}
على الجمع وأهل المدينة (الكَافِر).
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ
كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }
وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ...}
يقال عَبدالله بن سَلاَم. و (مِنْ عِنْدِه) خفض مردود
على الله عزَّ وَجل. حدثنا الفراء قال: وحدثنى شيخ عن الزُّهْرِىّ رفعه إلى عمر بن
الخطاب أنه لما جاء يُسلم سمع النبى صَلى الله عليه وسلم وهو يتلو {وَمَنْ عِندَهُ
عِلْمُ الْكِتَابِ} حدثنا الفراء قال وحدَّثنى شيخ عن رجل عن الحَكَم بن عُتَيْبَة
{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ويقرأ (وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتَابِ)
بكسر الميم مِنْ (من).
المعاني الواردة في آيات
سورة ( إبراهيم
)
{ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ
النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }
قول الله عزّ وجل: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ...}
{اللَّهِ الَّذِي...}
يُخفض فى الإعراب ويُرْفع. الخفضُ على أن تُتبعه
(الحَمِيدِ) والرّفع عَلَى الاستئناف لانفاصاله من الآية؛ كقوله عَزَّ وجَلَّ
{إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأَنَّ
لَهُمُ الجَنَّةَ}
إِلى
آخر الآية، ثم قال {التَّائِبُونَ} وفى قراءة عبدالله (التائِبين) كل ذلك صواب.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...}
يقول:
ليفهمهم وتلزمَهم الحجّةُ. ثم قال عز وجَل {فَيُضِلُّ
اللَّهُ مَن يَشَآءُ} فرفع لأنّ النيّة فيه الاستئنَاف لا العطف عَلَى مَا قبله.
ومثله {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فىِ الأَرْحَامِ مَا نشَاءُ} ومثله فى براءة
{قَاتِلُوهُمْ
يَعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِكُمْ} ثم قال {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}
فإذا رأيتَ الفعل منصوباً وبعده فعل قد نُسَقِ عليه بواو أو فاء أو ثُمّ أو أوْ
فإن كان يشاكل معنى الفعل الذى قبله نَسقْته عليه. وإن رأيته غير مشاكِل لمعْناه
استأنفته فرفعته.
فمن المنقطع مَا أخبرتكَ به. ومنه قول الله عز وجل
{وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُون
الشَّهَوَاتِ} رفعت (ويريد الذين) لأنها لا تشاكل (أَنْ يَتُوبَ) ألا ترى أن ضمّك
إيَّاهُمَا لا يجوز، فاستأنفت أو رددته على قوله {وَاللهُ يُرِيدُ} ومثله
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ
أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فيأبَى فى موضع رفع لا يجوز إلا ذلك.
ومثله قوله:
والشعر لا يَسْطيعُه من يظلمه * يريد أن يعربه فيُعجِمُه
وكذلك تقول: آتيك أن تأتينى وأكرمُك فتردّ (أكرمكَ) على
الفعل الأول لأنه مشاكِل له وتقول آتيك أن تأتِيَنى وتحسنَ إلىَّ فتجعل (وتحسن)
مردوداً على ما شاكلها ويقاس على هذا.
{ وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ }
وقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ...}
يقول: خوّفهم بأيَّام عاد وثََمُود وأشباههم بالعذاب
وبالعفو عن آخَرِين. وهو فى المعنى كقولك: خذهم بالشدّة واللين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي
ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ }
وقوله ها هنا: {وَيُذَبِّحُونَ...}
وفى موضع آخر {يُذَبِّحُونَ} بغير واو وفى موضع آخر
{يُقَتِّلُونَ} بغير واو. فمعنى الواو أنهم يمسُّهم العذابُ غير التذبيح كأنه قال:
يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح. ومعنى طرح الواو كأنه تفسير لصفات العذاب. وإذا كان
الخَبَر من العذاب أو الثواب مجمَلاً فى كلمة ثم فسرته فاجعله بغير الواو. وإذا كان
أوّله غير آخره فبالواو. فمن المجمل قول الله عز وجل {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَاماً} فالأثام فيه نيَّة العذاب قليلهِ وكثيره. ثم فسَّره بغير الواو
فقال {يُضاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ} ولو كان غير مجمل لم يكن ما
ليس به تفسيراً له، أَلا ترى أَنك تقول عندى دابَّتان بغل وبِرْذَوْن ولا يجوز
عندى دابَّتان وبغل وبِرذَوْنٌ وأنت تريد تفسير الدَّابتين بالبغل والبِردون، ففى
هذا كفاية عَمَّا نترك من ذلك فقس عَليه.
وقوله
{وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} يقول: فيما كان يَصنع بكم فرعونُ من
أصناف العذاب بلاء عظيم من البلِيَّة.
ويقال: فى ذلكم نِعَم من ربّكم عظيمة إذ أنجاكم منها.
والبَلاء قد يكون نعماً، وعذاباً. ألا ترى أنك تقول: إن فلاناً لحسن البلاء عندك
تريد الإنعام عليك.
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ
لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }
وقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ...}
معناه: أعلم ربّكم وربما قالت العرب فى معنى أفْعلت
تفعَّلت فهذا من ذلك والله أعلم. أوعدنى وتوعَّدنى وهو كثير.
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ
إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ
فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا
لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }
وقوله {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ...}
جاء فيها
أقاويل. حدثنا محمَّد قال حدّثنا الفراء قال: حَدّثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى
صالح عن ابن عباس قال: كانوا إذا جاءهم الرسول قالوا له: اسكت وأشاروا بأصَابعهم إلى أفواه
أنفسهم؛ كما تُسَكِّت أنت - قال: وأشار لنا الفراء بأصبعه السبَّابة على فيه -
ردّا عليهم وتكذيبا. وقال بعضهم:
كانوا يكذِّبونهم ويردّون القول بأيديهم إلى أفواه الرسل
وأشار لنا الفراء هكذا بظهر كفه إلى من يخاطبه. قال وأرانا ابن عبدالله الإشارة فى
الوجهين (وأرانا الشيخ ابْن العباس بالإشارة بالوجهين) وقال بعضهم: فردُّوا أيديهم فى
أفواههم يقول رَدُّوا ما لو قبلوه لكان نِعَماً وأيادى من الله فى أفواههم، يقول
بأفواههم أى بألسنتهم. وقد وجدنا من العرب مِن يجعل (فى) موضع الباء فيقول: أدخلك الله بالجنَّة
يريد: فى الجنة. قال: وأنشدنى بعضهم:
وأرغب فيها عن لَقِيطٍ ورهطه * ولكنّنى عن سِنْبِس لست
أرغب
فقال: أرغب فيهَا يعنى بنتاً له. أى إنى أرغب بهَا عن
لقيط.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى
إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا...}
قال {أَوْ لَتَعُودُنَّ} فجعل فيها لاماً كجواب اليمين وهى فى معنى
شرط، مثلُه من الكلام أن تقول: والله لأضربنّك أو تُقِرَّ لى: فيكون معناه معنى حَتَّى
أَو إلاّ، إلا أنها جاءت بحرف نَسَق. فمن العرب من يجعل الشرط مُتْبعاً للذى قبله،
إن كانت فى الأول لام كان فى الثانى لام، وإن كان الأول منصوبا أو مجزوماً نَسَقوا
عليه كقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} ومن العرب من ينصب ما بعد أوْ ليُؤذن نصبُه
بالانقطاع عمّا قبله. وقال الشاعر:
لَتقعُدِنَّ
مقعدَ القَصِىِّ * منِّىَ ذى القاذُورة المَقْلِىّ
أَو تحلفى بربّك العلىِّ * أنيِّ أبو ذيَّالِكِ الصبىّ
فنصب (تحلفى) لأنه أراد: أن تحلفى. ولو قال أو لتحلفِنّ
كان صوابا ومثله قول امرئ القيس:
بكى صاحبى لَمَّا رأى الدرب دونه * وأيقن أنّا لاحقان
بقَيْصَرا
فقلت له لا تبك عَيْنُك إنّما * نحاولُ مُلْكا أَو نموتَ
فنُعذرا
فنصب آخره ورفع (نحاول) على معنى إلاّ أو حتى. وفى إحدى
القراءتين: {تَقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا} والمعنى - والله أعلم - تقاتلونهم حتى يُسلموا.
وقال الشاعر:
لا أستطيع نُزوعاً عن مودّتها * أوْ يصنعَ الحبُّ بى غير
الذى صَنَعَا
وأنت قائل فى الكلام: لست لأبى إن لم أقتلك أو تسبقْنَى
فى الأرض فتنصب (تسبقنى) وتجزمها. كأنّ الجزم فى جوازه: لستُ لأبى إن لم يَكن
أحدُ هذين، والنصب عَلَى أَنّ آخره منقطِع عن أوَّله؛ كما قالوا: لا يسعُنى شىء وَيضيقَ
عنك، فلم يَصْلح أن تردّ (لا) على (ويضيق) فعُلم أَنها منقطِعة من معناها. كذلك
قول العرب: لو تُرِكْتَ وَالأَسَدَ لأكلك لمَّا جاءت الواو ترُدُّ اسماً على اسم
قبله، وقبح أن تردّ الفعل الذى رَفَع الأوّل على الثانى نصب؛ أَلا ترى أنك لا تقول
لو تُركت وتُرك الأسدُ لأكلك. فمِن هَا هنا أتاه النصب. وجَاز الرفع لأن الواو حرف
نَسَق معروف فجاز فيه الوجهان للعِلَّتين.
{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ
لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
}
وقوله: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي...}
معناه:
ذلك لمن خاف مقامه بين يَدَىّ ومثله قوله: {وَتَجْعَلُون
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} معناه: رزقى إِيَّكم أنكم تكذِّبون والعرب
تضيف أفعالها إلى أنفسها وإلى ما أُوقعت عليه، فيقولون: قد ندمت عَلَى ضربى إيَّاك
وندمت عَلَى ضربك فهذا من ذلك والله أعلم.
{ يَتَجَرَّعُهُ
وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ
بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ...}
فهو يُسيغه. والعرب قد تجعل (لا يكاد) فيما قد فُعل
وفيما لم يُفعل. فأمَّا ما قد فُعِل فهو بَيّن هنا منْ ذلك لأن الله عزَّ وَجلّ
يقول لَمِا جعله لهم طعاماً {إِنَّ شَجَرّةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثيمِ
كالمُهْلِ يَغْلِى فى البُطُونِ} فهذا أيضاً عذاب فى بطونهم يُسيغونه.وأمَّا ما
دخلت فيه (كاد) ولم يُفعل فقولك فى الكلام: ما أتيته ولا كِدت، وقول الله عزّ
وجلّ فى النور {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا} فهذا عندنا - والله أعلم
- أنه لا يراها. وقد قال ذلك بعض الفقهاء لأنها لا تُرى فيما هو دون هذا من
الظلمات، وكيف بظلمات قد وُصفت بأشدّ الوصف.
وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ}:
حدَّثنا الفراء: قال: حدثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال: (يأتِيِه
المَوْتُ) يعنى: يأتيه العذاب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. حدثنى
هُشَيم عن العوَّام بن حَوْشَب عن إبراهيم التَّيْمِىّ قال: من كل شَعَرة.
وقوله:
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} العرب إذا كان الشىء قد مات
قالوا: ميْت وميِّت. فإن قالوا: هو ميت إن ضربته قالوا: مائت وميّت. وقد قرأ بعض
القراء {إِنَّك مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُون} وقراءة العوامّ عَلَى (ميّت).
وكذلك يقولون هذا سيّد قومه وما هو بسائدهم عن قليل، فيقولون: بسائدهم وسيّدهم، وكذلك
يفعلون فى كل نعْت مثل طمع، يقال: طَمِعٌ إذا وُصف بالطمع، ويقال هو طامع أن يُصيب
منك خيراً، ويقولون: هُو سكران إذا كان فى سكره، وما هو ساكر عن كثرة الشراب، وهو
كريم إذا كان موصُوفاً بالكرم، فإن نويت كَرَماً يكون منه فيما يُستقبَلِ قلت:
كارم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ مَّثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ
الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ
ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ
}
وقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ...}
أضاف المَثَل إليهم ثم قال {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} والمَثَل للأعمال والعرب تفعل ذلك: قال الله عزّ وجلّ
{وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم
مُسْوَدَّةٌ} والمعنى تَرى وجوهَهم مسودّة. وذلك عربىّ لأنهم يجدون المعنى فى آخِر الكلمة
فلا يبالونَ ما وقع على الاسم المبتدأ. وفيه أن تكُرَّ ما وقع على الاسم المبتدأ
عَلى الثانى كقوله {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفاً} فأعِيدت اللام فى البيوت لأنها التى تراد بالسقف ولو خفضت ولم تظهر اللام
كان صَواباً كما قال الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيه}.
فلو خَفَض قارئ الأعمال فقال (أعمالِهمْ كَرَمَادٍ) كان
جائزاً ولم أسمعه فى القراءة. وقد أنشدنى بعضهم:
ما للجِمَالِ مَشْيِها وئيداً * أجندلاً يحملن أَم
حديدَا
أراد ما للجمال ما لمشيها وئيداً. وقال الآخر:
ذرِينى إن أمركِ لن يطاعَا * وما ألفيتنِى حِلِمى
مُضَاعَا
فالحلم منصوب بالإلقاء على التكرير ولو رفعته كان صَوابا.
وقال {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} فجعل العصوف تابعاً لليوم فى إعرابه،
وإنما العصُوف للريح. وذلك جائز على جهتين، إحداهما أن العصوف وإن كان للريح فإن
اليوم يوصف به؛ لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول يوم عَاصف كما تقول: يوم بارد ويوم
حارّ. وقد أنشدنى بعضهم:
* يومين غيمين ويوماً شمساً *
فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما. والوجه
الآخر أن يريد فى يوم عَاصِفِ الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت فى أوّل الكلمة كما
قال الشاعر:
فيضحكُ
عرفانَ الدروع جلودُنا * إذا جاء يوم مظلمُ الشمس كاسفُ
يريد كاسف الشمس فهذان وجهان. وإن نويت أن تجعل (عاصف)
من نعت الريح خاصّةً فلمّا جاء بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وذلك من كلام العرب
أن يُتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه.
قال الشاعر:
كأَنَّما ضربت قدّام أعينِها * قُطْنا بمستحصِد الأوتار
محلوج
وقال الآخر:
تريك سُنَّة وجه غيرِ مُقرفَةٍ * مَلْسَاء ليس بها خال
وَلاَ نَدَبُ
قال: سمعت الفراء قال: قلت لأبى ثَرْوان وقد أنشدنى هذا البيت
بخفضٍ: كَيف تقول: تُريك سُنَّة وجه غيرَ مقرفة؟ قال: تريك سنّة وجه غَيْرَ مقرفة.
قلت له: فأنشِد فخفض (غير) فَأعدت القول عَليه فقال: الذى تقول أنت أجود ممّا أقول
أنا وكانَ إنشاده على الخفض. وقال آخر:
وإيَّاكم وحَيَّة بطنِ وادٍ * هَمُوزِ الناب ليسَ لكم
بِسِىّ
ومِمّا يرويه نحويُّونا الأوَّلون أن العرب تقول: هذا
جُحْرُ ضَبّ خَرِبٍ. والوجه أن يقول: سُنَّةَ وجه غيْرَ مقرقة، وحَيَّةَ بطنِ واد
هموزَ الناب، وهذا جُحْرٍ ضبّ خرِبٌ. وقد ذُكر عن يحيى بن وثَّاب أنه قرأ {إِنَّ
اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّة المَتِينِ} فخفض المتين وبه أخَذ الأعمش.
والوجه أن يرفع (المتين) أنشدنى أبو الجَرّاح العُقَيلىّ:
يا صاحِ بَلِّغ ذَوِى الزوجَات كُلِّهم * أن ليس وصلٌ
إذا انحلّت عُرَا الذَنْب
فأتبع (كلّ) خفض (الزوجات) وهو منصوب لأنه نعت لذوى.
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ
لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ
تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
}
وقوله:
{مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ...}
أى الياءُ منصوبة؛ لأن الياء من المتكلّم تسكن إذا تحرك
مَا قبلها وتُنصب إرادة الهاء كما قرئ {لكم دينكم ولىَ دين} (ولِى دين) فنصبت
وجُزمت. فإذا سَكن ما قبلها رُدّت إلى الفتح الذى كان لها. والياء من (مُصْرِخِىّ) سَاكنة والياء
بعدها من المتكلم سَاكنة فحرِّكت إلى حَركة قد كانت لها. فهذا مطَّرِد فى الكلام.
ومثله {يَا بَنِىَّ إِنَّ اللّهْ} ومثله {فَمَنْ تَبِعَ
هُدَاىَ} ومثله {مَحْيَاىَ وممَاتى}.
وقد خفض الياء من قوله {بِمُصْرِخِيَّ} الأعمش ويحيى بن
وثَّاب جميعاً. حَدَّثنى القاسم بن مَعْن عن الأعمش عن يحيى أنه خفض الياء.
قال الفراء: ولعلها من وَهْم القُرَّاء طبقة يحيى فإنه قل من سَلم منهم من الوَهْم. ولعله ظَن أن
الباء فى (بمصرخىّ) خافضة للحرف كله، والياء من المتكلّم خارجة من ذلك. ومما نرى
أنهم أوهمُوا فيه قوله {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ} ظنُّوا -
والله أعلم - أن الجزم فى الهَاء؛ والهاءُ فى موضع نصب، وقد انجزم الفعل قبلها
بسقوط الياء منه.
وممّا أوهموا فيه قوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشيَاطِينُ} وحدَّث مندل بن علىّ العَنَزِىّ عن الأعمش قالَ: كنت عند إبراهيم
النَخَعىّ وطَلْحةُ بن مُصَرِّف [يقرأ]
{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعْونَ} بنصب اللام
من (حوله) فقال إبراهيم: ما تزال تأتينا بحرف أشنع، إنما هى {لِمَنْ حَوْلِه} قال
قلت: لاَ،
إِنما هى (حَولَه) قال: فقال إِبراهيم ياطلحة كيف تقول؟ قال: كما قلتَ (لمن حَوْلِهِ) قال
الأعمش. قلت: لحنتما لا أجالسكما اليوم. وقد سمعت بعض العرب يُنشد:
قال لها هل لك يا تافِيِّ * قالت له مَا أنتَ بالمرضِىّ
فخفض
الياء من (فىّ) فإن يك ذلك صَحيحاً فهو مما يلتقى من الساكنين فيُخفض الآخِر
منهما، وإن كان له أصْل فى الفتح: ألا ترى أنهم يقولون: لم أره مُذُ اليوم ومُذِ
اليوم والرفع فى الذالِ هو الوجه؛ لأنه أصل حركة مُذ والخفض جائز، فكذلك الياء من
مصرخىّ خُفضت ولها أصل فى النصب.
وقوله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ} هذا قول
إبليس. قال لهم: إنى كنت كفرت بما أشركتمون يعنى بالله عز وجَل (مِنْ قَبْل) فجعل
(مَا) فى مذهب مَا يؤدّى عن الاسم ب.
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }
وقوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ
خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ...}
رفعَت المَثَل بالكاف التى فى شجرة. ولو نصبت المثل.
تُريد: وضرب الله مثلَ كلمةٍ خبيثة. وهى فى قراءة أُبَيّ (وضرب مثلاً كلمة خبيثة)
كشجرة خبيثة وكل صواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ }
وقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ...}
يقال:
بلا إله إلا الله فهذا فى الدنيا. وإذا سئل عنها فى
القبر بعد موته قالهَا إذا كان من أهل السَّعادة، وإذا كان منْ أهل الشقاوة لم
يقلها. فذلك قوله - عزَّ وجلّ - {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عنها أى عن قول
لا إله إلا الله {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} أى لا تنكروا له قدرةً ولا
يُسأل عما يَفعل.
{ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }
وقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا...}
منصوبة
عَلَى تَفسير (دَارَ البَوَارِ) فردّ عَليهَا ولو رفعت على الائتناف إذا انفصلَتْ
من الآية كانَ صوابا. فيكون الرفع عَلى وجهين: أحدهما الابتداء. والآخر أن ترفعها بعائِد ذِكْرها؛ كما
قال {بِشرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
{ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ
الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ
أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ }
وقوله: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ
الصَّلاَةَ...}
جُزِمت (يُقِيمُوا) بتأويل الجزاء. ومعناه - والله أعلم - معنى أمر؛
كقولك: قل لعبدالله يذهبْ عنا، تريد: اذهب عنا فجُزِمَ بِنيّة الجواب للجزم،
وَتأويله الأمر ولم يُجزم على الحكاية. ولو كان جَزمُه على مَحْض الحكاية لجاز أن تقول:
قلت لكَ تذهبْ يا هذا وإنما جُزِم كما جُزِم كما جُزِمَ قوله: دَعْه يَنَمْ، {فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ} والتأويل - والله أعلم - ذَروهَا فَلْتَأْكُل. ومثله {قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} ومثله {وَقُلْ لعِبَادِى يَقُولُوا
الَّتىِ هِىَ أَحْسَنُ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن
تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
وقوله - تبارك وتعالى -: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ...}
ج4.
كتاب
: معانى القرآن للفراء
المؤلف : أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء
تضيف
(كلّ) إلى (مَا) وهى قراءة العامّة. وقد قرأ بعضهم (وَآتَاكُم مِّن كُلٍّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) وكأنهم ذهبوا إلى أنا لم نسأل الله
عَزَّ وَجل شمساً ولا قمراً ولا كثيراً من نِعمَه، فقال: وآتاكم من كلٍّ مالم
تسألو فيكون (ما) جحداً. والوجه الأوّل أعجب إلىّ؛ لأن المعنى - والله أعلم -
آتاكم من كلِّ ما سَألتموه لو سألتموه، كأنك قلت: وآتاكم كل سُؤْلكم، أَلا ترى
أَنك تقول للرجل لم يسأل شيئاً: والله لأُعطينَّك سُؤْلكَ: ما بلغته مسألتك وإن لم
تسأل.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا
الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ }
وقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ
الأَصْنَامَ...}
أَهل الحجاز يقولون: جَنَبنى، وهى خفيفة. وأَهل نجد
يقولون: أَجنبنى شرَّه وجنَّبنى شرَّه. فلو قرأَ قارىء: (وَأَجْنِبْنِى وَبَنِىَّ)
لأصاب ولم أَسمعه من قارىء.
{ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
}
وقوله: {إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي...}
وقال {إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} ولم يأت منهم بشىء يقع
عَليه الفعل. وهو جائز: أن تقول: قد أصَبنا من بنى فلان، وقتلنا من بنى فلان وإن لم تقل: رجَالا، لأن
(مِن) تؤدّى عن بَعض القوم كقولك: قد أصبنا من الطعام وشربنا من الماء. ومثله
{أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ}.
وقوله
{تَهْوِي إِلَيْهِمْ} يقول: اجعل أفئدة من الناس تريدهم؛ كقولك: رأيت فلانا يهوِى
نحوك أى يريدك. وقرأ بعض القرّاء (تَهْوَى إلَيْهِمْ) بنصب الواو، وبمعنى
تهواهم كما قال {رَدِفَ لَكُمْ}
يريد ردفكم، وكما قالوا: نَقدت لها مائة أى نَقدتها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ }
وقوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ...}
رفعت الطرف بيرتد واستأنفت الأفئدة فرفعتها بهواء؛ كما
قال فى آل عمران {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فىِ
العِلْم} استأنفتهم فرفعتهم بيقولون لا بيعلم.
{ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ
دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ
مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ }
وقوله: {يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ...}
رَفْع تابع ليأتيهم وليسَ بجواب للأمر ولو كان جوابا
لجاز نصبه ورفعه، كما قال الشاعر:
يَا ناق سيرى عَنَقاً فسيحا * إلى سُليمان فنَستريحَا
والرفع على الاستئناف. والائتناف بالفاء فى جواب الأمر
حسن، وكان شيخ لنا يقال له: العلاء بن سَيابة - وهو الذى علم مُعَاذا الهَرَّاء
وأصْحابه - يقول: لا أنصب بالفاء جَوَابا للأمر.
{ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ
الأَمْثَالَ }
وقوله: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ...}
وأصْحاب عبدالله: {ونُبَيِّنْ لَكُمْ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَقَدْ
مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
وقوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبَالُ...}
فأكثر القراء عَلَى كسر اللام ونصب الفعل من قوله
{لِتَزُولَ} يريدون: ما كانت الجبالُ لتزول من مكرهم. وقرأ عبدالله بن مسعود
(وَمَا كان مكرُهم لتزول منه الجبال) حدّثنا محمد قال
حدثنا الفراء يقال له غالب بن نجيح - وكان ثقة ورعاً -
أن عَليّا كان يقرأ: (وإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْه) بنصب اللام الأولى ورفع الثانية. فمن
قرأ: (وإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْه) فعلى معنى قراءة علىّ أى مكروا
مكراً عظيماً كادت الجبالُ تزول منه.
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
}
وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ...}
أضفت (مُخْلف) إلى الوعد ونصبت الرسل على التأويل. وإذا كان الفعل
يقع على شيئين مختلفين مثل كسوتك الثوب وأدخلتك الدار فابدأ بإضافة الفعل إلى
الرجل فتقول: هو كاسى عَبدِالله ثوباً، ومُدخلُه الدار. ويجوز: هو كاسى الثوب عبدَالله
ومدخل الدار زيداً، جاز ذلك لأن الفعل قد يأخذ الدار كأخذه عَبدالله فتقول: أدخلت
الدار وكسوت الثوب. ومثله قول الشاعر:
ترى الثور فيها مُدخلَ الظلِّ رأسَه * وَسائره بادٍ إلى
الشمس أجمعُ
فأضاف (مُدْخل) إلى (الظل) وكان الوجه أن يضيف (مدخل)
إلى (الرأس) ومثله:
رُبّ ابن عمَّ لسُلَيمى مشمعلّْ * طبَّاخ سَاعاتِ الكرى
زاد الكسِلْ
ومثله:
فرِشْنى بخير لا أكونَنْ ومِدْحتى * كناحت يوم صخرةً
بعَسِيل
وقال آخر:
* يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار *
فأضاف سَارقا إلى الليلة ونصب (أهل الدار) وكان بعض
النحويّين ينصب (الليلة) ويخفض (أهل) فيقول: يا سَارق الليلةَ أهلِ الدار.
* وكناحت يوماً صخرةٍ *
وليس
ذلك حسناً فى الفعل ولو كان اسْماً لكان الذى قالوا أَجْوز. كقولكَ: أنت صَاحبُ
اليومَ ألفِ دينار، لأن الصَّاحب إنما يأخذ واحداً ولا يأخذ الشيئين، والفِعل قد
ينصب الشيئين، ولكن إذا اعترضت صفة بين خافض وما خَفَض جاز إضافته؛ مثل قولك: هذا
ضاربُ فى الدار أخِيه، ولا يجوز إلاّ فى الشعر، مثل قوله:
تروَّحَ فى عِمِّيَّةٍ وأَغاثه * عَلَى الماء قوم
بالهراوات هُوجُ
مؤخِّر عن أنيابه جلدِ رأسه * لهنّ كأشباه الزِّجَاج
خُرُوج
وقال الآخر:
وكرَّار دونَ المجْحَرِين جَوادِه * إذا لم يُحَام دُون
أنثى حَليلُهَا
وزعم الكسائى أنهم يؤثرون النصب إذا حالوا بين الفعل المضاف
بصفة فيقولون: هُوَ ضارِبُ فىغير شىء أخاه، يتوهَّمُون إذا حالوا بينهما أنهم
نوَّنوا. وليسَ قول من قال (مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِه) ولا {زُيِّنَ لِكَثِيرٍ
مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلاَدَهُمْ شُرَكائِهمْ} بشىء، وقد فُسّر ذلك. ونحويُّو أهلِ
المدينة ينشدون قوله:
فَزَجَجْتُها مُتمَكِّناً * زَجَّ القَلوصَ أبى
مَزَادَهْ
قال الفراء: باطل والصواب:
* زَجَّ القَلوصِ أبُو مَزَادَهْ *
{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ
النَّارُ }
قوله: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ...}
عامَّة القراء مجمعون على أن القطِران حرف واحد مثل
الظَّرِبان. حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال: وحدَّثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى
صَالح أن ابن عَباس فسّرها {مِنْ قِطْرآنٍ}: قد انتهى حَرّه، قرأها ابن عبَّاس
كذلك. قال أبو زكريّا، وهو من قوله: {قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الحجر )
{ رُّبَمَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ }
قوله عزّ وجلّ: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ...}
يقال: كيف دخلت (رب) على فعل لم يكن؛ لأن
مودّة الذين كفروا إنما تكون فى الآخرة؟ فيقال: إن القرآن نزل وعدُه ووعيده وما
كَان فيه، حَقّا فإنه عِيان، فجرى الكلامُ فيما لم يكن منه كمجراه فى الكائن. ألا
ترى قوله عز وَجل: {وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا} كأنه مَاض وهو منتظر لصدقه فى المَعْنى، وأن
القائل يقول إذا نَهَى أو أَمَر فعصَاه المأمور: أمَا والله لرُبِّ ندامة لك
تَذكُر قولى فيها، لعلمه أنه سيندم ويقول: فقول الله عَز وجل أصْدق من قول
المخلوقين.
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ
مَّعْلُومٌ }
وقوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا
كِتَابٌ مَّعْلُومٌ...}
لو لم يكن فيه الواو كان صَوابا كما قال فى موضع آخر:
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَهَا مُنْذِرُونَ} وهو كما تقول فى
الكلام: مَا رأيت أحداً إلاّ وعليه ثياب وإن شئت: إلاّ عليه ثياب. وكذلك كل اسم نكِرة
جاء خبره بعد إلاّ، والكلام في النكرة تامّ فافعل ذلك بصلتها بعد إلاّ. فإن كان الذى
وقع عَلَى النكرة ناقِصاً فلا يكون إلاّ بطرح الواو. ومن ذلك، ما أظن درهماً إلاّ
كافيَك ولا يجوز إلا وهو كافيك، لأن الظنّ يحتاج إلى شيئين، فلا تعترضُ بالواو
فيصيرَ الظنّ كالمكتفى من الأفعال باسم واحدٍ. وكذلك أخوات ظننت وكان وَأشباهُها
وإنّ وأخواتها (وإنّ) إذا جاء الفعل بعد (إلاّ) لم يكن فيه الواو. فخطأ أن تقول: إن
رجلاً وهو قائم، أو أظنّ رجلا وهو قائم، أو ما كان رجل إلاّ وهو قائم.
ويجوز فى ليس خاصة أن تقول: لَيس أحد إلاّ وَهو هكذا،
لأن الكلام قد يُتوهّم تمامه بليس وبحرفٍ نكرة ألا ترى أنك تقول: ليس أحد، ومَا من
أحدٍ فجاز ذلك فيها ولم يَجُز فى أَظنّ، ألا ترى أنك لا تقول مَا أظنّ أَحداً.
وقال الشاعر:
إِذا
ما سُتورُ البيت أُرخِين لم يكن * سراج لنا إلاّ وَوَجهُك أنور
فلو قيل: إلاّ وجهك أنور كان صواباً.
وقال آخر:
وما مَسّ كفّى من يد طاب ريحها * منَ الناس إلاّ ريحُ
كفَّيك أطيب
فجاء بالواو وبغير الواو. ومثله قوله: {وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِين إلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعام}
فهذا الموضع لو كان فيه الواوصَلح ذلك. وإذا أدخلت فى (كَان) جَحْداً صلح ما بعد
(إلاّ) فيها بالواو وَبغير الواو. وإذا أدخلت الاستفهام وأَنت تنوى به الجحد صلح
فيها بعد (إلاّ) الواو وطرح الواو. كقولك: وهَل كان أحد إلاّ وَله حرص عَلَى الدنيا،
وإلاّ له حرص عَلَى الدنيا.
فأمَّا أَصْبَحَ وَأَمْسى وَرأيت فإنّ الواو فيهنّ
أَسهل، لأنهن / ا توامّ (يعنى تامّات) فى حال، وكَان وليسَ وأظن بُنينَ عَلَى
النقص. ويجوز أن تقول: ليس أَحد
إلاّ وله معاش: وإن أَلقيت الواو فصواب، لأنك تقول:
ليس أحد فتقف فيكون كلاماً. وكذلك لافى التيرئة وغيرها. تقول: لاَ رجلَ ولا مِن
رجل يجوز فيما يعود بذكره بعد إلاّ الواوُ وغير الواو فى التمام ولا يجوز ذلك فى
أَظنّ من قبلَ أن الظنّ خِلْقته الإلغاء: ألا ترى أنك تقول: زيد قائم أَظنّ، فدخول
(أَظن) للشك فكأنه مستغنىً عنه، وليس بنفى ولا يكون عن النفى مستغنياً لأنك إنما
تخبر بالخبر على أنه كَائن أو غير كَائن، فلا يقال للجحد: إنه فَضل من الكلام كما
يقال للظنّ.
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا
يَسْتَأْخِرُونَ }
وقوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا
يَسْتَأْخِرُونَ...}
ولم يقل (تستأخر) لأن الأُمَّة لفظها لفظٌ مؤنَّثٌ،
فأُخرج أَوَّل الكلام عَلَى تأنيثها، وَآخِره عَلَى مَعْنى الرجال. ومثلها
{كلَّمَا جَاءَ أُمةً رَسُولُهَا كذَّبُوهُ} وَلو قيل: كذّبته كَان صَوابا وَهو
كثير.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ لَّوْ
مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
وَقوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا...}
وَلولا وَلوما لغتان فى الخبر وَالاستفهام فأمّا الخبر
فقوله {لَوْلا أَنتَمْ لكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
وقال الشاعر:
* لوما هوَى عِرْسِ كُمَيت لم أُبَل *
وهما ترفعان ما بعدهما.
وَأَما الاستفهام فقوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا
بِالْمَلائِكَةِ} وَقوله {لَوْلا أَخَّرْتَنىِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} والمعنى -
والله أعلم -: هلاّ أَخَّرتنى.
وقد استعملت العرب (لولا) فى الخبر وكَثُر بها الكلام
حتى اسْتجازوا أن يقولوا: لولاك ولولاى، والمعنى فيهمَا كالمعنى فى قولك: لولا أنا
ولولا أنت فقد توضع الكاف عَلَى أَنها خفض والرفع فيها الصَّواب. وذلك أنا لم نجد
فيها حرفاً ظاهراً خُفِض، فلو كان ممَّا يَخفض لأوشكت أن ترى ذلك فى الشعر؛ فإنه
الذى يأتى بالمستجاز: وإنما دعاهم إلى أن يقولوا: لولاك فى موضع الرفع لأنهم يجدون
المكنّى يستوى لفظه فى الخفض والنصب، فيقال: ضربتك ومررت بك ويجدونه يستوى أيضاً فى
الرفع والنصب والخفض، فيقال ضر بَناَ ومرَّ بنا، فيكون الخفض والنصب بالنون ثم
يقال قمنا ففعلنا فيكون الرفع بالنون. فلَّما كان ذلك اسْتجازوا أَن يكون الكاف فى
موضع (أنت) رفعاً إذْ كان إعراب المكنّى بالدلالات لا بالحركات.
قال الشاعر:
أيطمع فينا مَن أراقَ دماءنَا * ولولاكَ لم يعرض
لأحسابنا حَسَمْ
وقال آخر:
ومنزلةٍ لولاَىَ طِحْتَ كَمَا هَوَىَ * بأجرامِهِ مِنْ
قُلَّة النِّيق مُنْهَوِى
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ }
وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ...}
يقال:
إن الهاء التى فى (له) يراد بها القرآن (حَافِظُونَ) أى
راعون: ويقال: إن الهاء لمحمد صَلى الله عليه وسلم: وإنا لمحّمد لحافظون.
{ كَذَلِكَ
نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
}
وقوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ...}
الهاء فى (نَسْلكه) للتكذيب أى كذلك نسلك التكذيب. يقول:
{نجعله فى قلوبهم ألاَّ يؤمنوا}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ
فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ }
وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ
السَّمَاءِ فَظَلُّواْ...}
يعنى الملائكة فظلَّت تصعد من ذلك الباب وتنزل
{لَقَالُوا إنما سُكِّرت أبصارنا} ويقال {سُكِرَت} ومعناهما متقارِب. فأما سُكِّرت
فحُبست، العرب: تقول: قد سَكَرت الريحُ إذا سَكَنَت وركدتْ. ويقال : أُغشيت،
فالِغشاء والحيس قريب من السَّوَاء.
{ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ
مُّبِينٌ }
وقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ...}
يقول: لا يخطفه، إمَّا قَتَله وإمَّا خبَّله.
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ }
وقوله: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا...}
أى دَحَوناهَا وهو البَسْط {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أى فى الجبال {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}
يقول: من الذهب والفضَّة والرَّصَاص والنحاس والحديد فذلك الموزون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ
لَهُ بِرَازِقِينَ }
وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...}
أراد الأرض {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} فمن فى
موضع نصب يقول: جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء.
قد جاء
أنهم الوحوش والبهائم و (مَن) لا يُفرد بها البهائم ولا ما سوى الناس. فإن يَكن ذلك على ما رُوى فَنُرى أنهم
أُدخل فيهم المماليك، عَلَى أَنا ملَّكناكم العبيد والإبل والغنم وما أشبه ذلك.
فجازَ ذلك.
وقد يقال: إن (مَن) فى موضع خفض يراد: جعلنا لكم فيها
معايش ولمن. وما أقلَّ ما ترد العرب مخفوضاً على مخفوض قد كُنِى عنه. وقد قال
الشاعر:
تُعلَّق فى مثل السوارى سُيُوفُنا * وما بينها والكَعْبِ
غَوْط نفانف
فردّ الكعب عَلَى (بينها) وقال آخر:
هلاَّ سألت بذى الجماجم عنهم * وأبى نُعَيم ذى اللِّواء
المُحرْق
فردّ (أبى نعيم) على الهاء فى (عنهم).
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ
السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }
وقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ...}
وتقرأ (الريح) قرأها حمزة. فمن قال الرِّيحَ لواقِحَ فجمع اللواقح
والريحُ واحدة لأن الريح فى معنى جمع؛ ألا ترى أَنك تقول: جاءت الريح من كلّ مكان،
فقيل: لواقح لذلك. كما قبل: تركته فى أرضٍ أغفال وسَبَاسب (قال الفراء: أغفال: لا علم فيها)
ومهارق وثوب أخلاق. ومنه قول الشاعر:
جاء الشتاءُ وَقميصى أخلاقْ * شراذِمٌ يَضحك مِنه
التَّواقْ
وأمّا من قال (الرياحَ لواقَح) فهو بَيّن. ولكن يقال:
إنما الريح مُلَقِحة تُلْقِح الشجر.
فكيف قيل: لواقح؟ ففى ذلك معنيان أحدهما أن تجعل الريح
هى التى تَلْقَح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللَّقَاح، فيقال: ريح
لاقح. كما يقال: ناقه لاقح. ويشهد على ذلك أنَّه وصف ريح العذاب فقال: {عَلَيْهِمُ
الريحَ العَقِيم} فجعلها عقيماً إذْ لم تَلْقَح. والوجه الآخر أن يكون وصفها باللَّقْح
وإن كانت تُلقِح كما قيل: ليل نائم والنوم فيه، وسرّ كاتم وكما قيل:
* الناطق المبروز والمختوم *
فجعله
مبروزا عَلَى غير فعل، أى إن ذلك من صفاته فجاز مفعول لمُفْعَل، كما جاز فاعِل
لمفعول إذ لم يردَّ البناء على الفعل.
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
}
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ...}
وذلك أن النبىَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: إن الله
وملائكته يصلّون على الصفوف الأُوَل فى الصّلاة، فابتدرها الناس وأراد بعض
المسلمين أن يبيع داره النائية ليدنو من المسجد فيدركَ الصفَ الأوّل؛ فأنزل الله -
عزَّ وجلّ - {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمين مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمنَا المُسْتَأخِرين}
فإنَّا نجزيهم عَلَى نيّاتهم فقَرَّ الناسُ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ
حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }
قوله: {مِن صَلْصَالٍ...}
ويقال:
إن الصلصال طين حُرّ خُلِط برمل فصار يصلصل كالفَخَّار
والمسْنون: المتغيّر والله أعلم أخذ من سنَنْت الحَجَر على الحجر، والذى يخرج مما بينهما
يقال له: السَّنين.
{ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ
السَّمُومِ }
وقوله:{مِن نَّارِ السَّمُومِ...}
يقال:
إنها نار دونها الحِجَاب. قال حدثنا محمد قال حدثنا
الفراء قال حدثنى حِبّان عن رجل عن الحسن قال: خلق الله عزَّ وجلَّ - الجانّ أبا
الجنّ من نار السّموم وهى نار دونها الحجاب {وهذا الصوت الذى تسمعونه عند الصواعق
من انعطاط الحجاب}.
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }
وقوله: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ...}
سجود تحيَّة وطاعة لا لربوبيّة وهو مثل قوله فى يوسف
{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ إِلاَّ
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
}
وقوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ...}
ويقرأ {المُخْلِصِينَ} فَمن كسر اللام جعل الفعل لهم كقوله تبارك
وتعالى {وأَخْلَصُوا دِينَهُمْ} ومن فتح فالله أخلصهم كقوله: {إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}
{ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ }
وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ...}
يقول:
مرجعهم إلىّ فأجازيهم. وهو كقوله تبارك وتعالى {إنَّ
رَبَّك لَبِالمِرْصَاد} فى الفجر. فيجوز فى مثله من الكلام أن تقول لمن أوعدته: طريقك علىَّ وأنا
عَلَى طريقك: ألا ترى أنه قال {إنَّ رَبَّكَ لبِالمرصَادِ} فهذا كقولك: أنا عَلى
طريقك. {وصِرَاطٌ عَلَيَّ} أى هذا طريق علىَّ وطريقُك عَلىَّ. وقرأ بعضهم (هَذَا
صِرَاطٌ عَلِىٌّ) رَفْع يجعله نعتا للصراط؛ كقولك: صراط مرتفِع مستقيم.
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ
جُزْءٌ مَّقْسُومٌ }
وقوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ
مِّنْهُمْ...}
يعنى:
من الكفّار {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} يقول: نصيب معروف.
والسّبعَة الأبوابِ أطبَاقٌ بعضَها فوق بعضٍ. فأسفلها الهاوية، وأعلاهَا جهنّم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ
الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
}
وقوله: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ
الْكِبَرُ...}
لر لم يكن فيها (على) لكان صواباً أيضاً. ومثله {حَقِيقٌ
عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ}. وفى قراءة عبدالله (حَقِيقٌ بِأَنْ لاَ أَقُولَ) ومثله
فى الكلام أتيتك أنك تعطى فلم أجدك تعطى، تريد: أتيتكَ على أَنك تعطى فلا أراك
كذلك.
وقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} النون منصوبة؛
لأنه فعل لهم لم يذكر مفعول. وهو جائز فى الكلام. وقد كَسَر أهل المدينة يريدون أن
يجعلو النون مفعولا بها. وكأنهم شدّدوا النون فقالوا {فبمَ تُبَشِّرُونِّ قَالُوا} ثم
خفّفوها والنِّيَّة على تثقيلها كقول عمرو بن معدى كرب:
رأته كالثُّغَام يُعَلُّ مِسْكاً * يسوء الفالياتِ إذا
فَلَيْنِى
فأُقسم لو جعلتُ عَلىَّ نَذْراً * بطعنةِ فارس لقضَيتُ
دَيْنِى
وقد خففت العرب النون من أنّ الناصبة ثم أنفذوا لها
نصبها، وهى أشدّ من ذا. قال الشاعر:
فلو أَنْكِ فى يوم الرخاء سألتنِى * فراقَكِ لم أبخل
وأنت صديق
فما رُدَّ تزويج عَليه شهادة * وما رُدَّ من بعد
الحَرَار عَتِيقُ
وقال آخر:
لقد علم الضَّيفُ والمُرْمِلونَ * إذا اغبرَّ أُفْقٌ
وهبَّت شَمَالا
بأنْك الربيعُ وغيث مَرِيع * وقدْماً هناك تكون
الثِّمَالا
{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ
هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
}
وقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ
دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ...}
أنَّ مفتوحة عَلى أن تردّ عَلَى الأمر فتكون فى موضع نصب
بوقع القضاء عليها. وتكون نَصْباً آخر بسقوط الخافض منها أى قضينا ذلك الأمر بهذا.
وهى فى قراءة عبدالله (وَقُلْنَا إنّ دابِرَ) فعلى هذا لو قرئ بالكسر لكان وجهاً. وأما
{مُّصْبِحِينَ} إذا أصبحوا، ومُشْرقين إذا أشرقُوا. وذلك إذا شرقت الشمس. والدابر:
الأصل. شرقت: طلعت، وأشرقت: أضاءت.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ...}
يقال: للمتفكرين. ويقال للناظرين المتفرسين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ }
قوله: {الأَيْكَةِ...}
قرأها
الأعمش وعَصم والحسن البصرىّ: {الأَيْكَةِ} بالهمز فى كل القرآن. وقرأها أهل
المدينة كذلك إلا فى الشعراء وفى ص فإنهم جَعلوها بغير ألف ولام ولم يجُروها. ونرى
- والله أعلم - أنها كتبت فى هذين الموضعين على ترك الهمز فَسقطت الألِف لتحرك
اللام. فينبغى أن تكون القراءة فيها بالألف واللام لأنها موضع واحد فى قول
الفريقين، والأَيكة: الغَيْضة.
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ
مُّبِينٍ }
وقوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ...}
يقول: بطريق لهم يمرون عليها فى أسفارهم. فجعل الطريق
إماما لأَنه يُؤَمّ ويتَّبع.
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً
آمِنِينَ }
وقوله: {يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ...}
أن تخِرَّ عليهم. ويقال: آمنين للموت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي...}
يعنى فاتحة الكتاب وهى سبع آيات فى قول أهل المدينة وأهل
العرق. أهلُ المدينة يعدون {أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ} آية. حدّثنا محمد قال حدثنا
الفراء قال: وحدثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال: بسم الله الرّحمن
الرّحيم آية من الحمد. وكان حمزة يعُدّها آية وآتَيْنَاكَ (القُرآنَ العَظيم).
{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ
أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
}
وقوله: {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ...}
{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ...}
يقول: أنذرتكم ما أُنزل بالمقتسِمين.
والمقتسِمون رجال من أهل مكَّة بعثهم أهل مكَّة على عِقَابَها أَيَّام الحجّ
فقالوا: إذا سألكم الناس عن النبىّ صَلى الله عليه وسلم فقولوا: كاهن. وقالوا
لبعضهم قولوا: ساحر، ولبعضهم: يفرق بين الإثنين ولبعضهم قولوا: مجنون، فأنزل الله
تبارك وتعالى بهم خِزْياً فماتوا أو خمسةٌ منهم شرَّ مِيتة فسمّوا المقتسمين لأنهم
اقتسموا طُرُق مكَّة.
{ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ }
وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ...}
يقول:
فَرَّقوه إذ جعلوه سِحراً وكذباً وأساطيرَ الأولين. والعِضُونَ
فى كلام العرب: السحر بعينه. ويقال: عضَّوه أى فَرَّقوه كما تُعضَّى الشاة والجَزُور.
وواحدة العِضِين عِضَة رفعها عِضُون ونصبها وخفضها عِضِين. ومن العرب من يجعلهَا
بالياء على كل حال ويعرب نونها فيقول: عِضِينُك، ومررت بعضِينِك وسنينك وهى كثيرة
فى أَسَد وتميم. وعامر. أنشدنى بعض بنى عامر:
ذرانىَ من نَجْدٍ فإن سِنِينَه * لِعبن بنا شِيبا
وشيَّبْننا مُرْدا
متى نَنج حَبْواً من سنينٍ ملحَّةٍ * نُشمِّر لأُخرى
تُنزِلُ الأعصم الفَرْدا
وأنشد فى بعض بنى أَسَد:
* مثل المَقَالِى ضُربت قُلينُها *
من القُلَة وهى لُعْبة للصبيان، وبعضهم:
* إلى بُرين الصُفْر المَلْوِيات *
وواحد البُرِينِ بُرة. ومثل ذلك الثُّبين وعِزِينٌ يجوز
فيه ما جاز فى العِضِين والسنين.
وإنما
جاز ذلك فى هذا المنْقوص الذى كان على ثلاثة أحرف فنُقصت لامه، فلمَّا جمعوه
بالنون توهّموا انه فُعول إذا جَاءت الواو وهى واوُ جماعٍ، فوقعت فى موضع الناقص،
فتوهّموا أَنها الواو الأصلية وأَن الحرف على فُعُول؛ أَلا ترى أَنهم لا يقولون
ذلك فى الصالحين والمسلمين وما أَشبهه. وكذلك قولهم الثبات واللغات، وربما عرَّبوا
التاء منها بالنصب والخفض وهى تاء جماع ينبغى أَن تكون خفضا فى النصب والخفض،
فيتوهَّمون أَنها هَاء، وأَن الألف قبلها من الفعل. وأَنشدنى بعضهم:
إذا ما جَلاَهَا بالأُيَام تحيرت * ثُبَاتاً عليَها
ذُلّهَا واكتئابها
وقال أبو الجراح فى كلامه: ما من قوم إلا وقد سمعنا
لغاتَهم - قال قال الفراء: رجع أبو الجراح فى كلامه عن قول لغاتَهم - ولا يجوز ذلكَ فى
الصالحات والأخوات لأنها تامّة لم يُنقص من واحدها شىء، وما كان من حرف نُقِص من أوّله
مثل زِنة ولِدة ودِية فإنه لا يقاس على هذا لأن نقصه من أوّله لا من لامه فما كان
منه مؤنَّثا أو مذكَّرا فأجرِه على التامّ مثل الصالحين والصالحات تقُول رأيت
لداتِك ولِدِيك ولا تقل لِدِينَك ولا لداتَك إلا أن يغلط بها الشاعر فإنه ربما
شبّه الشىء بالشىء إذا خرج عن لفظه، كما لم يُجْرِ بعضهم أبو سمَّان والنون من
أصله من السمن لشبهه بلفظ رَيّان وشبهه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحجر )
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ }
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ...}
ولم يقل:
بَما تُؤْمر به - والله أعلم - أراد: فاصدع بالأمر. ولو كان مكان (ما) مَن أو ما مما يراد به البَهائم
لأدخلت بعدهَا الباء كما نقول: اذهب إلى من تؤمر به واركب ما تؤمر به، ولكنه فى
المعنى بمنزلة المصدر؛ ألا ترى أنك تقول: ما أحسن ما تنطلق لأنك تريد: ممَا أحسن
انطلاقك، وما أحسن ما تأمر إذا أَمَرتَ لأنك تريد مَا أحسن أمرك. ومثله قوله
{يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إنْ شَاءَ اللهُ} كأنه قيل له: افعل
الأمر الذى تؤمر.ولو أريد به إنسان أو غيره لجاز وإن لم يظهر الباء لأن العرب قد
تقول: إنى لآمرك وآمر بك وأكفرك وأكفر بك فى معنى واحد. ومثله كثير، منه قولهم:
إذا قالت حَذَامِ فأنصتُوها * فإنّ القول ما قالت حذامِ
يريد:
فانصتوا لها، وقال الله تبارك وتعالى (أَلاَ إنّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ) وهى فى موضع {يكفرون بالله} و (كفروا بربهم) واصدع: أظهر دينك.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( النحل )
{ أَتَى
أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ...}
حدثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال حدّثنى
عِمَاد بن الصَّلْت العُكْلىّ عن سَعيد بن مسروق أَبى سفيان عن الربيع بن خَيْثَم
أَنه قرأ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا تُشْرِكُون) الأُولى والتى بعدها كلتاهما بالتاء:
وتقرأ بالياء. فمن قال بالتاء فكأنه خاطبهم ومن قرأ بالياء فكأنَّ القرآن نَزَل
على محمد صَلَّى الله عليه وسلم ثم قال {سُبْحانَهُ} يعجِّبه من كفرهم وإشراكهم.
{ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ
عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ أَنَاْ
فَاتَّقُونِ }
وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ...}
بالياء،
و (تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ) بالتاء. وقراءة أصحاب عبدالله {يُنَزِّل الملائكة}
بالياء.
{ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
}
وقوله:{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ...}
نصبت (الأنعامَ) بخلقها لمَّا كانت فى الأنعام واو. كذلك كلّ فعل عاد
على اسم بِذكرِه، قبل الاسم واو أو فاء أو كلام يحتمل نُقْلة الفعل إلى ذلك الحرف الذى
قبل الاسم ففيه وجهان: الرفع والنصب. أمَّا النصب فأن تجعل الواو ظَرْفا للفعل.
والرفع أن تجعل الواو ظرفاً للاسم الذى هى معه. ومثله {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}
{والسَّمَاءَ بَنَينْاهَا بأَيْدٍ}
وهو كثير.
ومثله: {وكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ}
{وكُلَّ شىء أَحْصَيْنَاهُ}.
والوجه فى كلام العرب رفع كُلّ فى هذين الحرفين، كان فى
آخره راجع من الذكر أو لم يكن لأنه فى مذهب ما مِن شىء إلاّ قد أحصيناه فى إمَام
مبين والله أعلم. سمعت العرب تُنشد:
ما كلُّ مَنْ يظَّنُّنِى أَن مُعْتب * ولا كلُّ ما
يَرْوَى عَليَّ أقول
فلم يوقع على (كلّ) الآخرة (أقول) ولا على الأولى
(مُعتب). وأنشدنى بعضهم:
قد حَلِقت أَمُّ الخِيَار تَدَّعِى * علىَّ ذَنْبا كلُّه
لم أصْنِع
وقرأ علىَّ بعضُ العرب بسورة يس {وَكُلَّ شَيىءٍ
أَحْصَيْنَاهُ فى إِمَامٍ مُبِين} رفعاً قرأهَا غير مَرّة.
وأمَّا قوله: {وكلُّ شَىْءِ فَعَلُوهُ فى الزْبُر} فلا
يكون إلاّ رفعاً؛ لأن المعنى - والله أعلم - كلُّ فعلهم فى الزبر مكتوب، فهو مرفوع
بِقى وَ (فعلوه) صلة لشىء. ولو كانت (فى) صلة لفعلوه فى مثل هذا من الكلام جاز رفع كل
ونصبها؛ كما تقول: وكلّ رجل ضربوه فى الدار، فإن أردت ضَرَبوا كلّ رجل فى الدار
رفعت ونصبت. وإن أردت: وكلّ من ضربوه هو فى الدار رفعت.
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} وهو ما ينتفع
به من أوبارها. وكتبت بغير همز لأن الهمزة إذا سكن ما قبلها حذفت من الكتاب، وذلك
لخفاء الهمزة إذا سُكِت عليها، فلمّا سكن ما قبلها ولم يقدِروا عَلَى همزها فى
السكت كان سكوتهم كأنه على الفاء. وكذلك قوله: {يُخْرِجُ الخَبْء} و {النَشْأَةَ}
و {مِلْء الأَرْضِ} واعمل فى الهمز بما وجدت فى هذين الحرفين.
وإن كتبت الدِّفء فى الكلام بواو فى الرفع وياء فى الخفض
وألِف فى النصب كان صَوابا. وذلك على ترك الهمز وَنقل إعراب الهمزة إلى الحرف الذى
قبلها. من ذلك قول العرب. هؤلاء نَشْءٌ صِدْق، فإذا طَرحُوا الهمزة قالوا: هؤلاء نَشُو
صِدْق ورأيت نَشَا صِدْق ومررت بِنَشِى صدق. وأجود من ذلك حذف الواو والألف
والياء؛ لأن قولهم: يَسَل أكثر من يَسَال، ومَسَلة أكثر من مَسَالة وكذلك بين
المَرِ وزوجه إذا تركت الهمزة.
والمنافع: حملهم على ظهورها، وأولادُها وألبانها.
والدفء: ما يلبسون منها، ويبتنون من أوبارها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ }
وقوله: {حِينَ تُرِيحُونَ...}
أى حين تريحون إبلكم: تردّونها بين الرعى ومباركها يقال
لها المُرَاح. والسروح بالغداة (قال الفرّاء) إذا سعت للرعى.
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ
تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ }
وقوله: {بِشِقِّ الأَنفُسِ...}
أكثر
القُرّاء على كسر الشين ومعناها: إلا بجَهد الأنفس. وكأنه اسْم وكأن الشَّقّ
فِعْل؛ كمَا تُوهِّم أن الكُرْه الاسم وأن الكَرْه الفعل. وقد قرأ به بعضهم (إلاّ
بِشَقِّ الأَنْفُسِ) وقد يجوز فى قوله: {بِشِقِّ الأَنفُسِ} أن تذهب إلى أن الجَهد يَنقص من قوّة
الرجُل ونَفْسه حتى يجعله قد ذهَبَ بالنصف من قوّته، فتكون الكسرة على أنه كالنصف
والعرب تقول: خذ هذا الشِّقّ لشقّة الشاة ويقال: المال بينى وبينك شَقّ الشعرة
وشِقّ الشَعَرة وهما متقاربان، فإذا قالوا شققت عَليك شَقّا نصبوا ولم نسمع غيره.
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ...}
تنصبها بالردّ على خَلَق. وإن شئت جعلته منصوباً على
إضمار سَخّر: فيكون فى جواز إضماره مثل قوله: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهم غِشَاوَةً} مَن نصب فى البقرة نصب الغشاوة
بإضمار (وجعل) ولو رفعت {الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} كان صوابا من وجهين.
أحدهما أن تقول: لمّا لم يكن الفعل معها ظاهراً رفعته على الاستئناف. والآخر أن
يُتوهّم أن الرفع فى الأنعام قد كان يصلح فتردّها على ذلك كأنك قلت: والأنعام
خلقها، والخيلُ والبغالُ على الرفع.
وقوله عزّ وجلّ: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، ننصبها:
ونجعلها زينة على فعل مضمر، مثل {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} أى جَعَلناها. ولو لم يكن فى
الزينة ولا فى (وَحِفْظاً) واو لنصبتها بالفعل الذى قبلها لا بالإضمار. ومثله
أعطيتك درهماً ورغبة فى الأجر، المعنى أعطيتكه رغبة. فلو ألقيت الواو لم تحتج إلى ضَمير
لأنه متَّصل بالفعل الذى قبله.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ
وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
}
وقوله:
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ...}
يقال:
هداية الطُرُق. ويقال السبيل: الإسلام (وَمِنْهَا
جَائِرٌ)، يقال: الجائر اليهوديّة والنصرانيّة. يدلّ عَلى هذا أنَّه القول قولُه
{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ}.
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم
مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ }
وقوله: {تُسِيمُونَ...}
ترعون إبلكم.
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ
مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا
وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ }
وقوله: {مَوَاخِرَ فِيهِ...}
واحدها ماخِرة وهو صوت جَرْى الفُلْك بالرياح، وقد
مَخَرت تمْخَر وتمخَرُ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }
وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ...}
يقال: الجَدْى والفَرْقَدان.
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ }
وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ...}
جعل (مَن) لغير الناس لَمَّا ميَّزه فجعله مع الخالِق وصَلح، كما
قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ} والعرب تقول: اشتبه عَلىّ الراكبُ وحمله
فما أدرى مَن ذا مِن ذا، حيث جَمعَهما واحدهما إنسان صلحت (مَن) فيهما جميعاً.
{ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ }
وقوله: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ...}
رفعته
بالاستئناف. وإن شئت رددته إلى أنه خبر للذين فكأنه قال: والذين تدعونَ من دون
الله أمْوَات. الأموات فى غير هذا الموضع أَنها لا رُوح فيها يعنى الأصنام. ولو
كانت نصباً على قولك يُخْلَقون أمواتاً على القطع وعلى وقوع الفِعل أَىْ ويخلقون
أمواتاً ليسوا بأحياء.
وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} يقول:
هى أموات فكيْف تشعر متى تُبعث، يعنى الأصنام. ويقال للكفار: وما يشعرون أيّان. وقرأ
أبو عبدالرحمن السُّلَمىّ (إيَّانَ يُبْعَثُونَ) بكسر ألف (إيَّان) وهى لغة
لسُلَيم وقد سمعتُ بعض العرب يَقول: مَتى إيوان ذاك والكلام أوَان ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هاذِهِ الْدُّنْيَا
حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ
كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ }
وقوله: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ...}
{جَنَّاتُ عَدْنٍ...}
ترفع الجنات لأنه اسم لنعم كما تقول: نعم الدار دارٌ
تنزلها. وأن شئت جَعلت {وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ} مكتفياً بما قبله، ثم تستأنف
الجنات فيكون رفعها على الاستئناف. وإن شئت رفعتَها بما عَاد من ذكرهَا فى {يَدْخُلُونَهَا}.
{ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
وقوله: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ...}
قرأها
أَصْحاب عبدالله (يَهدِّى) يريدون: يهتدى مَنْ يُضلّ. والعرب تقول للرجل: قد هَدَّى الرجلُ يريدون: اهتدى. ومثله
{أَمْ مَنْ لاَ يَهِدِّى إلاَّ أَنْ يُهْدَى} حدثنا محمّد قال: حدّثنا الفراء قال
حدَّثنى الحسن بن عَيّاش أخو أبى بكر بن عَيّاش وقيس بن الربيع وغيرهما عن الأعمش
عن الشَّعبى عن عَلْقمة أنه قرأ (لا يَهْدِى مَنْ يُضِل) كذلك.
وقرأها أهل الحجاز (لا يُهْدَى من يُضلُّ) وهو وجه جيّد
لأنها فى قراءة أُبىّ (لا هادى لمن أضل الله) ومَنْ فى الوجهين جَميعاً فى موضع
رفع ومن قال {يُهْدَى} كانت رَفعاً إذ لم يُسمّ فاعلهَا ومن قال {لا يَهْدِى}
يريد: يَهتدى يكون الفعل لمَنْ.
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ
يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلاكِنَّ أَكْثَرَ
الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
قوله: {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً...}
بلى ليبعثنَّهم وعداً عليه حَقّاً. ولو كان رفعاً عَلَى
قوله: {بَلَى وَعْد عَلَيْهِ حَقٌّ} كان صواباً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن
نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
وقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ
أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ...}
القول مرفوع بقوله: (أَنْ نَقُولَ) كما تقول: إنما قولنا
الحقّ. وأمَّا قوله {فيَكُون} فهى منصوبة بالردّ عَلَى نقول. ومثلها التى فى يس
منصوبة، وقد رَفعها أكثر القراء. وكان الكسائىّ يردّ الرفع فى النحل ب. وفى يس وهو
جائز على أن تجعل {أَنْ تَقُولَ لَهُ} كلاماً تامّاً ثم تخبر بأنه سيكون، كما تقول
للرجل: إنّما يكفيه أن آمره ثم تقول: فيفعلُ بعد ذلك ما يؤمر.
{ وَالَّذِينَ
هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مَا ظُلِمُواْ...}
ذُكِرَ أَنها نزلت فى عَمَّار وصُهَيب وبِلاَل ونظرائِهم
الذين عُذِّبوا بمكّة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: نزولَ المدينة، ولنحَلِّلَنَّ
لهم الغنيمة. و (الذين) موضعها رفع.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً
نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ *
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً...}
ثم قال {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ...}
بعد إِلاَّ وَصِلَةُ ما قَبِل إِلاَّ لا تتأخّر بعد
إلاَّ. وذلك جائِز عَلَى كلامين. فمن ذلك أن تقول: ما ضرب زَيْداً إلاَّ أخوكَ،
وما مَرّ بزيد إلاّ أخوك. (فإن قلت مَا ضرب [سقط فى ا] إلاّ أخوك زيداً أو ما مرّ
إلا أخوك بزيد) فإنه على كلامين تريد مَا مَرّ إلا أخوك ثم تقول: مَرّ بزيد. ومثله
قولُ الأعشى:
وليس مُجيراً إن أتى الحىَّ خائف * ولا قائِلاً إلا هو
المتَعَيَّبَا
فلو كان على كلمة واحدة كان خطأ؛ لأن المتعيّب من صلة
القائِل فأخّره ونوى كلامين فجاز ذلك. وقال الآخر:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنار جارتهُمْ * وهل يعِّذب
إلاّ اللهُ بالنارِ
ورأيت الكسائىّ يجعل (إِلاّ) مع الجحد والاستفهام بمنزلة
غير فينصب ما أشبه هذا على كلمة واحدة، واحتجّ بقول الشاعر:
فلم يَدْر إِلاّ اللهُ ما هيَّجت لَنَا * أَهِلَّةُ
أنآءِ الديار وشامُهَا
ولا حجَّة
له فى ذلك لأنّ (ما) فى موضع أىّ فلها فعل مضمر عَلَى كلامين. ولكنه حَسُن قوله،
يقول الله عزّ وجل {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا} فقال: لا
أجد المعنى إلاّ لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، واحتجَّ بقول الشاعر:
أبنى لُبَيْنَى لَسْتُم بيدٍ * إلاّ يدٍ ليست لها عضد
فقال لو كان المعنى إِلاَّ كان الكلام فاسداً فى هذا؛
لأنى لا أقدر فى هذا البيت على إعادة خافض بضمير وقد ذهب هَا هنا مذهباً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ...}
جاء التفسير بأنه التنقّص. والعرب تقول: تحوَّفته
بالحاء: تنقّصته من حَافاته. فهذا الذى سَمعت. وقد أتى التفسير بالخَاء و (هو معنى). ومثله
ممَّا قرئ بوجهين قوله {إنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} و (سَبْخاً) بالحاء والخاء.
والسَّبخ: السعة. وسَمعت العرب تقول: سَبِّخى صُوفك وهو شبيه بالندف، والسَّبح نحو
من ذلك، وكلّ صَواب بحمد الله.
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن
شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ
وَهُمْ دَاخِرُونَ }
وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ...}
الظِّلّ يرجع على كلّ شىء من جوانبه، فذلك تفيّؤه. ثم
فَسَّر فقال: {عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} فوحّد اليمين وجمع الشمائل. وكل
ذلك جائز فى العربيّة. قال الشاعر:
بِفِى الشامتين الصخر إن كان هدّنى * رَزِيّة شِبْلَىْ
مُخْدر فى الضراغم
ولم يقل: بأفواه الشامتين. وقال الآخر:
الواردون وثَيْم فى ذُرَاسَبَأ * قد عضَّ أعناقَهم جلدُ
الجواميس
وقال الآخر/:
فباست بنى عَبْس وأسْتَاه طيّء * وباست بنى دُودان حَاشا
بنى نَصْرِ
فجمع وَوَحَّد. وقال الآخر:
كلوا
فى نصف بطنكم تعيشوا * فإنَّ زمانكم زَمَنٌ خميصُ
فجاء التوحيد لأن أكثر الكلام يواجَه به الواحد، فيقال:
خذ عن يمينك وعن شِمالك لأن المكلَّم واحد والمتكلّم كذلك، فكأنه إِذا وَحّد ذهب
إِلى واحد من القوم، وإذا جَمَع فهو الذى لا مسألة فيه. وكذلك قوله:
بنى عُقَيل ماذِهِ الخنافِقُ * المالُ هَدْىٌ والنساء
طالق
* وجبل يأوى إليه السارق *
فقال:
طالق لأن أكثر ما يجرى الاستحلاف بين الخصم والخصم، فجرى
فى الجمع عَلَى كثرة المُجرَى فى الأصْل. ومثله (بِفِى الشامتين) وأشباهه.
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }
وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ...}
فقال:
(مِن دابة) لأن (ما) وإن كانت قد تكون على مذهب (الذى)
فإنها غير مؤقّتة، وإِذا أُبهمت غير موقّتة أشبهت الجزاء. والجزاء تدْخل (مِن)
فيما جاء من اسم بعده من النكرة. فيقال: مَن ضربه من رجُل فاضربوه. ولا تسقط من فى
هذا الموضع. وهو كثير فى كتاب الله عزَّ وجلَّ. قال الله تبارك وتعالى {مَا أَصَابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ} وقال {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وقال {أَوَلم يَرَوْا إلى مَا خَلَقَ اللهُ
مِنْ شىء} ولم يقل فى شىء منه بطرح (مِنْ) كراهِيَة أن تُشبه أن تكون حالا لَمن
وَمَا، فجعلوه بمِن ليدلّ عَلَى أنه تفسير لما ومَن لأنهما غير مؤقّتتين، فكان
دخول (مِن) فيما بعدهما تفسيراً لمعْناهما، وكان دخول (مِن) أدلَّ عَلَى ما لم
يوقّت مِنْ مَن وما، فلذلك لم تُلْقَيَا. ومثله قول الشاعر:
حاز لك الله ما آتاك من حَسَنٍ * وَحيثما يقضِ أمراً
صَالحاً تكُنِ
وقال آخر.
عُمْرا حَييت ومَن يشناكَ من أحد * يَلْق الهوان ويلق
الذلّ والغِيَرا
فدلّ
مجىء أحدِهَا هنا على أنه لم يُرد أن يكون مَا جاء ن النكرات حَالا للأسماء التى
قبلها، ودلَّ عَلَى أنه مترجم عن معنى مَن ومَا. ومِمّا يدلُّ أيضاً قول الله عزَّ
وجلّ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَىءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} لأن الشىء لا يكون
حَالاً، ولكنه اسم مترجم. وإنما ذكرْت هذا لأن العرب تقول: لله دَرُّه مِن رجل، ثم
يُلقونَ (مِن) فيقولون لله دَرّه. رجلاً. فالرجل مترجم (لما قبله) وليس
بحال، إنّما الحال التى تَنتقل؛ مثل القيام والقعود، ولم تُرد لله دَرّه فى حال
رجوليَّته فقط، ولو أردت ذلك لم تمدحه كلّ المدح؛ لأنك إذا قلت: لله دَرّكَ
قائماً، فإنما تمدحه فى القيام وحده.
فإن قلت: فكَيف جَاز سقوط مِن فى هَذَا الموضع؟ قلت مِن
قِبَل أن الذى قبله مؤقت فلَمْ أُبَلْ أن يخرج بطرح من كالحال، وكان فى الجزاء غير
موقت فكرهُوا أن تفسَّر حَال عن اسْم غير موقّت فألزموها مِن. فإن قلت: ب قد قالت العرب:
ما أتانى مِن أحدٍ وما أَتانى أحد فاستجازوا إلقاء مِن. قلت: جاز ذلك إذْ لم يكن قَبْل أحد وما
أتى مثله شىء يكون الأَحد له حالا فلذلك قالوا: ما جاءنى من رجل وما جاءنى رجل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ
الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ }
وقوله: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً...}
معناه: دائماً. يقال: وَصَبَ يَصِبُ: دام. ويقال: خالصاً.
{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ
إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }
وقوله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ...}
(ما) فى معنى جزاء ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن
الله؛ لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم وإن لم يظهر فهو مضمر؛
كما قال الشاعر:
إنِ
العَقْلُ فى أموالنا لا نضِق به * ذِراعاً وإن صبراً فنَعْرِفُ للصبر
أراد:
إن يكن فأضمرها. ولو جعلت (ما بكم) فى معنى (الذى) جاز
وجعلت صلته (بِكُم) و (ما) حينئذ فى موضع رفع بقوله {فَمِنَ اللَّهِ} وأدخل الفاء
كما قال تبارك وتعالى {قُلْ إِنَّ المَوْتَ الذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنَّهُ مُلاَقِيكُم}
وكلّ اسم وصل، مثل مَن وما والذى فقد يجوز دخول الفاء فى خبره؛ لأنه مضارع للجزاء
والجزاءُ قد يجاب بالفاء. ولا يجوز أخوك فهو قائم؛ لأنه اسم غير موصول وكذلك مالُك
لى. فإن قلت: مالَك جاز أنت قول: فهو لى. وإن ألقيت الفاء فصواب. وما وردَ عليك
فقِسه على هذا. وكذلك النكرة الموصُولة. تقول: رجَل يقول الحقّ فهو أحَبُّ إلىَّ
مِن قائل الباطل. وإلقاء الفاء أجود فى كلّه من دخولها.
والجُؤار: الصوت الشديد. والثور يقال له: قد جأرَ
يَجْأَر جُؤارا إذا ارتفع صَوته من جوع أو غيره بالجيم. وكذلك {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ
وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ }
وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ...}
نَصْب لأنها مصدر، وفيها معنى من التعّوذ والتنزيه لله
عزّ وجلّ. فكأنها بمنزلة قوله {مَعَاذَ اللهِ} وبمنزلة {غَفْرَانَكَ رَبَنَا}.
وقوله: {لَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} (ما) فى
موضع رفع ولو كانت نصباً على: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون لكان ذلك صواباً. وإنما
اخترت الرفع لأن مثل ذا من الكلام يجعل مكان لهم لأنفسهم؛ أَلا ترى أنك تقول: قد
جعلتَ لنفسك كذا وكذا، ولا تقول: قد جَعلتَ لك. وكلّ فعل أو خافض ذكَرته من مَكنّى
عائد عليه مكنيّاً فاجعل مخفوضه الثانى بالنفس فتقول أنت لنفسك لا لغيرك، ثم تقول
فى المنصوب أنت قتلت نفسك وفى المرفوع أهلكتْكَ نفسُك ولا تقول أهْلَكْتَكَ. وإنما
أراد بإدخال النفس تفرِقة ما بين نفس المتكلّم وغيره. فإذا كان الفعل واقعاً من مكنّى على
مكنّى سواه لم تُدخل النفس. تقول غُلامك أهلك مالك ثم تكنى عن الغلام والمال
فتقول: هو أهلكه، ولا تقول: هو أهلك نفسه وأنت تريد المال، وقد تقوله العرب فى
ظننت وأَخواتها مِن رأيت وعلمت وحسبت فيقولون: أظنُّنى قائماً، ووجدتُنى صالحاً؛
لنقصانهما وحاجتهما إلى خبر سوى الاسم. وربما اضطُرّ الشاعر فقال: عدمتُنى وفقدتُنى
فهو جائز، وإن كان قليلا؛ قال الشاعر - وهو جِرَان العَوْد -:
لقد كان بى عن ضَرَّتين عدِمتُنى * وعمّا ألاقِي منهما
متَزحزَح
هى الغُول والسعلاة حَلْقى منهما * مُخَدَّشُ فوق
التراقى مكدَّح
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ
وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
}
وقوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً...}
ولو كان (ظلَّ وجههُ مُسْوَدٌ) لكان صواباً تجعل
الظُلُول للرجل ويكون الوجه ومسودّ فى موضع نصب كما قال {وَيَوْمَ القِيَامَةِ
تَرَىَ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} والظُلول إذا قلت [
ا] (مُسْوَدَّاً)
للوجه.
{ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ
أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا
يَحْكُمُونَ }
وقوله:
{أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ...}
الهُون فى لغة قريش: الهوان وبعض بنى تميم يجعل الهُون
مصدراً للشىءِ الهيّن. قال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: إن كنت لقليل هُون المؤونة
مُذُ اليوم. وقال:سمعت الهوان فى مثل هذا المعنى من بنى إنسان قال قال لبعير لهُ ما به
بأس غير هوانه، يقول: إنه هيّن خفيف الثمن. فإذا قالت العرب: أقبل فلان يمشى على
هَوْنه لم يقولوه إلاّ بفتح الهاء، كقوله {يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً} وهى
السِكينة والوقار. وحدثنا محّمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى شريك عن جابر عن
عِكْرَمة ومجاهد فى قوله {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْض هَوْنا} قالا: بالسكينة،
والوقار وقوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ} يقول: لا يدرى أيُّهما
يفعل: أيمسكه أم يدسّه فى التراب، يقول:
يدفنها أم يصبر عليها وعَلَى مكروهها وهى الموءودة، وهو
مَثَل ضربه الله تبارك وتعالى.
{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ
السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ
السَّوْءِ...}
ولو كان {مَثَلَ السَّوْءِ} نصباً لجازَ، فيكون فى
المعنى على قولك: ضَرَب للذين لا يؤمنون مثلَ السوء، كما كان فى قراءة أُبَىَّ
(وَضَرَبَ مَثَلاً كَلِمةً خَبِيثَةً) وقراءة العَوَامّ ها هنا وفى إبراهيم بالرفع
لم نسمع أحداً نَصَب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ
أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ
الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
}
وقوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنَى...}
أنَّ
فى موضع نصب لأنه عبارة عن الكذِب. ولو قيل: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكُذُبُ}
تجعل الكُذُب من صفة الألسنةَ واحدها كَذُوبٌ وكُذُب، مثل رَسُول ورُسُل، ومثله
قوله {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكُذُبُ} وبعضهم يخفض
(الكَذِبَ) يجعله مخفُوضاً باللام التى فى قوله (لِمَا) لأنه عبارة عن (ما) والنصب فيه
وجه الكلام، وبه قرأت العَوامّ.
ومعناه: ولا تقولوا لوصْفها الكذب.
وقوله {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} يقول: مَنْسيّون فى النار. والعرب
تقول: أفرطت منهم ناساً أى خَلّفتهم ونسِيتهم. وتقرأ {وَأَنَّهُمْ مُّفْرِطُونَ}
بكسر الراء، كانوا مُفْرِطين فى سوء العمل لأنفسهم فى الذنوب. وتقرأ {مُفرِّطُونَ}
كقوله {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله} يقول: فيما تركت
وضيَّعت.
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً
نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً
سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }
وقوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ...}
العرب تقول لكلّ مَا كان من بطون الأنعام ومنَ السَّماء
أو نهر يجرى لقوم: أسْقَيت. فإذا سقَاك الرَّجل ماء لشَفَتك قالوا: سقَاه. ولم
يقولوا: أسْقَاه؛ كما قال الله عَزّ وجّل {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}
وقال {وَالّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} وربما قالوا لما فى بطون الأنعام
ولماء السّماء سَقى وأسْقى، كما قال لَبِيد:
سَقَى قومى بنى مَجْد وأسقى * نُمَيرَا والقبائلَ من
هلال
رَعَوه مُربِعاً وتَصيّفوه * بلا وَبَأٍ سُمَىَّ ولا
وَبَالِ
وقد اختلف القُراء فقرأ بعضهم {نَسْقِيكم} وبعضهم
{نُسْقِيكم}.
وَأمَّا قوله {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} ولم يقل بطونها
فإنه قيل - والله أعلم - إن النَّعَمَ والأَنعام شىء واحد، وهما جمعان، فرجع
التذكير إلى معنى النَّعَم إذا كان يؤدى عن الأنعام أنشدنى بعضهم:
إذا
رأيتَ أنجما من الأَسد * جَبْهته أو الخرَاة والكَتَدْ
بال سُهَيل فى الفضِيح. ففسد * وطاب أَلْبانُ الِّلقَاح
وبَردْ
فرجع إلى اللبن لأن اللبن والألبان يكون فى معنَى واحد.
وقال الكسائى (نُسْقِيكم مِمَّا بُطُونِهِ): بطون ما ذكرناه، وهو صواب،
أنشدنى بعضهم:
* مثل الفراخ نَتَقَتْ حواصلهْ *
وقال الآخر:
* كذاك ابنةَ الأَعيار خافى بسالة الرجال وأصلال الرجال
أقاصرُهْ *
ولم يقل أقاصرهم. أصلال الرجال: الأقوياء منهم.
وقوله {سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} يقول: لا يشرَق باللبن
ولا يُغَصّ به.
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }
وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ...}
ألهمَها ولم يأتها رسول.
وقوله: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ
الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهى سقوف البيوت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ
شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
وقوله: {ذُلُلاً...}
نعت للسبل. يقال: سبيل ذَلُول وذُلُل للجمع ويقال: إن
الذُّلُل نعت للنحل أى ذُلِّلت لأن يخرج الشراب من بطونها.
وقوله {شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} يعنى العسل دواء ويقال {فِيهِ
شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} يراد بالهاء القرآن، فيه بيان الحلال والحرام:
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم
مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
}
وقوله: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ...}
يقول: لكيلا يعقل من بعد عقله الأوّل (شَيْئاً).
{ وَاللَّهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ
بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
}
وقوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي
رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ...}
فهذا مثل ضَرب الله للذين قالوا: إن عيسى ابنه تعالى
الله عَمّا يقول الظالمون علوّا كبيراً، فقال: أنتم لا تُشركون عبيدكم فيما ملكتم
فتكونون سواء فيه، فكيف جعلتم عبده شريكاً لهُ تبارك وتعالى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ
يَكْفُرُونَ }
وقوله: {وَحَفَدَةً...}
والحفَدة الأختان، وقالوا الأعوان. ولو قِيل: الحَفَد: كان صَواباً؛ لأن
واحدهم حَافد فيكون بمنزلة الغائب والغَيَب والقاعد والقَعَد.
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ
لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ }
وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً...}
نصبت (شيئاً) بوقوع الرزق عليه، كما قال تبارك وتعالى {أَلَمْ
نَجْعَل الأَرْضَ كَفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} أى تكفِت الأحياء والأمْوَات.
ومثله {أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة يَتِيماً} ولو كان الرزق مع الشىء
لجاز خفضه: لا يملك لهم رزقَ شىء من السموات. ومثله قراءة من قرأ {فَجَزَاءُ مِثْلِ
مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ}.
وقوله:
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} وقال فى أوَّل الكلام (يَمْلِكُ) وذلك أن (ما) فى مذهب جَمْع
لآلهتهم التى يعبدون، فوُحِّد (يَملك) على لفظ (ما) وتوحيدها، وجُمِع فى
(يستطيعون) على المعنى.
ومثله قوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وفى
موضع آخر {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُون إليك} ومثله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالحاً} و {يَعملْ صَالحاً} فمن ذكره رَدّ آخره على أوَّله، ومن أنَّث ذهب
إلى أن (مَن) فى موضع تأنيث، فذهب إلى تأنيثها. وأنشدنا بعضُ العرب:
هَيَا أُمَّ عمرو مَن يكن عُقْرَ دارِه * جِوَاءٌ عَدِىّ
يأكلِ الحشرات
ويسودَّ من لفْح السموم جَبينُهُ * ويَعْرَ وإن كانوا
ذوى نَكَرات
فرجع فى (كانوا) إلى معنى الجمع وفى قراءة عبدالله -
فيما أعلم - (ومِنْكُمْ من يكون شُيُوخاً) ولم يقل (شَيْخاً) وقد قال الفرزدق:
تَعَشَّ فإن واثقتنى لا تخونُنى * نكن مثل مَن يا ذئب
يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدرُ كنتما * أُخَيَّيْنِ كانا
أُرضِعا بِلِبان
فثنّى (يصطحبان) وهو فعل لمَنْ لأنه نواه ونفسَه.
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ
مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً...}
ضَرَب مَثَلا للضم الذى يعبدون أنه لا يقدر على شىء،
{وهُوَ كَلٌّ على مولاه} أى يحمله، فقال: هل يستوى هذا الضم {وَمَنْ يَأْمُرُ
بالعَدْلِ} فقال: لا تُسوُّوا بين الضم وبين الله تبارك وتعالى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ
أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ }
وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ...}
يعنى الفَساطيط للسفر، وبيوتَ العرب التى من الصوف
والشعر. والظعن يثقّل فى القراءة ويخفّف؛ لأن ثانيه عين، والعرب تفعل ذلك بما كان
ثانيه أحد الستة الأحرف مثل الشعر والبحر والنهر. أنشدنى بعض العرب:
له نَعَل لا تَطَّبِى الكلبَ ريحُها * وإن وُضِعت بين
المجالس شُمَّت
وقوله {أَثَاثاً وَمَتَاعاً} المتاع إلى حين يقول
يَكتفون بأصوافهَا إلى أن يَموتوا. ويقال إلى الحين بعد الحين.
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً
وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ
تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
}
وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ...}.
ولم يقل: البرد، وهى تقى الحرّ والبرد، فترك لأن معناه
معلوم - والله أعلم - كقول الشاعر:
وما أدْرِى إذا يمَّمت وجهاً * أريد الخير أيُّهما يلينى
يريد أىّ الخير والشر يلينى لأنه إذا أرد الخير فهو
يتّقى الشرّ وقوله {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} وبلغنا عن ابن عباس أنه قرأ (لعَلكم تَسْلَمُونَ)
من الجراحات.
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا
وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }
وقوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ...}
يعنى الكفارَ إذا قيل لهم، مَن رزقكم؟ قالوا: الله، ثم
يقولون: بشفاعة آلهتنا فيُشركون فذلك إنكارهم ( نِعْمَتَ اللَّهِ).
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَإِذَا
رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَآؤُنَا
الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ
إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ }
[قوله]: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ...}
آلهتهم رَدَّت عليهم قولهم {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أى
لم نَدْعكم إلى عبادتنا.
وقوله: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ
لَكَاذِبُونَ...}
فكسرت لأنها من صلة القول. ومن فتحها لو لم تكن فيهَا
لام فى قوله لكاذبون جعلها تفسيراً للقول: ألقَوْ إليهم أنكم كاذبون فيكون نصباً
لو لم يكن فيهَا لام؛ كما تقول: ألقيت إليك أنك كاذب. ولا يجوز إلاَّ الكسر عند
دخول اللام، فتقول: ألقيت إليك إنّك لكاذب.
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن
تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ
وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا
مِن بَعْدِ قُوَّةٍ...}:
من بعد إبرام. كانت تغزل الغَزْل من الصوف فتُبرمه ثم
تأمر جارية لها بنقضه. ويقال: إنها رَيْطة {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ} يقول: دَغَلا وخديعة.
قوله {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} يقول: هى أكثر،
ومعناه لا تغدروا بقوم لقلّتهم وكثرتكم أو قلّتكم وكثرتهم، وقد غرَرتموهم بالأيمان
فسَكَنُوا إليها ب. وموضع (أدْنَى) نصب. وإن شئت رفعت؛ كما تقول: ما أظن رجلاً
يكون هو أفضلَ منك وأفضلُ منك، النصب عَلَى العِمَاد، والرفع عَلَى أن تجعل (هو)
اسماً. ومثله قول الله عزّ وجَلَّ {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} نَصْب،
ولو كان رفعا كان صَواباً.
{ وَإِذَا
بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ
إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ...}
إذا نسخنا آية مكان آية أليَن منها قال المشركون: إنما
يتقوَّله من نفسه ويتعلّمه من عائش مملوكٍ كان لحُوَيطِب بن عبد العُزّى كان قد
أسلم فحسُن إسلامه وكان أعجم، فقال الله عز وجل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَاذَا
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }
وقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ...}
يميلون إليه ويهوَونه (أعْجَمِىٌّ) فقال الله: وَهَذَا
لِسَانُ محمد صَلّى الله عليه وسلم والقرآن عربىّ.
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ
مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا
لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن
بَعْدِ مَا فُتِنُواْ...}
يقول:
عُذِّبوا. نزلت فى عَمَّار بن ياسر وأصحابه الذين
عُذّبوا، حتّى أشرك بعضهم بلسانه وهو مؤمن بقلبه فغفر الله لهم، فذلك قوله {إِنَّ
رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} بعد الفَعلة.
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً
مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ }
وقوله: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً...}
يعنى
مكَّة أنها كانت لا يُغار عليها كما تفعل العرب: كانوا يتغاورون (مُّطْمَئِنَّةً): لا تنتقل كما تنتجِع
العرب الخِصْب بالنُّقْلة.
وقوله {مِّن كُلِّ مَكَانٍ}: من كلّ ناحية {فَكَفَرَتْ} ثم قال {بِمَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ومثله فى القرآن كثير. منه قوله {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً
أَوُهُمْ قائِلونَ} ولم يقل: قائلة. فإذا قال (قائلون) ذهب إلى الرجال، وإذا قال
(قائلة) فإنما يعنى أهلها، وقوله {فحاسَبْنَاهَا حِسَاباً شدِيداً وعَذّبْنَاهَا
عَذَابا نُكْراً فَذَاقَتْ}.
وقوله {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} ابتُلو بالجوع سبع
سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والجِيَف. والخوف بُعُوث رسول الله صلّى الله عليه
وسلم وسراياه. ثم إن النبى صلَّي الله عليه وسلم رَقَّ لهم فحمل إليهم الطعام وهم
مشركون. قال الله عز وجل لهم، كُلُوا {وَاشْكُرُوا}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن
بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ...}
كلّ من عمل سوءا فهو جَاهل إذا عمله.
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ
حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وقوله: {أُمَّةً قَانِتاً...}
مَعْلَماً للخير.
{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
}
وقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُواْ فِيهِ...}
أَتى
موسى أصحابه فقال: تفرّغوا لله يوم الجمعة فلا تعملوا فيه شيئاً، فقالوا: لا، بل يوم السبت، فرغ الله فيه من
خَلْق السموات والأرض، فشُدّد عليهم فيه. وأتَى عيسى النصارى بالجمعة أيضاً
فقالوا: لا يكون عيدهم بعد عيدنا فصاروا إلى الأحَد. فذلك اختلافهم وتقرأ (إنما
جَعَل السبتَ نصباً، أى جعل الله تبارك وتعالى).
المعاني الواردة في آيات سورة ( النحل )
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ...}
(نزلت فى حمزة) لمّا مَثَّل المشركون بحمزة يوم أُحُد
فقال النبى صلى الله عَليه وسلم: لأمثّلَنَّ بسبعين شيخاً من قريش فأنزل الله عز
وجل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ثم أمره
بالصبر فقال {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ثم أمره بالصبر عزماً.
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ }
وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ...}
وقوله {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} فالضَّيق مَا ضَاق
عنه صدرك، والضِّيق ما يكون فى الذى يتّسع؛ مثل الدار وَالثوب وأشباه ذلك إذا رأيت
الضَّيْق وقع فى موقع الضِّيق كان على وجهين: أحدهما أن يكون جمعاً واحدته ضَيْقة
كما قال:
* كَشَف الضيْقة عَنا وفَسَحْ *
والوجه الآخر أن يراد به شىء ضَيِّق فيكون مخففاً، وأصله
التشديد مثل هَيْن ولَيْن تريد هيِّن لَيّن.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الإسراء )
{ سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
}
قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...}
الحَرَم كلّه مَسْجد، يعنى مَكّة وَحَرمَها {إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}: بيت المَقْدِس {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بالثمار
والأنهار.
وقوله:
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} يعنى النبىّ صلى الله عليه
وسلَم حين أَسرى به ليُريه تلك الليلة العجائب. وأُرِى الأَنبياء حتّى وصفهم لأهل
مكَّة، فقالوا: فإنّ لنا إِبلا فى طريق الشأم فأخبِرنا بأمرها، فأخبرهم بآيات وعلامَات،
فقالوا: متى تقدَمُ. فقال: يوم كذا مع طلوع الشمس يقدُمها جمل أَورق. فقالوا: هذه
علامات نعرف بها صِدقه مِن كذبه. فغدَوا من وراء العَقبة يستقبلونهَا، فقال قائل:
هذه والله الشمسُ قد شَرَقت ولم يأتِ.
وقال آخر: هذه والله العِير يقدُمهَا جَمل أورق كما قال
محمد صلى الله عليه وسلم. ثم لم يؤمنوا.
{ وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى
لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً }
وقوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً...}
يقال: رَبّا، ويقال: كافياً.
{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ
عَبْداً شَكُوراً }
وقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا...}
منصوبة على النداءَ ناداهم: يا ذُرّيّة مَنْ حملنا مع
نوح، يعنى فى أصلاب الرجال وأرحام النساء مَّمن لم يُخْلَق.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَقَضَيْنَآ
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا
عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ
وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً }
وقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...}
أعلمناهم أنهم سيُفسدون مَرَّتَيْن.
وقوله:
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا...} يقول: عقوبة أولى
المرَّتين، وهو أول الفسادين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} يعنى
بُخْتَنَصَّر فسَبَى وقَتَل.
وقوله: {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ} يعنى: قتلوكم
بين بيوتكم (فجاسُوا) فى مَعْنى أخذوا وحاسوا أيضاً بالحاء فى ذلك المعنى.
{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً }
وقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ...}
يعنى على بُخْتَنَصَّر جَاء رجل بعثه الله عزّ وجلّ على
بُخْتَنَصَّر فقتله وأعاد اللهُ إِليهم مُلكهم وأمْرهم، فعاشوا، ثم أفسدُوا وهو
آخِر الفسادَين.
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ
الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ
تَتْبِيراً }
وقوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ
وُجُوهَكُمْ...}
يقول
القائِل: أين جواب (إذا)؟ ففيه وجهان. يقال: فإذا جاء عد الآخرة بعثناهم ليسُوءَ
اللهُ وجوهكم لمن قرأ بالياء. وقد يكون ليسوء العذابُ وجوهكم. وقرأها أبَىّ بن كعب ب (لِنَسُوءنْ
وُجُوهَكُمْ) بالتخفيف يعنى النون. ولو جعلتها مفتوحة اللام كانت جَوَاباً لإذا
بلا ضمير فعل. تقول إذا أتيتنى لأسُوءَنَّكَ ويكون دخول الواو فيمَا بعد {لنسوءن}
بمنزلة قوله {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرض
ولِيَكُونَ من} نُرِيه الملكوت، كذلك الواو فى {وليَدْخُلُوا} تضمر لها فعلا
بعدهَا، وقد قُرئت (لِيُسوءُوا وُجُوهَكُم) الذين يدخلون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ إِنَّ هَاذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
}
وقوله: {إِنَّ هَاذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ...}.
يقول لشهادة أن لا إله إلا الله.
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} أُوقعت البشارة عَلى قوله
{أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} ويجوز أن يكون المؤمنون بُشروا أيضاً بقوله
{وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً...} لأن الكلام يَحتَمل أن تقول: بَشّرت عبدالله بأنه سيُعطَى وأن عدوّه
سيُمنَع، ويكون. ويبشّر الذين لا يؤمنون بالآخرة أنا أعتدنَا لهم عَذاباً أليماً، وإن
لم يُوقع التبشير عليهم كما أوقعه على المؤمنين قبل (أنَّ) فيكون بمنزلة قولك فى
الكلام بَشّرت أَن الغيث آتٍ فيه معنى بشّرت الناس أَن الغيث آتٍ وإن لم تذكرهم.
ولو اسْتأنفت {وإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} صلح ذلك ولم أسمع
أحداً قرأ به.
{ وَيَدْعُ
الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }
وقوله: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ...}
حذفت الواو منها فى اللفظ ولم تُحذف فى المعنى؛ لأنها فى
موضع رفع، فكان حذفها باستقبالها اللام السَّاكنة. ومثلها {سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ} وكذلك {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المُؤْمِنِينَ} وقوله {يَوْمَ يُنَادِ
المُنَادِ} وقوله {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} ولو كُنَّ بالياء والواو كان صَواباً.
وهذا من كلام العرب. قال الشاعر:
كفاك كفٌّ ما تُليق درهما * جُوداً وأخرى تُعْطِ بالسيف
الدَّما
وقال بعض الأنصار:
ليس تخفى بشَارتى قَدْر يومٍ * ولقد تُخْفِ شِيمتى
إعْسَارِى
وقوله:
{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ
بِالْخَيْرِ} يريد كدعائهِ بالخير فى الرغبة إلى الله عزَّ وجَل فيما لا يحبّ
الداعى إجابته، كدعائه على ولده فلا يستجاب له فى الشرّ وقد دعا به. فذلك أيْضاً
من نِعَم الله عزّ وجلَّ عليه.
{ وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ
آيَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً
مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }
وقوله: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ...}
حدَّثنا محمد بن الجَهْم قال حدثنا الفراء قال حدثنى
مِنْدَل بن علىّ عن داود بن أبى هند عن أبى حرب بن أبى الأسود الدِّيلى رفعه إلى
عَلىّ بن أبى طالب رحمه الله قال: هو اللَّطْخ الذى فى القمر.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي
عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }
وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ...}
وهو عمله،
إن خيراً فخيراً وإن شرّا فشرّا (وَنُخْرِجُ لَهُ) قَرأهَا يحيى بن وَثّاب بالنون
وقَرأها غيره بالياء مفتوحة: (وَيَخْرُجُ لَهُ) طائره، منهم مجاهد والحَسَن. وقَرأ
أبوجعفر المدنىُّ (ويُخرِج... له كِتاباً) معناه: ويُخرِح له عمله كتاباً. وكلٌّ حسن.
{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ
عَلَيْكَ حَسِيباً }
وقوله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ...}:
فيها -
والله أعلم - (يُقَال) مضمرة. مثل قوله {ويَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} ومثل قوله {فَأَمَّا الذِينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ} المعنى - والله أعلم -: فيقال: أكفرتم.
قوله: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً...}
وكلّ ما فى القرآن منْ قوله {وكَفَى بربّك} {وكفى بالله}
و {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ} فلو ألقيت الباء كان الحرف مرفوعاً؛ كما قال
الشاعر:
ويخبرنى عن غائب المَرْء هَدْيُه * كفى الهَدْىُ عَمَّا
غَيَّب المرءُ مُخبِرا
وإنما يجوز دخول البَاء فى المرفوع إذا كان يُمدح به
صَاحبُه؛ ألا ترى أنك تقول: كفاكَ به ونهاكَ به وأكرِم به رجلاً، وبِئس به رجلا، ونعم به
رجلا، وطاب بطعامك طعاماً، وجَاد بثوبك ثوباً. ولو لم يكن مدحاً أو ذمّا لم يجز دخولها؛
ألا ترى أن الذى يقول: قامَ أخوكَ أو قعد أخوك لا يجوز له أن يقول: قام بأخيك ولا
قَعَد بأخيك؛ إلاَّ أن يُريد قام به غيره وقعَد به.
{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }
وقوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا...}
قرأ الأعْمَش
ا وعاصم ورجال من أهل المدينه {أَمَرْنا} خفيفة حدَّثنا محمد قال حدَّثنا الفراء
قال حدّثنى سفيان بن عُيَينة عن حُمَيد الأعرج عن مجاهد {أمَرْنا} خفيفة. وفسّر بعضهم {أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا} بالطاعة {فَفَسَقُوا} أى إن المترف إذا أُمِر بالطاعة خالف إلى الفسوق.
وقى قراءة أُبَىّ بن كعب (بعثنا فيها أكابر مجرميها) وقرأ الحسن {آمَرنا} وروى عنه
{أَمِرْنا}
ولا ندرى أنها حُفِظت عنه لأنا لا نعرف معناها ها هنا. ومعنى (آمرنا) بالمدّ:
أكثرنا. وقرأ أبو العالية الرياحى (أمَّرنا مُتْرَفيها) وهو موافق لتفسير ابن عباس، وذلك أنه
قال: سلَّطنا رؤساءها فَفَسَقوا فيها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ
فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا
مَذْمُوماً مَّدْحُوراً }
وقوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن
نُّرِيدُ...}
أى ذلك مِنا لمن نريد.
{ كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وَهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ
وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً }
وقوله: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء...}
أوقعت عليهما نُمدّ أى نمدهم جميعاً؛ أى نرزق المؤمن
والكافر من عَطَاء رَبّك.
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا
أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً
كَرِيماً }
وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ...}
كقولك:
أمر ربك وهى فى قراءة عبدالله (وَأَوْصى رَبُّك) وقال ابن
عباس هى (وَوَصَّى) التصقت واوهَا. والعرب تقول تركته يقضى أمور الناس أى يأمر فيها
فينفُذ أمره.
وقوله
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} معناه: وأوصى بالوالدين إحسَاناً. والعرب تقول
أُوصيك به خيراً، وآمرك به خيراً. وكان معناه: آمرك أن تفعل به ثم تحذف (أنْ) فتوصل
الخير بالوصيَّة وبالأمر، قال الشاعر:
عجبتُ من دَهْماء إذ تشكُونَا * ومن أبى دَهماء إذ
يوصينَا
* خيراً بها كأننا جافونا *
وقوله:
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} فإنه ثنّى لأن
الوالدين قد ذُكِرا قبله فصار الفعل عَلَى عددهما، ثم قال {أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاَهُمَا} على الائتناف كقوله {ثمَّ عموا وصَمُّوا} ثم استأنف فقال: {كَثِيرٌ
مِنْهُمْ} وكذلك قوله {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وأسَرُّوا النَّجْوى} ثم استأنف فقال: {الذين ظَلَمُوا}
وقد قرأها ناس كثير {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} جعلت {يَبْلُغَنّ} فعلا
لأحدهما. فَكرَّرت ب فكرت عليه كلاهما.
وقوله {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} قرأها عاصم بن أبى النَّجُود
والأعمش (أُفِّ) خفضاً بغير نون. وقرأ العوامّ (أُفٍّ) فالذين خفضوا ونوَّنوا ذهبوا
إلى أنها صوت لا يُعرف معناه إلاّ بالنطق به فخفضوه كما تُخفض الأصوات. من ذلك قول
العرب: سمعت طاقٍ طاقٍ لصوت الضرب، ويقولون: سَمعت تِغٍ تِغٍ لصوت الضحك. والذين
لم ينوّنوا وخفضوا قالوا: أفّ على ثلاثة أحرف، وأكثر الأصْوات إنما يكون عَلَى
حَرفين مثل صَهْ ومثل يَغْ ومَهْ، فذلك الذى يُخفض ويُنَوَّن فيه لأنه متحرك
الأوَّل. ولسنا بمضطرين إلى حركة الثانى من الأدوات وأشباهِها فيُخْفَضَ فخفض
بالنون: وشبّهت أفَّ بقولك مُدَّ ورُدَّ إذْ كانت على ثلاثة أحرف. ويدلّ عَلَى ذلك
أنَّ بعض العرب قد رفعها فيقول أفُّ لك. ومثله قول الراجز:
سألتُها الوصلَ فقالت مِضَّ * وحَرَّكت لى رأسهَا
بالنَغْض
كقول
القائل (لا) يقولها بأضراسه، ويقال: مَا علّمك أهلُك إلا (مضِّ ومِضُّ) وبعضهم: إلاّ مِضّا يوقع عليهَا الفعل.
وقد قال بعض العرب: لا تقولن له أُفّا ولا تُفّا يُجعل كالاسم فيصيبه الخفض الرفع
[والنصب] ثبت فى ب والنصب بلا نون يجوز كما قالوا رُدَّ. والعرب تقول: جَعَل
يتأفّف من ريح وجدها، معناه يقول: أفِّ أفِّ. وقد قال الشاعر فيما نُوّن:
وقفنا فقلنا إِيهِ عن أمّ سالمٍ * وَمَا بالُ تكليم
الديار البلاقع
فحذف النون لأنها كالأداة، إذا كانت على ثلاثة أحرف،
شُبِّهت بقولهم: جَيْرِ لا أفعل ذلك، وقد قال الشاعر:
فقُلْن عَلَى الفِردوس أوَّلُ مشرب * أَجَلْ جَيْرِ إِن
كَانت أُبيحت دَعَاثرُهْ
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }
وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ...}
بالضمّ قرأها العوامّ. حدثنا محمد قال: حدّثنا الفراء
قال حدَّثنى هُشَيم عن أبى بشر جعفر بن إياس عن سَعِيد بن جُبَير أنه قرأ
(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذِّلّ) بالكسر. قال: حدثنا الفراء وحدثنى الحَكَم بن
ظُهَير عن عاصم بن أبى النَّجُود أنه قرأها (الذِّلّ) بالكسر. قال أبو زكريا:
فسألت أبا بكر عنها فقال: قرأهَا عاصم بالضمّ. وَالذُلّ منَ الذلّة أن يتذلّل
وليسَ بذليل فى الخِلْقة، والذِّلَّة والذُّلّ مصدرُ الذليل والذِّلّ مصدر للذلول؛
مثل الدابَّة والأرض. تقول: جَمَلٌ ذَلُول، ودابَّة ذَلُول، وأرض ذَلُول بيِّنة
الذِّلّ.
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ
مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً }
وقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ
رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ...}
يقول: إذا أَتتك قرابتك أو سواهم من
المحتاجين يسألونك فأَعرضت لأنه لا شىء عندك تعطيهم فقل لهم: قولا ميْسُوراً،
يقول: عِدْهم عِدة حَسَنةً. ثم نهاه أَن يعطى كلّ ما عنده حتى لايبقى مَحْسوراً لا
شىء عنده. والعرب تقول للبعير: هو محسور إذا انقطع سَيره وحَسرت الدابَّةَ إذا سِرْتها حَتى
ينقطع سيرها. وقوله: {يَنْقَلِبْ إليْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وهو حَسِيرٌ} يحسَر عند أقصر
بلوغ المنظر.
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ
نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }
وقوله: {خِطْئاً كَبِيراً...}
وقرأ الحسن خَطَاءً كبيراً بالمدّ. وقرأ أبو جعفر
المدنىّ {خَطَأْ كَبيراً} قَصَر وهمز. وكلٌّ صواب. وكأنَّ الخِطْأَ الإثم. وقد يكون فى
معنى خَطَأ بالقصر. كما قالوا: قِتْب وقَتَب، وحِذُرٌ وحَذَرٌ، ونِجْسٌ ونَجَسٌ.
ومثله قراءة من قرأ {هُمْ أُولاَءَ عَلَى أَثَرِى} و {إِثْرِى}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }
وقوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً...}
فى الاقتصاص أو قبول الدِّيَة. ثم قال: {فَلاَ يُسْرِف
فِّي الْقَتْلِ} فقرئتِ بالتّاء واليَاء. فمن قال بالياء ذهب إلى الولىّ أى لا
يقتلنَّ غير قاتله. يقول فلا يسرف لولىُّ فى القتل. قال: حدَّثنا القراء قال
وحدَّثنى غير واحد، منهم مِنْدل وجرير وقيس عن مغيرة عن إِبراهيم عن أبى معمر عن حُذَيفة
بن اليمان أنه قرا {فَلاَ تُسْرِف} بالتاء. وفى قراءة أُبَىّ (فلاَ يُسْرِفوا
فىِ القتل).
وقوله
{إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} يقال: إن وليَّه كان منصوراً. ويقال الهاء
للدم. إن دم المقتول كان منصوراً لأنه ظُلِم. وقد تكون الهاء للمقتول نفسِه، وتكون
للقتل لأنه فعل فيجرى مجرى الدم والله أعلم بصواب ذلك.
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ
كَانَ مَسْؤُولاً }
وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ...}
حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال وحدثنى حِبَّان بن
عَلَىّ عن الكلبىّ عن ابى صالح عن ابن عبّاس قال: الأشُدّ. ما بين ثمانىَ عَشْرة
إِلى ثلاثين.
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
وقوله: {وَلاَ تَقْفُ...}
أكثر القراء يجعلونها من قفوت، فتحرَّك الفاء إلى الواو،
فتقول {وَلاَ تَقْفُ} وبعضهم قال (وَلاَ تَقَفْ) والعرب تقول قُفْت أثره وقَفَوته.
ومثله يَعْتام ويَعْتمى وقاع الجملُ الناقةَ وقعا إذا ركبها، وعاث وَعَثَى من
الفساد. وهو كثير، منه شاكُ السلاح وشاكى السلاح، وجُرف هارٌ وهارٍ. وسَمعتُ بعض قُضَاعة
يقول: اجتحى مَاله واللغة الفاشية اجتاح ماله. وقد قال الشاعر:
ولو أنى رأيتك من بعيد * لعاقكَ من دعاء النِّيب عَاقى
يريد: عائق
حَسِبت بُغَام راحلتى عَنَاقاً * وما هى وَيْبَ غَيرِكَ
بالعَنَاق
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ
مَكْرُوهاً }
وقوله: {كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ
مَكْرُوهاً...}
وقرأ بعض أهل الحجاز (كَانَ سَيِّئةً عِنْدَ رَبِّكَ
مَكْرُوهاً)
{ تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيماً غَفُوراً }
وقوله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ...}
أكثر القراء على التاء. وهى فى قراءة عبدالله (سَبَّحتْ
له السموات السبع) فهذا يقوِّى الذين قرءوا بالتاء. ولو قرئت بالياء لكان صواباً؛
كما قرءوا {تَكَادُ السَّمَوَاتْ} و {يَكُاد}.
وإنما حَسُنت الياء لأنه عدد قليل، وإذا قلَّ العدد من
المؤنّث والمذكر كانت الياء فيه أحْسَن من التاء قال الله عَزّ وَجَلَّ فى المؤنّث
القليل {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المَدِيِنَةِ}،
وقال فى المذكَّر {فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ} فجاء بالتذكير. وذلك أن أوَّل
فعل المؤنث إذا قلَّ يكون باليَاء، فيقال: النسوة يقمن ب. فإذا تقدّم الفعل سقطت النون من آخره
لأن الاسم ظاهر فثبت الفعل من أوّله على الياء، ومن أنّث ذهب إلى أن الجمع يقع
عليه (هذه) فأنَّث لتأنيث (هذه)
والمذكر فيه كالمؤنّث؛ ألا ترى أنك تقول: هذه الرجال،
وهذه النساء. حدّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال: حدثنى قيس بن الربيع عن عَمّار
الدُهْنِىّ عن سعيد بن جُبَير قال: كل تَسْبيح فى القرآن فهو صلاة، وكلّ سلطان
حُجّة، هذا لقوله {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
وقوله: {عِظَاماً وَرُفَاتاً}: الرُّفَات: التراب لا
واحد له، بمنزلة الدُقَاق والحُطَام.
{ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ
فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن
يَكُونَ قَرِيباً }
وقوله: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ...}
قالوا
للنبىّ صلى الله عَلَيْه وسلم: أرأيت لو كُنّا الموتَ من يميتنا؟ فأنز الله عَز
وجَل {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعنى الموت نفسَه أى لبعث
الله عليكم من يميتكم.
وقوله {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} يقال
أَنغض رأسَه أى حَرّكه إلى فوق وإلى أسْفل. وأرانا ذلك أبو زكريا فقال برأسه،
فألصقه بحَلْقه ثم رفعه كأنه ينظر إلى السَّقف. والرأس يَنْغَض ويَنْغِض. والثِنيَّة
إذا تحركَت: قيل نَغَضت سِنّه. وإنما يسمى الظليم نَغْضا لأنه إذا عجّل مشيه ارتفع
وانخفض.
وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} يعنى البعث.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ
أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }
وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً...}
يقول: حافظاً ورَبَّا.
{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا
دَاوُودَ زَبُوراً }
وقوله: {زَبُوراً...}
قال الفراء وحدثنى أبو بكر قال كان عَاصم يقرأ
{زَبُوراً} بالفتح فى كلّ القرآن. وقرأ حمزة بالضمّ.
{ أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }
وقوله: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ
إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...}
يعنى الجنَّ الذين كانت خُزَاعة تعبدهم. فقال الله عز
وجل {أُولَائِكَ} يعنى الجنَّ الذين (يَدْعونهم) يبتغون إلى الله. ف {يَدْعُونَ}
فعل للذين يعبدونهم. و {يَبْتَغُونَ} فعل للجنِّ به ارتفعوا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَإِن
مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذالِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }
وقوله: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا...}
بالموت {أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} بالسَّيف.
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ
بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }
وقوله: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ...}
(أنْ) فى موضع نصب {إِلاَّ أَن كَذَّبَ} أنْ فى مَوْضع
رفع؛ كما تقول: ما منعهم الإيمانَ إلاّ تكذيبُهم.
وقوله {النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} جعل الفعل لها. ومن قرأ
(مَبْصَرة) أراد: مثل قول عَنْترة.
* والكفر مَخْبَثَة لنفس المنعم *
فإذا وضَعْت مَفْعلة فى معنى فاعل كفَتْ من الجمع
والتأنيث، فكانت موحّدة مفتوحة العين، لا يجوز كسرها. العرب تقول: هَذا عُشْب
مَلْبَنَة مَسْمنة، والولد مَبْخلة مَجْبنة. فما ورد عليك منه فأخرِجه عَلَى هذه
الصورة. وإن كان من الياء والواو فأظهرهما. تقول: هذا شراب مَبْوَلة، وهذا كلام مَهْيَبة
للرجال، ومَتْيَهة، وأشباه ذلك. ومعنى (مُبصِرة) مضيئةِ، كما قال الله عز وجل
{وَالنَّهَارَمُبْصِراً} مضيئاً.
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ
وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ
إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً }
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ...}
يعنى
أهْل مكةَ أى أنه سَيَفتح لك {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلاَّ فِتْنَةً} يريد: ما أريْنَاك ليلة الإسراء إلا فتنة لهم، حتى قال بعضهم:
ساحر، وكاهن، وأكثروا. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} هى شجرة الزَّقُوم، نصبتها بجعلنا. ولو
رُفعت تُتْبَع الاسم الذى فى فتنة من الرؤيا كان صواباً. ومثله فى الكلام جَعلتك
عَامِلاً وزيداً وزيدٌ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَاذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ
قَلِيلاً }
وقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً...}
يقول: لأستولينَّ عليهم {إِلاَّ قَلِيلاً} يعنى المعصومين.
{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ
وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }
وقوله: {وَاسْتَفْزِزْ...}
يقول اسْتَخِفَّ (بِصَوْتِكَ) بدعائك {وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} يعنى خيل المشركين ورجالَهم.
وقوله {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} كلّ مَال خالطه
حرام فهو شِرْكُهُ. وقوله {وَعِدْهُمْ} أى قل لهم: لا جَنَّة ولا نار. ثم قال الله
تبارك وتعالى {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}.
{ أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً
أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا
كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً }
وقوله: {لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً...}
يقال: ثائراً وطالباً. فتَبِيع فى مَعنى تابع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ يَوْمَ
نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأُوْلَائِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }
وقوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ...}
قراءة العوامّ بالنون. و (يَدْعُو) أيضاً لله تبارك
وتعالى. حدَّثنا محمد قال حدَّثنا الفراء قال: وسألنى هُشَيم فقال: هل يجوز
(يَوْمَ يُدْعَواْ كُلُّ أُنَاسٍ) روَوه عن الحسن فأخبرته أنى لا أعرفه، فقال: قد
سألت أهل العربيَّة عن ذلك فلم يعرفوه.
{ وَمَن كَانَ فِي هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ
أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }
وقوله: {وَمَن كَانَ فِي هَاذِهِ أَعْمَى...}
يعنى: فى نِعم الدنيا التى اقتصَصْناهَا عليكم {فَهُوَ
فِي الآخِرَةِ} فى نعم الآخرة {أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}.
والعرب
إذا قالوا: هو أفعل منك قالوه فى كل فاعل وفَعِيل، ومالا يزياد فى فعله شىء عَلى
ثلاثة أحرف. فإذا كان فى فَعْللت مثل زخرفت، أو افعللت مثل احمررت واصفررت لم
يَقولوا: هو أفعل منك؛ إلا أن يقولوا: هو أشدّ حمرةً منكَ، وأشدّ زخرفة منك. وإنما
جاز فى العَمَى لأنه لم يُرِد به عَمَى العين، إنما أراد به - والله أعلم - عَمَى
القلبِ. فيقال: فلان أعمى من فلان فى القلب و (لا تقل): هو أعمى منْه فى العين. فذلك
أنه لَمَّا جاء على مذهب أحمر وحمراء تُرك فيه أفعل منك كما تُرك فى كثيره. وقد تَلْقَى
بعض النحويين يَقول: أُجيزه فى الأعمى والأعشى والأعرج والأزرق، لأنا قد نَقول:
عمِى وزرِق وعرِج وعَشِى ولا نَقول: صَفِر ولا حمِر ولا بَيِض. وليس ذلك بشىء، إنما
يُنظر فى هذا إلى ما كان لصَاحبه فيه فِعل يقِلّ أو يكثر، فيكون أفعل دليلاً على
قِلَّة الشىء وكثرته؛ ألا ترى أنك قد تقول: فلان أقْوَم من فلان وأجمل؛ لأنّ قيام
ذا وجَمَالَه قد يزيد عَلى قيام الآخر وجماله، ولا تقول لأعميين: هذا أعمى من هذا،
ولا لمّيتين: هذا أمْوت من هذا. فإِن جاءك منه شىء فى شعر فأجزته احتمل النوعان
الإجازة: حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى شيخ من أهل البصرة أنه سمع
العرب تقول: ما أسود شَعره. وسئِل الفراء عن الشيخ فقال: هذا بشّار الناقط. وقال
الشاعر:
أمَّا الملوكُ فأنت اليَوْمَ ألأَمُهم * لُؤماً
وَأبيضُهم سِرْبالَ طبَّاخ
فمن قال هذا لزِمه أن يقول: اللهُ أبْيَضك والله أسْوَدك
وما أسْوَدَك. ولُعبة للعرب يقولون أَبِيضى حالا وأَسِيدى حالا والعرب تقول
مُسْوِدة مُبْيِضة إذا وَلَدَت السُودان والبِيضان وأكثر ما يقولون: مُوضحة إذا
وَلَدت البيْضَان وقد يقولون مُسِيدة ب.
{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ
لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً }
وقوله:
{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ...}
لمَّا قدِم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة
حسدته اليهود وثَقُل عليهم مكانُه، فقالوا: إنك لتعلم أن هذه البلاد ليست ببلاد
الأنبياء، إنما بلادهم الشأم. فإن كنت نبيّا فاخرج إليه، فإِن الله سينصرك. قال:
فعسكر النبى صَلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة فأنزل الله: {وَإِن
كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليستخفونك وَإِذاً لاَيَلْبَثُونَ {مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ
مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاَّ قَليلاً} يقول: إنك لو خرجتَ ولم يؤمنوا لنزل
بهم العذابُ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا
وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
}
وقوله: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ...}
نصب السنَّةَ على العذاب المضمر، أى يعذَّبون كسنّة من
قد أرسلنا {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
الْلَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }
وقوله: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ الْلَّيْلِ...}
جاء عن ابن عباس قال: هو زَيغوغتها وزوالها للظهر. قال
أبو زكريّا: ورأيت العرب تذهب بالدلوك إلى غياب الشمس أنشدنى بعضهم:
هذا مَقَام قدَمَىْ رَبَاحِ * ذبَّبَ حتى دَلكَتْ
بِرَاحِ
يعنى الساقى ذبَّب: طرد الناس. بِرَاح يقول: حتى قال
بالراحة على العين فينظر هل غابت قال: هكذا فسَّروه.
وقوله {إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ}: أَوَّلِ ظلمته للمغرب
والعِشَاء.
وقوله {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أَىْ وأَقم قرآن الفجر {إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} يعنى صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
{ وَمِنَ
الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَاماً مَّحْمُوداً }
وقوله: {نَافِلَةً لَّكَ...}
ليست لأحد نافلة إلا للنبى صَلى الله عليه وسلم، لأنه
ليس من أحد إلاَّ يخاف على نفسه، والنبىّ صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدّم
من ذنبه وما تأخَّر، فعمله نافلةٌ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً }
وقوله: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ...}
قال له فى المنصَرَف لمَّا رجع من معسكره إلى المدينة
حين أَراد الشأم {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} إلى مَكة.
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ
وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً }
وقوله: {كَانَ يَئُوساً...}
إذا تركت الهمزة من قوله {يؤوساً} فإِن العرب تقول
يَوْساً ويَوْوْساً تجمعون بين ساكنين وكذلك {وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا} وكذلك
{بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} يقول بَيْسِ و (بَيْيْسٍ) و (ويؤوده) يجمعون ساكنين. فهذا كلام
العرب: والقراء يقولون (يَوُوساً) و (يَوُوده) فيحرّكون الواو إلى الرفع و(بَيِيْسٍ)
يحرّكون الياء الأولى إلى الخفض. ولم نجد ذلك فى كلامهم، لأن تحرك الياء والواو
أَثقل من ترك الهمزة، فلم يكونوا ليَخْرجوا من ثِقَل إلى ما هو أَثقَل منه.
{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً
}
وقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ...}:
ناحيته. وهى الطريقة والْجِديلة. وسمعتُ بعض
العرب من قُضَاعة يقول: وعبدُ الملك إذ ذاك عَلَى جَدِيلته وابن الزبير على
جديلته. والعرب تقول: فلان على طريقة صالحة، وخَيْدَبة صَالحة، وسُرْجُوجة. وعُكْل
تقول. سِرْجِيجة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }
وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي...}
يقول: مِن علم ربّى، ليس من علمكم.
{ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ
عَلَيْكَ كَبِيراً }
وقوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ...}
استثناء كقوله {إلاَّ حَاجَةً فىِ نَفْسِ يَعْقُوبَ
قَضَاهَا}.
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيراً }
وقوله: {عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْآنِ
لاَ يَأْتُونَ...}
جواب لقوله {لئِن} والعرب إذا إجابت (لئِن) ب (لا) جعلوا
ما بعد لا رفعا؛ لأن (لئِن) كاليمين، وجواب اليمين بِ (لا) مرفوعٌ. وربما جَزَم
الشاعر، لأن (لئن) إن التى يجازى بهَا زيدت عليها لام، فوجّه الفعل فيها إِلى فَعَل، ولو
أُتى بيفعل لجاز جزمه. وقد جَزَم بعض الشعراء بلئِن، وبعضهم بلا التى هى جوابها.
قال الأعشى:
لئن منُيتَ بنا عن غِبّ معركَة * لا تُلْفِنا من دماء
القوم نَنتفل
ا وأنشدتنى امرأة عُقَيليّة فصيحة:
لئن كان ما حُدّثته اليومَ صَادقاً * أصُمْ فى نهارِ
القيظ للشمس باديَا
وأَركبْ حماراً بين سرج وفَرْوَة * وأُعْرِ من الخاتام
صُغْرى شماليا
قال وأنشدنى الكسائى للكُمَيت بن معروف:
لئِن تَكُ قد ضاقت عليكم بيوتُكم * لَيَعلمُ ربّى أنّ
بيتىَ واسع
وقوله
{لِبَعْضٍ ظَهِيراً} الظهير العَوْن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا
مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً }
وقوله: {مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً...}.
الذى يَنْبَعَ، ويقال: يَنْبُعُ لغتان. و (تَفْجُر)
قرأها يحيى بن وَثّاب وَأصحاب عبدالله بالتخفيف. وكأن الفَجر مرة واحد و
(تُفَجِّر) فكأن التفجير من أماكن. وهو بمنزلة فَتَحت الأبواب وفتَّحتها.
{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا
كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً }
وقوله: {كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً...}.
و (كِسْفاً) الكِسَف: الجِمَاع. قال: سَمعت أعرابيَّا يقول لبزّاز
ونحن بطريق مكة: أعطنى كِسْفة أى قطعة. والكِسْف مصدر. وقد تكون الكِسْف جمع كِسْفة
وكِسْف.
وقوله {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلاً} أى كِفيلا.
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى
فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ
قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }
وقوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ...}
المعنى: إلى السماء. غير أن جوازه أنهم قالوا: أو تضع
سُلَّما فترقى عَليْه إلى السماء، فذهبَتْ (فى) إلى السُلَّم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ
الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }
وقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ} أن فى
موضع نصب {إِلاَّ أَن قَالُواْ} (أن) فى موضع رفع.
{أَوْيكُوَن لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} حدثنا محمد قال
حدثنا الفراء قال حدَّثنى حِبَّان عن الكلبىّ قال: الزخرُف: الذهب.
{ قَالَ
لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُوراً }
وقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ...}
قرأها ابن عباس وابن مسعود (عَلِمْتَ) بنصب التاء.
حدّثنا محد قال: حدّثنا الفراء قال: وحدَّثنى هُشَيم عن أبى بشر عن سَعِيد بن
جُبير (لَقَدْ عَلِمْتَ) مثله بنصب التاء. حدثنا محمد قال: حدثنا الفراء قال:
وحدّثنى قيس وأبو الأحوص جميعاً عن أبى اسحاق عن شيخ من مُرَاد عن علىّ أنه قال: واللهِ ما عَلِم
عدوّ الله، وإنما علم موسى. وكان يقرأ (علِمتُ) برفع التاء. وفسرّه الكلبىّ
بإسناده عَلَى قراءة علىّ وتفسيره. وأمّا ابن عباس وابن مسعود فقالا: قد قال الله
عزّوجل {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنْفُسُهُم} قال الفراء: والفتح أحبّ
إلىَّ وقال بعضهم: قرأ الكسائى بالرفع، فقال: أخالفه أشَدَّ الخلاف.
وقوله: {يافِرْعَونُ مَثْبُوراً} ممنوعاً من الخير.
والعرب تقول: ما ثَبَرك عن ذَا أى ما منعك منه وَصَرَفكَ عنه.
{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }
وقوله: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً...}
من ها هنا وهَا هنا وكلِّ جانب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الإسراء )
{ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }
وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ...}
نصبت
القرآن بأرسلناك أَىْ مَا أرسلناكَ إلا مبشّراً ونذيراً وقرآنا أيضا كما تقول:
ورحمة؛ لأن القرآن رحمة. ويكون نصبه بفرقناهُ عَلَى رَاجع ذكره. فلمَّا كانت الواو قبله نُصب. مثلُه
{وفَرِيقاً حَقَّ عَليهِمُ الضلالةُ}
وأما (فرقناه) بالتخفيف فقد قرأه أصحاب عبدالله. والمعنى
أحكمناه وفصَّلناه؛ كما قال {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أى يفصّل.
وروى عن ابن عباس (فَرَّقناه يقول: لم ينزل فى يوم وَلا يومين. حدثنا محمد قال: حدثنا الفراء
قال: وحدثنى الحَكَم بن ظهَير عن السُّدّى عن أبى مالك عن ابن عباس {وَقُرْآناً
فَرَقْنَاهُ} مخففة.
{ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ
أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ
وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً }
وقوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ...}
(ما) قد يكون صلة، كما قال تبارك وتعالى {عَمَّا قَلِيلٍ
ليُصْبِحُنَّ نَادِمِين} وتكون فى معنى أىّ معادة لمَّا اختلف لفظهما:
وقوله: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} أى قَصْدا.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الكهف )
{ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
* قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً
* مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَداً * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }
قوله تبارك وتعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
قَيِّماً}
المعنى:
الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب قَيِّما، ولم يجعل له عوجاً. ويقال فى
القيّم: قَيّم على الكتب أى أنه يُصَدِّقها.
وقوله {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً...} مع البأس أسماء مضمرة يقع
عليها الفعل قبل أن يقع على البأس. ومثله فى آل عمران {إنَّما ذَلِكُمُ الشَّيطَان
يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ} معناه: يخوفكم أولياءه.
وقوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ
لآبَائِهِمْ...} معناه ولا لأسلافهم: آبائهم وآباء آبائهم [ولا] يعنى الآباء الذين
هم لأصلابهم فقط.
وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}
نصبَها أصحاب عبدالله، ورفعها الحسن وبعض أهل المدينة. فمن نصب أضمر فى (كبرت):
كبُرت تلك الكلمة كلمةً. ومَن رفع لم يضمر شيئاً؛ كما تقول: عظم قولك وكبر كلامك.
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن
لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }
وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ...}
أى مخرج نفْسك قاتل نفسك.
وقوله:
{إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} تكسرها إذا لم يكونوا آمنوا على
نيّة الجزاء، وتفتحها إذا أردت أنها قد مضت؛ مثل قوله فى موضع آخر: {أَفَنَضْرِبُ
عَنْكم الذِّكْرَ صَفْحاً إنْ كُنْتُم} و {أَنْ كُنْتُمْ}.
ومثله قول الشاعر:
أتجزع أن بان الخلِيطُ المودّع * وحبل الصَّفَا من
عَزَّة المتقطع
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }
وقوله: {صَعِيداً...}
الصعيد؛ التراب. والجُرُز: أن تكون الأرض لا نبات فيها.
يقال: جُرِزَت الأرضُ وهى مجرُوزة. وجرَزها الجرادُ أو الشاء أو الإبِل فأكلن ما
عليها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ
كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
}
وقوله: {أَمْ حَسِبْتَ...}
يخاطب
محمداً صَلّى الله عليه وسلم {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} الكهف: الجبل الذى
أَوَوْ إليه. والرقيم: لَوْح رَصَاصٍ كتبت فيه أنسابُهم ودِينهم ومِمَّ هربوا.
{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ
آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }
وقوله: {وَهَيِّىءْ...}
كتبت الهمزة بالألف (وهَيَّأْ) بهجائه. وأكثر ما يكتب الهمز على ما
قبله. فإن كان ما قبله مفتوحاً كتبت بالألف. وإن كان مضموماً كتب بالواو، وإن كَان
مكسوراً كُتِبَتْ بالياء. وربما كتبتها العرب بالألف فى كل حَال؛ لأن أصلها ألف. قالوا
نراها إذا ابتدئت تكتب بالألف فى نصبها وكسرها وضمّها؛ مثل قولك: أُمِروا،
وأَمَرت، {وقد جئتَ شيئاً إمْرا} فذهَبُوا هذا المذهب. قال: ورأيتها فى مصحف عبدالله
(شيْأً)
فى رفعه وخفضه بالألف ورأيت يستهزءون يستهزأون بالألف وهو القياس. والأوَّل أكثر فى
الكتب.
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ
عَدَداً }
وقوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ...}
بالنوم.
وَقوله:
{سِنِينَ عَدَداً} العَدَد هَا هنَا فى معنى معدودة
وَالله اعلم. فإذا كان ما قبل العدد مُسَمّىً مثل المائةِ وَالأَلْف وَالعشرة
وَالخمسة كان فى العدد وَجهان:
أحدهما: أن تنصبه على المصدر فتقول: لك عندى عشرة عَدَداً.
أخرجت العدد من العشرة؛ لأن فى العشرة معنَى عُدَّت، كأنك قلت: أُحْصِيَتْ
وَعُدَّت عَدَداً وَعَدّا. وَإن شئت رفعت العدد، تريد: لك عشرة معدودة؛ فالعدد هَا
هنا مع السنين بمنزلة قوله تباركَ وَتعالى فى يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ} لأن الدراهم ليست بمسمَّاة بعدد. وَكذلك مَا كان يُكال وَيوزَن تخرجه
(إذا جاء) بعد أسمائِه على الوجهين. فتقول لك عندى عشرة أرطال وَزناً وَوَزنٌ
وَكيلاً وَكيلٌ على ذلك.
المعاني
الواردة في آيات سورة ( الكهف
)
{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ
أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
}
وَقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى...}
رفعت أيَّا بأحصى لأن العِلْم ليس بواقع على أىّ؛ إنما
هو: لتعلم بالنظر وَالمسألة وَهو كقولك اذهب فاعلم لى أَيُّهم قام، أفَلاَ ترى أنك
إنما توقع العِلم على مَن تستخبِره. وَيُبيّن ذلك أنك تقول: سَلْ عبدَالله أَيُّهم
قامَ فلو حَذفت عبدالله لكنت له مرِيداً، وَلمثله من المُخْبِرين.
وَقوله:
{أَيُّ الحِزْبَيْنِ} فيقال: إِنَّ طائفتين من المسليمن
فى دهر أصحاب الكهف اختلفوا فى عَدَدهم. وَيقال: اختلف الكفَّار وَالمسلمون. وَأما
(أَحْصَى)
فيقال: أصوب: أى أيّهم قال بالصواب.
وقوله: {أَمَداً} الأمد يكون نصبه على جهتين إن شئت
جعلته خرج من {أَحْصَى} مفسِّراً، كما تقول: أىّ الحزبين أصوب قولاً وإن شئت أوقعت
عليه اللُّبَاث: لِلُباثهم أمَداً.
{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ
اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ
وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }
وقوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ...}
يعنى أصحاب الكهف فقال: وإذ اعتزلتم جميع مايَعبُدونَ من
الآلهة إلاَّ اللهَ. و (ما) فى موضع نصب. وذلك أنهم كانوا يشركون بالله، فقال: اعتزلتم
الأصنام ولم تعتزلوا الله تبارك وتعالى ولا عبادته:
وقوله: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} جواب لإذْ كما تقول:
إذْ فعلت ما فعلت فتُبْ.
وقوله: {مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} كَسر
الميم الأعمش والحسن، ونَصبها أهلُ المدينة وعاصم. فكأنَّ الذين فتحوا الميم
وكسروا الفاء أرادوا أن يَفْرُقوا بين المَرْفِق من الأمر والمِرْفَق من الإنسان
وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن الإنسان. والعرب أيضاً تفتح الميم من مرفق
الإنسان. لغتان فيهما.
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ
ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ
مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن
يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }
وقوله: {تَّزَاوَرُ...}
وقرئت {تزَّاوَرُ} وتريد (تَتَزاور) فتدغم التاء عند
الزاى. وقرأ بعضهم (تَزْوَرّ) وبعضهم (تَزْوَارّ) مثل تَحْمرّ وتَحْمارّ. والازورار فى هذا الموضع
أنها كانت تطلُع على كهفهم ذات اليمين ولا تدخل عليهم، وذات الشمال. والعرب تقول: قرضته ذات اليمين
وحَذَوته وكذلك ذات الشمال وقُبُلا ودُبُرا، كلّ ذلك أى كنت بحذائه من كلّ ناحية.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ
وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ
ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ
فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }
وقوله: {ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ...}
الوَصِيد: الفِناء. والوصيد والأَصيد لغتان مثل
الإكَاف والوِكَاف، ومثل أَرَّخْت الكتاب ووَرَّخته، ووكَّدت الأمر وأكَّدته،
ووضعْتُه يَتْنا وأَتْنا ووَتْنَا يعنى الوَلَد. فأَمَّا قول العرب: واخيت ووامرت
وواتيت وواسيت فإنها بُنيت عَلى المواخاة والمواسَاة والمواتاة والموامرة، وأصلها
الهمز؛ كما قيل: هو سْوَل منك، وأصله الهمز فبُدِّل واوا وبُنى على السوَال.
وقوله: {فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أى ناحية متَّسعة.
وقوله:
{وَلَمُلِئْتَ} بالتخفيف قرأه عاصم والأعمش وقرأ أهل
المدينة {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ} مشدّداً.وهذا خوطب به محمّد صَلّى الله عَلَيْهِ وسلم.
{ وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ
قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً
فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ
أَحَداً }
وقوله: {بِوَرِقِكُمْ...}
قرأها عاصم والأعمش بالتخفيف وهو الوَرِق. ومن العرب من
يقول الوِرْق، كما يقال كَبِد وَكِبْدٌ وَكَبْدٌ، وَكَلِمَةٌ وَكَلْمَةٌ وكِلْمَة.
وقوله {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى} يقال: أحَلّ
ذَبِيحة لأنهم كانوا مَجُوساً.
{ وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ
أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ
يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ
أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً }
وقوله: {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ...}
أظهرنا
وأطلعنا. ومثله فى المائدَة {فإن عُثِرَ}: اطُّلِع (واحد الأبقاظ يَقِظ ويَقُظ).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ
وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ
إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ
فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }
قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ...}
قال ابن عباس: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. وقال ابن عباس:
أنا من القليل الذين قال الله عَزّ وجَل: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
ثم قال الله تبارك تعالى لنبيه عليه السّلام {فَلاَ
تُمَارِ فِيهِمْ} يا محمد {إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} إلا أن تحدّثهم به حديثاً.
وقوله:
{وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} فى أهل الكهف (مِّنْهُمْ) من
النصارى (أَحَداً) وهم فريقان أتَوه من أهل نَجْران: يعقوبىّ ونُسْطورِىّ. فسَألهم النبى
صَلى الله عليهِ وسلم عن عددهم، فنُهِى. فذلك قوله {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ
مِّنْهُمْ أَحَداً}.
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ
غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى
أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَداً }
وقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذالِكَ غَداً...}
{إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ...}
إلاَّ أن تقول: إن شاء الله (ويكون مع القول: ولا
تقولنَّه إِلا أن يشاء الله) أى إلاَّ مَا يُريد الله.
وقوله {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال ابن
عَبَّاس: إذا حَلفت فنسِيت أن تستثنى فاستثن متى ما ذكرتَ ما لم تَحْنَثْ.
{ وَلَبِثُواْ
فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً }
وقوله: {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ...}
مضافة. وقد قرأ كثير من القراء (ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ)
يريدون ولبثوا فى كهفهم سنين فينصبونها بالفعل.
ومن العرب من يضع السنين فى موضع سَنَة فهى حينئد فى
موضع خفض لمنْ أضَاف. ومن نَوَّن عَلَى هذا المعنى يريد الإضافة نصب السّنِين
بالتفسير للعدد كقول عنترة:
فيها اثنتان وَأربعونَ حَلُوبةً * سُودا كخافية الغُراب
الأَسحم
فجعل (سُوداً) وهى جمع مفسِّرة كما يفسِّر الواحد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن
وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً }
وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ...}
يريد الله تبارك وتعالى كقولك فى الكلام: أكرم بعبدالله
ومعناه: ما أكرم عبدالله وكذلك قوله {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِر}: ما أسمعهم ما
أبصرهم. وكلّ ما كان فيه معنى من المدح والذمّ فإنكَ تقول فيه: أظرِف به وأكرم به،
ومن الياء والواو: أَطْيِبُ به طعاماً، وأجْوِد به ثوباً، ومن المضاعف تظهر فيه
التضعيف ولا يجوز الإدغام، كما لم يجز نقص الياء ولا الواو؛ لأن أصله ما أجوده وما
أشدّه وأطيبه فترك على ذلك، وأَما أَشدِد به فإنه ظهر التضعيف لسكون اللام من
الفعل، وترك فيه التضعيف فلم يدغم لأنه لا يثنّى ولا يؤنَّث، لا تقول للاثنين:
أشِدَّا بِهما، ولا للقوم أَشِدُّوا بهم. وإنما استجازت العرب أن يقولوا مدّ فى
موضع امدد لأنهم قد يقولون فى الاثنين:
مُدَّا وللجميع: مُدُّوا، فبُنى الواحدُ عَلَى الجميع.
وقوله {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} ترفع إذا
كان بالياء على: وَليس يُشرك. ومن قال {لاَ تُشْرِكْ} جزمها لأنها نهى.
{ وَاتْلُ
مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن
تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا
قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }
وقوله: {مُلْتَحَداً...}
المُلْتَحد: الملجأ.
وقوله: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ...}
قرأ أبو عبدالرحمن السُّلَمِىُّ (بالغُدْوة والعَشِّى)
ولا أعلم أحداً قرأ غيره. والعرب لا تُدخل الألف واللام فى الغدوة؛ لأنها معرفة
بغير ألِف ولام سعمتُ أبا الجراح يقول: ما رأيت كغُدْوةَ قطُّ، يعنى غداة يومهِ.
وذاك أَنها كانت باردة؛ ألا ترى أَن العرب لا تضيفهَا فكذلك لا تُدخلها الألف واللام.
إنما يقولون: أتيتكَ غَدَاة الخميس، ولا يقولون: غُدْوةَ
الخميس. فهذا دليل على أَنها معرفة.
وقوله {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} الفعل للعينين:
لا تنصرفْ عيناك عنهم. وهذه نزلت فى سَلْمان وأصحابه.
وقوله {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} متروكاً قد تُرك فيه الطاعة وغُفِل
عنها. ويقال إنه أفرط فى القول فقال: نحن رءوس مُضَر وأشرافُهَا، وليس كذلك. وهو
عُييْنة ابن حِصْن. وقد ذكرنا حديثه فى سُورة الأنعام.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
إِنَّا لاَ نُضِيعُ...}
خبر {الَّذِينَ آمَنُواْ} فى قوله {إِنَّا لاَ نُضِيعُ}
وهو مِثْل قول الشاعر:
إِن الخليفة إنَّ الله سَرْبله * سِرْبالَ مُلْك بها
تُزْجَى الخواتيمُ
كأنه
فى المعنى: إنا لا نضيع أجر من عمل صالحاً فتُرِك الكلام الأول واعتُمِد على
الثانى بنيَّة التكرير؛ كما قال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} ثم قال
{قِتَالٍ فيهِ} يريد: عن قتال فيه بالتكرير ويكون أن تجعل {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} فى مذهب جزاء، كقولكَ: إن من عمل صالحاً فإنا لا نضيع أجره،
ب: فتضمر فتضمَّن الفاء فى قوله (فإنَّا) وإلقاؤها جائز. وهو أحبُّ الوجوه
إلىَّ. وإن شئت جعلت خبرهم مؤخّرا كأنك قلت: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك لهم جَنَّات عَدْن}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ
وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ
فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }
وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ...}
لو ألقيت (منْ) الأساور كانت نصباً. ولو ألقيت (منْ) منَ
الذهب جاز نصبه على بعض القبح، لأن الأساور ليس بمعلوم عددها، وإنما يحسن النصب فى
المفسّر إذا كان معروف العدد، كقولك: عندى جُبَّتان خَزّا، وأسواران ذهباً، وثلاثة
أساور ذهبا. فإذا قلت: عندى أساور ذهباً فلم تبيّن عددها كان بمن، لأن المفسِّر
ينبغى لما قبله أن يكون معروف المقدار. ومثله قول الله تبارك وتعَالى {وَيُنَزِّلُ
مِنَ السماءِ مِنْ جِبَالٍ فِيها مِنْ بَرَد} المعنى: فيها جبال بَرَد، فدخلت (من) لأن
الجبال غير معدودة في اللفظ. ولكنه يجوز كأنك تريد بالجبال والأساور الكثيرة، كقول
القائل: ما عنده إلا خاتمان ذهباً قلت أنت: عنده خواتِم ذهباً لمَّا أن كان ردَّا
على شىء معلوم العدد فأنزِل الأَساور والجبال من بَرَد على هذا المذهب.
فأمّا
(يُحَلّون) فلو قال قائل: يَحْلَون لجاز، لأن العرب تقول: امرأة حالية، وقد حلِيت فهى
تحلَى إِذا لبِست الحُلِىَّ فهى تحلَى حُلِيّاً وحلْياً.
وقوله {نِعْمَ الثَّوَابُ} ولم يقل: نعمت الثواب، وقال
{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} فأنَّث الفعل على معنىالجنَّة ولوذكَّر بتذكير المرتفق
كان صوابا، كما قال {وبِئْسَ المِهَادُ} {وَبِئْسَ القَرَارُ} {وبئس المَصِيرُ}
وكما قال {بئْسَ لِلظالِمينَ بَدَلاً} يريد إبليس وذُرِّيتّه، ولم يقل بئسوا.
وقد يكون (بئس) لإبليس وحده أيضاً. والعرب توحّد نعم
وبئس وإن كانتا بعد الأَسماء فيقولون: أَمّا قومُك فنِعْمُوا قوماً، ونعم قوماً،
وكذلك بئس. وإنما جاز توحيدها لأَنهما ليستا بفعل يُلتمَس معناه، إنما أدخلوهما
لتدلاّ على المدح والذمّ، ألا ترى أن لفظهما لفظ فَعَل وليس معناهما كذلك، وأنه لا
يقال منهما يبأس الرجل زيد، ولا ينعم الرجل أخوك، فلذلكَ استجازوا الجمع والتوحيد
فى الفعل. ونظيرهما {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} وفى قراءة عبدالله
(عَسَوْا أَنْ يَكُونوا خَيْراً مِنْهُمْ) ألا ترى أنك لا تقول، هو يَعْسِى كما لم
تقل يَبْأَس.
{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ
تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً }
وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا...}
ولم يقل:
آتتا. وذلك أن (كلتا) ثنتان لا يُفرد واحدتهما، وأصله كُلّ كما تقول للثلاثة: كلّ:
فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، لا أن يفرد للواحدة شىء فجاز توحيده ب
على مذهب كلّ. وتأنيثُه جائز للتأنيث الذى ظهر فى كِلْتا. وكذلك فافعل بكلتا
وكِلاَ وكُلّ إذا أضفتهنّ إلى مَعرفة وجاء الفعل بعدهن، فاجمع ووحِّد. من التوحيد
قوله {وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً} ومن الجمع {وكُلٌّ أَتَوهُ
دَاخِرِين} و (آتوه) مثله.
وهو كثير فى القرآن وَسائر الكلام. قال الشاعر:
وكلتاهما قد خُطّ لى فى صَحيفتى * فلا العَيْشُ أهواه
ولا الموت أرْوح
وقد تفرِد العرب إحدى كلتا وهم يذهبون بإفرادهَا إلى
اثنتيها، أنشدنى بعضهم.
فى كِلت رجليهَا سُلاَمَى واحده * كلتاهما مقرونة بزائده
يريد بكلت كلتا.
والعرب تفعَل ذلك أيضاً فى (أىّ) فيؤنثونَ ويذكِّرونَ،
والمعنى التأنيث، من ذلكَ قول الله تبارك وتعالىَ {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ} ويجوز فى الكلام بأيَّة أرض. ومثله {فى أَىِّ صُورة} يجوز فى
الكلام فى أيَّة صورة. وقال الشاعر:
بأىّ بلاء أمْ بأيَّة نعمة * يقدَّم قبلى مُسلم
والمُهَلَّب
ويجوز أيّتهُما قال ذاك. وقالت ذاكَ أجود. فتذكّر وقد
أدخلت الهاء، تتوهّم أنّ الهاء سَاقطة إذا جاز للتأنيث {بأىّ أرضٍ تَمُوتُ} وكذلك
يجوز أن تقول للاثنتين: كلاهما وكلتاهما قال الشاعر:
كلا عقِبيه قد تشعّبَ رَأسُهَا * من الضرب فى جَنْبَىْ
ثَفَالٍ مباشر
الثفال: البعير البطىء.
فإن قال قائل: إنما استجزتَ توحيد (كلتا) لأن الواحد
منهما لا يُفرد فهل تجيز: الاثنتان قام وتوحّد، وَالاثنان قام إذْ لم يفرَد له واحد؟
قلت:
إن الاثنين بُنيا على واحد ولم يُبن (كِلاَ) على واحد، ألا ترى أن قولك: قام عبدُالله
كلُّه خطأ، وأنك تجد معنى الاثنين على واحد كمعنى الثلاثة وزيادات العدد، ولا يجوز
إلا أن تقول: الاثنان قاما والاثنتان قامَتَا.
وهى فى قراءة عبدالله.
* كُلّ الجنتين آتى أُكُله *
ومعناه كلّ شىء من ثمر الجنتين آتى أكله. ولو أراد جمع
الثنتين ولم يرد كل الثمر لم يجز إلاَّ كلتاهما، ألا تَرَى أنك لا تقول: قامت
المرأتان كلهما، لأن (كل) لا تصلح لإحدى المرأتين وتصلح لإحدى الجنَّتين. فقِس عَلى
هَاتين كل ما يتبعِّض مما يقسم أوْ لا يُقسْم.
وقوله {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} يقال: كيف
جَاز التَّشديد وإنما النهر واحد؟ قلت: لأن النهر يمتدّ حتى صار التفجر كأنه فيه
كلّه فالتخفيف فيه والتثقيل جائزان. ومثله {حتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ
يَنْبُوعاً} يثقّل ويخفّف.
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ
يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً }
قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ...}
حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال: وحدثنى المعلَّي بن
هلال الجُعْفِىّ عن ابن أبى نجيح عن مجاهد قال: ما كان فى القرآن من ثُمرُ بالضمّ
فهو مال، وما كان من ثَمرَ مفتوح فهو من الثمار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ
إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }
وقوله: {خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً...}
مردودة على الجنَّة وفى بعض مصَاحف أهل المدينة (منْهُما
مُنْقَلَباً) مردودةً على الجنَّتين.
{ لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ
بِرَبِّي أَحَداً }
وقوله: {لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي...}
معناه: لكن أنا هو الله ربّى تُرِك همزة الألف
من أنا، وكثر بها الكلامُ، فأدغمت النون من (أنا) مع النون من (لكن) ومِنَ العرب
من يقول: أنا قلت ذاك بتمام الألف فقرئت لكنّا على تلك اللغة وأثبتوا الألف فى
اللغتين فى المصحف: كما قالوا: رأيت يزيدا وقواريرا فثبتت فيهما الألف فى القولين
إذا وقفت. ويجوز الوقوف بغير ألف فى غير القرآن فى أنا. ومن العرب من يقول إذا
وقف: أَنَهْ وهى فى لغة جَيّدة. وهى فى عُلْيا تميم وسُفْلى قيس وأنشدنى أبو
ثَرْوان:
وترميننى بالطّرْف أىْ أنت مذنب * وتقلِيننى لكنّ إيّاكَ
لا أَقلى
يريد:
لكِنْ أنا إيّاك لا أَقلى، فترك الهمز فصَار كالحرف
الواحد. وزعم الكسائى أنه سمع العرب تقول لكنَّ والله، يريدون: لكن أنا والله.
وقال الكسائى: سمعت بعض العرب يقول: إنَّ قائم يريد إنْ أنا قائم فترك الهمز:
وأدْغم فهى نظير للكن.
{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ
لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً }
وقوله: {مَا شَآءَ اللَّهُ...}
مَا، فى موضع رفع، إن شئت رفعته بإضمار (هو) تريد: هو ما
شاء الله. وإن شئت أضمرت ما شاء الله كان فطرحت (كان) وكان موضع (ما) نصبا بشاء،
لأن الفعل واقع عليه. وجاز طرح الجواب كما قال {فإنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغىَ
نَفَقَا فىِ الأرْضِ أَوْ سُلَّماً فىِ السَّماءِ} ليسَ له جواب لأن معناه معروف.
وقوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ} (أنا) إذا
نصبت (أقلَّ) عماد. وإذا رفعت (أقل) فهى اسم والقراءة بهما جائزة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ
وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }
وقوله: {صَعِيداً زَلَقاً...}
الزلَق: التراب الذى لا نبات فيه محترق رَمِيم
{ أَوْ
يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً }
[قوله:] {مَآؤُهَا غَوْراً...}
العرب تقول: ماء غَوْر، وماءان غَوْر، ومِياه غوْر
بالتوحيد فى كل شىء.
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ
عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ
يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ
يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً }
وقوله:{خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا...}
على سقوفها.
وقوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ...}
ذهب إِلى الرجال. ولو قيل: تَنْصره يذهب إلى الفئة - كما
قال {(فِئَةٌ) تُقَاتِلُ فىِ سَبيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} - لجاز.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ
ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }
وقوله: {هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقُّ...}
رَفْع من نعت (الولاية) وفى قراءة أُبَىّ (هُنَالِكَ
الْوَلاَيَةُ الْحَقُّ لِلَّه) وإن شئت خفضت تجعله من نعْت (الله) والوِلاية
المُلْك. ولو نصبت (الحقّ) عَلَى معنى حَقّا كان صواباً.
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
مُّقْتَدِراً }
وقوله: {تَذْرُوهُ الرِّياحُ...}
من ذَرَوت وذَرَيْت لغة، وهى كذلكَ فى قراءة عبدالله
(تَذْرِيه الريح) ولو قرأ قارىء (تُذْريه الريح) من أذريت أى تلقيه كان وجهاً
وأنشدنى المفضَّل:
فقلت له صوِّب ولا تجهَدَنَّهُ * فيُذرِكَ منْ أُخْرى
القطاةِ فتَزْلَقِ
تقول: أذريت الرجل عن الدابَّة وعن البعير أى ألقيته.
{ الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }
وقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ...}
يقال هى الصلوات الخمس ويقال هى سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقوله: {وَخَيْرٌ أَمَلاً} (يقول خير ما يؤْمَل) والأمل
للعمل الصَّالح خير من الأمل للعمل السّىء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ
بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً }
وقوله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ...}
وقوله:
{وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} يقول: أبرزنا أهلها من
بطنها. وَيقال: سُيّرت عنها الجبال فصَارت كلها بارزة لا يستر بعضُها بعضاً.
وقوله:
{فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ} هذه القراءة (ولو قرئت
"ولم نغْدِرْ" كانَ صَوَاباً) ومعناهما واحد يقال: مَا أغدرت منهم
أحداً، وما غادرت وأنشدنى بعضهم:
هل لك والعائض منهم عائِض * فى هجمة يغدرمنها القابض
* سُدْسا ورُبعا تحتها فرائض *
قال، الفراء سدس ورُبْع من أسنان الإبل.
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ
فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }
وقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ...}
أى خرج عن طاعة رَبّه. والعرب تقول، فَسَقت الرُّطَبة من
(جلدها) وقشرها لخروجها منه وكأنّ الفأرة إنها سُمّيت فُوَيْسِقة لخروجها من
جُحْرها على الناس.
{ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً }
وقوله:
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً...}
يقال: جعلنا تواصُلهم فى الدنيا (مَوْبَقاً) يقول
مَهْلكا لهم فى الآخرة ويقال: إنه وادٍ فى جهنم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ
مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً }
وقوله: {فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا...}
أى علموا.
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ
الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ
الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً }
وقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ...}
يقال:
الناس ها هنا فى معنى رجل واحد. وقوله {إِلاَّ أَن
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أن فى موضع رَفع وقوله {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}
يقول: سنتنا فى إهلاك الأُمم المكذِّبة. وقوله {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ
قُبُلاً}: عِياناً. وقد تكون (قِبَلاً) لهذا المعنى. وتكون (قُبُلاً) كأنه جمع قَبِيل
وقُبُل أى عذاب متفرق يتلو بعضُه بعضاً.
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ
يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ
لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
}
وقوله: {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ...}
(الموئل المَنْجى) وهو الملْجأ فى المعنى وَاحد. والعرب
تقول: إنه ليوائل إلى موضعه يريدون: بذهب إِلى موضعه وحِرْزه.
وقال الشاعر:
لا وألت نفسك خلَّيتها * للعامريّين ولم تُكْلَم
(يريد: لا نجت)
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
}
وقولهُ: {لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً...}
يقول: لإهلاكنا إيَّاهم (موعداً) أجلا وقرأ
عاصم (لمَهْلَكهِمْ) فتح الميم واللام ويجوز (لمهِلِكهم) بكسر اللام تبنيه على
هَلَك يَهْلِك. فمن أراد الاسم مّما يُفْعَل منه مكسورَ العين كسر مفعلا.
ومن أراد المصدر فتح العين. مثل المضرِب والمضرَب
والمَدِبّ والمَدَبّ والمفِرّ والمَفَرّ فإذا كان يفعل مفتوح العين آثرت العرب
فتحها فى مفعل، اسماً كان أو مصدراً.
وربما كسروا العين فى مفعل إذا أرادوا به الاسم. منهم من
قال {مَجْمِعَ البَحْرَيْنِ} وهو القياس وإن كان قليلاَ.
فإذا كان يفعل مضموم العين مثل يدخل ويخرج آثرت العرب فى
الاسم منه والمصدرِ فتح العين؛ إلا أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين فى مفعل.
من ذلكَ المسجِد والمطلِع والمغرِب والمشرِق والمسقِط والمفرِق والمجزِر والمسكِن
والمَرْفِق من رَفَق يَرْفُق والمنسِك من نَسَك يَنْسُك، والمنبت.
فجعلوا الكسر علامة للاسم، والفتح علامة للمصدر. وربما
فتحه بعض العرب (فى الاسم) وقد قرئ مسكِن ومسكَن. وقد سمعنا المسجِد والمسجَد وهم
يريدون الاسم، والمطلَع والمطلِع. والنصب فى كلّه جائِز وإن لم تسمعهُ فلا تنكرنه
إن أتى.
وما كان من ذوات الياء والواو من دعوت وقضيت فالمفعل منه
فيه مفتوح اسماً كان أو مصدراً، إلا المأقِى من العين فإن العرب كسرت هذا الحرف.
وبعضُ العرب يسمّى مَأوَى الإبل مَأْوِى فهذان نادران. وإنما امتنعوا من (كسر
العين) فى الياء والواو لأن الياء والواو تذهبان فى السكت للتنوين الذى يلحق،
فردّوها إلى الألف إذ كانت لا تسقط فى السكوت.
وإذا كان المفعل من كال يكيل وشبهه من الفعل فالاسم منه
مكسور، والمصدر مفتوح من ذلكَ مال مَمِيلا ومَمَالا تذهب بالكسر إلى الأسماء،
وبالفتح إلى المصَادر. ولو فتحتهما جميعاً أو كسرتهما فى المصدر والاسم لجاز. تقول
العرب: المعاش. وقد قالوا: المعيش. وقال رُؤبة ابن العجَّاج:
إليك
اشكو شدّة المعيش ا * ومرّ أعوام نتَفْن ريشى
* نتف الحُبَارَى عن قَرَا رَهِيشِ *
القَرَا: الظهر، وقال الآخر:
أنا الرجل الذى قد عبتموهُ * ومَا فيكم لَعَيّاب مَعَاب
ومثله مَسَار ومَسِير، وما كان يشبهه فهو مثله.
وإذا كان يفعل مفتوحاً من ذوات اليَاء والواو مثل يخاف
ويهاب فالاسم والمصدر منه مفتوحان مثل المخاف والمهاب:
وما كان من الواو مضموماً مثل يقوم ويقول ويعود ويقود
وأشباهه فالاسم والمصدر فيه مفتوحان، وإنما فتحوه إذا نووا الاسم ولَمْ يكسروه كما
كُسِر المَغْرِب لأنهم كرهوا تحول الواو إلى الياء فتلتبس الواو بالياء.
وما كان أوّله واواً مثل وزنت وورثت ووجِلت فالمفعل فيه
اسماً كان أو مصدراً مكسور؛ مثل قوله {أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} وكذلك
يَوْحَل ويَوْحَل المفعل منهما مكسور (فى الوجهين) وزعم الكسائىّ أنه سمع مَوْجَل
ومَوْحَل. قال الفراء: ويمعت أنا موضَع. وإنما كسروا ما أوّله الواو، لأن الفعل
فيه إذا فتح يكون على وجهين. فأمّا الذى يقع فالواو منه ساقطة؛ مثل وَزَن يزِنُ. والذى لا يقع
تثبت واوه فى يفعل. والمصادر تستوى فى الواقع وغير الواقع. فلم يجعلوا فى مصدرَيهما فرقاً، إنما
تكون الفروق فى فعل يفعل.
وما كان من الهمز فإنه مفتوح فى الوجهين. وكأنهم بَنَوه
على يفعَل؛ لأن ما لامه همزة يأتى بفتح العين من فَعَل ومن فَعِل. فإن قلت: فلو
كَسَروه إرادَة الاسم كما كسروا مجمِعاً. قلت: لم يأت. وكأنهم أنزلوا المهْمُوز.
بمنزلة اليَاء والواو؛ لأن الهمز قد يُترك فتَلْحقهما.
وما كان مفعل مُشتقّاً من أفعلت فلك فيه ضمّ الميم من
اسمه ومصدره. ولك أن تخرجه على أوَّليته قبل أن تزاد عليه الألف. فتقول: أخرجته
مُخْرجاً ومَخْرجاً، وأنزلته مُنْزَلاً ومَنْزِلاً. وقرئ {أَنْزِلْنِى مُنْزَلاَ
مُبَارَكاً} {وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينِ} و {مَنْزِلا}.
وما
كان ممَّا يعمل به من الآلة مثل المِرْوحة والمِطرقة وأشباه ذلك مما تكون فيه
الهاء أو لا تكون فهو مكسور الميم منصوب العين؛ مثل المِدْرع والمِلحف والمِطرق
وأشباه ذلك. إلا أنهم. قالوا: المَطهرة والمِطهرة، والمَرقاة والمِرقاة والمَسقاة
والمِسقاة. فمن كَسرهَا شبَّهها بالآلة التى يُعمل بها. ومن فتح قال: هذا موضع
يُفعل فيه فجعله مخالفاً ففتح الميم؛ أَلا ترى أن المروحة وأشباهها آلة يعمل بها،
وأن المطهرة والمرقاة فى موضعهما لا تزولان يعلم فيهما.
وما كان مصدراً مؤنّثاً فإنّ العرب قد ترفع عينه؛ مثل
المقدُرة وأشباهه. ولا يفعلون ذلك فى مذكَّر ليست فيه الهاء؛ لأن الهاء إذا أدخلت
سقط عنها بناء فعل يفعل فصَارت اسماً مختلفاً، ومفعل يبنى على يفعل، فاجتنوا
الرَّفعة فى مفعل، لأن خِلقة يفعل التى يلزمها الضمّ كَرُم يكرُم فكرهوا أن
يُلزموا العين من ب مفعل ضمَّة فيَظنَّ الجاهل أن فى مفعل فرقاً يلزم كما يلزم
فَعِل يفعَل الفُروقُ، ففتحت إرادة أن تَخلط بمصادر الواقع. فأمّاَ قول الشاعر:
* لِيوم رَوْعٍ أو فَعَال مَكْرُم *
فإنه جمع مَكْرُمة وَمكْرُم. ومثله قول الآخر:
بثين الزمى لا إنّه إن لزِمته * على كثرة الواشين أىُّ
مَعُونِ
أراد جمع معونة. وكان الكسائىّ يقول: هما مفعل نادران لا
يقاس عَليهما وقد ذهبَ مذهباً. إلاّ أنى أجد الوجه الأول أجمل للعربية ممَّا قال.
وقد تقلب فيه الياء إلى الواو فيقال:
وكنت إذا جارى دعا لَمضُوفةٍ * أشمِّر حتى يَنْصُف الساق
مئزرى
جعلها مفعُلة وهى من الياء فقبلها إلى الواو لضمَّة ما
قبلها، كما قالوا: قد سُور به.
وقد قالت العرب فى أحرف فضمّوا الميم والعين، وكسروا الميم والعين جميعاً. فمَّا ضمّوا عينه وميمَهُ قولهم: مُكْحُلة ومُسْعُط ومُدْهُن ومُدُقّ. ومما كسروا ميمه وعينه مِنْخِر ومِنْتِن. ومما زادوا عليه ياء للكسر، وواواً للضم مِسكين ومِنديل ومِنطق. والواو نحو مُغْفُور ومُغْثُور وهو الذى يسقط على الثُمام ويقال للمِنخِر: مُنخور وهم طَيّىء. والذين ضمّوا أوله وعينه شبّهوا الميم بما هو من الأصل، كأنه فُعلول. وكذلك الذين كسروا الميم والعين شبّهوه بفِلعيل وفِعلِل.
وما
كان من ميم زائدة أدخلتها على فِعل رباعى قد زيد على ثلاَثيّة شىء من الزيادات
فالميم منه فى الفاعل والمفعول به والمصدر مضمومة. من ذلك قولك رجل مُستضرَبٌ
(ومُستضَربٌ) ومستطعِم ومستطعَم. يكون المستطعم - بالفتح - مصدراً ورجلا
وكذلك المضاربَ هو الفاعل والمضاربَ - بالفتح - مصدر ورجل. وكلّ الزيادات على هذا
لا ينكسر، ولا يختلف فيه فى لغات ولا غيرها؛ إلا أن من العرب - وهم قليل - مَن يقول
فى المتكبِّر: متكبَّر كأنهم بنَوه على يتكبَّر. وهو من لغة الأنصار وليس مما
يُبنى عليه. قال الفراء: وحُدّثتُ أن بعض العرب يكسر الميم فى هذا النوع إذا أدغم
فيقول هم المِطَّوِّعة والمِسَّمِع للمُستمع. وهم من الأنصار. وهى من المرفوض.
وقالت العرب: مَوْهَب فجعلوه اسماً موضوعا عَلَى غير بنَاء، ومَوْكَل اسماً
موضوعاً. ومنه مَوحَد لأنهم لم يريدوا مصدر وَحَد، إنما جُعل اسماً فى معنى واحد
مثل مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع. وأما قولهم: مَزْيد وَمَزْوَد فهما أيضاً اسمان
مختلِفان عَلَى غير بناء الفعل؛ ولك فى الاختلاف أن تفتح ما سَبيله الكسر إذا أشبه
بعض المُثُل، وتضمّ المفتوح أو تكسره إذا وجَّهته إلى مثالٍ من أسمائِهم كما قيل
مَعفور للذى يسقط على الثمام وميمه زائدة فشبه بفُعلول، وكمَا قَالَتْ العرب
(فىالمصير وهو من صِرت مُصْران للجميع) ومَسيلِ الماء وهو مفعِل: مُسْلان للجميع فشبَّهوا
مفعلا بفَعِيل؛ ألا ترى أنهم قالوا سُؤته مسائية وإنما هى مساءة على مَفْعَلة
فزيدت عليهَا الياء من آخرهَا كما تزاد عَلَى فعالة نحو كراهة وكراهية وطَبَانة
وطبانِيَة.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى
أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً }
وقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ...}
يريد: لا أزال حتى أبلغ، لم يرد: لا أبرح
مكانى. وقوله: {فَلَنْ أَبْرحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبىِ} غير معنى
أزال، هذه إقامة. وقوله {لَنْ نبْرَحَ عَليْهِ عَاكِفِينَ}: لن نزال عليه عاكفينَ.
ومثلها ما فتئت وَمَا فتأت - لغة - وَلاَ أفتأ أذكرك. وقوله {تَاللهِ تَفْتَأُ
تَذْكُرُ يُوسُفَ} مَعْنَاهُ: لا تزال تذكر يوسف. ولا يكون تزال وأفتأ وأبرح إذا كانت
فى معناهما إلاّ بجحد ظاهر أو مضمر. فأما الظاهر فقد تراه فى القرآن {وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفين} {وَلاَ يَزَالُ الذِينَ كَفَرُوا} {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ
دَعْوَاهُمُ} وكذلك {لا أَبْرَحُ} والمضمر فيه الجحد قول الله (تَفْتَأُ) ومعناه:
لا تفتأ. لا تزال تذكر يوسف: ومثله قول الشاعر:
فَلاَ وأَبىِ دَهْمَاءَ زَالَتْ عزِيزةً * عَلَى قومها
ما فتَّل الزَّنْدَ قَادِحُ
وكذلك قول امرئ القيس:
فقلت يمينُ الله أبرح قاعداً * ولو قطعُوا رَأسى لديكِ
وأوصَالى
قوله:
{أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} الحُقُبُ فى لغة قيس: سَنَة.
وَجَاء التفسير أنه ثمانون سنة. وأمَّ قوله: {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} فبحر فارس
والروم. وأنما سمّى فتى مُوسَى لأنه كان لازماً له يأخذ عنه العلم. وهو يُوشعَ بن
نون.
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا
حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً }
وقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا...}
وإنما نسيه يوشع فأضافه إليهما، كما قال {يَخْرُجُ
مِنْهُمَا الُّلؤلُؤ وَالمَرْجانُ وإنما يخرج من المِلْح دون العَذْب. وقوله
{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} كان مالحاً فلمَّا حَيِىَ بالماء
الذى أَصَابه مِنَ العين فوقع فى البحر جمد طريقُه فى البحر فكانَ كالسرب.
وقوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ}.
يقول: اتخذ موسَى سَبيل الحوت {فىِ البَحْرِ عَجَباً}.
ثم قال حين أخبره بقصَّة الحوت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ قَالَ
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً }
وقوله: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ...}
أى هذا الذى كنَّا نبغى.
{ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن
شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }
وقوله: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً...}
يقول: حَتَّى أكون أنا الذى اسألك.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ
خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
إِمْراً }
وقوله: {لِيَغْرَقَ أَهْلَهَا...}
قرأها يحيى بن وَثَّاب والحسنُ بالرفع والياَء وقرأها
سَائر الناس {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً
}
وقوله: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ...}
حدَّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال
حدثنى يحينى بن المهلَّب - وكَان من أفاضل أهل الكوفة - عن رجل عن المِنْهال عن سَعِيد بن
جُبَير عن ابن عباس عن أُبَىّ بن كعب الأنصارىّ قال: لم ينس ولكنها من مَعَاريض الكلام.
وقوله {وَلاَ تُرْهِقْنِي} يقول: لا تُعجلنى.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً
فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً نُّكْراً }
وقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْساً (زَكِيَّةً)...}
مَرَّ بغلام لم تجن جناية رآها موسَى فقتله. وقوله
(زَكِيَّة) قرأهَا عاصم ويحيى بن وثاب والحسن (زكيّةِ) وقرأهَا أهل الحجاز وأبو
الرحمن السُّلَمِىّ (زَاكية) بألف. وهى مثل قوله {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قاسِيةً} (وقَسِيَّة).
{ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ
تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً }
وقوله:
{فَلاَ تُصَاحِبْنِي...}
و{فَلاَ تَصْحَبْنِى} نَفْسُك ولا تصحبنى أنت كل ذلك
صواب والله محمود.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ
أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ
فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }
وقوله: {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا...}
سِألوهم القِرَى: الإضافة فلم يفعلوا. فلو قرئَتْ) (أَنْ
يُضِيفُوهُمَا) كان صَوَاباً. ويقال القرية أنطاكية [وقوله] {يُرِيدُ أَن
يَنقَضَّ} يقال: كيفَ يريد الجدار أن ينقضّ؟ وذلك من كلام العرب أن يقولوا: الجدار
يريد أن يسقط. ومثله قول الله {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ} والغضب لا يسكت
(إنما يسكت صَاحبه) وَإنما معناه: سَكن، وقوله: {فَإذا عَزَمَ الأَمْرُ} [و] إنما
يَعزم الأمرَ أهلُه وقد قال الشاعر:
إن دهرا يلفُّ شملى بجُمْلٍ * لزمان يَهُمُّ
بالإِحْسَانِ
وقال الآخر:
شكا إلى جملى طول السُّرى * صبراً جميلاً فكلاَنا
مبتَلَى
والجمل لم يَشْك، إنما تُكلّم به على أنه لو نطق لقال
ذلك. وكذلك قول عنترة.
فازوَرَّ من وَقْع القَنَا بِلَبَانه * وشكا إلىَّ
بعَبْرة وتَحْمحُمِ
وقد ذُكرت (يَنْقَاض) للجدار والانقياض: الشَقّ فى طول
الجدار وفى طىّ البئر وفى سِنّ الرَّجُل يقال: انقاضت سِنُّهُ إذا انشقّت طولاً.
فقال مُوسَى لَوْ شِئْتَ [لم تُقِمه حتّى يَقُرونا فهو الأجر. وقرأ مجاهد] {لو شئت
لتَخِذْتَ عَلَيْهِ أجْراً} وأنشدنى القَنَانِىّ.
* تَخِذَهَا سُرِّيَّةً تُقَعِّده *
وأصلها اتّخذ: افتعل.
{ قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }
وقوله: {هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ...}
[ولو
نصبت الثانية كان صوابا، يتوهم أنه كان (فراق ما بينى وبينك)].
{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ
يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
}
وقوله: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ...}
يقول:
أمامهم مَلِك. وهو كقوله {مِنْ وَرَائه جَهَنَّم} أىْ
أنها بين يديه. ولا يجوز أن تقول لرجل وراءكَ: هو بين يديك، ولا لرجل هو بين يديك:
هو وراءك، إنما يجوز ذلك فى المواقيت من الأيّام والليالى والدهر أن تقول: وراءك بَرْد
شديد: وبين يديك بَرْد شديد؛ لأنك أنت وراءهُ فجاز لأنه شىء يأتى، فكأنه إذا لحقك
صَار من ورائِك، وكأنك إذا بلغته صَار بين يديك. فلذلك جاز الوجهان.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ
فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً }
وقوله: {فَخَشِينَآ...}:
فعلمنا.
وهى فى قراءة أُبَىٍّ (فخاف ربُّك أَنْ يُرهِقَهُمَا)
على معنى: علم ربُّكَ. وهو مثل قوله {إلاَّ أنْ يَخَافا} قال: إلا أن يعلما ويظنّا. والخوف والظنّ يُذهب
بهما مذهبَ العلم.
{ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً
مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
}
وقوله: {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً...}
صَلاحاً {وَأَقْرَبَ رُحْماً} يقول: أقرب أن يُرْحمَا
به. وهو مصدر رحمت.
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }
وقوله: {كَنزٌ لَّهُمَا...}
يقال: علِم.
وقوله
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} نَصْب: فَعَل ذلك رحمة منه. وكلّ فعل رأيتَه مفسِّراً
للخبر الذى قبله فهو منصوب. وتعرفه بأن ترى هو وهى تصلحان قبل المصدر. فإذا
أُلقِيتا اتّصل المصدر بالكلام الذى قبله فنُصِب، كقوله {فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ} وكقوله {إنَّكَ
لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيِم تَنْزِيلَ العزِيزِ الرَّحيم}
معناه: إنك من المرسلين وهو تنزيل العزيز {وهذا تنزيل العزيز الرحيم} وكذلك قوله
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} معناه: الفرق فيها
أمر من عندنا. فإذا ألقيت ما يرفع المصدر اتّصل بما قبله فنُصِب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ فَأَتْبَعَ سَبَباً }
وقوله: {فَأَتْبَعَ سَبَباً...}
قرئت (فأتْبَع) و (اتَّبَع) وأَتْبَع أحسن من اتَّبع، لأن اتَّبعت
الرجل إِذا كان يسير وأنت تسير وراءه. وإذا قلت أَتبعته بقطع الألف فكأنك قفوته.
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً }
وقوله: {حَمِئَةٍ...}
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال
حدثنى حِبَّان عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس (حَمِئَةٍ) قال: تغرب فى عَين
سوداء. وكذلك قرأهَا ابن عَباس حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء
قال حدثنى سفيان ابن عُيَيْنَة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ (حَمِئَةٍ) حدثنا أبو العباس
قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى محمد بن عبدالعزيز عن مُغيرة عن مجاهد
أن ابن الزبير قرأ (حَامِيَة) وذكر بعض المشيخة عن خَصَيف عن أبى عبيدة (أن ابن
مسعود قرأ) (حَامِيَةٍ).
وقوله
{إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} مَوضع أن كلتيهما
نَصْب. ولو رفعت كان صواباً أى فإنما هو هذا أو هَذا. وأنشدنى بعض العرب:
فسيرا فإمَّا حاجةٌ تقضيانها * وإما مَقِيل صالح وصديق
ا ولو كان قوله {فَإمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءَ} رفعاً كان صَواباً؛ والعرب تستأنف بإمَّا وَإمَّا. أنشدنى بعض بنى عُكْل:
ومن لا يزل يستودع الناسَ مالَه * تَرِبْهُ على بعض
الخطوب الودائِعُ
ترى الناس إمّا جاعلوه وقاية * لمالهُم أو تاركوه فضائع
وقايةً ووِقَاءَهُم. والنصب على افعل بنا هذا أو هذا،
والرفع على هو هذا أو هذا.
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً
الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }
وقوله: {فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى...}
أى فله جزاء الحسنى نَصَبت الجزاء على التفسير وهذا مما
فسّرت لك. وقوله {جَزَآءً الْحُسْنَى} مضاف. وقد تكون الحسنى حَسَناته فهو
جزاؤها. وتكون الحسنى الجنة، تضيف الجزاء إليهَا، وهى هو، كما قال {حَقُّ
اليَقِين} و {دِينُ القَيِّمةِ} {ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} ولو جعلت (الحسنى) رفعاً وقد
رفعت الجزاء ونوَّنت فيه كان وجهاً. ولم يقرأ به أحد. فتكون كقراءة مسروق {إِنَّا
زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب} فخفض الكواكب ترجمة عن
الزينة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً }
وقوله: {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً...}
يقول: لاَ جبل ولا سِتْر ولا شجر ؛ هم عُرَاة.
{ قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن
تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }
وقوله:
{يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ...}
همزهما عاصم ولم يهمزهما غيره [وقوله: {فَهَلْ نَجْعَلُ
لَكَ خَرْجاً}] الخراج الاسم الأوّل. والخرج كالمصدر كأنه الجُعْل.
{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }
وقوله: {مَا مَكَّنِّي...}
أُدغمت نونه فى النون التى بعدها. وقد ذكر عن مجاهد
(ذكره أبو طلحة الناقط ما يحضرنى عن غيره) قال: (مَا مَكَّنَنى) بنونين ظاهرتين
وهو الأصل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ
الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }
وقوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ...}
و (الصُّدُفَيْنِ) و (الصُّدْفَيْنِ) سَاوى وسوَّى
بينهما واحد.
[قوله:
{آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ}]: قرأ حمزة والأعمش (قال
أْتُونِى) (مقصورة) فنصبا القِطر بهَا وجعلاها (من جيئونى) و (آتُونى) أعطونى. إذا
طوَّلت الألف كان جيّدا {آتِنَا غَدَاءَنَا}: آتونى قِطرا أفرغ عليه. وإذا لم تطوّل
الألِف أدخلت الياء فى المنصوب فقلت ائِتنا بغدائِنا. وقول حمزة والأعمش صواب
جَائز منْ وجهين. يكون مثل قولك: أخذت الخِطَام وأخذت بالخطام. ويكون على ترك
الهمزة الأولى فى (آتونى) فإذا أَسقطت الأولى همزت الثانية.
{ قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً }
وقوله: {جَعَلَهُ دَكَّآءَ...}
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال
حدثنى قيس بن الربيع عن سَعيد بن مسروق عن الشَّعبىّ عن الربيع بن خَيْثم الثورىّ
أن رجلا قرأ عليه (دكّاً) فقال (دَكَّاءَ) فَخِّمها. قال الفراء: يعنى: أَطِلْها.
{ وَعَرَضْنَا
جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً }
وقوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ...}:
أبرزناها حتى نظر إليها الكفار وأعرضت هى: استبانت وظهرت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الكهف )
{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن
ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }
وقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً...}
كقولكَ: لا يستطيعون سَمْع الهدى فيهتدوا.
{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ
عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ
نُزُلاً }
وقوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ...}
قراءة أصحاب عبدالله ومجاهد (أَفَحَسِبَ) حدَّثنا أبو
العباس قال حدّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال: حدثنى محمد بن المُفَضَّل الخراسانى
عن الصَلْت بن بِهْرَامَ عن رجل قد سمّاه عن علىّ أنه قرأ (أفحَسْبَ الذِينَ
كَفَروا) فإذا قلت (أَفَحَسْبُ الذين كَفرُوا). فأَن رفع وإذا قلت (أفحَسِبَ) كانت أن
نصبا.
{ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً }
قوله: {عَنْهَا حِوَلاً...}
تحوّلا.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( مريم )
{ ذِكْرُ
رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
}
وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ...}
الذكر مرفوع بكهيعص. وإن شئت أضمرت: هذا ذكر رحمةِ
ربِّك. والمعنى ذكر ربِّك عبده برحمته فهو تقديم وتأخير. (زَكَرِيَّا) فى موضع نصب.
{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }
وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً...}
يقول: لم أَشْقَ بدعائِك، أَجبتنى إذ دعوتك.
{ وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن
لَّدُنْكَ وَلِيّاً }
وقوله: {الْمَوَالِيَ...}
هم بنو (عم الرجل) وورثتَه والوَلِىّ والمَوْلى فى كلام
العرب واحد وفى قراءة عبدالله (إنَّمَا مَوْلاَكُمُ اللهُ ورَسُولَهُ) مكان
(وَليُّكُمْ) وذكر فى خَفَّتِ الموالى أنه قلَّت، ذُكِر عن عثمان (بن عفان).
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ
رَبِّ رَضِيّاً }
وقوله: {يَرِثُنِي...}
تُقرأ جزما ورفعاً: قرأها يحيى بن وَثّاب جزما والجزمُ
الوجه؛ لأن (يرثنى) من آية سوى الأولى فحسن الجزاء. وإذا رفعت كانت صلةً للولىّ:
هب لى الذى يرثنى. ومثله {رِدْءًا يُصَدِّقُنِى} و {يُصَدِّقْنِى}.
وإذا أوقعت الأمر على نكرة: بعدها فعل فى أوّله الياء
والتّاء والنون والألف كان فيه وجهان: الجزم على الجزاء والشرطِ، والرفع على أَنه
صلة للنكرة بمنزلة الذى، كقول القائِل: أعِرنى دابَّة أركبْها، وإن شئت أركبُها:
وكذلك {أَنْزِلْ علَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا} ولو قال
(تَكُنْ لَنَا) كان صَوابا. فإذا كان الفعل الذى بعد النكرة ليْسَ للأوَّل ولا
يصلح فيه إضمار الهاء إن كان الفعل واقعاً على الرجل فليسَ إلاّ الجزم؛ كقولك:
هَبْ لى ثوباً أَتَجَمَّل مع الناس لا يكون (أتجمَّل) إلاَّ جَزْماً؛ لأن الهاء لا
تصلح فى أتجمل. وتقول: أَعِرنى دابَّة أركبُ يا هذا لأنك تقول أركبُها فتضمر
الهَاء فيصلح ذلك.
{ يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ
يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً }
وقوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً...}
لم يسمّ أحد بيحيى قبل يحيى بن زكريّا.
وقوله: {مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} و (عِتيّا)
وقرأ ابن عباس (عُسِيّاً) وأنت قائل للشيخ إذا كبِر، قد عَتَا وعَسَا كما يقال
للعُود إذا يَبِس.
{ قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }
وقوله: {قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ...}
أى خَلْقُه عَلَىَّ هيِّن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً }
وقوله: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ
لَيَالٍ...}
(أن) فى موضع رفع أى آيتك هَذَا. و (تُكَلِّمَ) منصوبة بأن ولو
رُفعتْ (كما قال: {أَفَلاَ يَرْوَنَ إن لاَ يَرجِعُ إِلَيْهِمْ قُوْلاً:} كان
صواباً.)
وإذا رأيت (أن) الخفيفة معها (لا) فامتحنها بالاسم
المكنِّى مثل الهاء والكاف. فإن صلحَا كان فى الفعل الرفع والنصب وإن لم يصلحا لم يَكن فى
الفعل إِلاّ النصب؛ ألا ترى أنه جائز أن تقول: آيَتك أنّك لا تكلّم الناس والذى لا
يكون إلاّ نصباً.
قوله: {يُريدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً} لأن الهاء
لاَ تصْلح فى (أن) فقِس على هلى هذين. وقوله {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} يقال: من
غير خَرَس.
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى
إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً }
وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ...}
أى أشار إليهم. والعرب تقول أوحى إلىَّ ووَحّى وأومأ
إلىَّ ووَمَى بمعنى واحد، ووَحَى يَحى و (وَمَى يَمِى) وإنه ليِحى إِلى وَحْيا ما
أعرفه.
{ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً }
وقوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا...}
الحَنَان: الرحمة (ونصب حَنَاناً أى) وفعلنا ذلكَ رَحمةً
لأبويه (وَزَكَاةً) يقول: وصلاحاً. ويقال: وتزكية لهما.
المعاني
الواردة في آيات سورة ( مريم
)
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ
مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
}
وقوله: {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً
شَرْقِياً...}
يقال فى مَشْرُقَة دارِ أهلهَا. والعرب تقول: هو منى
نَبْذَة ونُبْذَة.
{ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ
إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }
وقوله: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً...}
كانت إذا أتاها الحيض ضربت حِجاباً.
{ قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ
غُلاَماً زَكِيّاً }
وقوله: {لأَهَبَ لَكِ...}
الهِبَة من الله، حكاها جبريل لها، كأنه هو الواهب. وذلك
كثير فى القرآن خاصّة. وفى قراءة عبدالله (لِيَهَبَ لَكِ) والمعنى: ليهبَ الله لكِ.
وأَما تفسير (لأهب لَكِ) فإنه كقولك أرسَلنى بالقول لأهب لك فكأنه قال: قال: ذا لأهب لك
والفعل لله تعالى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }
وقوله: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً...}
البَغِىّ: الفاجرةَ.
{ قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }
وقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ...}
خَلْقه علىَّ هَيِّن.
{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً }
وقوله: {مَكَاناً قَصِيّاً...}
(قاصيا) بمعنى واحدٍ. أنشدنى بعضهم.
لتقعُدِنَّ مَقعدَ القِصىّ * منى ذى القاذورةِ المقلىّ
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ
قَالَتْ يالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً }
وقوله: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ...}
من جئت
كما تقول: فجاء بها المخاضُ إلى جِذْع النخلة. فلمّا ألقَيْتَ الباء جعلتَ فى
الفعل ألِفا؛ كما تقول: آتيتكَ زيدا تريد: أتيتك بزيد. ومثله {آتُونِى زُبَرَ الحَدِيدِ} فلمَّا ألقيت
الباء زدْت ألِفا وإنما هو ائتونى بزُبَر الحديد. ولغة أخرى لا تصلح فى الكتاب وهى
تميميّة: فأشَاءَهَا المَخَاضُ، ومن أمثال العرب: شرٌّ مَا ألجأك إلى مُخَّة
عُرْقُوب. وأهل الحجاز وأهل العالية يقولون: شرّ مَا أجاءك إلى مُخَّة عرقوب،
والمعنى واحد. وتميم تقول: شرّ مَا أشاءك إلى مُخَّة عرقوب.
وقوله: {وَكُنتُ نَسْياً} ا أصحاب عبدالله قرءوا نَسْيا بفتح النون.
وسائر العرب تكسر النون وهما لغتان مثل الجَسْر والجِسْر والحَجْر والحِجْرِ
والوَتْر والوِتْر. والنِّسْى: ما تلقيه المرأة من خِرَق اعتلالها (لأنه إِذا رُمى
به لم يُرَدّ) وهو الَلَقَى مقصور. وهو النَّسْىُ ولو أردت بالنَّسْى مصدر النسيان
كان صواباً.
بمنزلة قولك: حِجْرا محجوراً: حراما محرما، نَسْيا
مَنِسيّا. والعرب تقول: نسيته نِسياناً، ونسيا، أنشدنى بعضهم:
* من طاعة الربّ وعَصْى الشيطان *
يريد: وعصيان الشيطان. وكذلك أتيته إتيانا وأَتْياً. قال
الشاعر:
أَتْىُ الفواحشِ فيهمُ معروفة * ويرون فعل المكرُمات حَرَامَا
{ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ
جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
}
وقوله: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ...}
و {نَادَاهَا مِن تَحْتَهَآ} وهو المَلَك فى الوجهين جميعاً. أى
فناداهَا جبريل مِن تحتها، وناداها مَن تحتها: الذى تحتها وقوله (سَرِيّاً) السرِىّ:النهر.
{ وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }
وقوله: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ...}
العرب
تقول: هَزَّ بهِ وهزَّه، وخذ الخِطَام وخذ بالخِطَام، وتعلَّق زيدا وتعلَّق بزيد،
وخُذْ برأسه وخذ رأسه، وامدد بالحبل (وامدد الحبلَ) قال الله {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ}
معناه: فليمدد سبباً (إلى السّماء) وكذلك فى قوله {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ} لو كانت: وهُزّى جذعَ النخلة كان صوابا.
وقوله: {يَسَّاقط} ويُقرأ {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} وتَسَاقط
وتُسَاقِط (بالتاء) فمن قرأها يَسَّاقط ذهب إلى الجِذْع. وقد قرأها البَرَاء بن
عازب الياء، وأصحابُ عبدالله (تساقط)
يريدون النخلة، فإن شئت شدَّدت وإن شئت خففت. وإن قلت
{تُسَاقِط عَلَيك} كان صوابا. والتشديد والتخفيف فى المبدوء بالتاء والتشديد فى
المبدوء بالياء خاصَّة. لو قرأ قارئ تُسْقِط عليك رطبا يذهب إلى النخلة أو قال يَسْقط
عَليكِ رُطَباً يذهب إلى الجِذْع كان صَواباً.
وقوله (جَنِيّاً) الجَنِىّ والمَجْنِىّ واحد وهو مفعول
به.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا
تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً
}
وقوله: {وَقَرِّي عَيْناً...}
جاء فىالتفسير: طِيبى نَفساً. وإنما نصبت العين لأن
الفعل كان لها فصيَّرْته للمرأة. معناه: لتَقْرَرْ عينُك، فإذا حُوّل الفعل عن
صاحبه إلى مَا قبله نُصب صَاحبُ الفعل عَلى التفسير. ومثله {فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شِىْءٍ مِنْهُ نَفساً} وإنما معناه: فإن طالت أنفسهنَّ لكم، وَضاق به ذَرْعاً
وضِقت به ذَرْعاً، وسؤت به ظَنّاً إنما (معناه: ساء به ظنّى) وكذلك مررت برَجل
حسنٍ وجهاً إنما كان معناه: حَسُن وجهُه، فحوّلْتَ فعل الوجه إلى الرجل فصَار
الوجه مفسِّرا. فاْبنِ عَلى ذا ما شئت. وقوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ
صَوْماً} أى صمتاً.
{ فَأَتَتْ
بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }
وقوله: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً...}
الفرِىّ: الأمر العَظيم. والعرب تقول: يَفْرِى الفَرِىّ
إذا هو أجاد العمل أو السَّقْىَ ففَضَل الناسَ قِيل هذا فيه. وقال الراجز.
قد أَطعمتنْى دَقَلاً حَجْرِيّاً * قد كنت تفرين به
الفَرِيَّا
أى قد كنت تأكلينه أكلاً كثيراً.
{ ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ
وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
}
وقوله: {ياأُخْتَ هَارُونَ...}
كان لَها أخ يقال له هَارون من خيار بنى إسرائيل ولم يكن
من أبويها فقيل: يأخت هارونَ فى صلاحه. أى إن أخاك صَالح وأبواك أبواك كالتعْيير
لهَا. أى أهل بيتك صَالحونَ وَقد أتيتِ أمراً عظيماً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن
كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }
وقوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ...}
إلى ابنَها. ويقال إن المهد حِجْرهَا وحَجْرهَا. ويقال:
سَريره والحِجْر أجود.
{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي
بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي
جَبَّاراً شَقِيّاً }
وقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً...}
يُتعلم منى حيثما كنتُ.
وقوله: {جَبَّاراً...}
الجبَّار: الذى يقتل عَلَى الغضب، ويضرب على الغضب.
وقوله {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} نصبته عَلى وجَعلنى نبيَّا وجعلنى
بَرَّا. مُتْبَع للنبى كقوله (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيراً) ثم قال
{وَدَانِيَةً عَلَيهِمْ ظِلاَلُهَا} (دانيةً) مردودة على {مُتَّكِئين فيهَا} كما
أن البَرّ مردودة عَلى قوله {نَبِيّاً}.
{ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ
أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
}
وقوله:
{وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ...}
جَاء فى التفسير السَّلامة عَلىَّ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي
فِيهِ يَمْتُرُونَ }
وقوله: {قَوْلَ الْحَقِّ...}
فى قراءة عبدالله (قالُ اللّهِ الحقُّ) والقول والقالُ
فى معنى واحد.
والحقّ فى هذا الموضع يراد به الله. ولو أريد به قول
الحقّ فيضاف القول إلى الحقّ ومعناه القول الحق كان صَوابا كما قيل: {إنَّ هَذَا
لَهُوَ حَقُّ اليَقِين} فيضاف الشىء إلى مثله ومثله قول الله {وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِى كانُوا يُوعَدُونَ} ومعناه الوعد الصدق. وكذلك {ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} إنما هو: والدار
الآخرةُ.
وقد قرأت القراء بالنصب (قَوْلَ الحقّ) وهو كثير يريدون
به: حَقّاً. وإن نصبت القول وهو فى النيِّة من نعت عيسى كان صَوَابَا، كأنك قلت:
هذا عبدالله أخاه بعينه. والعرب تنصب الاسم المعرفة فى هذا وذلكَ وأخواتهما.
فيقولون: هذا عبدالله الأَسَدَ عادياً كما يقولونَ: أسداً عاديا.
{ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
وقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ...}
(أن) فى موضع رفع.
{ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ...}
تقرأ {وأَنَّ اللهَ} فمن فتح أراد: ذلكَ أَنَّ الله ربّى وربكم.
وتكون رفعاً وتكون (فى تأويل) خفض على: ولأن الله كما قال {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يكُنْ
رَبكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ} ولو فتحت (أنَّ) على قوله {وَأَوْصَانىِ بِالصَّلاَةِ
والزكاةِ} (وأن الله) كان وجهَا. وفى قراءة أُبَىّ (إِن الله ربّى وربّكم) بغير
واو فهذا دليل على أنها مكسورة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً }
وقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ...}
اقصص قِصّة إبراهيم: اتل عليهم. وكذلك قوله فيمن ذكر من
الأنبياء (أى)اقصُصْ عليهم قصصهم.
{ ياأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ
الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً }
وقوله: {إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ...}
يريد: إنى أعلم. وهو مثل قوله {فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا} أى فعلمنا.
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ
لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }
وقوله: {لأَرْجُمَنَّكَ...}
لأسُبَّنَّكَ.
وقوله:
{وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} طويلاً يقال كنت عنده مَلْوةً
من دهر ومُلْوةً ومِلْوةً ومُلاَوَةً منْ دهر وهذيل تقول: مِلاوة، وبعض العرب
مَلاوة. كلّه من الطول.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي
إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو
رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً }
وقوله: {كَانَ بِي حَفِيّاً...}
كان بى عالماً لطيفا يجيب دعائى إذا دعوته.
وقوله: {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً...}
يقول: أن دعوتُه لم أَشْقَ به.
{ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا
لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
}
وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً...}
ثناء حسناً فى كلّ الأديان. حدثنا أبو العباسِ قال حدثنا
محمد قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى عمرو بن أبى المقدام عن الحَكَم بن عُتَيبة عن
مجاهد فى قوله {واجْعَل لِى لِسَانَ صِدْقٍ فىِ الآخِرِينَ} قال : ثناء
حَسَناً.
{ وَنَادَيْنَاهُ
مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً }
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ...}
(من الجبل) ليس للطور يمين ولاشِمال، إنما هو الجانب
الذى يلى يمِينكَ كما تقول: عن يمين القِبلة وعن شِمالها.
وقوله {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} (اسم ليسَ بمصدر ولكنه)
كقولك: مُجالس وجَلِيس. والنجِىّ والنَجْوَى قد يكونان اسماً ومصدراً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ
وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
}
وقوله: {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً...}
ولو أَتت: مرضَوّا كان صَواباً؛ لأن أصلها الواو؛ ألا
ترى أَنَّ الرضوان بالواو. والذين قالوا مرضيّاً بنوه عَلى رَضِيت ({ومَرْضُوّاً}
لغة أهل الحجاز).
{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً }
وقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً...}
ذُكر أن إدريس كا حُبِّب إلَى مَلَكِ الموت حتى اسْتأذن
ربَّه فى خُلّته. فسأل إدريسُ مَلَكَ الموت أن يريه النار فاستأذنَ رَبه فأراها
إيّاه ثم (استأذنَ ربه) فى الجنّة فأراها إيّاه فدخلها. فقال له مَلك الموت: اخرج
فقال: والله لا أخرج منه أبداً؛ لأن الله قال {وَإِنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا} فقد وردتها يعنى
النار وقال {وَمَا هُمْ منها بِمُخْرَجِينَ} فلستُ بخارج منها إلا بإذنه. فقال
الله: بإذنى دخلها فدعه. فذلك قوله {وَرَفَعْنَاه مَكَاناً عَلِيّاً}.
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ
وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }
وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ...}
خَلْف:
الخَلْف يُذهَب به إلى الذّم. والخَلَف الصالح. وقد يكون
فى الردئ خَلَف وفى الصالح خَلْف؛ لأنهم قد يذهبون بالخَلْف إلى القَرْن بعد القرن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ جَنَّاتِ
عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ
مَأْتِيّاً }
وقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ...}
نَصْب. ولو رفعت عَلى الاسْتئناف كان صواباً.
وقوله {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} ولم يقل: آتَيا. وكلّ ما
أتاكَ فأنت تأتيه؛ ألا ترى أنك تقول أتيت عَلى خمسين سَنة وأتت علىَّ خمسونَ سنة.
وكلّ ذلك صواب.
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }
وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً...}
ليسَ هنالك بكرة ولا عشِىّ، ولكنهم يُؤتَون بالرزق على
مقادير من الغُدُوّ والعشىّ فى الدنيا.
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا
بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيّاً }
وقوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ...}
يعنى الملائكة وقوله: له {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر
الدنيا {وَمَا خَلْفَنَا} من أمر الآخرة {وَمَا بَيْنَ ذالِكَ} يقال ما بين
النفختين، وبينهما أَربعون سنةً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ
أُخْرَجُ حَيّاً }
وقوله: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً...}
و (أُخْرُجُ) قراءتان.
{ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن
قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً }
وقوله: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ...}
وهى فى قراءة أَبىّ (يَتَذَكَّرُ) وقد قرأت القراء
(يَذْكُرُ) عاصم وغيره.
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ
قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ
مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
}
وقوله: {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً...}:
مجلساً. والندِىّ والنادى لغتان.
المعاني
الواردة في آيات سورة ( مريم
)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ
أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً }
وقوله: {أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً...}
الأثاث:
المتاع. والرِّئى: المنظر، والأثاث لا واحد له، كما أن
المتاع لا واحد له. والعرب تجمع المتاع أمتعة وأماتيع ومُتُعاً. ولو جمعت الأثاث
لقلت: ثلاثة آثَّةٍ، وأُثَت لا غير. وأهل المدينة يقرءونها بغير همز (وَرِيّاً)
وهو وجه جيّد؛ لأنه مع آيات لسن بمهموزات الأواخر. وقد ذُكر عن بعضهم أنه ذهب بالرىِّ
إلى رَوِيت. وقد قرأ بعضهم (وَزِيّاً) بالزاى. والزِّىُّ: الهيئة والمنظَر. والعرب
تقول: قد زَيَّيْت الجارية أى زيَّنتها وهَيَّأتها.
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً }
وقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى...}
بالناسخ والمنسوخ.
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ
لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً }
وقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي...}
بغيرِ همز.
وقوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً...}
حدَّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثناالفراء قال
حدَّثنى المغيرة عن إبراهيم أنه كان يقرأ (مَالُهُ وَوُلْدُهُ) وفى كهيعص (مَالاً
ووُلْداً) قال الفراء وكذلك قرأ يحيى بن وَثَّاب. ونصب عاصم الواو. وثقَّل فى كلّ القرآن.
وقرأ مجاهد (مالُه ووُلْدُه إلاَّ خَسَاراً) بالرفع ونصب سائر القرآن. وقال الشاعر:
ولقد رأيت معاشرا * قد ثَمّروا مَالاً ووُلْدَا
فخفف (وثَمروا) والوُلْد والوَلَد لغتان مثل (ما قالوا): العَدَم
والعُدْمُ (والوُلْد والولد) وهما واحد. (وليسَ بجمع) ومنْ أمثال العرب وُلْدُكِ مَن دَمَّى
عقبيكِ. وقال بعض الشعراء:
فليت فلاناً مات فى بطن أمّه * وليت فلانا كان وُلْدَ
حمار
فهذا
واحد. وقَيْس تَجعل الوُلْد جمعاً والوَلَدَ وَاحداً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً }
وقوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ...}
يعنى ما يزعم العَاصى بن وائل أنّه له فى الجَنَّة
فتجعله لغيره {وَيَأْتِينَا فَرْداً}: خالياً من المال والولد.
{ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً }
وقوله: {لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً...}
يقول: ليكونوا لهم شُفَعاء فى الآخرة.
{ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدّاً }
فقال الله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً...}
يكونون عليهم أعواناً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
}
وقوله: {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ...}
(فى الدنيا) {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}: تزعجهم إلى المعاصى
وتغريهم بها.
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ
عَدّاً }
وقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً...}
يقال: الأيَّام والليالى والشهور والسنون. وقال بعض
المفسِّرين: الأنفاس.
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ
وَفْداً }
وقوله: {نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ
وَفْداً...}
الوَفْد: الركبان.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً }
وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ
وِرْداً...}
مُشَاة عطاشاً.
{ لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ
عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً }
وقوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ...}:
لا يملكون
أن يشفعوا {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً} والعهد لا إله إلا الله. و (مَن) فى
موضع نصب عَلى الاستثناء ولا تكون خفضاً بضمير اللام ولكنها تكون نصباً على معنى
الخفض كما تقول فى الكلام: أردت المرور اليوم إلاّ العدوّ فإنى لا أمُرّ به فتسْتثنيه من
المعْنى ولو أظهرت الباء فقلت: أردت المرور إلاّ بالعدوّ لخفضت. وكذلك لو قيل: لا يملكونَ
الشَّفَاعَةَ إلاَّ لِمَن اتّخذ عند الرحمن [ ب] عهداً.
{ لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً }
وقوله: { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً...}
قرأتِ القرَّاء بكسر الأَلف، إلا أبا عَبدالرحمن السُّلَمِىَّ
فإنه قرأها بالفتح (أَدّا) ومن العرب من يقول: لقد جئت بشىء آدٍّ مثل مادّ. وهو فى
الوجوه كلها: بشىء عظيم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً }
وقوله: {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً...}:
كسراً.
وقوله: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...}
ويَنْفَطِرن. وفى قراءة عبدالله (إن تكاد السَّموات
لتتصَدَّع منه) وقرأها حمزة (يَنْفَطِرْنَ) على هذا المعنى.
{ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً }
وقوله: {أَن دَعَوْا...}
لأن دَعَوا، ومن أَن دَعَوا، وموضع (أَن) نَصْب
لاتصالها. والكسائىّ كان يقول: (موضع أن) خفض.
{ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ
آتِي الرَّحْمَانِ عَبْداً }
وقوله: {إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْداً...}
ولو قلت: آتٍ الرحمن عبداً كان صوابا. ولم أسمعه من قارئ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( مريم )
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً
}
وقوله: {وُدّاً...}
يجعل الله لهم وُدّا فى صدور المؤمنين.
{ وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ
تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً }
وقوله: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً...}
الركز: الصوت
المعاني الواردة في آيات
سورة ( طه )
{ طه
}
قوله: {طه...}
حرف هجاء. وقد جاء فى التفسير طه: يا رجل، يا إنسان
حدَّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى قيس بن الربيع
قال حدَّثنى عاصم عن زِرّ بن حُبَيْش قال: قرأ رجل على ابن مسعود طه بالفتح قال
فقال له عبدالله طِهِ بالكسر قال فقال له الرجل يا أبا عبدالرحمن أليس أنما أُمر
أن يطأ قَدَمُه. قال: فقال له طِهِ. هَكَذَا أقرأنى رسولُ الله صَلى الله عَليه
وسلَّم. وكان بعض القراء يقطّعها طِ هِ قرأها أبو عمرو بن العلاء طاهى هكذا.
{ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى }
وقوله: {إِلاَّ تَذْكِرَةً...}
نَصَبها على قوله: {وَمَا أنزلناه إلا تذكرةً}.
{ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ
الْعُلَى }
وقوله: {تَنزِيلاً...}
ولو كانت (تنزيلٌ) (على الاستئناف) كان صَوَاباً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفَى }
وقوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ...}
ما أسررته (وَأَخْفَى): مَا حَدَّثْت به نفسكَ.
{ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ
إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى
النَّارِ هُدًى }
وقوله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً...}:
وجدت ناراً. والعرب تقول: اخْرُج فاستأنِس هَل ترى شيئا.
ومنْ أمْثال العرب بعد اطّلاع إيناس. وبعضهم يقول بعد طلوع إيناس.
وقوله: {لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا
بِقَبَسٍ} القَبَس مثل النار فى طَرَف العود أو فى القَصَبة. وقوله: {أَوْ أَجِدُ
عَلَى النَّارِ هُدًى} يعنى هاديا.
فأجْزأ المصدرُ من الهادى. وكان موسى قد أخطأ الطريق.
{ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يامُوسَى * إِنِّي أَنَاْ
رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }
وقوله: {يامُوسَى...}
{إِنِّي...}إن جَعَلت النداء واقعاً عَلى (موسى) كسرت
{إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} وإن شئت أوقعت النداء على (أَنِّى) وعلى (موسى) وقد قرىء
بذلكَ.
وقوله:
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ}
ذُكر أنهما كانتا من جِلد حمارٍ ميّتٍ فأُمر بخلعهمَا ا لذلك. وقوله (طوَى) قد
تكسر طاؤه فيُجرَى. ووجه الكلام (الإجراء إذا كسرت الطاء) وإن جعلته اسماً لِمَا
حول الوادى جَاز ألاّ يصرف؛ كما قيل {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ} فأجرَوْ حنيناً؛
لأنه اسم للوادى. وقال الشاعر فى ترك إجرائه:
نصروا نبيَّهُمُ وشدُّوا أَزْره * بحُنَينَ يوم تواكُلِ
الأبطال
نوى أن يجعل (حنين) اسماً للبدة فلم يُجرِه. وقال الآخر:
ألَسْنَا أكرم الثقلين رَحْلا * وأعظمه ببَطن حِرَاء
نارَا
فلم يُجْر حراء وهو جبل لأنه جعله اسماً للبلدة التى هو
بها.
وأمَّا من ضمَّ (طُوى) فالغالب عليه الانصراف. وقد يجوز
ألا يُجرى يجعل على جهة فُعل؛ مثل زُفَر وعُمَر ومُضَر قال الفراء: يقرأ (طُوًى)
مُجراة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }
وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ...}
وتقرأ [وأَنَّا اخترناكَ] مردودة على [نودى] نودى أَنَّا
اخترناكَ، وإنَّا اخترناكَ فإذا كسرهَا استأنفها.
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي
}
وقوله:
{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي...}
ويقرأ:
(لِذِكْرَا) بالألف فمن قال (ذِكْرَا) فجعلها بالألف كان
عَلى جهة الذكرى. وإن شئتَ جَعَلتها ياء إِضافة حُوِّلت ألفاً لرءوس الآيات؛ كما
قال الشاعر:
أطوِّف ما أطوِّف ثم آوِى * إِلى أُمَّا ويُروِينى
النقيعِ
والعرب تقول بأبا وأُمَّا يريدون: بأبى وأُمِّي. ومثله
{يا وَيْلَتَا - أَعَجَزتُ} وإن شِئت جَعَلتها ياء إِضافة وإن شئت ياء نُدْبة و
{يا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فىِ جَنْبِ اللهِ}
{ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا
لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى
}
[وقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا...}
قرأت القراء (أكاد أُخفيها) بالضَمّ. وفى قراءة أُبىّ
(إن السّاعة آتِيَة أكاد أُخفيها من نفسى فكيف أُظهركم عليها} وقرأ سعيد بن جُبَير
(أَخْفِيها) بفتح الألف حدَّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد حدَّثنا الفراء قال
حدثنى الكسائى عن محمد بن سهل عن وَقَاء عن سَعيد بن جُبَير أَنه قرأ (أَخفيَها) بفتح الألف من
خفيت. وخفيت: أظهرت وخفيت: سترت. قال الفراء قال الكسائى والفقهاء يقولون. قال
الشاعر:
فإن تدفنوا الداء لا نخفِه * وإن تبعثوا الحرب لا نَقْعُدِ
يريد لا نُظهره.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى }
وقوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا...}
يريد الإيمان ويقال عن السَّاعة: عن إتيانها. وجَاز أن
تقول: عنها وأنت تريد الإيمان كما قال {ثُمَّ إنّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا}
ثم قال {إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} يذهب إلى الفَعْلة.
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى }
وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى...}
يعنى عَصَاه. ومعنَى (تلك) هذه.
وقوله:
{بِيَمِينِكَ} فى مذهب صلة لتلكَ؛ لأن تلك وهَذه توصلان كما توصل الذى قال الشاعر:
عَدَسْ ما لِعبَّاد عليكِ إمارة * أمِنتِ وهّذَا تحملين
طليقُ
وعَدَسْ زجر للبغل يريد الذى تحملينَ طليق.
{ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ
بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى }
وقوله: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي...}
أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقها فترعاه غنمه {وَلِيَ
فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} يعنى حوائج جعل أخرى نعتاً للمآرب وهى جمع. ولوْ قال:
أُخَر،جاز كما قال الله {فَعِدَّة مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} ومثله {وَلِلّهِ
الأسْمَاءُ الحُسْنَى}
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا
الأُولَى }
وقوله: {سِيَرتَهَا الأُولَى...}
أى طريقتها الأولى. يقول: يردّها عصا كما كانت.
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى
}
وقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ...}
الجَنَاح فى هذا الموضع من أسفل العَضد إلى الإبْط.
وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أى بَرَص.
وقوله: {آيَةً أُخْرَى}، المعنى هى آية أخرى وهذه آية
أخرى، فلمَّا لم يأت بهى ولا بهذه قبل الآية اتَّصلت بالفعل فنُصبت.
{ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى }
وقوله: {مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى...}
ولو قيل: الكُبَر كان صَوَاباً، هى بمنزلة (الأسماء
الحسنى) و (مآرب أخرى).
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي }
وقوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي...}
كانت فى لسانه رُتَّة.
{ هَارُونَ أَخِي }
وقوله: {هَارُونَ أَخِي...}
إن شئت
أوقعت (اجعل) على (هارون أخى) وجعلت الوزير فعلا له. وإن شئت جعلت (هارون أخى) مترجماً عن الوزير، فيكون
نصباً بالتكرير. وقد يجوز فى (هارون)
الرفع على الائتناف لأنه مَعْرفة مفِّسر لنكرة؛ كما قال
الشاعر:
فإن لها جَارين لن يَغدِرا بها * رَبيبُ النبىّ وابنُ
خير الخَلاَئِق
{ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي }
وقوله: {اشْدُدْ بِهِ...}
دعاء:
(اشدُدْ به) ياربّ (أَزْرى وأشركه) يارب (فى أمرى). دعاء
من موسَى وهى فى إحدى القراءتين {أَشْدُدْ بِهِ أزْرِى وأُشْرِكْه فى أَمرى} بضم
الألف. وذكر عن الحسن {أَشْدُدْ به} جزاء للدعاء لقوله {اجعل لى} {وأُشْرِكه} بضم
الألف فى (أشركه) لأنها فعل لموسى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى }
وقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى...}
قبل هذه. وهو ما لطف له إذْ وقع إلى فرعون فحببَّه إليهم
حتَّى غَذَوه. فتلكَ المنَّة الأخرى (مع هذه الآية).
{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ
اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى
قَدَرٍ يامُوسَى }
وقد فسّره إذ قال: { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا
يُوحَى...}
{أَنِ
اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ثم قال: {فَلْيُلْقِهِ
الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} هو جزاء أخرج مُخرج الأمر كأن البحر أُمر. وهو مثل قوله:
{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ} المعنى. وَالله أعلَم: اتبعُوا سبيلنا نحمل
عنكم خطاياكم. وكذلك وعدها الله: ألقيه فى البحر يُلْقِه اليمّ بالسّاحل. فذكر أن
البحر ألقاه إلى مَشْرَعة آل فرعون، فاحتمله جواريه إلى مرأته.
وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}
حُبِّب إلَى (كلّ من رآه).
وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي...}
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ...}
ذكر المشى وحده، ولم يذكر أنها مشت حتّى دخلت عَلى آل
فرعون فدلّتهم على الظِّئر وهذا فى التنزيل كثير مثله قوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأوِيِله فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ} ولم يقل فأُرسل فدَخَل فقال يوسف. وهو من كلام
العرب: أن تجتزئ (بحذف كثير) من الكلام وبقليله إذا كان المعنى معروفاً.
وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} ابتليناك بالغم: غمّ
القتل ابتلاء.
وقوله: {عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى} يريد على ما أراد الله
من تكليمه.
{ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي
ذِكْرِي }
وقوله: {وَلاَ تَنِيَا...}
يريد: ولا تضعُفا ولا تفتُرا عن ذكرى وفى ذكرى سواء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
وقوله: {قَوْلاً لَّيِّناً...}
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال
حدثنى محمد بن أبان القرشىّ قال: كَنَّياهُ. قال محمد بن أبان قال يكنى: أبا
مُرّة، قال الفراء. ويقال: أبو الوليد.
{ قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ
عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى }
وقوله: {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ...}
و
(يُفْرِط) يريد فى العجلة إلى عقوبتنا. والعرب تقول: فَرَطَ منه أمر. وأفرط:
أسْرف، وفَرَّط: توانى ونسى.
{ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ
فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ
بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى }
وقوله: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ...}
ويجوز رَسُول ربك لأن الرسول قد يَكون للجمع وللاثنين
والواحد. قال الشاعر:
أَلِكْنِى إليها وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحى الخبَرْ
أرَاد: الرُّسْلَ.
وقوله: {وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى...}
يريد: والسلامة على من اتّبَع الهدى، ولِمن اتّبع الهدى
سواء (قال أمر موسى أن يقول لفرعون والسلام على من اتَّبع الهدَى.)
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى
مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى }
وقوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ
عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى...}
دليل على معنى قوله: يَسْلم مَنِ اتَّبع الهدى.
{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى }
وقوله: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى...}
يكلِّم الاثنين ثم يجعل الخطاب لواحد؛ لأن لكلام إنما
يكون من الواحد لا من الجميع. ومثله مما جُعِل الفعل على اثنين وهو لواحدٍ.
قوله:
{نسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما نسيه واحد ألا ترى أنه قال
لموسَى {فَإنِّي نَسيِتُ الحُوتَ} ومثله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلؤُ
والمَرْجَانُ} وإنما يخرج من المِلح.
وقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهْ} [يقال: أعطى
الذَكَر من الناس امرأة مثله من صِنفه، والشاة شاة، والثور بقرة.]
{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى }
وقوله: {ثُمَّ هَدَى...}
ألهم الذكر المَأْتَى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ قَالَ
عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى }
وقوله: {فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي...}
رَبَّى أى لا ينساه و (رَبّى) فى موضع رفع تضمر الهاء فى
يَضِلّه (وَلاَ يَنسَى) وتقول: أضللت الشىء إذا ضاع؛ مثل الناقة والفرس وما انفلت
منكَ. وإذا أخطأت الشىء الثابت موضعه مثل الدار والمكان قلت: ضلَلته وضلِلته لغتان
ولاَ تقل أضللت ولا أضللته.
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ
لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى
}
وقوله: {زْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى...}
مختلفِ الألوان والطعوم.
{ كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ
لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى }
وقوله: {إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى...}
يقول: فى اختلاف ألوانه وطَعْمه آيات لذوى العقول. وتقول
للرجل. إنه لذو نُهيْة إذا كانَ ذا عقل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }
وقوله: {تَارَةً أُخْرَى...}
مردودة على قوله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} لا مردودة على
(نُعِيدُكُمْ) لأن الأخرى والآخَر إنما يردّان على أمثالهما. تقول فى الكلام:
اشتريت ناقةً وداراً وناقة أخرى فتكون (أخرى) مردودة على الناقة التى هى مثلها ولا
يجوز أن (تكون مردودةً) على الدار. وكذلك قوله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} كقوله {مِنْهَا
أخْرجناكم، ونخرجكم بعد الموت (مرة أخرى)}.
{ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً
سُوًى }
وقوله: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً...}
يَقول: اضرب بينَنا أجلا فضَرَب. وقوله:
{مَكَاناً سُوًى} و (سِوَى) واكثر كلام العرب سَواء بالفتح والمدّ إذا كان فى معنى
نَصْفٍ وعَدْلٍ فتحوه ومدّوه كقول الله {تعالوا إلَى كلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ} والكسر والضمّ بالقصر عربيّان ولا يكونان إلا مقصورين وقد قرىء
بهمَا:
{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ
النَّاسُ ضُحًى }
وقوله: {يَوْمُ الزِّينَةِ...}
ذكر أنه جعل موعدهم يوم عيد، ويقال: يوم سوق كانت تكون
لهم يتزيَّنون فيها.
وقوله:
{وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} يقول: إذا رأيت الناس
يُحشرون من كل ناحيةٍ ضحىً فذلك الموعد. وموضع (أن) رفع تردّ على اليوم، وخفضٌ ترد
على الزينة أى يوم يحشر الناس.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ
عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }
وقوله: {فَيُسْحِتَكُم...}
وسحت أكثر وهو الاسْتئصال: يستأصلكم بعذاب. وقال الفرزدق:
وعَض زمان يابنَ مرَوانَ لم يَدعْ * من المال إلاّ
مُسْحَتاً أو مُجَلَّف
والعرب تقول سَحَتَ وأسْحَت بمعنى واحد. قال: قيل
للفراء: إن بعض الرواة يقول: ما به من المال إلا مُسْحَت أو مجلّف:
قال ليس هذا بشىء حدّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال
حدثنا الفراء قال حدثنى. أبو جعفر الرؤاسىّ عن أبى عمرو بن العلاء قال: مرّ
الفرزدق بعبدالله بن أبى إسحاق الحضرمىّ النحوىّ فأنشده هذه القصيدة.
عَزَفتَ بأعشاش وما كدت تعزِف * حتى انتهى على هذا البيت...
وعَضُّ زمان يابن مروان لَم يَدَعْ * من المال إلاّ
مُسْحَت أو مُجَلَّف
فقال عبدالله للفرزدق: علام رفعت؟ فقال له الفرزدق: على
مايسوءك.
{ فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ
النَّجْوَى }
وقوله: {فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ...}
يعنى
السَحَرة قال بعضهم لبعض: إن غلَبَنا موسَى اتَّبعناه وأسرُّوها من فرعون وأصحابه.
{ قَالُواْ إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن
يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلَى }
وقوله: {إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ...}
قد اختلف فيه القراء فقال بعضهم: هو لحن ولكنا نمضى عليه
لئلاّ نخالف الكتاب. حدَّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى
أبو معاوية الضرير عَنْ هاشم بن عُروة بن الزُبَير عن أَبيه عن عَائِشة أَنها
سُئِلت عن قوله فى النساء {لَكِنِ الراسِخُونَ فىِ العِلْمِ مِنْهمْ .... والمُقِيمِينَ
الصلاةَ} وعن قوله فى المائدة {إِنَ الذِينَ آمَنوا والّذِين هَادُوا
والصَّابِئُونَ} وعن قوله {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فقالت: يا بن أَخى هذا كان
خطأ من الكاتب. وقرأَ أَبو عمرو {إنَّ هَذَيْنِ لَساحِرَان} واحتجّ أَنه بلغه عن
بعض أَصحاب محمد صَلى الله عَليه وسَلم أنه قال: إن فى المصحف لَحْناً وستقيمه
العرب.
قال الفراء: ولست أشتهى على (أن أخالف الكتاب وقرأ بعضهم
(إنْ هَذَان لساحران) خفيفة وفى قراءة عبدالله: (وأسروا النجوى أَن هذان ساحران)
وفى قراءة أُبَىّ (إنْ ذان إلاّ ساحران) فقراءتنا بتشديد (إنّ) وبالألف على جهتين.
إحداهمَا على لغة بنى الحارث بن كعب: يجعلون الاثنين فى
رفعهما ونصبهما وَخفضهما بالألِف وأنشدنى رجل من الأَسْد عنهم. يريد بنى الحارث:
فأَطرق إطراق الشجاع ولو يرى * مَسَاغاً لِناباه الشجاعُ
لصَمّما
قال: وما رأيت أفصح من هذا الأسْدىّ وحكى
هذا الرجل عنهم: هذا خطُّ يَدَا أخى بعينه. وذلك - وإن كان قليلاً - أقيسُ؛ لأنَّ
العرب قالوا: مسلمون فجعَلوا الواو تابعة للضمَّة (لأن الواو لا تعرب) ثم قالوا:
رأيت المسلمين فجعلوا اليَاء تابعة لكسرة الميم. فلمَّا رأوا أن الياء من الاثينين
لا يمكنهم كسرُ ما قبلها، وثبت مفتوحاً: تركوا الألِف تتبعه، فقالوا: رجلان فى كل حَال.
وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف فى كِلاَ الرجلين فى الرفع والنصب والخفض وهما
اثنان، إلاّ بنى كنانة فإنهم يقولون: رَأيت كِلَىِ الرجلين ومررت بكلَىالرجلين.
وهى قبيحة قليلة، مَضَوا عَلَى القياس.
والوجه الآخر أن تقول: وجدت الألف (من هذا دِعامة وليست
بلام فعل، فلمَّا ثنَيت زدتُ عليهَا نوناً ثم تركت الألف) ثابتة على حالها لا تزول
على كلّ حال؛ كما قالت العرب (الذى) ثم زادوا نوناً تدلّ عَلَى الجِمَاع، فقالوا:
الذين فى رفعهم ونصبهم وخفضهم كما تركوا (هذان) فى رفعه ونصبه وخفضه. وكنانة يقولون
(اللَّذُونَ).
وقوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى...}
الطريقة:
الرجال الأشراف وقوله (المثلى) يريد الأمثل يذهبون
بأشرافكم فقال المثلى ولم يقل المُثل مثل (الأسماء الحسنى) وإن شئت جعلت (المثلى)
مؤنّثة لتأنيث الطريقة. والعرب تقول للقوم: هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم:
أشرافهم، وقوله {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} مِن ذلك. ويقولون للواحد أيضاً: هذا طريقة
قومه ونَظُورة قومه وبعضهم: ونظيرة قومه، ويقولونَ للجمع بالتوحيد والجمع: هؤلاء
نَظُورة قومهم ونظائر قومهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً
وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى }
وقوله: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ...}
الإجماع: الإحكام والعَزيمة عَلَى ا الشىء. تقول أجمعت
الخروج وعلىالخروج مثل أزمعت قال الشاعر:
يا
ليت شعرى والمنى لا تنفع * هل أَغدُوَنْ يوماً وأمرى مُجْمَع
يريد قد أُحكم وعُزِم عليه. ومن قرأ (فأجْمَعُوا) يقول:
لا تتركوا من كَيدكم شيئاً إلاّ جئتم به.
وقوله {مَنِ اسْتَعْلَى} من غلبَ.
{ قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن
نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى
}
وقوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ
أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى...}
و (أَن) فى موضع نصب. والمعنى اختر إحدى هاتين. ولو رفع
إذ لم يظهر الفعل كان صَوَاباً، كأنه خبر، كقول الشاعر:
فسِيرا فإمَّا حاجةٌ تقضِيانها * وإمَّا مقِيلٌ صَالح
وصَديق
ولو رفع قوله {فإمَّا مَنٌّ بَعْدُ وإمَّا فَدِاءٌ}
كَانَ أيضاً صَوَاباً. ومذهبه كمذهب قوله {فَإمْساكٌ بِمَعرُوفٍ أَو تَسْريحٌ
بإحْسَانٍ} والنصب فى قوله { إمَّا أَنْ تُلْقِىَ} وفى قوله {فإمَّا مَنّاً بَعْدُ
وإمَّا فَدِاءً} أجود من الرفع؛ لأنه شىء ليسَ بعامّ؛ مثل ما ترى من مَعنَى قوله {فإمْسَاكٌ} و
{فَصِيَامُ ثلاَثَةِ أيَّامٍ} لَمَّا كان المعنَى يعمُّ الناس فى الإمساك بالمعروف
وفى صيَام الثلاثة الأيام فى كفَّارة اليمين كان كالجزاء فرُفع لذلكَ. والاختيار
إنما هى فَعلة واحدة، ومعنى (أفلح) عاش ونجا.
{ قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }
وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا
تَسْعَى...}
(أنَّها)
فى موضع رفع. ومن قرأ (تُخَيِّلُ) أو (تَخَيَّلُ) فإنها
فى موضع نصب لأن المعنى تتخيل بالسعْى لهم وتُخَيِّل كذلكَ، فإذا ألقيت الباء
نصبت؛ كما تقول: أردت بأن أقوم ومعناه: أردت القيام، فإذا ألقيت الباء نصبت. قال
الله {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإِلحَادٍ بِظُلْمٍ} ولو ألقيتَ البَاء نصبت فقلت: ومن يُرد فيه
إلحادا بظلمٍ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَأَلْقِ
مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ
وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى }
وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ...}
جَعلت (ما) فى مذهب الذى: إن الذى صَنَعُوا كيد سحر، وقد قرَأه بعضهم
{كَيدُ سَاحِرٍ} وكلّ صوابٌ، ولو نصبت { كَيْدَ سحر} كانَ صواباً، وجعلت (إنما) حرفاً واحداً؛
كقوله {إنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَانَا}
وقوله: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} جاء فى
التفسير أنه يُقتل حيثما وُجدَ.
{ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى }
وقوله: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
مِّنْ خِلاَفٍ...}
ويصلح فى مثله من الكلام عنْ وعَلى والبَاء.
وقوله {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يصلح (على) فى
موضع (فى) وإنما صَلحتْ (فى) لأنه يرفع فى الخشبة فى طولها فصلحت (فى) وصَلحت (عَلى) لأنه يرفع فيهَا
فيصير عَليهَا، وقد قال الله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمان} ومعناه فى ملك سُليمان. وقوله {أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} يقول:
وأدْوم.
{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ
}
وقوله: {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا...}
فالذى فى موضع خفض: وعلى الذى. ولو أرادوا بقولهم (والذى
فطرنا) القسم بهَا كانت خفضاً وكان صَواباً، كأنهم قالوا: لن نؤثرك والله.
وقوله
{فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ}: افعل مَا شِئْتَ. وقوله {إِنَّمَا تَقْضِي هَاذِهِ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ} إنما حرف واحد، لذلك نَصبْت (الحياة) ولو قرأ قارئ برفع
(الحياة) لجاز، يجعل (مَا) فى مذهَب الذى كأنه قال: إن الذى تقضيه هذه الدنيا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا
خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى }
وقوله: {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ...}
ما فى موضع نصب مردودة عَلى معنى الخطايا. وذُكر فى
التفسير أن فرعون كان أكره السَّحرة ب على تَعَلّم السّحر.
{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ
بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً
وَلاَ تَخْشَى }
وقوله: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى...}
رفع على الاستئناف بلا؛ كما قال {وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقََا} وأكثر ما جاء فى
جَواب الأمر بالرفع مع لا. وقد قرأ حمزة (لا تَخَفْ دَرَكاً) فجزم عَلى الجزاء
ورفع (وَلاَ تَخْشَى) عَلى الاستئناف، كما قال {يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ
لاَ يُنْصَرُونَ} فاستأنف بثُمَّ، فهذا مثله. ولو نوى حمزة بقوله {وَلاَ تَخْشَى}
الجزم وإن كانت فيه اليَاء كانَ صَوابا؛ كما قال الشاعر:
* هُزِّى إليك الجِذُع يجنيك الجَنَى *
ولْم يَقل: يَجْنك الجنى. وقال الآخر:
هجوتَ زَبَّان ثمَّ جئتَ معتذِراً * من سَبّ زَبَّان لم
تهجو ولم تَدِعِ
وقال الآخر:
أَلَمْ يَأتِيكَ والأَنباءُ تَنْمِى * بِمَا لاَقت
لَبُونُ بنى زِيادِ
فأثبت فى (ياتيك) الياء وهى فى موضع جَزم لسكونها فجاز
ذلكَ.
{ كُلُواْ
مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى }
وقوله: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي...}
الكسر فيه أحبّ إلىّ من الضم لأن الحلول ما وقع من
يَحُلّ، ويَحِلّ: يجب، وَجَاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع. وكلّ صَواب إن شاء
الله. والكسائىّ جعله على الوقوع وهى فى قراءة الفرّاء بالضمّ مثل الكسائىّ سئل
عنه فقاله، وفى قراءة عبدالله أو أَبيّ {إن شاء الله} {وَلاَ يحُلَّنَّ عَلَيْكُمُ
غَضَبِى وَمَنْ يَحْلُلْ عَلَيْه} مضمومة. وأمَّا قوله {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمُ} فهى مَكْسُورَة. وهى مثل الماضيتين، ولو ضُمَّت كان صَوَاباً فإذا قلت
حَلّ بهم العذاب كانت يحلّ بالضم لا غير، فإذا قلت: على أو قلت يحلّ لك كذا وكذا
فهو بالكسر.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى }
وقوله: {ثُمَّ اهْتَدَى...}:
عَلم أن لذلك ثواباً وعقاباً.
{ قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ
إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }
وقوله: {قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي...}
وقد قرأ بعض القراء (أُولاىَ عَلَى أَثَرِى) يترك الهمز،
وشبِّهت بالإضافة إذا تُرك الهمز، كما قرأ يحيى بن وثاب {مِلّة آباىَ إبراهيمَ}
{وَتَقَبَّل دُعَاىَ رَبَّنَا}
{ قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا
وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا
فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ
}
وقوله: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا...}
برفع الميم. (هذا قراءة القراء) ولو قَرئِت بِمِلكنا
(ومَلْكنا) كان صواباً. ومعنى (مُلكنا) فىالتفسير أنا لم نملك الصَّواب إنما أخطأنا.
وقوله
{وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} يعنى ما أخذوا
منْ قوم فرعون حين قَذَفهم البحر من الذهب والفضّة والحديد، فألقيناه فى النارِ.
فكذلك فعل السَّامرىّ فاتَّبعناه. فلما خلصَت فضّة ما ألْقوا وذهبُه صوَّره
السَّامرىّ عجلاً وكَان قد أخذ قَبْضة من أثَر فَرس كانت تحت جبريل (قال
السَّامرىّ لموسَىْ: قُذِف فى نفسى أنِى إن ألقيت تلك القبضة عَلى ميّت حيى، فألقى
تلكَ القبضة فى أنف الثور وفى دُبره فحيى وخار) قال الفراء: وفى تفسير الكلبىّ أن
الفرس كانت الحياة فذاك قوله {وكَذَلكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} يقول زيَّنته لى
نفسى.
ومن قرأ بملكنا بكسر الميم فهو المِلك يملكه الرجل تقول
لكل شىء ملكته: هذا مِلك يمينى للمملوك وغيره مما مُلكَ والمَلْك مصدر مَلَكته
مَلْكاً ومَلَكَة: مثل غلبته غَلْبا وغَلَبَةً. والمُلْك السُّلطان وبعض بنى أسَدٍ
يقول مَالى مُلْك، يقول: مالى شىء أملكه ومِلْك الطريق ومَلْكه: وجهه قال الشاعر:
أقامت على مَلْك الطريق فَمَلكه * لها ولمَنكوب المطايا
جَوانبهُ
ا ويقال مع مَلْك الطريق: فَمِلكه. أقامت عَلى عُظْم
الطريق وعلى سُجُحِ الطريق وَعَلى سَننَه وَسُنَنه:
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ
فَقَالُواْ هَاذَآ الهكُمْ وَاله مُوسَى فَنَسِيَ }
وقوله: {فَنَسِيَ...}
يعنى أن موسَى نسى: أخطأ الطريق فأبطأ عنهم فاتّخذوا
العجل فعَيَّرهم الله فقال. أفلا يرونَ أن العجل لا يتكلّم ولا يملك لهم ضراً ولا
نفعاً.
{ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي }
وقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً...}
القَبضة
بالكف كلِّها. والقَبصة بأطراف الأصَابع. وقرأ الحسن قبصَة بالصاد والقُبصَة
والقُبضة جميعاً: اسم التراب بعينه فلو قرئِتَا كان وجهاً: ومثله ممّا قد قرئ به
{إلاَّ مَنِ اغترف غُرْفة بيده} و (غَرْفَةً). والغُرفة: المغروف، والغَرفة: الفَعلة. وكذلك
الحُسْوة والحَسْوة والخُطْوة والخَطْوة والأُكلة والأَكلة. والأُكلة المأكول
والأكلة المرَّة. والخُطْوة ما بينَ القدمين فى المشى، والخَطْوة: المرَّة. وَمَا
كان مَكسورا فهو مصدر مثل إنه لحسن المِشية والجِلسة والقِعْدة.
{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن
تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى الهكَ
الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي
الْيَمِّ نَسْفاً }
وقوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ
مِسَاسَ...}
أى لا أُمَسّ ولا أَمَسُ، أُوِّل ذلكَ أن موسَى أمرهم
أَلاَّ يؤاكلوه ولا يخالطوه ولا يبايعوه. وتقرأ (لا مَسَاسِ) وهى لغة فاشية: لا
مَسَاسِ لا مَسَاسِ مثل نزال ونظارِ من الانتظار. وقوله {الذِى ظَلْت عليه عاكفاً}
و {ظِلْت}
و {فَظَلتُم تفكَّهُوَن} و {فَظِلتم} إنما جَاز الفتح والكسر لأن معناهما ظلِلتم،
فحذفت اللام الأولى: فمن كسر الظاء جعل كسرة اللام الساقطةِ فى الظاء. ومن فتح
الظاء قال: كانت مفتوحة فتركتُها على فتحها. ومثله مسَسْت ومسِست تقول العرب قد
مَسْتُ ذلك ومِسْته، وهممت بذلكَ وهَمْت، وَوَدِدْتُ وَوَدَدْتُ كذا فى ب أنك فعلت
ذاكَ، وهل أحسست صاحبك وهل أَحسْت.
وقوله {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} بالنار و {لَنَحرُقَنَّه}
لنَبْرُدنَّه بالحديد بَرْدا من حرقت أحرُقة وأحْرِقه لغتان. وأنشدنى المفضل:
بذى فَرِقَيْنِ يوم بَنُو حَبيبٍ * نيُوبَهَمُ علينا
يَحْرُقونَا
حدّثنا
أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى حِبّان بن علىّ عن الكلبىّ
عن أبى صَالح أن عَلىَّ بن أبى طالب قال (لنَحرُقَنَّه) لنبردنّه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ
الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً
}
وقوله: {يَوْمِئِذٍ زُرْقاً...}
يقال نحشرهم عِطَاشاً ويقال نحشرهم عُمَياً.
{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ
عَشْراً }
وقوله: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ...}
التخافُت: الكلام المُخْفَى.
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً }
وقوله: {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً...}
أجودهم قولاً فى نفسه وعندهم {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ
يَوْماً} وكذَبَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا
رَبِّي نَسْفاً }
وقوله: {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً...}
يقلعها.
{ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً }
وقوله: {قَاعاً صَفْصَفاً...}
القاع مستنقَعُ الماءِ والصفصف الأملس الذى لا نبات فيه.
{ لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً }
وقوله: {وَلا أَمْتاً...}
الأمت:
موضع النبَك من الأَرض: ما ارتفع منها وَيقال: مَسايل
الأودية (غير مهموزٍ) ما تسفل وقد سمعت العرب يوقولون: ملأ القِرْبَة مَلأ لا
أَمْتَ فيها إذا لم يكن فيهَا استرخاء. ويقال سِرنا سيراً لا أَمْت فيه ولا وَهْنَ
فيه ولا ضعف.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ
وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً }
وقوله: {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ...}
يتَّبعُونَ
صوت الداعى للحشر {لاعِوَجَ لَهُ} يقول لا عوج لهم عن الداعى فجاز أن يقول (له) لأن المذهب إلى الداعى وصَوته. وهو
كما تقول فى الكلام: دَعَوْتنى دَعْوةً لا عِوَج لك عنها أى إنّى لا أعوج لك ولا
عنك.
وقوله: {إِلاَّ هَمْساً} يقال: نقل الأقدام إلى المحشر.
ويقال: إنه الصَّوت الخفىّ. وذكر عن ب ابن عباس أَنه تمثَّل:
وهُنَّ يمشين بنا هميساً * إن تصدق الطير نِنك لميسا
فهذا صوت أخفاف الإبل فى سيرهَا.
{ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ
أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }
وقوله: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ
مَنْ أَذِنَ لَهُ...}
(من) فى موضع نصب لا تنفع إلا من إذن له أن يشفع فيه.
وقوله: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} كقولكَ: ورضى منه عمله
وقد يقول الرجل. قد رضيت لك عملك ورضيته منك.
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ...}
يعنى ملائكته الذين عَبَدهم مَن عبدهم. فقال: هم لا
يعلمون ما بين أيديهم وما خلفهم، هو الذى يعلمه. فذلك قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْماً}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ
خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً }
وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ...}
يقال نصبِت له عمِلت له وذُكر أيضاً أنه وَضْع المسلم
يديه وجبهته وركبتيه إذا سَجَد وركعَ وهو فى معنى العربيَّة أن يقول الرجل عنوت
لك: خضعت لك وأطعتك. ويقال الأرض لم تَعْنُ بشىء أى لم تنبت شيئاً، ويقال: لم
تَعْنِ بشىء والمعنى واحد كما قيل حَثوت عليه التراب وحثيت التراب. والعَنوة فى
قول العرب: أخذت هذا الشىء عَنْوة يكون غلبة ويكون عن تَسليم وطاعة ممّن يؤخذ منه
الشىء قال الشاعر:
فما
أخذوهَا عن مودَّةٍ * ولكن بضرب المشرفىّ استقَالَهَا
فهذا على معنى الطاعة والتسليم بلا قتال.
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً
}
وقوله: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً...}
تقول العرب: هضمت لك من حَقّى أى حططته، وجاء عن على بن
أبى طالب فى يوم الجَمَل أنه قيل له أَهَضْم أم قصاصٌ قال: ما عُمِل به فهو تحت
قدىَّ هَاتين فجَعَله هَدَراً وهو النقص.
{ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً
وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْراً }
وقوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً...}.
شرفاً وهو مثل قول الله {وَإنَّه لَذِكْرٌ لكَ
ولِقَوْمِكَ} أى شرف ويقال {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} عذاباً أَى يتذكرون
حلول العذاب الذى وُعِدوه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْماً }
وقوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن
يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ...}
كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل بالوحى عَجِلَ
بقراءته قبل أن يستتمّ جبريل تلاوته، فأُمر ألاَّ يعجل حَتى يَستتمّ جبريل تلاوته،
وقوله {فنسى} ترك ما أُمر به.
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }
وقوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً...}
صَريمةً ولا حَزْما فيمَا فَعَل.
{ فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ
وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }
وقوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقَى...}
ولم يقل:
فتشقيا لأنَّ آدم هو المخاطب، وفى فعله اكتفاء من فعل المرأة. ومثله قوله فى ق
{عَنِ اليَميِنِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد} اكتفى بالقَعِيد من صَاحبه لأن المعنى
معروف. ومَعنى (فَتَشْقَى) تأكل من كَدّ يدك وعملك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى }
وقوله: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا...}
أن فيها فى موضع نَصْبٍ لأنّ إنّ وليت ولعلّ إذا وَلِين
صفةً نَصبْتَ مَا بعدهَا فأنّ من ذلكَ.
{ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى }
وقوله: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا...}
نَصْب أيضاً. ومَن قرأ {وَإِنَّكَ لاَ تَظْمَأُ} جعله
مردودا على قوله (إنَّ) التى قبل (لك) ويجوز أَن تسْتأنفَها فتكسرهَا بغير عَطف عَلَى
شَئ ولو جعلت {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ} بالفتح مستأنفة تنوى بها الرفع على
قولك ولك أنك لا تظمأ فيهَا ولا تضحَى كان صَوَاباً.
وقوله: {وَلاَ تَضْحَى}: لا تصيبك شمس مؤذية وذكر فى بعض
التفسير (وَلاَ تَضْحَى): لا تَعْرق والأول أشبه بالصواب قال الشاعر:
رأت رجلا أمَّا إذا الشمس أعرضت * فيَضْحَى وأمَّا
بالعَشِىْ فيَخصر
فقد بيّن. ويقال: ضحِيت.
{ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ
فَغَوَى }
وقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ...}
هو فىالعربية: أقبلاَ يخصِفان وجعلاً يَخْصفَان. وكذلك
قوله {فطَفِق مَسْحاً بالسوق والأعناقِ} (وقيل هَا هنا): جعلاَ يُلصقان عليهمَا
ورق التين وهو يتهافت عنهما.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }
وقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ...}
اختاره {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} أى هداه للتوبة.
{ وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمَى }
وقوله: {مَعِيشَةً ضَنكاً...}
والضَّنْك: الضّيِّقة الشديدة.
وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} أعمى
عن الحجّة، ويقال: إنه يخرج من قبره بَصِيراً فيعمى فى حَشْره.
{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ
مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي
النُّهَى }
وقوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ...}
يبيّن لهم إذا نظروا {كَمْ أَهْلَكْنَا} و (كم) فى موضع
نصب لا يكون غيره. ومثله فى الكلام: أو لم يبيّن لك مَن يعمل خيرا يُجْزَ بِه،
فجعلة الكلامَ فيهَا معنى رفع. ومثله أن تقول: قد تبيّن لى أقام عبدالله أم زيد،
فى الاستفهام معنى رفع. وكذلك قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمْوهُمْ أَمْ
أَنتُم صَامِتُون} فيه شىء بَرفع {سَوَاءٌ عليكم}، لا يظهر مع الاستفهام. ولو قلت: سواء عليكم صمتكم
ودعاؤكم تبيّن الرّفع الذى فى الجملة.
وقوله:
{يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} يعنى أهل مكَّة. وكانوا
يتَّجرونَ ويسيرنَ فى مساكن عادِ وثمود، فيمرّونَ فيهَا. فالمشى لكفّار أَهْل
مكَّة (والمساكن) للمُهلَكينَ. فقال: أفلم يخافوا أن يقع بهم ما وقع بالذين رأَوا
مساكنهم وآثار عذابهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ
لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى }
وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ
لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى...}
يريد: ولولا كلمة وأَجَلٌ مُسَمَّى لكان لزاما (مقدّم
ومؤخّر) وهو - فيما ذكروا - ما نزل بهم فى وقعة بدر من القتل.
{ فَاصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ
لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى
}
وقوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ...}
وإنما للنهار طرفان فقال المفسّرون: (وأطراف النهار)
صلاة الفجر والظهر والعصر (وهو) وجه: أن تجعل الظهر والعصر من طرف النهار الآخِر، ثم
يضَمَّ إليهما الفجر فتكون أطرافا. ويَكون لصلاتين فيجوز ذلك: أن يكونا طرفين
فيخرجا مَخرج الجماع، كما قال {إنْ تَتُوبا إلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
وهو أحبُّ الوجيهن إلىَّ، لأنه قال {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرفَى النَّهَارِ
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيلِ} وتنصب الأطراف بالردّ عَلَى قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
وإن شئت خفضت أطرافَ تريد وسبّحه منَ الليل ومن أطراف النهار، ولم أسمعها فى
القراءة، ولكنهَ مِثل قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدبَارَ السُّجُودِ}
{وإدبارَ السجودِ} وقرأ حمزة وإدبارَ السجود. ويجوز فى الألف الفتح والكسر ولا
يحسن كَسر الألف إِلاَّ فى القراءة.
وقوله {لَعَلَّكَ تَرْضَى} و {تُرْضَى} ومعناهما واحد
لأنك إذا رضِيت فقد أُرضيت. وكان حمزة وأصحال عَبدالله يقرءونها ترضَى. حدثنا أبو
العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى أبو بكر وأخوه الحسَن بن
عيّاش عن عاصم عن أبى عبدالرحمن أنه قرأ لعلك (تُرضى بضم التاء).
وقوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ...}
يريد: رجالاً منهم.
وقوله
{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} نصبت الزهرة عَلَى الفعل مَتعناهم به زهرةً
فِى / ب الحياة وزينةً فيهَا. و (زهرةً) وإن كان معرفةً فإن العرب تقول: مررت به
الشريفَ الكريم. وأنشدنى بعض بنى فَقْعسٍ:
أبعد الذى بالسَّفح سفحِ كُواكبٍ * رهينةَ رَمْسٍ من
تراب وجندل
فنصب الرهينة بالفعل، وإنما وفع على الإسم الذى هو
الرهينة خافض فهذا أَضعف من (متَّعنا) وأشباهه.
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }
وقوله: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً...}
أجراً على ذلك. وكذلكَ قوله {وَرِزقُ رَبِّك} يريد:
وثواب ربك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( طه )
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن
قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى }
وقوله: {أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ...}
من قبل الرسول (لَقالُوا) كيف أُهلكنَا من قبل أن أُرسل
إلينا رسولٌ. فالهاء لمحمّد صلى الله عليه وسلم. ويقال إن الهاء للتنزيل. وكلٌّ
صَوَابٌ.
{ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى }
وقوله: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ
السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى...}
مَن ومَن فى موضع رفع. وكلّ ما كانَ فى القرآن مثَله فهو
مرفوع إذا كان بعده رافع. مثل قوله {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضلالٍ مُبِينٍ}
ومثله {لنَعْلمَ أىُّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى} ومثله {أعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ
هُوَ فِى ضَلاَلٍ مُبِين} ولو نصبَ كان صَواباً، يكون بمنزلة قول الله {اللّهُ
يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ}
.
وقوله:
{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} الذين لم يَضِلُّوا
{وَمَنِ اهْتَدَى} ممَّن كان ضَالاً فَهَدَى.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الأنبياء )
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ
مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }
وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ
مُّحْدَثٍ...}
لو كان المحدَث نصباً أو رفعاً لكان صواباً. النصب على
الفعل: ما يأتيهم مُحْدَثاً. والرفع على الردّ عَلَى تأويل الذكر؛ لأنك لو ألقيت
(مِن) لرفعت الذكر. وهو كقولك: مَا مِن أحَد قائِمٍ وقائمٌ وقائماً. النصب فى هذه
على استحسان الباء، وفى الأولى على الفعل.
{ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى
الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
}
وقوله: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ...}
منْصوبة على العطف عَلَى قوله {وهم يلعبونَ} لأن قوله
وهم يلعبون بمنزلة لاعبينَ. فكأنه: إلاّ استمعوه لاعبينَ لاهيةً قلوبهم. ونَصْبه أيضاً من
إخراجه من الاسم المضمر فى (يلعبُون) يلعبونَ كذَلك لاهِيةً قلوبهم. ولو رفعت
(لاهية) تُتبِعهَا يلعبون كانَ صَوَاباً؛ كما تقول: عبدالله يلهُوا وَلاَعبٌ. ومثله قول الشاعر:
* يَقْصِدُ فى أَسْوُقها وجائر *
ورُفع أيضاً عَلَى الاستئناف لا بالردّ عَلَى يلعبُونَ.
وقوله {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} إنما قيل: وأَسَرُّوا لأَنها للناس
وُصفوا باللهو واللعب و (الذينَ) تابَعة للناس محفوضة؛ كأنك قلت: اقتربَ للناس الذين
هذه حالهم. وإن شئتَ جعلت (الذين) مستأنَفَةَ مرفوعة، كأنكَ جعلتها تفسيراً
للأسماء التى فى أسرُّوا؛ كما قال
{فَعَمُوا وصَمُّوا ثمَّ تَابَ اللهُ عليهم ثم عَمُوا
وصَمُّوا كثير منهم.}
{ قَالَ
رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ }
وقوله: {قَالَ رَبِّي...}
و {قُل ربّى} وكلّ صواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ
بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ }
وقوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ
شَاعِرٌ...}
رُدّ ببل على معنى تكذيبهم، وإن لم يظهر قبله الكلام
بجحودهم، لأن معناه خطاب وإخبار عن الجاحِدين.
وقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ
الأَوَّلُونَ} كالآيات التى جاء بهَا الأوّلونَ.
{ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ
أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }
فقال الله {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَآ...}
ممَّن جاءته آية فكيف يؤمن هؤلاء.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ...}
أى أهل الكُتُب التوراة والإنجيل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ
}
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ...}
وحّد
الجسد ولم يجمعه وهو عربىّ لأن الجَسَد كقولكَ شيئا مجسَّدا لأنه مأخوذ من فعل
فكفى مِن الجمع، وكذلكَ قراءة من قرأ {لِبُيُوتِهِمْ سَقْفاً من فِضَّةٍ} والمعني
سقوف ثم قال {لا يأكلونَ الطعَام} يَقول: لم نجعلهم جَسَداً إلاّ ليأكلوا الطعام
{وَمَا كانوا خالدينَ} بأكلهم وشربهم، يعنى الرجال المرسَلينَ ا ولو قيل: لا يأكل
الطعام كان صوابا تجعل الفعل للجسد، كَمَا تقول. أنتما شيئان صَالحان، وشىء صَالح
وشىء صَالحان. ومثله {أَمَنةً نُعَاساً تَغْشَى طائِفَةً} و {يَغْشَى} مثله {إنَّ
شَجَرةَ الزقُّومِ طَعَامُ الأثيمِ} قال {كَالمُهْلِ تَغْلِى} للشجرة و (يَغْلِى) للطعام وكذلك
قوله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنْىّ يُمْنَى} وتُمْنَى.
{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ
ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
}
وقوله: {كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ...}
شَرَفكم.
{ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا
يَرْكُضُونَ }
وقوله: {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ...}:
يهرُبُونَ وينهزمون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ
حَصِيداً خَامِدِينَ }
وقوله: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ...}
يعنى قَولهم: إنا كنّا ظالمينَ، أى لم يزالوا يردِّدونها.
وفى هذا الموضع يصلح التذكير. وهو مثل قوله {ذَلَكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ} و
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ}.
{ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً
لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }
وقوله: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً...}
قال الفراء حدثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن
عباس قال: اللهو: الولد بلغة حضرموت.
وقوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} جاء فى
التفسير: ما كنا فاعلين و (إنْ) قد تكون فى معنى (ما) كقوله {إنْ أَنْتَ إلاّ
نَذِيرٌ} وقد تكون إِن التى فى مذهب جزاء فيَكون: إن كنَّا فاعلينَ وكنا لا نفعل.
وهو أشبهُ الوجهين بمذهب العربيّة والله أعْلم.
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ
لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ
لَفَسَدَتَا...}
إلاَّ فى هذا الموضع بمنزله سِوَى كأنكَ قلت: لو كان
فيهَما آلهة سِوَى (أو غير) اللهِ لفسد أَهْلهما (يعنى أهل السماء والأرض).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ
بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }
وقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ...}
معناه:
بل هم عباد مكرَمونَ. ولو كانت: بل عبادا مكرَمينَ
مردودة على الولد أى لم نتَّخذهم ولداً ولكن اتخذناهم عباداً مكرمينَ (كان صوابا).
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ
الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا...}
فُتِقت السَماءُ بالقَطْر والأرضُ بالنبت (وقال)
(كَانَتَا رَتْقاً) ولم يقل: رَتْقِين (وهو) كما قَالَ {مهما جَعَلناهم جَسَداً}.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
خَفْض ولو كانت: حيّا كان صَوَابَا أى جعلنا كلَّ شَىْء حيّاً من الماء.
{ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ
عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ }
وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً...}
ولو قيل:
محفوظة يُذهب بالتأنيث إلى السَّمَاء وبالتذكير إلى السقف كما قال {أَمَنَةً نُعَاساً تَغْشَى} و (يَغْشَى)
وقيل (سَقْفاً) وهى سموات لأنها سَقْف عَلى الأرض كالسَّقْف عَلى البَيت. ومعنى
قوله (مَّحْفُوظاً): حُفظت (منَ الشياطين) بالنجوم.
وقوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} فآياتُها قمرهَا
وشمسَها ونجومها. قد قرأ مجاهد (وهم عن آياتِها مُعْرِضونَ) فَوَحَّد (وَجَعَلَ)
السماء بما فيها آية وكلٌ صواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
وقال: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ...}
لغير الآدميّين للشمس والقمر والليَل والنهار، وذلك أن
السِّبَاحة من أفعال الآدميين فقيلتْ: بالنون، كما قيل: {والشمسَ والقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِين} لأنَّ السجود من أفعال الآدميِّينَ. ويقال: إن
الفَلَك موْج مَكفوف يَجرين فِيه.
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ
أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
}
وقوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ...}
دخلت الفاء فى الجزاء وهو (إن) وفى جوابه؛ لأن الجزاء
متّصل بقُرآن قبلهُ. فأدخلت فيه ألفِ الاستفهام على الفاء من الجزاء. ودخلت الفاء
فى قوله (فهم) فانه جواب للجزاء. ولو حُذفت الفاء من قوله (فهم) كان صَوَاباً
من وجهين أحدهما أن تريد الفاء فتُضمرها، لأنها لا تغّير (هم) عن رفعها فهناك يصلح
الإضمار. والوجه الآخر أن يراد تقديم (هم) إلى الفاء فكأَنَّه ب قيل: أفهم الخالدون
إن متّ.
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ...}
ولو نوَّنت
فى (ذائقة) ونصبت (الموت) كان صَوَاباً. وأكثر ما تختار العرب التنوينَ والنصب فى
المستقبل. فإذا كان معناه مَاضيا لم يكادوا يقولون إلاّ بالاضافة. فأمَّا المستقبل
فقولك: أنا صَائم يومَ الخميس إذا كان خميساً مستقبلاً. فإن أخبرت عن صوم يَوم خميس
ماضٍ قلت: أنا صَائمُ يومِ الخميس فهذا وجه العمل. ويختارون أيضاً التنوين. إذا
كان مع الجحد. من ذلكَ قولهم:
ما هو بتاركٍ حَقّه، وهو غير تارك حقه، لا يكادون يتركون
التنوين. وتركه كثير جَائز وينشدونَ قول أبى الأسود:
فألفَيْتُه غير مستعتب * ولا ذاكرِ اللهَ إلا قليلاَ
فمن حذف النون ونصب قال: النّية التنوين مع الجحد، ولكنى
أسْقطت النون للساكن الذى لقيها وأعلمت معناها. ومَنْ خفض أضاف.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ
إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ
الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ }
وقوله: {أَهَاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ...}
يريد:
يعيب آلهتكم. وكذلك قوله: {سَمِعْنَا فَتَى يَذْكُرُهم
يُقَالُ لَهُ إبراهِيمُ} أى يعيبهم. وأنت قائِل للرجل: لئن ذكرتنى لتندمَنّ وأنت
تريد: بسوء قال عنترة:
لا تذكرى مُهْرِى وَمَا أطعمتُهُ * فيكونَ جِلْدكِ مثل
جِلد الأشهبِ
أى لا تعيبينى بأَثَرة مُهْرى فجعل الذكر عيباً.
{ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي
فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }
وقوله: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ...}
وعلى عجلٍ كأنك قلت: بَنَيته وخَلَقْته من العجلة وعلى
العجلة.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ }
وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن
كُنتُمْ...}
(مَتَي) فى موضع نصب،
لأنكَ لو أظهرت جوابها رأيته منصوباً فقلت: الوعدُ يومَ كذا وكذا (ولو) جعلت (متى)
فى موضع رفع كما تقول: متى الميعَاد؟ فيقول: يومُ الخميس ويَوْمَ الخميس. وقال
الله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} فلو نصبت كان صَوَاباً. فإذا جَعَلت
الميعَاد فى نكرة من الأيّام والليالى والشهور والسنينَ رفعت فلقت: معادكَ يَوْمٌ
أو يومان، وليلة وليلتان كما قال الله {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}
والعرب تقول: إنما البَرْد شهران وإنما الصيف شهران. ولو جاء نصباً كان صَوَاباً.
وإنّما اختارُوا الرفع لأنكَ أبهمت الشهرين فصارا جميعاً كأنهما وقت للصّيف. وإنما
اختارُوا النصب فى المعرفة لأنها حينٌ معلومٌ مسند إلى الذى بعدهُ، فحسُنت الصّفة،
كمَا أنك تقول: عبدالله دونٌ من الرجال، وعبدالله دونكَ فتنصب، ومثله اجتمع
الجيشان فالمسلمون جانِبٌ والكفّار جانب. فإذا أضفت نصبت فقلت: المسلمونَ جانبَ
صَاحبهم، والكفّار جانب صاحبهم فإذا لم تضف الجانب صَيرتهم هم كالجَانب لا أنهم
فيه فقس عَلى ذا
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ
يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ...}
وقوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِى مِنَ الله إن عَصَيْتُه}:
فمن يمنعنى. ذلك معناه - والله أعلم - فى عامَّة القرآن.
{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ
الرَّحْمَانِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ }
وقوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم...}.
مهموز
(ولو) تركت ا همز مثله فى غير القرآن قلت: يَكْلوكم بواو ساكنةٍ أو يكلاكم
بألفٍ سَاكنة؛ مثل يخشاكم: ومن جعلها واواً ساكنةً قال كَلاَن بالألف تترك منها
النَّبْرة. ومن قال: يكلاكم قالَ: كَلَيت مثل قضيت. وهى من لغة قريش. وكلٌّ حسن،
إلا أنهم يقولون فى الوجهين مكلوَّةٌ بغير همز، ومكلوٌّ بغير همز أكثر ممّا
يقولونَ مكليَّة. ولوقيل مَكْلِىّ فى قول الذينَ يقولون كليتُ كان صَوَاباً. وسمعت
بعض العرب ينشد قول الفرزدق:
وما خاصم الاقوامَ مِن ذى خُصُومةٍ * كَورْهاء مَشْنِىّ
إليها حَليلُها
فبنى عَلَى شنِيت بترك النبرة. وقوله {مَن يَكْلَؤُكُم
بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ} يريد: مِن أمر الرحمن، فحذف الأمر
وهو يراد كما قال فى موضع آخر {فَمَنْ يَنْصُرنِى مِنَ اللهِ} يريد: مَن يمنعنى من
عذاب الله. وَأظهر المعنَى فى موضع آخر فقال {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ
اللهِ إِنْ جَاءنَا}.
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ }
وقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ...}
يعنى الآلهة لا تمنع أنفسها {وَلاَ هُمْ مِّنَّا
يُصْحَبُونَ} يعنى الكفار يعنى يُجارونَ (وهى منّا لا تُجار) ألا ترى أن العرب
تقول (كان لنا جاراً) ومعناه يُجيركَ ويمنعكَ فقال (يُصْحَبُونَ) بالإجازة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ }
وقوله: {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ...}
ترفع (الصُمّ) لأن الفعل لهم. وقد قرأ أبو عبدالرحمن السُّلَمِىّ
(وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ)، نصب (الصم) بوقوع الفعل عليه.
{ وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ }
وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ...}
القِسط من صفة الموازين وإن كان موحَّداً. وهو بمنزلة
قولك للقوم: أنتم رِضاً وَعَدْل. وكذلكَ الحقّ إذا كانَ من صفة واحدٍ أو اثنين أو
أكثر من ذلك كان واحداً.
وقوله: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وفى يوم القيامة.
وقوله: عز وجَل {أَتَيْنَا بِهَا} ذهب إلى الحبَّة، ولو
كان أتينا به (كان صَوَاباً) لتذكير المثقال. ولو رُفع المثقال كما قال {وإنْ كَانَ ذُو
عُسْرَة فَنِظرةٌ} كان صَوَاباً، وقرأ مجاهد (آتَيْنَا بهَا) بمدّ الألف يريد: جازينا بها عَلى
فاعلنا. وهو وجه حَسَنٌ.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ
}
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ
الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً...}
هو من صفة الفرقان ومعناه - والله أعلم - آتينا مُوسَى
وهَارونَ الفرقان ضِيَاء وذكراً، فدخلت الواو كما قال {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ
الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكوَاكِب وَحِفْظاً} جَعَلنا ذلك، وكذلك (وضِيَاء وذكراً)
آتينا ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ
لَهُ مُنكِرُونَ }
وقوله: {وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ...}
المبارك رفع من صفة الذكر. ولو كان نصبَا على قولكَ:
أنزلناه مباركاً كان صَوَاباً.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ
وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ...}
هُدَاه، إذ كان فى السَّرَب حتّى بلّغه الله ما بلّغه.
ومثله {وَلَوْ شئنا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}: رُشْدها.
{ وَتَاللَّهِ
لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ }
وقوله: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ
أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ...}
كانوا أرادوا الخروج إلى عِيد لهم، فاعتلَّ عليهم
إبراهيم، فتخلّف (وقال): إنى سَقِيم، فلمّا مَضَوا كسرَ آلهتهم إلاّ أكبرها، فلمّا
رَجَعُوا قال قائل منهم: أَنَا سمعت إبراهيم يقول: وتالله لأكيدَنَّ أصنامكم. وهو
قوله {سَمِعْنَا فَتيً يَذْكُرُهُمْ يُقَال لَهُ إبراهيم}: يذكرهم بالعيب (والشتم) وبما قال
من الكيد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ
لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
}
وقوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً...}
قرأها يَحيْىَ بن وثاب (جِذَاذاً) وقراءة الناس بَعْدُ ب
(جُذَاذاً) بالضم فمن قال (جُذَاذاً) فرفع الجيم فهو واحد مثل الحُطَام والرُفَات.
ومن قال (جِذَاذاً) بالكسر فهو جمع؛ كأنه جَذِيذ وجِذَاذ مِثْل خَفيف وخِفَاف.
{ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }
وقوله: {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ...}:
على رءوس الناس {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما شهِد
به الواحد. ويقال: لعلّهم يشهَدُونَ أَمره ومَا يُفْعل به.
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا
فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ }
وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا...}
هذا، قال بعض الناس بل فعَلَّه كبيرهم مشدّدة يريد: فلَعَلّه
كبيرهم، وقال بعض الناس: بل فَعَله كبيرهم إن كانوا ينطقون. فجعل فِعْل الكبير
مسنداً إليه إِن كانوا ينطقونَ وهم لا ينطقونَ. والمذهب الذى العوامّ عليه: بل
فَعَله كما قال يوسف {أَيَّتُها العِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ولم يسرقوا. وقد أيّد
الله أنبياءه بأكثر من هذا.
المعاني
الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا هؤلاء يَنطِقُونَ }
وقوله: {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ...}
يقول:
رجعوا عندمَا عرفوا من حُجّة إِبراهيم فقالوا: {لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} (والعِلم والظنّ بمنزلة اليمين. فلذلكَ لِقيت
العلم بمَا) فقال: {عَلِمْتَ مَا هؤلاء} كقول القائِل: والله ما أنت بأخينا, وكذلك قوله:
{وظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}.
ولو أدخلت العربُ (أنْ) قبل (ما) فقيل: علمتُ أَنْ ما فيك خَير وظننت
أَنْ ما فيك خير كان صَوَاباً. ولكنهم إِذا لقى شيئا من هذه الحروف أداةُ مثل (إن) التى معها
اللام أو استفهام كقولك: اعلم لى أقام عبدالله أَمْ زيد (أَوْ لئِن) ولَو اكتفَوا بتلك
الأداة فلم يُدخلوا عَليهَا (أَنْ) ألا ترى قوله {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِنْ بَعْدِ
مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} لو قيلَ: أن لَيَسْجُنُنَّهُ كان صَواباً؛
كما قال الشاعر:
وخبَّرتما أن إنمَّا بين بيشَةٍ * ونَجْرانَ أَحوى
والمحلُّ خَصيب
فأدخل أَنْ على إنما فلذلكَ أجزنا دخولها على ما وصفت لك
من سائر الأدوات.
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً
وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ
}
وقوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً...}
النافلة ليعقوب خاصّة لأنه ولد الولد، كذلك بلغنى.
{ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ
قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ }
وقوله: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ...}
نَصْب
لوط من الهاء التى رَجَعت عليه من {آتَيْنَاه}، والنصب الآخر على إِضمار {واذكر لوطا}
أو {ولقد أرسلنا} أو ما يذكر فى أوّل السورة وإن لم يذكر فإنَّ الضمير إنما هو من
الرسالة أو من الذكر وَمثله {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} فنصب (الريح) بفعل مضمر معلوم معناه:
إمّا سخّرنا، وإمّا آتيناه.
وكذلك قوله: {ونُوحاً إذ نَادَى} فهو على ضمير الذكر.
وقوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمان} وجمع ما يأتيك من ذكر
الأنبياء فى هذه السورة نصبتهم على النَسَق عَلَى المنصوب بضمير الذكر.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }
وقوله: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ...}
النفش بالليل، وكانت غنماً لقوم وقعت فى كَرْمِ آخرين؛
فارتفعوا إِلى داود، فقضى لأهل الكَرْم بالغنم، ودَفْع الكَرْم إلى أهل الغنم فبلغ
ذلك سُليمان ابنه، فقال: غيْرُ هذا كان أرفق بالفريقين. فعزم عليه دواد لَيَحكُمنّ. فقال: أرى أن
تُدفعَ الغَنَم إلى أهل الكرم فينتفعوا بألبانها وأولادهَا وأصوافهَا، ويُدفعَ
الكَرْم إلى أرباب الشاء ا فيقوموا عليه حتى يعود كَهيئته يوم أُفسِد، فذُكر أن
القيمتين كانتا فى هذا الحم مستويتين: قيمة ما نالوا من الغنم وقيمة ما أَفسدت
الغنم من الكَرْم. فذلك قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}. وقوله: {وَكُنَّا لحكمِهم}.
وفى بعض القراءة: (وَكُنَّا لِحُكْمَهِمَا شاهِدِين) وهو
مثل قوله: {فَإنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} يريد: أَخَوين فما زاد. فهذا كقوله:
{لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} إذ جَمَع اثنين.
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ
لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ }
وقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ
لِتُحْصِنَكُمْ...}
و (ليُحْصِنَكم) و (لنُحْصِنكم) فمن قال:
(ليُحصنكم) بالياء كان لتذكير اللَّبوس. ومنْ قال: (لِتُحْصنكم) بالتاء ذهب إلى
تأنيث الصنعة. وإن شئت جَعَلته لتأنيث الدروع لأنها هى اللبوس. ومن قرأ:
(لنُحصنكم)، بالنون يقول: لنحصنكم نحن: وعَلَى هذا المعنى يجوز (ليُحصنكم) بالياء الله
من بأسكم أيضاً.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي
بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ }
وقوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ...}
كانت تجرى بسليمان إلى كلّ موضع؛ ثم تعود به من يومه
إِلى منزله. فذلكَ قوله {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ
وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }
وقوله: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ...}
دون الغَوْص. يريد سِوى الغوص. من البناء.
وقوله:
{وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} للشياطين. وذلك أنهم كانوا
يُحفظونَ من إفساد ما يعملون فكان سُليمان إذا فرغ بعضُ الشياطين من عمله وكّله
بالعمل الآخر، لأنه كان إِذا فرغ ممَّا يَعمل فلم يكن له شُغُل كَرّ على تهديم ما بَنَى
فذلك قوله: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}.
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ }
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ...}
ذُكر أنه كان لأيُّوب سَبعة بنينَ وسبع بناتٍ فماتُوا فى
بلائه. فلمّا كشفه الله عنه أحيا الله لهُ بنيه وبناتِهِ، ووُلد له بعد ذلك
مثلُهم. فذلك قوله {أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً} فعلنا ذلكَ
رَحْمَةً.
{ وَذَا
النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى
فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ }
وقوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ...}
يريد أن لن نقدر عليه من العقوبة ما قَدَرنا.
وقوله:
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ}
يقال: ظلمة البحر، وبطنِ الحُوت ومِعاها (مقصور) الذى كان فيه يونس فتلك الظلمات.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذالِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ
}
وقوله: {وَكَذالِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ...}
القراء يقرءونَها بنونين، وكتابَها بنون واحدة. وذلك أن
النون الأولى متحركة والثاينة ساكنة، فلا تظهر السَّاكنة على اللسان، فلمَّا خفيت
حُذِفت.
وقد قرأ عاصم - فيما أعلم - (نُجِّى) بنونٍ واحدةٍ ونصب
(المؤمنين) كأنه احتمل اللحن ولا نعلم لها جهة إلاّ تلك؛ لأن ما لم يسمّ فاعله إذا
خلا باسم رَفعه، إلا أن يكون أضمر المصدر فى نُجّى فنوِى به الرفع ونصب (المؤمنين) فيكون كقولك:
ضُرب الضربُ زيداً، ثم تكنى عن الضرب فتقول: ضُرِبَ زيداً. وكذلك نُجِّىَ النجاءُ المؤمنين.
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى
وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ }
وقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ...}
يقول: كانت عقيماً فجعلناها تَلد فذلك صلاحها.
{ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا
مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }
وقوله: {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا...}
ذكر المفسّرون أنه جَيب دِرْعها ومنه نُفخ فيها.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً}
(ولم يقل آيتين) لأن شأنهما واحد. ولو قيل: آيتين لكان صَوَاباً لأنها وَلَدت وهى
بكر، وتكلَّم عيسى فى المهد؛ فتكون آيتين إذ اختلفتا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }
وقوله: {إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً...}
تنصب (أمّة واحدة) عَلَى القطع. وقد رَفَع الحسن (أمتكم أمةٌ واحدةٌ)
على أن يجعل الأمة خبراً ثم يَكُرّ على الأمة الواحدة بالرفع على نيّة الخبر أيضاً؛
كقوله: {كَلاَّ إنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى}.
وفى قراءة أُبَىّ فيما أعلم: (إنَّها لإَحْدَى الكُبَر
نَذِيرٌ للبَشَرِ} الرفع على التكرير ومثله: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا
يُرِيدُ).
{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ
لاَ يَرْجِعُونَ }
وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ...}
قرأها ابن عباس. حدثنى بذلك غير واحد. منهم هُشَيم عن
داود عن عكرمة عن ابن عباس، وسفيانُ عن عمير وعن ابن عباس. وحدثنى عمرو بن أبى
المقدام عنْ أبيه عن سعيد بن جُبَير (وَحِرْمٌ) وحدَّثنى بعضهم عن يحيى بن وثاب
وإبراهيم النَخَعىّ (وحِرْمٌ عَلَى) وأهل المدينة والحسن (وحَرامٌ) بألف. وحرام
أفشى فى القراءة. وهو بمنزلة قولك: حِلّ وحلال، وحرم وحرام.
{ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ
مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ }
وقوله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ...}
الحدب كل أكمة (ومكانٍ مرتفعٍ).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ
شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ
مِّنْ هَاذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
}
وقوله:
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ...}
مَعْنَاهُ -
والله أعلم -: حتى إذا فُتحت اقترب. ودخول الواو فى
الجواب فى (حَتّى إذا) بمنزلة قوله {حَتَّي إذا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبوابُها}.
وفى قراءة عبدالله (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهم جَعَل السَّقَايَةَ) وفى قراءتنا
بغير واو. ومثله فى الصافات {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبينِ
وَنَادَيْنَاهُ} معناه ناديناه، وقال امرؤ القيس:
فلمَّا أَجَزْنا سَاحَةَ الحىّ وانتحى * بنَا بَطْنُ
خَبْتٍ ذِى قِفَاف عَقْنَقِل
يريد انتحى.
وقوله:
{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}
تكون (هى) عماداً يصلح فى موضعها (هو) فتكون كقوله: {إنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ
الحكِيمُ} ومثله قوله: {فَإنَّها لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ} فجاء التأنيث لأن
الأبصار مؤنّثة والتذكير للعماد. وسمعت بعض العرب يقول: كان مرَّةً وهو ينفع
الناسَ أَحْسَابهم فجعل (هو) عماداً. وأنشدنى بعضهم:
بثوب ودينارٍ وشاة ودرهمٍ * فَهَل هُوَ مرفوع بما هَا
هنا راسُ
وإن شئت جَعَلت (هى) للأبصار كنيت عنها ثم أظهرت الأبصار
لتفسرها؛ كما قال الشاعر:
لعمرُ أبيها لا تقول ظَعينتى * ألاَ فَرّعنى مالكُ بن
أبى كعب
فذكر الظعينة وقد كَنَى عنهما فى (لَعمر).
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
}
وقوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ...}
ذُكر
أن الحَصَب فى لغة أهل اليمن الحطب. حدّثنا أبو العباس قال حدَّثنا محمد قال حدثنا
الفراء قال: حدَّثنى قيس بن الربيع عن محمد بن الحكم الكاهلىّ عن رجل سمع عليّاً
يقرأ (حَطَب) بالطاء. حدّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال
حدثنى ابن أبى يحيى المَدَنىّ عن أبى الحويرث رَفَعه إلى عائِشة أنها قرأت
(حَطَبُ) كذلك. وبإسْنَادٍ لابن أبى يَحْيى عن ابن عباس أنه قرأ (حَضَب) بالضاد.
وكلُّ ما هيَّجت به النار أَوْ أوقدتها به فهو حَضَب. وأمَّا الحَصَب فهو فى معنى
لغة نجد: ما رميت به فى النار، كقولك: حصبت الرجل أى رميته.
{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ
لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا
كُنَّا فَاعِلِينَ }
وقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ...}
بالنون والتاء (تُطْوَى) ولو قيل (يَطْوِى) كما قيل
(نطوى) بالنون جَاز.
واجتمعت القراء على (السّجِلّ) بالتثقيل.
وأَكثرهم يقول (للكِتَابِ) وأصْحَاب عَبدالله (للكُتُب)
والسّجِلّ: الصَّحِيفة. فانقطع الكلام عند الكتب، ثم اسْتأنف فقال {كَمَا بَدَأْنَآ
أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} فالكاف للخَلْق كأنك قلت: نعيد الخلق كما بدأنهم
(أَوّل مَرّة).
وقوله {وَعْداً عَلَيْنَآ} كقولك حَقّاً علينا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
وقوله: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ...}
يقال:
أَرض الجنَّة. ويقال: إنها الأرض التى وُعِدها بنو
اسرائيل، مثل قوله: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفونَ
مشَارِقَ الأرْضَ وَمغارِبَها}.
{ إِنَّ فِي هَاذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ }
وقوله: {إِنَّ فِي هَاذَا لَبَلاَغاً...}
أى
فى القرآن.
{ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله
وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
}
وقوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ الهكُمْ...}
وجه الكلام (فتح أَنَّ) لأن (يُوحَى) يقع عليها و
(إنَّما) بالكسر يجوز. وذلك أَنها أَداة كما وصفت لك من قول الشاعر:
* ... أَنْ إنَّما بَيْنَ بِيشَةٍ *
فتلقى (أنْ) كأنه قيل: إنما يوحى إلى أَنْ إنَّما إلهكم
إله واحد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنبياء )
{ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ }
وقوله: {إِنْ أَدْرِي...}
رفع على معنى ما أدرى.
{ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا
الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
وقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ...}
جَزْم:
مسألة سألها ربَّه. وقد قيل: (قل رَبّى أحْكَمُ بالحق)
ترفع (أحكم) وتهمز ألفها. ومن قال قل ربى أحكم بالحق كان موضع ربى رفعاً ومن قال:
ربِّ احْكُمْ موصولة كانت فى موضع نصب بالنداء.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الحج )
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ
أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى
وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ...}
رفعت القراءُ (كلُّ مُرْضِعَة) لانهم جَعَلوا الفعل
لهَا. ولو قيل: تُذْهِل كلَّ مرضعة وأنت تريد الساعَة أنها تُذهل أَهلَها كان
وجهاً. ولم أسمع أَحداً قرأ به والمرضعة: الأمّ. والمرضِع: التى معَها صَبىّ
تُرضعه. ولو قيل فى الأمّ: مرضع لأنَّ الرضاع لا يكون إلا من الإناث فيكون مثل
قولك: طامث وحَائِض. ولو قيل فى التى مَعَهَا صَبىّ: مرضعة كَان صَوَاباً.
وقوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم
بِسُكَارَى} اجتمع الناس والقراء على (سُكَارَى ومَاهُمْ بِسُكَارى) حدثنا
أبوالعباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى هَشَيم عن مُغيرة عن إبراهيم
عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ (وَتَرى الناسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى) وهو
وجه جيّد فى العربية: (لأنه بمنزلة الهَلْكى والجَرْحى، وليسَ بمذهب النشوان والنَشاوى).
والعرب تذهب بفاعل وفَعِيل وفَعِل إذا كانَ صَاحبُه كالمريض أو الصريع أو الجريح
فيجمعونه على الفَعْلىْ فجعلوا الفعلى علامةً لجمع كل ذى زمانةٍ وضررٍ وهلاكٍ. ولا
يبالون أكان واحه فاعلاً أم فعيلاً أم فعلان فاختير سكرى بطرح الألف منْ هول ذلك
اليوم وفزَعه. ولو قيل (سَكْرى) عَلَى أن الجمع يقع عليه التأنيث فيكون كالواحدة
كان وجهاً، كما قال الله: {وللهِ الأسْماءُ الحُسنَى} {والقُرونَ الأُولَى}
والناسَ. جماعة فجائِز أن يقع ذلكَ عليهم. وقد قالت العرب: قد جاءتك الناس:
وأنشدنى بعضهم:
أضحت بنو عامر غَضْبَى أنوفُهم * أَنّى عفوت فلا عارٌ
ولا باس
فقال: غضبى للأنوف عَلَى ما فسّرت لكَ.
وقد ذُكر أن بعض القراء قرأ (وَتُرَى الناسَ) وهو وجه
جيد يريد: مثل قولك رُئِيتَ أنك قائِم ورُئيتُك قائِماً فتجعل (سكارى) فى موضع نصب
لأن (تُرَى) تحتاج إلى شيئين تنصبهما. كما يحتاج الظنّ.
{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ...}
الهاء للشيطان المرِيد فى (عَلَيه) وفى (أَنَّهُ
يُضِلُّهُ) ومعناه قُضِى عليه أنه يضلّ مَن اتَّبعه.
{ ياأَيُّهَا
النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن
تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ
مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ
مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ
لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ
إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى
الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
}
وقوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ...}
يقول:
تِمَاما وسَقْطاً. ويجوز ب مخلَّقةً وغيرَ مخلَّقةٍ عَلى
الحال: والحال تُنصَب فى معرفة الأسماء ونكرتها. كما تقول: هَلْ من رجل يُضرب
مجرَّداً. فهذا حال وليسَ بنعت.
وقوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ
مَا نَشَآءُ} اسْتأنف (ونُقِرُّ فى الأرحَام) ولم يردُدهَا على (لنبيّن) ولو قرئت
(ليُبيِّن) يريد الله ليُبيِّن لكم كانَ صَوَاباً ولم أسمعها.
وقوله: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ}: إلى أسفل العمر {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ} يقول لكيلاَ يعقل من بعد عقله
الأوَّل (شَيْئاً).
قوله:
(ورَبَت) قرأ القراء (وَرَبَتْ) (من تَرْبو). حدثنا أبو العبّاس قال حدثنا محمد
قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى أبو عَبدالله التميمى عن أبى جَعْفر المدنى أنه قرأ {O ;هْتَزَّتْ وَرَبَأتْ} مهموزة فإن كان
ذهب إلى الرَّبِيئة الذى يحرس القوم فهذا مذهب، أى ارتفعت حتى صَارت كالموضع
للربيئة. فإن لم يكن أراد (من هذا) هذا فهو من غلط قد تغلَطه العرب فتقول: حلأْت
السَّوِيق، ولبَّأْت بالحجّ، ورثأت الميّت، وهو كَمَا قرأ الحسن {وَلأَدْرَأتكم
بِهِ} يهمز. وهو ممَّا يُرفَض من القراءة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ
فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ...}
منصوب عَلَى: يجادل ثانياً عطفه: معرضَا عن الذكر.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ
عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ...}
نزلت فى أعاريب من بنى أَشد انتقلُوا إلى المدينة
بذراريهّم، قامتنّوا بذلكَ على النبى صَلى الله عليه وَسَلم وقالوا: إنما يُسلم
الرجل (بعد الرجل) مَن القبيلة. وقد أتيناك بذرارينّا. وكانوا إذا أعطوا مَن
الصَّدقة وسَلمت مواشيهم وَخيلُهم قالوا: نِعْم الدين هذا. وإن لم يُعطَوا من
الصَّدقة ولم تَسلم مواشيهم انقلبوا عن الإسْلام. فذلكَ قوله {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} يقول: أقام عَليه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ} وَرَجَعَ.
وقوله:
{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآُخِرَةَ} غُبِنهما. وذُكر عن حُمَيد الأعرج وحده أنه قرأ (خاسِر الدنيا والآخرة) وكلّ صواب:
والمعنى واحد.
{ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا
لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ
أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ }
وقوله: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ...}
يعني الأصنام.
ثم قال: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ...}
فجاء التفسير: يَدْعو من ضَرّه أقرب منْ نفعه. وقد حالت
اللامُ بينهما. وكذلك هىَ فى قراءة عَبدالله (يَدْعو من ضَرُّه) ولم نجد العرب
تقول ضربت لأَخاك ولا رأيت لزيداً أفضل منكَ. وقد اجتمعت القراء عَلَى ذلكَ.
فَنُرى أن جَواز ذلك لأن (مَن) حَرف لا يتبَيَّن فيه الاعراب، فأجِيز ب: فاستجيز
الاعتراض باللام دون الاسم؛ إذْ لم يتبَيَّن فيه الإعراب. وذكر عن العرب أنهم
قالوا: عندى لَمَا غيرُه خير منه، فحالوا باللام دون الرافع. وموقعُ اللام كان ينبغى
أن يكون فى (ضَرُّه) وفى قولكَ: عِنْدى مَا لَغيره خَيرٌ منه. فهذا وجه القراءة
للاتّباع. وقد يكون قوله: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ يَدْعُو} فتجعل (يدعو)
من صِلة (الضلالُ البعيدُ) وتضمر فى (يدعو) الهاء، ثم تسْتأنِف الكلام باللام،
فتقول (لمَنْ ضَرُّهُ أقربُ مِن نَفْعِهِ لَبِئسَ المَوْلَي) كقولك فى مذهب الجزاء
لَمَا فعلت لهو خير لك. وهو وجه قويّ فى العربيّة.
ووجه
آخَر لم يُقرأ به. وذلك أَن تكسر اللام فى (لمن) وتريد يدعو إلى مَنْ ا ضَرُّه أقرب
من نفعه، فتكون اللام بمنزلة إلى، كمَا قال {الحَمْدُ لِلّهِ الذِى هَدَانا
لِهَذَا} وإِلى هَذَا وأنت قائل فى الكلام: دعوت إلى فلانٍ ودعَوت لفلانٍ بمعنىَ
واحدٍ. ولولا كراهية خلاف الآثار والاجتماع لكان وَجْهاً جَيّدا من القراءة. ويكون
قوله (يَدْعو) التى بعد (البعيد) مكرُورة عَلَى وقوله {يدعو من دون الله} يدعو مكرّرة،
كما تقول: يدعو يدعو دائبا، فهذا قوَّه لَمن نَضب اللام ولم يوقع (يدعو) على (مَنْ)
وَالضَّلاَلُ الْبَعيد الطويل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
وقوله: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ...}
جزاء جَوَابه فى قوله {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} والهاء فى
(قوله) {يَنصُرَهُ اللَّهُ} للنبىِّ صَلّى الله عليه وسلم. أى من كان منكم يظنّ أن
الله لن ينصر محمداً بالغَلَبة حتى يُظهر دينَ الله فَليَجْعَل فى سماء بيته حَبْلاً
ثم ليختنق به فذلك قوله {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} اختناقاً وفى قراءة عَبدالله (ثم
ليقطه) يعنى السَّبب وهو الحبل: يقول {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ}
إذا فعل ذلكَ غَيظه. وَ (مَا يَغِيظُ) فى موضع نصب.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ }
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ...}
إلى قوله
{وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ثم قال {إِنَّ O اللَّهَ} فجعلَ فى خبرهم (إنَّ) وفى أوَّل
الكلام (إنَّ) وأنت لا تقول فى الكلام: إن أخاك إِنَّه ذاهب، فجاز ذلك لأن المعنى
كالجزاء، أى من كان مُؤمنَا أو عَلَى شىء من هذه الأديان ففَصْلُ بيِنهم وحسابُهم
عَلَى الله. وربمَا قالت العرب: إنَّ أخَاكَ إن الدَّين عليه لكثير، فيَجْعَلُون
(إنَّ) فى خبره إذا كانَ إنما يُرفع باسم مضاف إلى ذِكْرِه؛ كَقَولِ الشّاعر:
إنَّ الخليفة إن الله سَرْبله * سِرْبال مُلْك به ترجَى
الخواتيم
ومن قال هذا لم يقل: إنك إنك قائم، ولا يقول: إنّ أباكَ
إنه قائم لأن الاسْمين قد اختلفَا فحسن رفض الأول، وجَعَل الثانى كأنه هو المبتدأ
فحسُن للاختلاف قبُح للاتِّفاق.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يَشَآءُ }
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن
فِي السَّمَاوَاتِ...}
يُريد: أهل السموات {وَمَن فِي الأَرْضِ} يعنى
كلّ خَلْقٍ منَ الجبال ومن الجِنّ وأشباه ذلكَ {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ}
من أهل الطاعة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يدلّ عَلَى أنه: وكثير
أَبَى السّجود، لأنه لا يحِقّ عَليه العذاب إلاّ بترك السجود والطاعة. فترفعه بما عاد
من ذكره فى قوله {حَقَّ عَلَيْهِ} فتكون {حَقَّ عَلَيْهِ} بمنزلة أَبَى. ولو نصبت:
وكثِيرا حَقَّ العذاب كان وجهاً بمنزلة قوله {قَرِيقاً هَدَى وفَرِيقاً حَقَّ
عليهم الضلالة} ينصب إذا كانَ فى الحرف واو وعاد ذكره بفعل قد وقع عليه. ويكون فيه
الرفع لعودة ذكره كما قال الله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ} وكما قال {وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}.
وقوله: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}
يقول: ومن يُشْقِه الله فما له من مسعدٍ. وقد تقرأ {فمَا لَه من مُكْرَم} يريد: من
إكرام.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ
فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ
رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ }
وقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ...}
فريقين أهل دِينينِ. فأحد الخصمين المسْلمونَ، والآخر
اليهود النصارى.
وقوله:
{اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} فى دين ربّهم. فقال اليهود
والنصارى للمسلمينَ: دِيننا خير من دينكم؛ لأنَّا سبقناكم. فقال المسْلمونَ: بل ديننا
خير من دينكم. لأنَّا آمنّا بنْبيّنا والقرآن، وآمنّا بأنبيائكم وكتبكم، وكفرتم
بنبِّينَا وكتابنا. فعلاهم المسلمون بالحجّة وأنزل الله هذه الآية.
وقوله:
{اخْتَصَمُواْ} ولم يقل: اختصمَا لأنهما جَمعان ليسَا برجلين، ولو قيل: اختصما كان
صَوَاباً. ومثله {وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنِينَ اقتتَلُوا} يذهب إلى الجمع.
ولو قيل اقتتلتا لجاز، يذهب إلى الطائفتين.
{ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }
وقوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ...}
يذاب به. تقول: صَهَرت الشحم بالنار.
{ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ }
وقوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ...}
ذُكر أَنهم يطمعونَ (فى الخروج) منَ النارِ حَتى إذا
هَمّوا بذلكَ ضَرت الخَزَنة رءوسهم بالمقامع فتُخسَف رءوسُهم فيُصَبّ فى أدمغتهم
الحميمُ فيَصْهَر شحومَ بطونهم، فذلك قوله فى إبراهيم {ويُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}
ممَّا يذوب من بطونهم وجلودهم.
وقوله: {يَتَجَرعُهُ ولا يكادُ يُسيغُهُ} يُكره عَليه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ }
وقوله: {وَلُؤْلُؤاً...}
قرأ أهل المدينة هذه والتى فى الملائِكة {ولُؤْلُؤاً}
بالألف وقرأ الأعمش كلتيْهما بالخفض. ورأيتها فى مصَاحف عبدالله والتى فى الحج
خاصَّة (ولُؤْلأ) {وَلاَ تَهَجَّأْه} وذلك أن مصاحفه قد أجرى الهمز فيها بالألف فى
كل حال إن كان مَا قبلها مكْسُوراً أو مفتوحاً أوْ غير ذلكَ. والتى فى الملائِكة
كتبت فى مصَاحفنا (ولؤلؤ) بغير ألفٍ والتى فى الحج (ولؤلؤا) بالألف فخفضُهُما ونصبُهما جائِز. ونصب
التى فى الحج أمكن - لمكان الألِف
- منَ التى فى الملاَئكة.
{ إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ...}
رُدّ يَفعلون على فعلوا لأن معناهما كالوَاحدِ الذى وغير
الذى. ولو قيلَ: إن الذينَ كفروا وصَدُّوا لم يكن فيهَا ما يُسأل عنه. وردُّك
يَفْعلَون على فَعَلوا لأنك أردت إن الذين كفروا يصّدونَ بكفرهم. وإدخالُك الواو
كقول {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْترِفُوا} أضمرت فعلاً فى الواو مع الصدّ كما أضمرته
هَا هنا. وإن شئت قلت: الصدّ منهم كالدائم فاختير لهم يَفْعَلُونَ كأنك قلت: إن
الذين كفَروا ومِن شأنهم الصَدْ. ومثله {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرونَ بآياتِ اللهِ
وَيَقْتُلُونَ النبيّينَ} وفى قراءة عبدالله {وَقَاتَلُوا الذينَ يأمرونَ بالقِسْطِ}
وقال {الذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} مثل ذلك.ومثله فى الأحزاب فى
قرءاة عبدالله (الذِينَ بَلَّغُوا رِسالات الله وَيَخْشَوْنَه) فلا بأسُ أن
تردّ فَعَل على يفعل كما قال {وَقَاتلُوا الذِينَ يأمرونَ}، وأن تردّ يفعل على
فعَل، كَمَا قَالَ {إِنَّ الذينَ كفروا وَيَصُدّون عن سبيل الله}.
وقوله: {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
فالعاكف مَن كان من أهْل مكَّة.
والبادِ مَن نزع إليه بحجّ أو عمرة. وقد اجتمع القراء
عَلى رفع (سواء) هَا هُنَا. وأَما قوله ا فى الشريعة: {سواء مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ} فقد نصبها الأعمش وحده، ورفعها سَائر القراء. فمَن نَصَبَ أوقع
عليه {جَعَلناه} ومن رفع جَعَل الفعل واقعاً عَلى الهَاء واللام التى فى الناس،
ثم اسْتانف فقال: {سَوَاءٌ العاكِفُ فِيهِ والبادِ} ومن شأن العرب أن يستأنفوا
بسَواء إذا جاءت بعد حرف قد تمَّ به الكلام فيقولون: مررت برجل سواءٌ عنده الخيرُ والشرّ.
والخفض جَائز. وإنما اختاروا الرفع لأن (سواء) فى مذهب واحد، كأنك قلت: مررت على
رجل واحدٌ عنده الخير والشرّ. ومَن خفض أراد: معتدلٍ عنده الخير والشرّ . ولا
يقولون: مررت على رجل معتدلٌ عنده الخير والشر لأن (معتدل) فعل مصرَّح، وسواء فى مذهب مصدر.
فإخراجهم إيّاه إلى الفعل كإخراجهم مررت برجل حَسْبِك من رجل إلى الفعل.
وقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} دخلت
الباء فى (إلحاد) لأن تأويله: ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم. ودخول البَاء فى (أن)
أسهل منه فى الإلحاد وما أشبهه؛ لأن (أن) تضمَر الخوافض معها كثيراً، وتكون كالشرط
فاحتملتْ دخولَ الخافض وخروجه؛ لأن الإعراب لا يتبيَّن فيهَا، وقلّ فى المصادِرِ؛
لتبيُّن الرفع والخفض فيها. أنشدنى أبو الجَرّاح:
فلمَّا رَجَتْ بالشّرب هَزّ لها العصا * شَحِيح له عند
الإزاء نَهِيم
(قال الفراء: نهِيم من الصَّوت). وقال امرؤ القيس:
ألا هل أتاها والحوادث جَمَّة * بأن امرأ القيس بنَ
تَمْلِك بَيْقرا
فأدخل الباء على (أنّ) وهى فى موضع رَفع؛ كما أدخلها على
(إلحاد بظلم) وهو فى موضع نصب. وقد أدخلوها عَلَى (مَا) إذا أرادوا بها المصدر،
يعنى البَاء. وقال قيس بن زُهَيرٍ:
ألم يأتيك والأنباءُ تنمِى * بما لاقت لبونُ بنى زيادِ
وهو فى
(ما) أقل منه فى (أن) لأنّ (أن) أقل شَبَهَاً بالأسماء من (مَا). وسَمعت أَعرابيّاً من ربيعة وسألته عن
شىء فقال: أرجو بذاكَ. يريد: أَرْجُو ذاكَ. وقد قرأ بعض القراء (وَمَن تَرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ) من الورود، كأنه أراد: مَن وَرَده أو تورَّده. ولست أشتهيهَا،
لأنّ (وردت) يطلب الاسم، ألاّ ترى أنكَ تقول: وَرَدنا مكّة ولا تقول: وردنا فى
مكّة. وهو جائز تريد النزولَ. وقد تجوز فى لغة الطائيّين لأنهم يقولون: رغبت فيك،
يريدون: رغبت بك. وأنشدنى بعضهم فى بنت له:
وأرغبُ فيهَا عن لَقِيطٍ ورَهْطه * ولكننى عن سِنْبِسٍ
لست أرغب
(يعنى بنته).
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ
أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
وقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ...}
ولم يقل: بَوَّأنا إبراهيمَ. ولو كان بمنزلة قوله
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} فإن شئت أنزلت
{بَوَّأنا} بمنزلة جَعَلنا. وكذلكَ سُمعت فىالفسير. وإن شئت كان بمنزلة قوله {قُلْ عَسَى
أنْ يَكُونَ رَدِف لكم بعضُ} معناه: رَدِفكم. وكلٌّ صواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ }
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ...}
{يأتينَ} فعل النُوق وقد/ ب قرئت (يأتون)
يذهب إلى الرُكبان. ولو قال: وعلى كل ضامِرٍ تأتى تجعله فعلاً موحَّداً لأن (كلّ)
أضيفت إلى واحدة، وقليل فى كلام العرب أن يقولوا: مررت عَلى كل رجل قائمِين وهو
صواب. وأشَدّ منه فى الجواز قوله {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
وإنما جاز الجمع فى أَحَد، وفى كلّ رجل لأن تأويلهما قد يَكون فى النية موحّداً وجمعاً.
فإذا كان (أحداً) وكل متفرقة من اثنين لم يجز إلاّ توحيد فعلهما من ذلك أن تقول:
كلُّ رجل منكما قائِم. وخطأ أن تقول قائمون أو قائمان لأن المعنَى قد رَدَّهُ إلى
الواحد. وكذلكَ مَا منكما أحد قائمونَ أو قائمان، خطأ لتلكَ العلة.
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ...}
(اللام سَاكنة) {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُواْ} اللامات سواكن.
سَكَّنهن أهل المدينة وعاصم والأعمش، وَكسرهن أبو
عبدالرحمن السلمى والحسن فى الواو وغير الواو. وتسكينهم إيَّاها تخفيف كما تقول:
وَهْو قال ذلكَ، وَهْى قالت ذاكَ، تسكِّن الهَاء إذا وُصلت بالواو. وكذلك مَا
كَانَ منْ لام أمر وُصلت بواو أو فاء، فأكثرُ كلام العرب تسكينها. وقد كسَر بعضهم
{ثُمَّ لِيَقْضُواْ} وذلك لأنَّ الوقوف عَلى (ثُمَّ) يحسن ولاَ يحسن فى الفاء ولا الواو:
وهو وجه، إلاَّ أن أكثر القراءة عَلى تسكين اللام فى ثمَّ:
وأمَّا التَّفَث فنحر البُدْن وغيرهَا من البقر والغنم
وَحَلْق الرأس، وتقليم الأظافِر وأشباهه.
{ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ
خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ
الزُّورِ }
وقوله:
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ...}
فى سورة المائدة. من المنخنقة والموقوذة والمتردّية
والنطيحة إلى آخر الآية.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
وقوله: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ...}
ممَّا رُدَّ من يَفعل على فَعَل. ولو نصبتها فقلت:
فتَخْطَفَه الطير كان وجهاً. والعرب قد تُجيب بكأنَّما. وذلكَ أنها فى مذهبِ يُخَيَّل إلىَّ
وأظنّ فكأنها مردودة عَلى تأويل (أنّ) أَلا تَرَى أنك تقول: يخيَّل إلىَّ أن تذهب فأَذهبَ
معكَ. وإن شئت جَعَلت فى (كأنَّما) تأويل جحد؛ كأنك قلت: كأنك عربىّ فتكرمَ،
والتأويل: لست بعربىّ فتكرمَ:
{ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }
وقوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ...}
يريد:
فإن الفَعْلة؛ كما قال {إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا
لَغَفُورٌ رَحَيمٌ} ومن بعده جائز. ولو قيل: فإنه من تَقْوَى القلوب كان جَائزاً.
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ
مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
}
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى...}
يعنى البُدْن. يقول: لكم أَن تنتفعوا بألبانها وركوبها
إلى أن تُسَمَّى أو تُشعر فذلكَ الأجل المسمَّي.
وقوله:
{ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ما كان
من هَدْىٍ للعمرة أو للنذْر فإذا بَلَغ البيتَ نُحر. ومَا كَان للحجّ نُحر بمنى.
جُعل ذلك بمنى لتطُهر مكّة.
وقوله:
{الْعَتِيقِ} أٌعتِق من الجبابرة. حَدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا
الفراء قال: حدَّثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عبَّاس قال: العتيق:
أعتق من الجبابرة. ويقال: من الغرق زمن نوح.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }
وقوله: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ...}
خفضت (الصلاة) لمّا حذفت النون وهى فى قراءة عبدالله (والمقيمين
الصلاةَ) ولو نصبت (الصلاة) وقد حذفت النون كان صواباً. أنشدنى بعضهم:
أسَيِّدُ ذو خُرَيِّطَةٍ نهاراً * من المتلقِّطى قَرَدَ
القُمَامِ
(وَقردِ)
وإنما ا جاز النصب مع حذف النون لأن العرب لا تقول فى
الواحد إلاَّ بالنصب. فيقولونَ: هو الآخذ حَقَّه فينصبون الحقّ، لا يقولون إلاّ
ذلك والنون مفقودة، فبنَوا الاثنين والجميع على الواحد، فنصبوا بحذف النون. والوجه فى
الاثنين والجمع الخفض؛ لأن نونهما قد تظهر إذا شئت، وتحذف إذا شئت، وهى فى الواحد
لا تظهر. فذلك نصبُوا. ولو خُفِض فى الواحد لجاز ذلك. ولم أسمعه إلا فى قولهم: هو الضارب
الرجَلِ، فإنهم يخفضون الرجل وينصبونه فمَن خفضه شبهَّه بمذهب قولهم: مررت بالحسن
الوجهِ فإذا أضافوه إلى مكنّى قالوا: أنت الضاربُهُ وأنتما الضارباه، وأنتم
الضاربوه. والهاء فى القَضَاء عليها خَفْض فى الواحد والاثنين والجمع. ولو نويت
بها النصب كان وجهاً، وذلك أَنّ المكنّى لا يتبيَّن فيه الإعراب. فاغتنموا الإضافة
لأنها تتّصل بالمخفوض أشدّ ممَّا تتصل بالمنصوب، فأخذوا بأقوى الوجهين فى الاتّصال. وكان ينبغى لمَن
نصب أن يقول: هو الضارب إيّاه، ولم أسمع ذلكَ.
{ وَالْبُدْنَ
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا
وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وقوله: {صَوَآفَّ...}:
معقولة وهى فى قراءة عبدالله (صَوافِنَ) وهى القائمات.
قرأ الحسنُ (صوافِىَ) يقول: خوالصَ لله.
وقوله:
{الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} القانع: الذى يَسْألك (فما
أعطيته من شىء) قبله. والمعترَّ: ساكت يتعرَّض لك عند الذبيحة، ولا يسألك.
{ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا
وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }
وقوله: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا...}
اجتمعوا عَلَى اليَاء. ولو قيل (تنال) كان صَواباً.
ومعنى ذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروها نضَحوا الدماء حول البيت. فلمَّا
حَجَّ المسْلمُون أرادوا مثل ذلكَ فأنزل الله عز وجل {لَن يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}: الإخلاصُ
إليه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ...}
و(يَدْفع) وأكثر القراء على (يدافع) وبه أقرأُ. وقرأ أبو
عبدالرحمن السُّلَمِى (يدافع)، (وَلَو لاَ دِفَاعُ الله) وكلّ صواب.
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }
وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...}
(يقاتِلوُن) ومعنَاه: أَذِن
الله للذينَ يقاتلون أن يقاتِلوا هذا إذ أنزلت {فَاقْتُلوُا المُشْرِكينَ حيثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} وقرئت {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} والمعنى إذن لهم أن
يقاتلوا وكلٌّ صواب.
{ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ
إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
}
وقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ...}
يقول لم يخرجوا إلاّ بقولهم: لا إله إلا الله. فإن شئت
جِعَلت قوله: {لاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} فى موضع خَفضٍ تَردَّه على
الباء فى (بِغَيْرِ حَقٍّ) وإن شئِتَ جْعَلت (أن) مستثناةً؛ كما قال {إلاَّ ابْتغاء وَجْهِ
ربِّه الأعلى}.
وقوله: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} وهى مُصَلّى
النصَارى والصوامع للرهبان وأما الصلوات فهى كنائس اليهود والمساجد (مساجد الإسلام)
ومعنى التهديم أن الله قال قبل ذلك {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ} يدفع بأمره وأتباعهِ عن دين كل نبىّ؛ إلى أن بعث الله محمَّد صَلى الله
عَليه وسلم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَّشِيدٍ }
وقوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ
مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ...}
البئِر
والقصر يُخفضان على العطف على العروش وإذا نظرت فى معناها وجدتها ليست تحسُن فيَها
(عَلَى) لأن العروش أَعالى البيوت، والبئر فى الأرض وكذلكَ القصر، لأن القرية لم
تَخْوِ عَلَى القصر. ولكنه أُتبع بعضه بعضاً، كما قال {وَحُورٍ عينٍ كأَمْثَالِ اللُؤْلُؤ} ولو
خفضت البئر ب والقصر - إذا نويت أنهما ليسا من القرية - بِمن كأنك قلت: كم من قرية
أُهلكت، وكم من بئر ومن قصرٍ. والأول أحُبّ إلىّ.
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
وقوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ...}
الهاء (هاء عماد) تُوَفَّى (بهَا) إنّ. يجوز مكانَها (إنَّه) وكذلك هى
قراءة عبدالله (فانه لا تعمى الأبصَار ولكن تعمى القلوب التى فى الصّدور) والقلبُ لا
يكون إلا فى الصدر، وهو توكيد ممَّا تزيده العرب على المعنى المعْلومِ؛ كما قيل
{فصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعتُم تِلْكَ عَشَرةٌ
كامِلَةٌ} والثلاثة والسَّبعة معلوم أَنهما عشرة. ومثل ذلك نظرة إليك بعينى. ومثله
قول الله {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِم} وفى قراءة
عبدالله {إنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعٌ وَتِسْعُون نَعْجَةً وَلِى
نَعْجَةٌ أٌنْثَى} فهذا أيضاً من التوكيد وإن قال قائِل. {كيف انْصرَف من العذاب}
إلى أن قَالَ: {وإنَّ يوماً عند رَبِّك} فالجواب فى ذلك أنهم اسْتعجلوا العذاب فى
الدنيا فأنزل الله على نبيّه {وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ} أى فى أن ينزل بهم
العذاب فى الدنيا. فقوله {وَإِنَّ يَوْماً عند رَبِّك} من عذابهم أيضاً. فهو متّفق: أنهم يعذَّبونَ
فى الدنيا والآخرة أشدّ.
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
}
وقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ
مِّمَّا تَعُدُّونَ...}.
ويقال يوم من أيّام عذابهم فى الآخرة كَألف سَنة ممَّا
تعدونَ فى الدنيا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
}
وقوله: {مُعَاجِزِينَ...}
قراءة العوامّ (مُعَاجِزِينَ) ومعنى معاجزين معاندينَ
ودخول (فى) كما تقول: سعيت فى أمرك وأنت تريد: أردت بكَ خَيراً أو شراً. وقرأ
مجاهد وعبدالله بن الزبير (معجِّزينَ) يقول: مثبِّطينَ.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ
نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ
وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ...}
فالرسول النبىّ المرسل، والنبى: المحدّث الذى لم يُرسَل.
وقوله {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} التمنّى: التلاوة، وحديث
النفس أيضاً.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ
مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
وقوله: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً...}
رفعت (فتُصبح) لأنَّ المعْنى فى {أَلَم تر} معناه خبر كأنكَ قلت فى
الكلام: اعلم أَنَّ الله يُنزل من السّماء ماء فتصبح الأرض. وهو مثل قول الشاعر:
أَلم تسأل الربع القديم فينطق * فهل تُخبرنكَ اليوم
بَيْداءٌ سَمْلَق
أى قد سألته فنطق. ولوجَعَلته اسْتفهَاماً وجعلت الفاءَ
شرطاً لنصبت: كما قال الآخر:
أَلَم تسأل فتخبرَك الديارا * عن الحىّ المضلَّل حيث
سَارَا
والجزم
فى هذا البيت جَائِز كما قال:
فقلت له صَوِّب ولا تجهدَنَّه * فيُذرك من أخرى العَطاةِ
فَتزلق
فجعل الجَوْاب بالفاء كالمنسوق على ما قبله.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ
فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ }
وقوله: {مَنسَكاً...}
و {مَنْسِكاً} قد قرئ بهمَا جميعاً. والمنسِك لأهل
الحجاز والمنسَك لبنى أَسَد, والمنسَك فى كلام العرب: والموضع الذى تعتادُهُ
وتأْلَفَه ويقال: إن لفلان مَنْسِكا يعتاده فى خَير كانَ أو غيره. والمناسك بذلكَ
سميت - والله أعلم - لترداد الناس عليها بالحجّ والعمرة.
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ
بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن
ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا...}
يعنى مشركى أهلِ مكَّة، كانوا إذا سَمعُوا الرجل ا من
المسلمين يتلو القرآن كادوا يبطِشونَ به.
وقوله {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} ترفعها لأنها معرفة فسَّرت الشرّ
وهو نكرة. كما تقول: مررت برجلين أبوك وأخوكَ. ولو نصبتها بما عاد من ذكرها ونويت
بها الاتّصَال بما قبلهَا كان وجهاً. ولو خفضتها على البَاء {فأنبئكم بشرّ من ذلكم
بالنار} كان صَوَاباً. والوجه الرفع.
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ
لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً
وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }
وقوله:
{الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ...}
الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وفيه معنى المَثَل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
وقوله:{مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}
أى ما عظَّموا الله حَقَّ تعظيمه. وهو كما تقول
فىالكلام: ما عرفتَ لفلان قَدْره أى عظَمته وقصَّر به صاحبه.
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
وقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً...}
اصْطفى منهم جبريل وميكائِيل ومَلَك الموتِ وأشباههم.
ويَصطَفى من الناس الأنبياءَ.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ
وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ }
وقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ
وَاسْجُدُواْ...}
كان الناس يسجدون بلا ركوع، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع
قبل السجود.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الحج )
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَاذَا
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ
مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
وقوله: {فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...}
من ضيق.
وقوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} نصبتها على:
وسَّع عَليكم كَمِلَّة أبيكم إبراهيم؛ لأن قوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يقول: وسّعه وسمَّحه كمِلَّة إبراهيم، فإذا ألقيت الكاف
نصبت, وقد تنصب {مِلَّةَ إبراهيم} على الأمر بهَا؛ لأن أول الكلام أمر كأنّه قال:
اركعُوا والزمُوا مِلّة إبراهيم.
وقوله: {مِن قَبْلُ وَفِي هَاذَا} يعنى القرآن.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( المؤمنون )
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ...}
{لاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ...}
المعنى: إلاَّ من أزواجهم اللاتى أحَلَّ الله من الأربع
لا تُجاوَز.
وقوله:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (ما) فى موضع خفض.
يقول: ليسَ عَليهم فىالإماء وَقْت، ينكحون ما شاءوا. فذلك قوله: حفِظوا فروجهم
إلاَّ من هذين {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فيه. يقول: غَير مُذْنِبينَ.
{ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ }
وقوله: {الْفِرْدَوْسَ...}
قال الكلبىّ: هو البسْتان بلغة الروم. قال الفراء: وهو
عربى أيضاً. العرب تسمى البستان الفردوس.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن
طِينٍ }
وقوله: {مِن سُلاَلَةٍ...}
والسّلالة التى تُسَلّ منْ كلّ تُربة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ }
وقوله: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً...}
و (العَظْمَ) وهى فى قراءة عبدالله {ثم
جَعَلنا النطفة عظماً وعَصَباً فكسوناه لحماً} فهذه حُجّة لمنْ قال: عَظْماً وقد
قرأها بعضهم (عظما).
وقوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يذهب إلى
الإنسان وإن شئت: إلى العظم والنطفة والعصب، تَجْعله كالشىء الواحد.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ }
وقوله: {بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ...}
تقرأ (لَميْتون) و
(لمائتونَ) وميّتون أكثر، والعرب تقول لمن لم يمت: إنك
ميّت عن قليلٍ ومائِت. ولا يقولون للميت الذى قد مات، هذا مائت؛ إنما يقال فى الاستقبال،
ولا يجاوز به الاستقبال. وكذلكَ يقال: هذا سيّد قومه اليوم، فإذا أخبرت أنه يكون
سيّدهم عن قليل قلت: هذا سائِد قومه عن قليلٍ وسيّد. وكذلكَ الطمع، تقول: هو طَامع فيمَا
قِبَلكَ غداً. فإذَا ب وَصَفته بالطمَع قلت: هوطَمِع. وكذلَك الشريف، تقول: إنه
لشريف قومِه، وهو شارف عن قليل. وهذا الباب كلّه فىالعربية على ما وصفتُ لك.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا
كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
}
وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ...}
يعنى السموات كلُّ سَمَاء طريقة {وَمَا كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ غَافِلِينَ} عَمَّا خلقنا (عافِلينَ) يقول: كنا له حافِظينَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ
بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ
}
وقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ...}
وهى شجرة الزيتون {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} وقرأ الحسن
(تُنْبِتُ بالدهنِ) وهما لغتان يقال نبتت وأنبتت؛ كقول زهير:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم * قَطِيناً لهم حَتَّي إِذا
أنبت البقلُ
(ونبت) وهو كقولك:
مَطَرت السَمَاءُ وأمطرت. وقد قرأ أهل الحجاز. (فَاسْرِ بأهْلِكَ) موصولة من سريت.
وقرءتُنا {فأَسْرِ بأَهْلِك} (من أسْريت) وقال الله {سُبّحَانَ الذِى أَسْرَى
بعَبْدِهِ لَيْلاً} (وَهو أجود) وفى قراءة عبدالله (تُخْرجُ الدهْنَ).
وقوله: {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} يقول: (الآكلونَ
يصطبغونَ بالزيت. ولو كان (وصِبْغا) على (وَصِبْغاً أنبتناه) فيكون). بمنزلة قوله {إنَّا زَيَّنَّا
السَمَاء الدنْيَا بِزِينَةٍ الكَواكبِ وَحِفْظاً}. وذلكَ أن الصِّبْغ هو الزيت
بعينه. ولو كان خلافه لكان خفضاً لا يجوز غَيره. فمن ذلك أن تقول: مررت بعبدالله
ورجلا ما شئت من رَجل، إذا جَعَلت الرجل من صفة عَبدالله نصبته. وإن كان خلافه
خفضته لأنك تريد: مررت بعبدالله وآخر.
وقرأ أهل الحجاز (سِينَاء) بكسر السّين والمدّ، وقرأ
عاصم وغيره (سَيْنَاء) ممدودةً مفتوحة السّين. والشجرة منصوبة بالردّ عَلى
الجَنات، ولوكانت مرفوعة إذ لم يصحبها الفعل كان صَوَاباً. كمن قرأ {وَحُورٌ عِينٌ} أنشدنى بعضهم:
ومن يأت مَمْشَانا يصادِف غنيمة * سِواراً وخَلخالاً
وبُرْدٌ مُفَوَّف
كأنة قال: ومع ذلكَ برد مفوَّف. وأنشدنى آخر:
هزِئت حُمَيدة أن رأت بى رُتّة * وفماً به قَصَم وجلدٌ
أسودُ
كأنه قال: ومع ذلكَ جلد أسود.
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ
بِهِ حَتَّى حِينٍ }
وقوله:{جِنَّةٌ...}
هو الجنون. وقد يقال للجن الجِنَّة، فيتّفق الاسم
والمصدر.
وقوله {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ} لم يُرَد بالحين حين
موَقّت. وهو فى المعنَي كقولك. دَعه إِلى يوم ولم تَرد: إلى يوم معلوم واحِدٍ من
ذِى قَبَل: ولا إلى مقدار يوم معلوم. إنما هو كقولكَ إلى يَوم مّا.
{ وَقَالَ
الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ }
وقوله: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ...}
المعنى ممّا تِشربونَ منه. وجاز حذف (منه) لأنك تقول:
شَِربت من مائِك. فصَارت (ما تشربونَ) بمنزلة شرابكم. ولوحذفت (من) (تأكلونَ)
"منه" كانَ صَوَاباً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ
تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ }
وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ
تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ...}
أعيدت (أنكم) مرَّتين ومعناهما واحد. إلاّ أن ذلكَ حَسُن لمّا فرقْت
بين (أنكم) وبين خبرهَا بإذا. وهى فى قراءة عبدالله (أيعدكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً
أنكم مخرجُون) وكذلكَ تفعل بكل اسمٍ أوقعت عَليه (أن) بالظنّ وأخوات الظنّ، ثم
اعترض عله الجزاءُ دون خبره. فإن شئت كرَّرت اسمه، وإن شئت حذفته/ ا أوّلا وآخِراً.
فتقول: أظنّ أنك إن خرجت أنك نادم. فإن حذفت (أنك) الأولى أو الثانية صلح. وإن ثبتتا
صلح. وإن لم تعرض بينهما بشىء لم يجز. فخطأٌ أن تقول أظن أنك أنك نادم إلاّ أن
تُكرِّر كالتوكيد.
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }
وقوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ...}
لو لم تكن فى (ما) اللام كان صَوَباً. ودخول اللام
عربىّ. ومثله فىالكلام هَيْهَات لكَ، وهيهات أنت مِنّا، وهيهات لأرضك. قال الشاعر:
فأيْهات أيهات العقِيقُ ومَن به * وأيهات وصل بالعقيق
نُواصله
فمن يدخل
اللام رَفَع الاسم. ومعنى هيهات بعيد كانه قال: بعيد (ما توعدونَ) وبَعيد العقيق وأهله. ومن أدخل اللام
قال هَيْهَات أداة ليست بمَأخوذة من فعلٍ بمنزلة بعيد وقريب، فأُدخلت لها اللام
كما يقال: هَلُمَّ لك إذ لم تكن مأخوذة من فعلٍ. فإذا قالوا: أَقْبِل لم يقولوا:
أَقْبِل لك؛ لأنه يحتمل ضَمير الاسم.
فإذا وقفت على هيهات وقفت بالتاء فى كلتيهمَا لأنَّ من العرب
من يخفض التاء، فدلّ ذلك عَلى أنها ليست بهاء التأنيث فصَارت بمنزلة دَرَاكِ
ونَظَارِ. ومنهم من يقف عَلى الهاء لأنَّ مِن شأنِهِ نصبَها فيجعلها كالهَاء.
والنصب الذى فيهما أنهما أداتان جُمِعتَا فصارتَا بمنزلة خمسة عشر. وإن قلت إنّ كل
واحدة مستغنية بنفسها يجوز الوقوف عليها فإن نصبها كنصب قوله: {قُمت ثُمَّتَ
جلست}، وبمنزلة قول الشاعر:
ما وِيّ بل رُبَّتما غارةٍ * شَعْوَاءَ كالَلذْعة
بالمِيسَم
فنصْب هَيْهَات بمنزلة هذه الهاء التى فى رُبَّت؛ لأنها
دخلت على رُبّ وعَلى ثُمَّ. وكانا أداتين، فلم يغيّرهما عن أداتهما فنُصبا. قال
الفراء: واختار الكسائى الهاء، وأَنَا أقف على التاء.
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ
فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً...}
كغُثَاء الوادِى يُبَّساً بالعذاب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ
أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ
أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى...}
أكثرالعرب
على ترك التنوين، تُنَزل بمنزلة تَقْوَى ومنهم من نوَّن فيها وجَعَلَها ألِفا كألف
الإعراب، فصَارت فى تغيُّر واوها بمنزلة التُراثِ. والتُجَاهْ. وإن شئت جَعَلْت باليَاء منهَا كأنها
أصْليّة فتكون بمنزلة المِعْزَى تنوَّن ولا تنوَّن وَيَكُون الوقوف عليها حينئذٍ
باليَاء وإشارةٍ إلى الكسر. وإن جَعَلتها ألفَ إعراب لم تشِر لأنك لا تشير إلى
ألِفات الإعراب بالكسر، ولا تقول رأيت زيدى ولا عمرى.
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً
وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }
وقوله: {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ...}
الربوة:
ما ارتفع من الأرض. وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} منبسطة وقوله
{وَمَعِينٍ}: الماء الظاهر والجارى. ولك أن تجعل المعِين مفعولا من العيون، وأن تجعله فَعِيلاً
منَ الماعون ويكونَ أصله المَعْن. قال الفراء: (المعنُ الاستقامة)، وقال عَبِيد بن
الأبرص:
واهية أو معين مَعْنٍ * أو هَضْبة دونَها لَهُوب
{ ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
وقوله: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ...}
أراد النبىّ فجَمع كما يقال فى الكلام للرجل الواحد:
أَيُّها ب القوم كُفُّوا عنا أذاكم. ومثله {الذِينَ قَالَ لَهُمُ الناسُ إنَّ
الناسَ قَدْ جَمَعْوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ} الناس واحد (معروف كان رجلاً من أشجع
يقال له نُعَيم ابن مسعود).
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
}
وقوله: {وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ...}
قرأها
عاصم والأعمش بالكسر علىالائتِناف وقرأهَا أهْل الحجاز والحسن (وأَنَّ هذه أُمَّتكم)
والفتح عَلى قوله {إنى بما تعملُون عليم} وعليم بأن هذه أمتكم. فموضعها خفض لأنها مردودة على (مَا)
وإن شئت كانت منصوبة بفعل مضمر كأنك قلت: واعلمْ هذا.
{ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ
حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
}
وقوله: {فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ...}:
فرَّقوه.
تفرَّقوا يهودَ ونصارى. من قال {زُبَراً} أراد: قطعاً
مثل قوله {آتُونِى زُبُرَ الحَدِيدِ} والمعنى فى زُبُر وزُبَر واحدٌ. والله أعلم.
وقوله {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} يقول: معجَبونَ بدينهم. يُرَون أنهم
عَلى الحقّ.
{ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ }
وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ...}:
فى جَهالتهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ
وَبَنِينَ }
وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن
مَّالٍ وَبَنِينَ...}
(ما) فى موضع الذى، وليست بحرف واحدٍ.
{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ
يَشْعُرُونَ }
وقوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ...}
يقول:
أيَحْسبون أن ما نعطيهم فى هذه الدنيا من الأموال
والبنين أنا جَعَلناه لهم ثوابَا. ثم قال {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أنّما هو استدارج
مِنّا لهم.
{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ...} =
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق