اندكس ن فح الباري من ن

الرابط

 https://drive.google.com/file/d/1oQ6F4ip_x4FPYXEL9by5sq_at0QyoUMM/view?usp=sharing

اندكس / جاهز للالصاق بأي موفع

الجمعة، 24 فبراير 2023

ج1وج2.معاني القران للفراء كتاب معانى القرآن للفراء أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء

 

ج1وج2.معاني القران للفراء كتاب معانى

  القرآن للفراء أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء


المعاني الواردة في آيات
سورة ( الفاتحة ){ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

قوله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ...}
اجتمع القرّاء على رفع الحمد. وأمّا أهل البَدْو فمنهم من يقول : "الحمدَ لِلّه". ومنهم من يقول: "الحمدِ لِلّه ". ومنهم من يقول : "الحمدُ لُلّهِ" فيرفع الدال واللام.
فأما مَن نَصب فإنه يقول: "الحمد" ليس باسم إنما هو مَصْدر؛ يجوز لقائله أن يقول: أحمد اللّه، فإذا صَلح مكان المصدر (فَعل أو يَفْعل) جازفيه النصب؛ من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ} يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب. ومن ذلك قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ}؛ يصلح أن تقول في مثله من الكلام: نعوذ باللّه. ومنه قول العرب: سَقْيناً لكَ، ورَعْياً لك؛ يجوز مكانه: سقاك الله، ورعاك الله.
وأما من خفض الدال من "الحمدِ" فإنه قال: هذه كلمة كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد؛ فثقُل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضَمّةٌ بعدها كسرة، أو كَسْرَةٌ بعدها ضَمّة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل إِبِل؛ فكسروا الدال ليكون على المثال من أسمائهم.
وأمّا الذين رفعوا الّلام فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذى يجتمع فيه الضمتان؛ مثلُ: الحُلُم والعُقُب .
ولا تُنْكرنّ أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كَثُر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب : "بِأَبَا" إنما هو "بِأَبِى" الياءُ من المتكلم ليست من الأب؛ فلما كَثُرَ بهما الكلام توهّموا أنهما حرف واحد فصيّروها ألفا ليكون على مثال: حُبْلَى وسَكْرَى؛ وما أشبهه من كلام العرب. أنشدنى أبو ثَرْوان:
قال الجوارِى ما ذَهَبْتَ مَذْهَبَا * وعِبْنَنِى ولم أكنْ مُعَيِّبَا

هل أنتَ إلا ذاهبٌ لِتلْعَبَا * أرَيْتَ إنْ أعطِيتَ نَهْداً كَعْثَبَا
أذاك أم نُعطيكَ هَيْدًا هَيْدَبَا * أَبْرَدَ فى الظَّلماء من مَسِّ الصَّبَا
فقلتُ: لا، بل ذا كما يا بِيَبَا * أجدرُ ألاّ تَفْضَحَا وتَحْرَبَا
"هل أنتَ إلاّ ذاهبٌ لتلْعَبَا" ذهب بـ"ـهل" إلى معنى "ما".
(عَلَيْهُم) و (عَلَيْهِم) وهما لغتان؛ لكل لغة مذهبٌ فىالعربية.
فأما من رفع الهاء فإنه يقول: اصلها رفعٌ فى نصبها وخفضها ورفعها؛ فأما الرفع فقولهم: "هُم قالوا ذاك"، فى الابتداء؛ ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها. والنصب في قولك: "ضَرَبَهُم" مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها؛ فتركت فى "عليهمُ" على جهتها الأولى .
وأما من قال: "عليهِم" فإنه استثقل الضمّة فى الهاء وقبلها ياء ساكنة، فقال: "عليهِم" لكثرة دَور المكنىّ في الكلام. وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل"بِهِم" و"بِهُم"، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء الساكنة. ولا تبال أن تكون الياء مفتوحا ما قبلها أو مكسورا؛ فإذا انفتح ما قبل الياء فصارت ألفاً في اللفظ لم يُجْز فى "هم" إلا الرفع؛ مثل قوله تبارك وتعالى: {وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِِّ} ولا يجوز: "مَوْلاهِم الحقِّ"، وقوله {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} لا يجوز "فبِهُداهِم اقْتَدهْ" .

ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته ياء ساكنة أو كسرة، قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} و{حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} يجوز رفع الألف من "أمّ" و"أمها"وكسرها في الحرفين جميعا لمكان الياء. والكسرة مثل قوله تّبارك وتعالى: {فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}، وقول من رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أُوصى امرأً بِأمّه". فمن رفع قال: الرفع هو الأصل في الأمّ والأمّهات. ومن كسر قال: هي كثيرة المجرى في الكلام؛ فاستثقل ضمةً قبلها ياء ساكنة أو كسرة. وإنما يجوز كسر ألف "أمّ" إذا وليها كسرة أو ياء؛ فإذا انفتح ما قبلها فقلت: فلان عند أمّه، لم يجز أن تقول: عند إِمّه، وكذلك إِذا كان ما قبلها حرفا مضموما لم يجز كسرها؛ فتقول: اتّبعتُ أمّه، ولا يجوز الكسر.
وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن في الأمّ إلا ضم الألف؛ كقولك: من أُمّه، وعن أُمّه. ألا ترى أنك تقول: عنهُم ومِنهُم (واضربهُم). ولا تقول: عنهِم ولا مِنهِم، ولا اضِربهِم. فكل موضع حَسُن فيه كسر الهاء مثل قولهم: فيهم وأشباهها، جاز فيه كسر الألف من "أمّ" وهي قياسها. ولا يجوز أن تقول: كتب إلى إِمّه ولا على إِمّه؛ لأن الذي قبلها ألف في اللفظ وإنما هي ياء في الكتاب: "إلى" و "على". وكذلك: قد طالت يدا أُمه بالخير. ولا يجوز أن تقول: يدا إِمّه. فإن قلت: جلس بين يَدىْ أَمِّه؛ جاز كسرها وضمها لأن الذي قبلها ياء. ومن ذلك أن تقول: هم ضاربو أُمّهاتهم؛ برفع الألف لا يكون غيره. وتقول: ما هم بضاربى أُمّهاتهم وإِمّهاتهم؛ يجوز الوجهان جميعا لمكان الياء. ولا تُبال أن يكون ما قبل ألف "أمّ" موصولا بها أو منقطعا منها؛ والوجهان يجوزان فيه؛ تقول: هذهِ أمّ زيد وإِمُّ زيد. وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة، كم كانت "هُم" لا تكون إلا مرفوعة في الابتداء، فأما "هم" فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل" بِهِم".

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }

وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم...}
بخفض "غيرِ" لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من "عليهم". وإنما جاز أن تكون "غير" نعتاً لمعرفة؛ لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام، وليس بمصمودٍ له ولا الأوّل أيضا بمصمود له، وهى فى الكلام بمنزلة قولك: لا أمرّ إلا بالصادق غيرِ الكاذب؛ كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول: مررت بعبد الله غيرِ الظريفِ إلا على التكرير؛ لأن عبد الله مُوَقّت، و"غير" في مذهبِ نكرةٍ غير موقتة، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. والنصب جائز في "غير" تجعله قطعا من "عليهم". وقد يجوز أن تجعل "الذين" قبلها في موضع توقيت، وتخفض "غيرِ" على التكرير: "صراط غيرِ المغضوب عليهم".
وأما قوله تعالى: {وَلاَ الضَّآلِّينَ...}
فإن معنى "غير" معنى "لا" فلذلك رُدّت عليها "ولا". هذا كما تقول: فلان غير محسن ولا مُجْمِل؛ فإِذا كانت "غير" بمعنى سوى لم يجز أن تُكَرَّ عليها "لا"؛ ألا ترى أنه لا يجوز: عندى سوى عبد الله ولا زيد.
وقد قال بعض من لا يعرف العربية: إن معنى "غير" في "الحمد" معنى "سوى"، وإن "لا" صلة في الكلام، واحتجَّ بقول الشاعر:
* في بئرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ *
وهذا [غير] جائز؛ لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله، فهو جَحْد محض. وإنما يجوز أن تجعل "لا" صلة إذا اتصلت بَجحْد قبلها؛ مثل قوله:
ما كان يرضى رسولُ اللهِ دينَهم * والطيِّبان أبو بكر ولا عمرُ
فجعل"لا" صلة لمكان الجحد الذي فى أوّل الكلام؛ هذا التفسير أوضح؛ أراد فى بئر لا حور, "لا" الصحيحة فى الجحد؛ لأنه أراد فى: بئر ماء لا يُحير عليه شيئاً؛ كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى. والعرب تقول: طحنت الطاحنةُ فما أحارت شيئا؛ أى لم يتبين لها أثر عمل.

المعاني الواردة في آيات
سورة ( البقرة )

{ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

قوله تعالى: {الم... ذَلِكَ الْكِتَابُ...}
الهجاء موقوف في كل القران، وليس بجزم يسمَّى جزماً, إنما هو كلام جزمه نَّية الوقوف على كل حرف منه؛ فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر. وإنما قرأت القرّاءُ "آلمَ اللهُ" فى "آل عمران" ففتحوا الميم؛ لأن الميم كانت مجزومة لِنيّة ّ الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة "ا ل مَ اللهُ " فتركت العرب همزة الألف من "الله" فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزما مستحِقّا للجزم لكسرت، كما فى " قِيل ادخلِ الجنة". وقد قرأها رجل من النحويين, - وهو أبو جعفر الرؤاسىّ وكان رجلا صالحا - {الم الله} بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء: وبلغنى عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف .
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفاً واحداً؛ مثل قوله "ص" و "ن" و"ق" كان فيه وجهان فى العربية؛ إن نويت به الهجاء تركته جزماً وكتبته حرفاً واحداً، وإن جعلته اسماً للسورة أو في مذهب قَسَم كتبته على هجائه "نون" و"صاد" و "وقاف" وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من "نون" فقلت: "نونَ والقلم" و "صادِ والقرآن" و "قافِ" لأنه قد صار كأنه أداة؛ كما قالوا رجلانِ، فخفضوا النون من رجلانِ لأن قبلها الفاً، ونصبوا النون فى "المسلمونَ والمسلمينَ" لأن قبلها ياء وواوا. وكذلك فآفعل بـ "ياسينَْ والقرآن" فتنصب النون من "ياسين" وتجزمها . وكذلك "حم" و "طس" ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم" لأنها لا تشبه الأسماء، و"طس" تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شىء من القرآن مثل "الم" و "المر" ونحوهما.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ...}

يصلح فيه (ذَلِكَ) من جهتين، وتصلح فيه "هذا" من جهة؛ فأما أحد الوجهين من "ذلك" فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذى وعدتك أن أُوحِيه إليك. والآخر أن يكون "ذلك" على معنى يصلح فيه "هذا"؛ لأن قوله "هذا" و "ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان؛ فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا ذلك الخبر، فصلحت فيه "هذا"؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذى تشير إليه، وصلحت فيه "ذلك" لانقضائه، والمنقضى كالغائب. ولو كان شيئا قائما يُرَى لم يجز مكان "ذلك" "هذا"، ولا مكان "هذا" "ذلك" وقد قال الله جل وعز: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} إلى قوله: {وَكُلُّ مِنَ الأَخْيَارِ} ثم قال: {هَذَا ذِكْرٌ}.
وقال جلّ وعزّ فى موضع آخر: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ثم قال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيوْمِ الْحِسَابِ}. وقال جلّ ذكره: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} ثم قال: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد}. ولو قيل فى مثله من الكلام فى موضع "ذلك": "هذا" أو فى موضع "هذا": "ذلك" لكان صوابا. وفى قراءة عبدالله بن مسعود "هَذَا فَذُوقُوهُ" وفى قراءتنا" ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ".
فأما مالا يجوز فيه "هذا" فى موضع "ذلك" ولا "ذلك" فى موضع "هذا" فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذى تعرف: مَن هذا الذى معك؟ ولا يجوز هاهنا: مَن ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: {هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ...}

فإنه رَفْع من وجهين ونَصْب من وجهين؛ إذا أردت بـ "الكتاب" أن يكون نعتًا لـ "ذلك" كان الهُدَى فى موضع رفع لأنه خبر لـ "ذلك"؛ كأنك قلت: ذلك هُدًى لا شكّ فيه. وإن جعلت {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبره رفعت أيضا {هُدىً} تجعله تابعا لموضع "لاَ رَيْبَ فِيهِ"؛ كما قال الله عزّ وجلّ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء "الم. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكيم. هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنينَ" بالرفع والنصب. وكقوله فى حرف عبدالله: {أَأَلِدُ وأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخٌ} وهى فى قراءتنا "شَيْخاً".
فأما النصب فى أحد الوجهين فأن تجعل "الكتاب" خبرا لـ "ذلك" فتنصب "هُدًى" على القطع؛ لأن "هُدًى" نكرة اتصلت بمعرفة. قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت "هُدىً" على القطع من الهاء التى في "فيه"؛ كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.

واعلم أن "هذا" إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان: أحدها - أن ترى الاسم الذى بعد "هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع ؛ كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب. والوجه الآخر - أن يكون ما بعد "هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ماكان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأُسْد كلِّها بالخوف. والمعنى الثالث - أن يكون ما بعد "هذا" واحدا لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛ ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن يرفعوا هذا "بالأسد", وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذى كان يرافعه لخلوته. ومثله "والله غفور رحيم" فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذى لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضا عن قولك "هذا" مستغنيا؛ ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاجَ أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه.

{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }

قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ...}

انقطع معنى الختم عند قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. ورفعت "الغشاوة" بـ "على"، ولو نصبتها بإِضمار "وجعل" لكان صوابا. وزعم المفضَّل أن عاصم بن أبى النَّجُود كان ينصبها، على مثل قوله فى الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وقلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوةً} ومعناهما واحد؛ والله أعلم. وإنما يحسن الإِضمار فى الكلام الذى يجتمع ويدلّ أوّله على آخره؛ كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدورَ والعبيدَ والإماءَ واللباسَ الحسن؛ فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليَسَار؛ فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله فى سورة الواقعة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُنَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} ثم قال: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرونَ. ولَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ. وحُورٍ عِينٍ} فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم الحور العين. قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهنّ؛ فرفعوا على معنى قولهم: وعندهم حُورٌ عينٌ، أو مع ذلك حورعينٌ؛ فقيل: الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها - والله أعلم - ثم أُتبع آخر الكلام أوّله. وهو كثير فى كلام العرب وأشعارهم، وأنشدنى بعض بنى أسد يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْناً وماءً بارداً * حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْنَاهَا
والكتاب أعرب وأقوى فى الحجة من الشعر. وأمّاما لا يحسن فيه الضمير لقلّة اجتمّاعه، فقولك: قد أعتقت مبارَكا أمس وآخرَ اليوم ياهذا؛ وأنت تريد: واشتريت آخرَ اليوم؛ لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول: ضربت فلانا وفلانا؛ وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا؛ لأنه ليس هاهنا دليل. ففى هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله.

{ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

وقوله: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ...}
ربما قال القائل: كيف تَربح التجارة وإنما يَربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بَيْعُك وخسر بيعُك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان فى التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: {فَإذَا عَزَمَ اْلأَمْرُ} وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير إلا فى مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك؛ لم يجز ذلك، (إن كنت) تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربَح فيه أو يُوضَع؛ لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يُوضَع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان مَتْجُوراً فيه. فلو قال قائل: قد ربحتْ دراهمُك ودنانيرُك، وخسر بَزُّك ورقيقك؛ كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }

وقوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً...}

فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مَثَل للنفاق؛ فقال: مثلهم كمثل الذى استوقد نارا؛ ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: {تَدُورُ أَعْيُنُهْم كالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْْتِ}. وقوله: {مَاخَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعثِ نفس واحدة؛ ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} أراد القِيَم والأجسام، وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحَّدا فى شِعْر فأَجِزْه.ِ وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا فى شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فِعْلك إلا كفعل الحَمِير، وما أفعالكم إلا كفعل الذِّئب؛ فابنِ على هذا، ثم تُلْقِى الفعلَ فتقول: ما فعلك إلأا كالحَمِير وكالذِّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْْ} لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وُحِّد لكان صوابا؛ كقوله: {إنّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الأَثِيمِ. كالْمُهْلِ تغْلِى فى الْبُطُونِ} و "يَغْلِى"؛ فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذَكَّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل: {أَمَنَةً نُعَاساً تَغْشَى طَائِفَةً منْكُمْ} للأَمَنة، "ويَغْشَى" للنعاس.

{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ...}

رُفعن وأسماؤهن فى أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فىآية أخرى، فكان أقوى للأستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً. رَبُّ السَّمَوات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنُِ} "الرحمن" يرفع ويخفض فى الإعراب، وليس الذى قبله بآخر آية. فأما ما جاء فى رءوس الآيات مستأنفا فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. ثم قال جل وجهه: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ} بالرفع فى قراءتنا، وفى حرف ابن مسعود "التائِبِين العابِدِين الحامِدِين". وقال: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ.اللهُ رَبُّكُمْ} يُقرأ بالرفع والنصب على مافسّرت لك. وفى قراءة عبدالله: "صُمّاً بُكْماً عُمْياً" بالنصب. ونصبُه على جهتين؛ إِن شئت على معنى: تركهم صمّاً بكما عميا، وإن شئت اكتفيت بأن توقع التَرك عليهم فى الظلمات، ثم تستأنف "صُمّاً" بالذمّ لهم. والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: وَيْلاً له، وثَوَاباً له, وبُعْداً وسَقْياً ورَعْياً.

{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }

وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ...}

مردود على قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}.
{أَوْ كَصَيِّبٍ}: أو كمثل صيِّب، فاستُغنى بذكر {الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً} فطُرِح ما كان ينبغى أن يكون مع الصيّب من الأسماء، ودلَّ عليه المعنى؛ لأن المَثَل ضُرِب للنفاق، فقال: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌٌ} فشبّه الظلمات بكفرهم، والبرقَ إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والرعد ما أتى فى القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر؛ قيل: إن الرعد إنما ذُكِر مَثَلا لخوفهم من القتال إذا دُعُوا إليه. ألا ترى أنه قد قال فى موضع آخر: {يَحْسَبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أى يظنُّون أنهم أبداً مغلوبون.
ثم قال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} فنصب "حَذَرَ" على غير وقوعٍ من الفعل عليه؛ لم ترد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خَوْفاً وفَرَقاً. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}. وكقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} والمعرفة والنكرة تفسِّران فى هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "مِن". وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ...}

والقّراء تقرأ "يَخَطِّفُ أَبْصاَرَهُمْ" بنصب الياء والخاء والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول: "يَخِطِّفُ" وبعضهم يكسر الياء والخاء ويشدّد فيقول: "يِخِطِّفُ". وبعضٌ من قرَّاء أهل المدينة يسكِّن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين فيقول: "يَخْطِّف". فأما من قال: "يَخَطِّفُ" فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء فإنه طلب كسرة الألف التى فى اختطف والاختطاف؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأُسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضتَ الأوّل؛ كما قال: اضربِ الرجل؛ فخفضتَ الباء لاستقبالها اللام. وليس الذي قالوا بشئ؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا لقالت العرب فى يَمُدّ: يَمِدّ؛ لأن الميم (كانت) ساكنة وسكنت الأولى من الدالين. ولقالوا فى يَعَضّ: يَعِضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا مِن طَلَبِه كسرة الألف؛ لأنها كانت فى ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين الساكنين فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفىّ. وفى قوله: {أَم مَّنْ لاَ يَهِدِّى إلاَّ أَنْ يُهْدَى} وفى قوله: {تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} مثل ذلك التفسير * إلا أَن حمزة الزيات قد قرأ: "تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخْصِمُونَ" بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك *
وقوله: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ...}
فيه لغتان: يقال: أضاءَ القمرُ، وضاءَ القمرُ؛ فمن قال ضاء القمرُ قال: يضوء ضَُوءا. والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
{وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْْ} فيه لغتان: أظلم الليل وظَلِم.

وقوله: { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَْ...} المعنى - والله أعلم -: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره؛ بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من "أذهبت". وقد قرأ بعض القرّاء: "يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهبُ بِالأَبْصَارِ" بضمّ الياء والباء فى الكلام. وقرأ بعضهم: "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَينَاءَ تُنْبِتُ بالدُّهْنِ". فترى - والله أعلم - أن الذين ضمُّوا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذْ بالخطام، وخُذِ الخطامَ، وتعلَّقتُ بزيدٍ, وتعلَّقتُ زيدا. فهو كثير فى الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك لقلَّته، ومنه قوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} المعنى - والله أعلم - ايتنا بغدائنا؛ فلما أسقِطت الباء زادوا ألفا فى فعلت، ومنه قوله عزَّ وجلَّ: {قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} المعنى - فيما جاء- ايتونى بقِطر أُفرِغ عليه، ومنه قوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} المعنى - والله أعلم - فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.

{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِِ...}
الهاء كناية عن القرآن؛ فأتوا بسورة من مثل القرآن. {وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُمْ} يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم؛ وهو كقولك للرجل: إذا لقِيت العدوّخاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين.

{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

وقوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...}
الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبربت يُحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} يعنى النار.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} اشتبه عليهم، فيما ذكر فى لونه، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذى كان قبله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...}

فإن قال قائل: أين الكلام الذى هذا جوابه، فإنا لا نراه فى سورة البقرة؟ فذكِر لنا أن اليهود لما قال الله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ منْ دُون اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} - إلى قوله - {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} لذِكرِ الذباب والعنكبوت؛ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. فالذى "فَوْقَهَا" يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت فى مثله من الكلام "فما فوقها" تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه؛ لأن البعوضة كأنها غاية فى الصغر، فأحَبُّ إلىّ أن أجعلَ "مَا فوقها" أكبر منها. ألا ترى أنك تقول: يُعطَى من الزكاة الخمسُون فما دونها. والدرهمُ فما فوقه؛ فيَضيقُ الكلامُ أن تقول: فوقَه؛ فيهما.أو دونَه؛ فيهما. وأما موضع حسنها فى الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك؛ يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخُر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنَى أكبرَ. فإذا عرفتَ أنتَ الرجل فقلتَ: دونَ ذلك؛ فكأنّك تحطّه عن غاية الشّرف أو غايةِ البُخل. ألا ترى أنك إذا قلتَ: إنه لبخيلٌ وفوق ذاك, تريد فوقَ البخل، وفوق ذاك، وفوق الشّرف. وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلَته قليلاَعن دَرَجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا فى مدح أو ذمّ.
قال القرّاء: وأما نصبهم "بعوضة" فيكون من ثلاثة أوجه: أوّلها: أن تُوقع الضّربَ على البعوضَةِ، وتجعلَ "ما" صلةً؛ كقوله: {عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [يريد عن قليل] المعنى - والله أعلم - إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلاً.

والوجه الآخر: أن تجعل "ما" اسما، والبعوضةَ صلةً فتُعرّبها بِتَعْريب "ما". وذلك جائز فى "مَنْ" و "ما" لأنهما يكونان معرفة فى حال ونكرة فى حال؛ كما قال حسَّان بن ثابت:
فَكَفَى بِنا فَضْلاً علَى مَنْ غَيْرِنا * حُبُّ النَّبِىءِ مُحَمّدٍ إِيّانا
[قال الفرّاء: ويروى: * ...على مَنْ غَيرُنا *] والرفع فى "بعوضة" ها هنا جائز، لأن الصلة تُرفَعُ، واسمها منصوب ومخفوض.
وأما الوجه الثالث - وهو أحبها إلىّ - فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. والعربُ إذا ألْقَتْ "بَيْنَ" من كلام تصلُح "إِلَى" فى آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بَيْنَ" والآخر بـ "إلى". فيقولون: مُطرْنا ما زُبالَةَ فالثّعْلبيةَ، وله عشرون ما ناقةً فجملاً، وهى أحسن الناس ما قَرْناً فقدَماً. يراد به ما بين قرنها إلى قدمَها. ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة, فتقول: هى حسنةٌ ما قرنَها فقدمَها. فإذا لم تصلح "إلى" فى آخر الكلام لم يجزْ سقوطُ "بَيْن"َ؛ مِن ذلك أن تقول: دارى ما بَيْنَ الكوفة والمدينة. فلا يجوز أن تقول: دارى ما الكوفةَ فالمدينةَ؛ لأن "إلى" إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلُّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زُبالةَ إلى الثَّعلبية. ولا تصلح الفاء مكانَ الواو فيما لا تصلح فيه "إلى"؛ كقولك: دار فلان بَيْنَ الحِيرة فالكوفة؛ مُحالٌ. وجلست بين عبد الله فزيدٍ؛ محالٌ، إلا أن يكون مقعدُك آخداً للفضاء الذى بينهما. وإنما امتنعت الفاءُ من الذى لا تصلح فيه "إلى"؛ لأن الفعل فيه لا يأتى فيتَّصلَ، "وإلى" تحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كَطْرفةِ عَيْنٍ، وإن قَصُر قدرُ الذى بينهما مما يوجد، فصلحت الفاءُ فى "إلى" لأنك تقول: أخذ المطرُ أوّلَه فكذا وكذا إلى آخره. فلمَّا كان الفعل كثيرا شيئا بعد شىء فى المعنى كان فيه تأويلٌ من الجزاء. ومِثْلُه أنهم قالوا: إن

تأتنى فأنت مُحسنٌ. ومحال أن تقول: إن تأتنى وأنت محسن؛ فرضُوا بالفاء جوابا فى الجزاء ولم تصلح الواو.
قال الكسائىّ: سمعت أعرابيّا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إِهلالَك إلى سَرارِك. يريد ما بين إِهلالِك إلى سرارك؛ فجعلوا النصب الذى كان يكون فى "بَيْنَ" فيما بعدَه إذا سَقَطت؛ ليُعلم أنّ معنى "بَيْنَ" مُرادٌ. وحكى الكسائىّ عن بعض العرب: الشّنَقُ: ما خَمْسا إلى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين. والشَّنَق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأَوْقاص فى البقر.
وقوله: {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً...}
كأنه قال - والله أعلم - ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدى به هذا. قال الله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}.

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً...}

على وجه التعجُّب والتوبيخ؛ لا على الاستفهام المحض؛ [أى] وَيْحَكم كيف تكفرون! وهو كقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}. وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً}. المعنى - والله أعلم - وقد كنتم، ولولا إضمار "قد" لم يجز مثله فى الكلام. ألا ترى أنه قد قال فى سورة يوسف: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ}. المعنى - والله أعلم - فقد كَذَبتْ. وقولك للرجل: أصبحتَ كَثُرَ مالُك، لا يجوز إلاّ وأنتَ تريدُ: قد كَثُرَ مالُك؛ لأنهما جميعا قد كانا، فالثانى حال للأوّل، والحالُ لا تكون إلا بإضمار "قد" أو بإِظهارها؛ ومثله فى كتاب الله: "أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ" يريد - والله أعلم - [جاءوكم قد حصِرت صدورهم]. وقد قرأ بعضُ القرّاء - وهو الحسن البصرِىّ - "حَصِرَةً صدورهم". كأنه لم يعرف الوجه فى أصبح عبد الله قام أو أقبل أخذ شاة، كأنّه يريدُ فقد أخَذَ شاة. وإذا كان الأوّل لم يَمْضِ لم يجز الثانى بقَدْ، ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام؛ لانّ الإرادة شىء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: عسى قام؛ لأن عسى وإن كان لفظها على فَعَلَ فإنها لمستقبل، فلا يجوز عسى قد قام؛ ولا عسى قام، ولا كاد قد قام؛ ولا كاد قام؛ لأن مابعدهما لا يكون ماضيا؛ فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك فقلت: عسى أن يكون قد ذهب، كما قال الله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذى تَسْتَعْجِلُونَ}.
وقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} يعنى نُطَفا، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نُطْفة فهو ميتة؛ والله أعلم. يقول: فأحياكم من النُّطَف، ثُم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم للبعث.

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ ...}
الاستواء فى كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوِىَ الرجلُ[و] ينتهى شبابُه، أو يستوى عن اعوِجاج، فهذان وجهان، ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى علىّ يُشاتمنى وإلىّ سَواءٌ، على معنى أقْبَلَ إلى وعلىّ؛ فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} والله أعلم. وقال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء: صعِد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلٌّ فى كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ} فإن السماء فى معنى جَمْع، فقال "فَسَوَّاهُنّ" للمعنى المعروف أنهنّ سبعُ سموات. وكذلك الأرض يقع عليها - وهى واحدةٌ- الجمعُ. ويقع عليهما التوحيدُ وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}. ثم قال: {وَمَا بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما (قلت لك).

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ...}
فكان {عرضهم} على مذهب شُخوصِ العالمين وسائر العالَم، ولو قُصِد قَصْد الأسماء بلا شخوص جاز فيه "عرضهنّ" و"عرضها". وهى فى حرفِ عبدالله "ثم عرضهنّ" وفى حرف أبىّ "ثم عرضها"، فإذا قلت "عرضها" جاز أن تكون للأسماءِ دون الشخوص وللشخوص دون الأسماء.

{ قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

وقوله: {يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْْ...}
إن همزت قلت {أَنْبِئْهُمْ} ولم يجز كسر الهاء والميم؛ لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل "عليهِم". وإن ألقيتَ الهمزةَ فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفعُ "هِمُ" وكسرها على ما وصفت لك فى "عليهِم" و "عليهُم".

{ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا...}
إن شِئتَ جعلتَ {فتكونا} جوابا نصبا، وإن شِئتَ عطفتَه على أوّل الكلام فكان جزْما؛ مثل قول امرىء القيس:
فقلتُ له صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ * فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى الْقَطاةِ فَتَزْلِقُ
فجزم. ومعنى الجزم كأنّه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد. ومعنى الجواب والنَّصْب لا تفعل هذا فيُفعلَ بك مجازاةً، فلمّا عُطف حرفُ على غير ما يشا كله وكان فى أوّله حادثٌ لا يصلح فى الثانى نُصِبَ. ومثله قوله: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} و{لاَ تَفْتَرُوا علَىَ اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} و{لاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}. وما كان من نفى ففيه ما فى هذا، ولا يجوز الرفع فى واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف؛ بخلاف المعنيين؛ كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركبُ إليك؛ تريد لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:
أَلَمْ تَسْألِ الَّرْبعَ الْقَدِيمَ فَيَنْطِقُ * وَهَلْ تُخْبِرَنْكَ الْيَوْمَ بَيْدَاءُ سَمْلَقُ
أرد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبى سُلْمَى المُزَنىّ:

قِفْ بِالدِّيارِ التى لَمْ يَعْفُها القِدَمُ * بَلَى وغَيَّرها الأَرْواحُ والدِّيَمُ
فأكذب نفسه. وأمّا قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والْعَشِىّ} فإنّ جوابه قولُه: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمينَ} والفاء التى فى قوله: "فَتَطْرُدَهُمْ" جواب لقوله: "مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ" ففى قوله: "فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمينَ" الجزم والنصب على ما فسّرت لك، وليس فى قوله: "فَتَطْرُدَهُمْ" إلا النصب، لأنّ الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: "مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ" و "عليك" لا تشا كل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلاّ مثل قوله: "عندك وعليك وخلفك"، أو كان فعلا ماضيا مثل: " قام وقعد" لم يكن فى الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز فى قوله:
* فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى الْقَطَاةِ فَتَزْلُقْ *
لان الذى قبل الفاء يَفْعَل والذى بعدها يفعل، وهذا مشاكل بعضُه لبعض؛ لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع علىآخره ما يقع على أوّله, وعلى أوّله ما يقع على آخره؛ لأنه فعل مستقبل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }

وقوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ...}

فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: "اهبطوا" يعنيه ويعنى ذرّيته، فكأنه خاطبهم. وهو كقوله:{فَقَالَ لَهَا وللأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. المعنى - والله أعلم - أَتَيْنا بما فينا من الخلق طائعين. ومثله قول إبراهيم: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ". ثم قال: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَاً} وفى قراءة عبدالله "وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ" فجمع قبل أن تكون ذرّيته. فهذا ومثله فى الكلام مما تتبيّن به المعنى أن تقول للرجل: قد تزوّجتَ ووُلِدََ لك فكثُرْتم وعَزَزتم.
{ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

وقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ...}
فـ {آدَمُ} مرفوع والكلمات فى موضع نصب. وقد قرأ بعض القرّاء: "فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ" فجعلَ الفعلَ للكلمات، والمعنى - والله أعلم - واحد؛ لأن ما لَقِيَك فقد لقينَه، وما نالك فقد نلته. وفى قراءتنا: "لاَيَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمين" وفى حرف عبد الله : "لاَيَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمُونَ".
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }

وقوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ [الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]... }
المعنى لا تنسَوْا نعمتى، لتكن منكم على ذُكْر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه - والله أعلم - على هذا: فاحفظوا ولا تَنْسَوا. وفى حرف عبدالله: "ادَّكِروا". وفى موضع آخر: "وتَذَكَّروا ما فيه". ومثله فى الكلام أن تقول: "اذكُرْ مَكانى مِنْ أبيك".

وأمَّا نصب الياء من "نِعْمَتِى" فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسالُ والسّكون، والفتح، فإذا لَقيتْها ألفٌ ولام، اختارت العربُ اللغة التى حرّكت فيها الياء وكرِهوا الأخرى؛ لان اللاّم ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: نعمتِى التى، فتكونَ كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما. وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام؛ وقد قال الله: {يا عِبَادِى الّذِيِنَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} فقرئت بإِرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان فى القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب. وأمَّا قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الّذِيِنَ يَسْتمِعُونَ الْقَوْلَ}. فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهى محذوفة؛ وعلىهذا يقاس كل ما فى القرآن منه. وقوله: {فما آتَانِىََ اللّهُ خَيْرٌ مِمَّا اتَاكُمْ} زعم الكسائىّ أن العرب تستحبُّ نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} و {إِنِّىَ أَخَافُ اللّهَ}. ولم أر ذلك عند العرب؛ رأيتهم يرسلون الياء فيقولون: عندِى أبوك، ولا يقولون: عندىَ أبوك بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة فى الياء فى هذا ومثله. وأما قولهم: لِىَ ألفان، وبِىَ أخواك كفيلان، فإنهم ينصبون فى هذين لقلتهما، [فيقولون: لىَ أخواك، ولِىَ ألفان، لقلتهما] والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }

وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً...}

وكل ما كان فى القرآن من هذا قد نُصِبَ فيه الثَّمَنُ وأدخلت الباء فى المبيوع أو المشترىَ، فإن ذلك أكثر ما يأتى فى الشيئين لا يكونان ثَمَناً معلوما مثل الدنانير والدراهم؛ فمن ذلك: اشتريتُ ثوبا بكساء؛ أيَّهما شئتَ تجعلْه ثَمَناً لصاحبه؛ لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدُّور وجميع العُروض فهو على هذا. فإن جئت إلى الدراهم والدنانير وضعتَ الباءَ فى الثَّمن، كما قال فى سورة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}؛ لأن الدراهم ثمنٌ أبدا، والباء إنما تدخل فى الأثمان، فذلك قوله: {اشْتَرَوْا بآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً}، {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}، {اشتروا الضلالة بالهدى} {والعذاب بالمغفرة}، فأدخِل الباء فى أىّ هذين شئتَ حتى تصير إلى الدنانير والدراهم فإنك تُدخل الباء فيهن مع العُروض، فإذا اشتريتَ أحدهما [يعنى الدنانير والدراهم] بصاحبه أدخلت الباء عى أيِّهما شئت؛ لأن كل واحد منهما فى هذا الموضع بيعٌ وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العُروض وبين الدراهم، فإنك تعلم أن من اشترى عبدا بألفِ درهم معلومة، ثم وَجد به عيبا فردّه لم يكن له على البائع أن ياخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عبدا بجارية ثم وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العُروض ليست بأثمان.
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ...}

فوحّد الكافرَ وقبلَه جمعٌ وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ فى الاسم إذا كان مشتقّاً من فِعْل، مثل الفاعل والمفعول؛ يرادُ به ولا تكونوا أوّل مَن يَكْفُر فتحذف "مَن" ويقوم الفعل مقامها فيؤدِّى الفعلُ عن مثل ما أدّتْ "مَن" عنه مِن التأنيث والجمع وهو فى لفظ توحيدٍ. ولا يجوز فى مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضلُ رجلٍ؛ ولا أنتما خير رجل؛ لأن الرجل يثنّى ويُجمع ويُفرد [فيُعرَف] واحدُه من جمعِه، والقائم قد يكون لشىء ولمَنْ فيؤدّى عنهما وهو موحَّد؛ ألا ترى أنك قد تقول: الجيْشُ مقبلٌ والجُنْد منهزمٌ، فتوحِّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ؛ ففى هذا تبيان؛ وقد قال الشاعر:
وإذا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طاعِم * وإذا هُمُ جاعُوا فشَرُّ جِياعِ
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ.
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ...}

إن شئتَ جعلتَ "وتكتموا" فى موضع جَزْم؛ تريد به: ولا تلبِسوا الحقَّ بالباطل ولا تكتموا الحقّ، فتُلقى "لا" لمجيئها فى أوّل الكلام. وفى قراءة أُبىٍّ: "وَلاَ تَكُونُوا أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَتَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً" فهذا دليلٌ على أنّ الجزم فى قوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} مستقيمٌ صوابٌ، ومثله: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلى الْحُكّامِ} وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِيِنَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وإنْ شئتَ جعلتَ هذه الأحرُفَ المعطوفَة بالواو نصباً على ما يقولُ النحويّون من الصَّرْف؛ فإن قلتَ: وما الصَّرْف؟ قلت: أن تأتى بالواو معطوفةً علىكلامٍ فى أوّلِهِ حادثةٌ لا تستقيمُ إعادتُها على ما عُطِف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصَّرْفُ؛ كقول الشاعر:
لاتَنْهَ عنْ خُلُقٍ وتأتِىَ مِثْلُهُ * عارٌعليْكَ إذا فَعلتَ عظِيمُ

ألا ترى أنه لا يجوز إعادة "لا" فى "تأتى مثله" فلذلك سُمّى صَرْفاً إذْ كان مَعطوفاً ولم يستَقم أن يُعاد فيه الحادث الذى قبلَه. ومِثلُه من الأسماء التى نصبتها العربُ وهى معطوفة على مرفوع قولهم: لَوْ تُركتَ والأسدَ لأكلَك، ولَوْ خُلِّيت ورأيَك لَضَلَلْتَ. لمَّا لم يحسن فى الثانى أن تقول: لو تُركت وتُرك رأيُك لضللت؛ تهّببوا أن يعطِفوا حرفاً لا يستَقيمُ فيه ما حََدَثَ فى الذى قبلَه. قال: فإنّ العرب تجيزُ الرّفع؛ لو تُرك عبدُالله والأسدُ لأكله، فهل يجوز فى الأفاعيل التى نُصِبت بالواو على الصَّرْف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصَّرْف؟ قلت: نعم؛ العرب تقول: لستُ لأبِى إِنْ لم أقتُلْك أو تذهبْ نفسى، ويقولون: والله لأضربنّك أو تسبقَنِّى فى الأرض، فهذا مردودٌ على أوّل الكلام، ومعناه الصَّرْف؛ لأنهّ لا يجوز على الثانى إعادة الجزم بلم، ولا إعادة اليمين على والله لتسبقَنِّى، فتجد ذلك إذا امتحنتَ الكلام. والصَّرْف فى غير "لا" كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعُه.

{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }

وقوله: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً...}
فإنه قد يعود على اليوم والليلة ذِكْرُهما مرّة بالهاء وحدها ومرة بالصِّفَة فيجوز ذلك؛ كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئا وتضمر الصفة، ثم تظهرها فتقول: لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا. وكان الكسائىّ لا يجيز إضمار الصفة فى الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة ها هنا لأجزت: أنت الذى تكلمتُ وأنا أريد الذى تكلمتُ فيه. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر فى مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدنى بعض العرب:
يارُبَّ يَوْم لو تَنَزّاهُ حول * أَلْفَيْتَنى ذا عنزٍ وذا طول

وأنشدنى آخر:
قد صَبَّحتْ صبَّحها السّلامُ * بِكَبِدٍ خالَطها سَنامُ
* فى ساعة يُحَبُّها الطّعامُ *
ولم يقل يُحَبّ فيها. وليس يدخل على الكسائىّ ما أدخل على نفسه؛ لأن الصفة فى هذا الموضع والهاء متّفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يومَ الخميس، وفى يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتُك كان غيرَكلّمتُ فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان "فى" ولا إضمار "فى" مكان الهاء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

وقوله: {فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ...}
يقال: قد كانوا فى شُغل من أَنْ يَنْظُروا، مَستورينَ بما اكْتَنَفَهم مِن البحر أن يروا فِرعون وغرقَه، ولكنّه فى الكلام كقولك: قد ضُرِبتَ وأهلُك يَنْظُرون فما أتَوْك ولا أغاثوك؛ يقول: فهم قريبٌ بمرأىً ومَسْمَع. ومثله فى القرآن: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}، وليس ها هنا رؤيةٌ إنمّا هو عِلمٌ، فرأيت يكونُ على مذهبين: رُؤيةُ العِلْم ورُؤيةُ الْعَيْن؛ كما تقول: رأيتُ فِرعَوْنَ أعْتَى الخلق وأخْبَثَه، ولم تره إِنما هو بلغك؛ ففى هذا بيانٌ.

{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }

وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً...}

ثم قال فى موضع آخر: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ ليلةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعينَ ليلةً}, فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمّها بالعشر والأربعون قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسةٍ وعشرين وخمسةَ عشرَ؟ قيل: كان ذلك - والله أعلم - أنّ الثّلاثين كانت عدد شهر، فذكِرت الثلاثون منفصلة لمكان الشَّهر وأنّها ذو القعدة وأتممناها بعشر من ذى الحجة، كذلك قال المفسِّرون. ولهذه القِصَّة خُصّت العشرُ والثلاثون بالانفصال.

{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون...}
ففيه وجهان: أحدهما - أن يكون أراد {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعنى التوراة، ومحمدا صلى الله عليه وسلم {الْفُرْقَانَ}، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}. وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} كأنّه خاطبهم فقال: قد آتيْناكم علمَ موسى ومحمد عليهما السلام "لعلكم تهتدون"؛ لأن التوراة أُنزلت جملةً ولم تنزل مُفرّقة كما فُرّق القرآن؛ فهذا وجه. والوجه الاخر - أن تجعل التوراة هدىً والفرقان كمثله، فيكون: ولقدْ آتَيْنا موسى الهُدى كما آتينا مُحَمّدا صلى الله عليه وسلم الهدى. وكلُّ ما جاءت به الأنبياءُ فهو هُدىً ونورٌ. وإنّ العرب لتجمعُ بين الحرفَيْن وإنّهما لواحِدٌ إّذا اختلف لفظاهما؛ كما قال عَدِىّ بن زيد:
وقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِراهِشَيْهِ * وأَلْفَى قَوْلَها كذِباً ومَيْنَا
وقولهم: بُعْداً وسُحْقاً، والبُعد والسُّحق واحدٌ، فهذا وجهٌ آخرُ. وقال بعض المفسِّرين: الكتابُ التّوراةُ، والفُرقان انْفِراقُ البحر لبنى إسرائيل. وقال بعضهم: الفرقان الحَلالُ والحرامُ الذِى فى التَّوراة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

وقوله: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى...}
بلغنا أن الَمنّ هذا الّذى يسقُط على الثُّمَام والعُشَر، وهو حلو كالعسل؛ وكان بعضُ المفسِّرين يسمِّيه الَّتَرنْجَبين الذى نعرف. وبلغنا أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين". وأما السَّلْوَى فطائِر كان يسقط عليهم لما أَجَموا المنّ شبيهٌ بهذه السُّمَانَى، ولا واحد للسَّلْوى.

{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ...}
يقول - والله أعلم - قولوا: ما أُمِرتم به؛ أى هى حطة، فخالَفُوا إلى كلام بالنَّبطِية، فذلك قوله: {فَبَدّلَ الَّذيِنَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ}.
وبلغنى أنّ ابن عباس قال: أُمِروا أن يقولوا: نستغفر الله؛ فإن يك كذلك فينبغى أن تكون "حِطّة" منصوبة فى القراءة؛ لأنك تقول: قلتُ لا إله إلا الله، فيقول القائل: قلتَ كلمةً صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمارُ ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول كقولك: مررت بزيد، ثم تجعل هذه كلمةً فتقول: قلت كلاما حسنا * ثم تقول: قلتُ زيدٌ قائمٌ، فيقول: قلتَ كلاما. * وتقول: قد ضربتُ عمرا، فيقول أيضا: قلتَ كلمةً صالحة.

فأما قول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} إلى آخر ماذكر من العدد فهو رفعٌ لأن قبله ضميرَ أسمائهم؛ سيقولون: هم ثلاثة، إلى آخر الآية. وقوله {وَلاَ تَقُولُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} رفع؛ أى قولوا: الله واحدٌ، ولا تقولوا الآلهةُ ثلاثةٌ. وقوله: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُم} ففيها وجهان: إن أردت: ذلك الذى قلنا معذرةٌ إلى ربكم رفعتَ، وهو الوجه. وإن أردت: قلنا ما قلنا معذرةً إلى الله؛ فهذا وجهُ نصْب. وأما قوله: {ويَقُولُونَ طاعَةٌ فإذا بَرَزُوا} فإن العرب لا تقوله إلاّرفعا؛ وذلك أنّ القوم يُؤمَرون بالأمْر يكرهونه فيقول أحدهم: سمعٌ وطاعةٌ، أى قد دخلنا أوّلَ هذا الدِّين على أن نَسمعَ ونُطيعَ فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثم يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل: {فإذا بَرَزُوا مِن عِندِك[بيَّتَ طائفةٌ منهم غير الذى تقول]} [أى] فإذا خرجوا من عندك بدّلوا. ولو أردت فى مثله من الكلام: أى نطيع، فتكون الطاعة جوابا للأمر بعينه جازَ النصبُ، لأنّ كلّ مصدر وقع موقع فعَل ويَفْعل جاز نصبُه، كما قال الله تبارَك وتعالى: {مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأخُذَ} [معناه والله أعلم: نعوذ بالله أن نأخذ]. ومثله فى النور: {قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طاعّةٌ مَعْرُوفَةٌ} الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهلُ السَّمع والطاعة. وأما قوله فى النحل: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ ْمَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُم قالوا أَساطِيرُ الأَوّلِينَ} * فهذا قولُ أهل الجَحْد؛ لأنهم قالوا لم ينزل شيئا، إنما هذا أساطير الأوّلين * وأما الذين آمنوا فإنهم أقرّوا فقالوا: أنزل ربُّنا خيراً، ولو رُفع خيرٌ على: الذى أنزله خيرٌ لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله: {يَسْأَلُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} و {قُلِ الْعَفْوُ} النّصبُ على الفعل: يُنفقون العفوَ، والرفعُ على: الذى يُنفقون عفوُ الأمْوالِ. وقوله: {قَالُوا

سلاماً قَالَ سَلاَمٌ} فأما السلام (فقولٌ يقال)، فنُصب لوقوع الفعلِ عليه، كأنّك قلتَ: قلتُ كلاماً. وأما قوله: {قَالَ سَلاَمٌ} فإنه جاء فيه نحن"سَلاَمٌ" وأنتم "قَوْمٌ مُنْكَرُونَ". وبعض المفسرين يقول: {قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} يريد سلّموا عليه فردّ عليهم، فيقول القائل: ألا كان السّلام رفعاً كلّه أونصباً كلّه؟ قلت: السّلام على معنيين: إذا أردتَ به الكلام نصبتَه، وإذا أضمرت معه "عليكم" رفعتَه.فإن شِئتَ طرحتَ الإضمارَ من أحد الحرفين وأضمرتَه فى أحدهما، وإن شِئتَ رفعتَهما معا، وإن شِئْت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلامٌ: سلامٌ، على معنى قالوا السلام عليكم فرّد عليهم الآخرون. والنصب يجوز فى إحدى القراءتين "قَالوا سَلاَماً قَالَ سَلاَماً". وأنشدنى بعضُ بنى عُقَيْل:
فَقُلْنا السَّلامُ فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرِهَا * فَما كَانَ إِلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَواجِبِ
فرفع السَّلامُ؛ لأنه أراد سلّمنا عليها فاتَّقَتْ أن تردّ علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك: قلنا الكلام, قلنا السلام، ومثله: قرأت "الحمدَ" وقرأتُ "الحمدُ" إذا قلت قرأت "الحمدَ" أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية على قرأتُ "الحمدُ لله".

{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

وقوله: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً...}

معناه - والله أعلم - فضَرَب فانفجرت، فعُرِف بقوله: "فَانفَجَرَتْ" أنه قد ضَرَب، فاكتفى بالجواب؛ لأنه قد أدّى عن المعنى، فكذلك قوله: {أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} ومثله (فى الكلام) أن تقول: أنا الذى أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتَجَرت فاكتسبت.
وأما قوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ...}
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن نرى الأنهار قد أُجريت لقوم بالمنِّ من الله والتَّفضل على عباده، ولم يقل: قد علم كل أناسٍ مشربهم، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك - والله أعلم - لأنّه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسْباط لكل سِبْطٍ عين، فإذا ارتحل القومُ أو شَرِبوا ما يَكْفيهم عادَ الحجرُ كما كان وذهبت العيونُ، فإذا احتاجوا انفجرت العيونُ من تلك المواضع، فأتّى كل سِبْطٍ عَيْنَهم التى كانوا يشربون منها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

وأما قوله: {وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا...}

فإن الفوم فيما ذكر لغةٌ قديمة (وهى) الحِنْطَة والخُبْز جميعا قد ذُكِرا. قال بعضهم: سمعنا (العربَ من) أهل هذه اللغة يقولون: فَوِّموا لنا بالتشديد لا غير، يريدون اختبزوا وهى فى قراءة عبدالله "وَثُومِهَا" بالثاء، فكأنّه أشبهُ المعنيين بالصّواب؛ لأنّه مع ما يشاكله: من العَدَس والبَصَل وشِبْهه. والعرب تُبدل الفاء بالثَّاء فيقولون: جَدَثٌ وجَدَفٌ، ووقَعوا فى عاثُور شَرٍّ وعافُور شرٍّ، والأَثاثىّ والأَثافىّ. وسمعت كثيرا مِن بنى أسد يسمِّى (المَغافير المغاثير).
وقوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ...}
أى الذى هو أقرب، من الدُّنُوِّ، ويقال من الدَّناءَة. والعرب تقول: إنه لَدنىٌّ [ولا يهمزون] يُدَنِّى فى الأمور أى يتَّبِع خَسيسَها وأصاغرها. وقد كان زُهير الفُرْقُبى يَهْمِز: "أَتَسْتَبْدِلونَ الّذِى هُوَ أدْنَأ بِالّذِى هو خيرٌ" ولم نر العرب تهمزُ أَدْنَى إذا كان من الخِسّة، وهم فى ذلك يقولون إنه لَدَانِئٌ خَبِيثٌ [إذا كان ماجنا] فيهمزون. وأنشدنى بعض بنى كلاب:
باسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِيلُها * بِيضٌ إِلى دانِئِها الظَّاهِرِ
يعنى الدروع على خاصتها - يعنى الكتيبة - إلى الخسيس منها، فقال: دانئها يريد الخسيس. وقد كنا نسمع المشْيَخَة يقولون: ما كنتَ دانِئاً ولقد دَناتَ، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رَوَوْه إلاّ وقد سَمِعوه.
وقوله: {اهْبِطُواْ مِصْراً... }

كتبت بالألف، وأسماءُ البُلدان لا تنصرف خَفَّت أو ثَقُلت، وأسماء النساء إذا خَفَّ منها شئٌ جرى إذا كان على ثلاثة أحرْفٍ وَأَوْسَطُها ساكنٌ مثلُ دَعْدٍ وهِنْد وجُمْل. وإنما انصرفت إذا سمّى بها النِّساء؛ لأنها تُردَّد وتَكثُر بها التّس‍مية فتخف لكثرتها، واسماء البلدان لا تكاد تعود. فإن شئت جعلت الألف التى فى"مِصْرَا" ألفا يُوقَفُ عليها، فإذا وصلتَ لم تنوِّن, كما كتبوا "سَلاَسِلاً" و "قَوَارِيراً" بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت "مِصْرَ" غير المصر التى تُعرَف، يريد اهبطوا مِصراً من الأمْصار، فإن الذى سألتم لا يكون إلا فى القُرَى والأمصار. والوجه الأوّل أحبّ إلىّ؛ لأنها فى قراءة عبدالله "اهْبِطوا مِصْرَ" بغير ألف، وفى قراءة أُبَىًّ: "اهْبِطُوا فَإنّ لَكُمْ ما سَأَلْتُم واسْكُنُوا مِصْرَ" وتصديق ذلك أنها فى سورة يوسف بغير ألف: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ}. وقال الأعمش وسئل عنها فقال: هى مصر التى عليها صالح بن على‍ّ.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

قوله: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ...}
يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فيه.

{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ...}
يعنى المسْخة التى مُسِخوها جُعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مُسِخوا فيُمْسخوا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

وقوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ...}
وهذا فى القرآن كثيرٌ بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يَستغنى أوّلُه عن آخره بالوَقْفَة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا؛ فكأنّ حُسنَ الّسكوتِ يجوزُ به طرحُ الفاء. وأنت تراه فى رءوس الآيات - لأنها فصولٌ- حَسَناً؛ من ذلك: {قال فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّها الْمُرْسَلونَ. قَالُوا إنّا أرْسِلْنا} والفاء حسنة مِثل قوله: {فَقَالَ الْملأَ الّذِين كَفَروا} ولو كان على كلمة واحدة لم تُسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قُمْتُ ففَعَلْت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال، حتى يقولوا: قُلْتُ فقال، وقُمْتُ فقام؛ لأنها نَسَقٌ وليست بآستفهام يوقف عليه؛ ألا ترى أنه: "قال" فرعون "لِمَنْ حَوْلَه أَلاَ تَسْتَمِعُونَ. قال رَب‍ُّكم ورَبُّ آبائكم الأوّلين" فيما لاأحصيه. ومثله من غير الفعل كثيرٌ فى كتاب الله بالواو وبغير الواو؛ فأما الذى بالواو فقوله: {قُلْ أؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلّذينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثم قال بعد ذلك: {الصّابِرينَ والصّادقينَ والْقَانِتينَ والْمُنفِقينَ والْمُسْتَغْفِرِينَ بالأَسْحاِر}. وقال فى موضع آخر: {التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} وقال فى غير هذا: {إِنَّ الَّذِيِنَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنينَ والْمُؤْمِنَاتِ} ثم قال فى الآية بعدها: {إِنّ الّذينَ آمَنُوا} ولم يقل: وإنّ. فاعْرِفْ بما جَرى تَفْسيرَ ما بقى، فإنّه لا يأتى إلا علىالذى أنْبَأتُك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتى له جوابٌ. وأنشدنى بعضُ العرب:
لمّا رأيتُ نَبَطاً أنْصَارَا * شَمَّرتُ عن رُكْبَتِىَ الإزَارَا
* كُنْتُ لها مِنَ النَّصارى جَارَا *

{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }

وقوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ...}
والعَوانُ ليست بنَعْتٍ للبِكْرِ؛ لأنها ليست بهَرِمَة ولا شابَّة؛ انقطع الكلام عند قوله: {وَلاَ بِكْرٌ} ثم استأنف فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ} والعَوان يقال منه قد عوَّنَت. والفارِضُ: قد فَرَضَت، وبعضهم: قد فَرُضَت (وأما البكر فلم) نسمع فيها بفِعْل. والبِكر يُكْسر أوّلها إذا كانت بِكرْا من النِّساء. والبَكْر مفتوح أوّلَه من بِكَارَة الإبل. ثم قال "بَيْنَ ذَلِكَ" و "بَيْن" لا تصلح إلاّ مع اسمين فما زاد، وإنمّا صلحت مع "ذلك" وحْدَه؛ لأنّه فى مذهب اثْنيْن، والفعلان قد يُجمعان بـ"ذلك" و "ذاك"؛ ألا ترى أنّك تقول: أظنُّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بدّ لكان من شيْئَين، ولا بدّ لأظن من شيئين، ثم يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنُّ ذلك. وإنما المعنى فى الاسمين اللذين ضَمَّهما ذلك: بين الهَرم والشَّباب. ولو قال فى الكلام: بَيْنَ هاتَيْن، أو بين تَيْنِك، يريد الفارِضَ والبِكْرَ كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما (لم يظهر إلا بتثنية)؛ لأنهما اسمان ليسا بفِعْلين، وأنت تقول فى الأفعال فتوحِّد فعلَهما بعدها. فتقول: إِقْبالُك وإِدْبارُك يَشُقُّ علىّ، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورُنِى. ومما يجوز أن يقع عليه "بَيْن" وهو واحدٌ فى اللّفظ مما يؤدّى عن الاثنين فما زاد قوله: {لاَنُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ولا يجوز: لا نفرق بين رجل منهم؛ لأنّ أحدا لا يُثَنّى كما يثنى الرجل ويُجَمع، فإن شئت جعلت أحدا فى تأويل اثنين، وإن شئت فى تأويل أكثر؛ من ذلك قول الله عزّ وجلّ: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} وتقول: بَيْنَ أيِّهِم الْمَالُ؟ وبَيْنَ مَنْ قُسِم المالُ؟

فتجرى "مَن" و "أَىُّ" مجرى أحد, لأنّهما قد يكونان لواحد ولجمع.

{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ }

وقوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا...}
* الّلونُ مرفوعٌ؛ لأنك لم تُرِد أن تجعل "ما" صلةً فتقول: بيّن لنا ما لونَها * ولو قَرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد - والله أعلم -: ادع لنا ربك يُبَيِّن لنا أىُّ شىءٍ لونُها، ولم يصلح للفعل الوقوعُ على أىّ؛ لأن أصل "أىّ" تَفَرُّق جَمْع مِن الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداءُ هى أم صَفْراء؟ فلما لم يصلح للتَّبَيُّن أن يقع على الاستفهام فى تفرّقه لم يقع على أىّ؛ لأنها جمعُ ذلك المتفر‍ِّق، وكذلك ما كان فى القرآن مثله، فأعملْ فى "ما" "وأىّ" الفعلَ الذى بعدَهما، ولا تُعمِل الذى قبلهما إذا كان مُشتقّاً من العِلْم؛ كقولك: ما أعلم أَيُّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أَيُّهم قال ذاك، وما أدرِى أَيَّهم ضربت، فهو فى العِلِم والإخبار والإنْباء وما أشبهها على ما وصفتُ لك. منه قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ} {وَمَا أَدْرَاكَ ما يَوْمُ الدَّينِ} "ما" الثانية رفعٌ، فرفعتَها بيوم؛ كقولك: ماأدراك أىُّ شئ يومُ الدّين، وكذلك قول الله تبارك وتعالى: {لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} رفعتَه بأَحْصَى، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أىّ: ما أدرى أَيَّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن تُوقع على أى الفعل الذى قبلها من العلم وأشباهه؛ لأنك تجِدُ الفعلَ غيرَ واقع على أىّ فى المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: اذْهَبْ فاعلم أيُّهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الذى أعلمك، كما أنك تقول: سل أيُّهُمْ قام، والمعنى: سل الناس أيُّهُمْ قام. ولو أوقعت الفعل على "أىّ" فقلت: اسأل أيَّهُمْ

قام لكنت كانك تضمر أيّاً مرّة أخرى؛ لأنك تقول: سل زيدا أيُّهُمْ قام، فإذا أوقعت الفعل على زيد فقد جاءت "أىّ" بعده. فكذلك "أىّ" إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك إن أردته، جائز، تقول: لأضْرِبَنَّ أيَّهُم يقول ذاك؛ لأنّ الضرب لا يقع على [اسم ثم يأتى بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على] اثنين، وأنتَ تقول فى المسألة: سل عبدالله عن كذا، كأنك قلت: سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عبدالله كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول الله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ كُلِّ شِيعةٍ أيُّهُم أشَدُّ على الرّحْمَنِ عِتيّاً} من نصب أيّاً أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثم لنستخرجن العاتىَ الذى هو أشد. وفيها وجهان من الرفع؛ أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بِمن فى الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا من كل طعام، ثم تستأنف أيّاً فترفعها بالذى بعدها، كما قال جلّ وعزّ: {يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أَقْرَبُ} أى ينظرون أيُّهُم أقرب. ومثله {يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. وأما الوجه، الآخر فإن فى قوله تعالى: {ثم لَنَنْزِعَنّ مِنْ كلِّ شِيعَةٍ} لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشدّ وأخبث، وأيهم أشدّ علىالرحمن عِتيّاً، والشيعة ويتشايعون سواء فى المعنى. وفيه وجه ثالث من الرفع أن تجعل {ثُمّ لَننْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} بالنداء؛ أى لننادين {أيُّهُمْ أشدُّ على الرّحْمَنِ عِتيّاً} وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه به قوله: {أفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِيِنَ آمنَوُا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لهَدَى النَّاس جَميعاً} فقال بعض المفسرين {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا}: ألم يعلم، والمعنى - والله أعلم - أفلم ييأسوا علما بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك "لَنَنْزِعَنّ" يقول يريد ننزعهم

بالنداء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }

وقوله: {مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا...}
غير مهموز؛ يقول: ليس فيها لونٌ غير الصُّفرة. وقال بعضهم: هى صفراء حتى ظِلفها وقَرْنها أصفران.

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

وقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا...}

وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} يقول القائل: وأين جواب "إذ" وعلام عُطِفت؟ ومثلها فى القرآن كثيرٌ بالواو ولا جواب معها ظاهرٌ؟ والمعنى - والله أعلم - على إضمار "واذكروا إذ أنتم" أو "إذ كنتم" فاجتزئ بقوله: "اذكروا" فى أوّل الكلام، ثم جاءت "إذ" بالواو مردودةً على ذلك. ومثلُه من غير "اذ" قولُ الله {وإِلى ثَمُودَ أَخَاهُم صَالحاً} وليس قبلَه شىءٌ تراه ناصباً لصالح؛ فعُلم بذكر النّبى صلى الله عليه وسلم والمُرسَل إليه أنّ فيه إضمارََ أرسَلْنا، ومثله قوله: {ونُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} {وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} يجرى هذا على مثل ما قال فى "ص": {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وإِسْحَقَِ} ثم ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير "واذكر" لأنّ معناهم مُتّفق معروفٌ، فجاز ذلك. ويستدل علىأنّ "واذكروا" مضمرة مع "إذ" أنه قال: {وَاذْكُرُوا إِذْْْْْْْْْْْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِى الأَرْضِ} {واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرََكُمْ} فلولم تكن ها هنا "واذكروا" لاستدْلَلتَ على أنّها تُراد؛ لأنّها قد ذُكرت قبلَ ذلك. ولا يجوزُ مثلُ ذلك فى الكلام بسقوط الواو إلاّ أن يكون معه جوابه متقدِّما أو متأخِّرا؛ كقولك: ذكرتُك إذ احتجتُ إليك أو إذ احتجتُ ذكرتُك.

{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا...}

يقال: إنه ضُرِب بالفِخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضُرِب بالذَّنَب. ثم قال الله عزّ وجلّ: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} معناه والله أعلم {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} فيحيا {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أى اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر فيحيا، كما قال: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ} والمعنى - والله أعلم - فضرب البحر فانفلق.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ...}
تذكير {منه} على وجهين؛ إن شئت ذهبت به - يعنى "منه" - إلى أن البعض حَجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا فى المعنى فذكَّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربنى بعضُكنّ، وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: "وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ" "وَمَنْ تَقْنُتْ" بالياء والتاء، على المعنى، وهى فى قراءة أُبىّ: "وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الأَنْهَارُ".

{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ...}

هذا من قول اليهود لبعضهم؛ أى لا تُحدّثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة وأنتم لا تؤمنون به، فتكونَ لهم الحجة عليكم. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} قال الله: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} هذا جوابهم من قول الله.

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }

وقوله: {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ...}
فالأمانىّ على وجهين فى المعنى، ووجهين فى العربية؛ فأما فى العربية فإنّ من العرب من يخفّف الياء فيقول: "إِلاَّ أَمَانِىَ وَإِنْ هُمْ" ومنهم من يشدِّد، وهو أجودُ الوجهين. وكذلك ما كان مثل أمنيّة، ومثل أضحيّة، وأغنيّة، ففى جمعه وجهان: التخفيف والتشديد. وإنما تشدّد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشدّدة لاجتماع الياء من جمع الفعل والياء الأصلية. وأن خفّفت حذفتَ ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القَراقير والقَراقر, (فمن قال الأمانِىَ بالتخفيف) فهو الذى يقول القراقِر، ومن شدّد الأمانى فهو الذى يقول القراقير. والأمنِيّة فى المعنى التلاوة، كقول الله عزّ وجلّ: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فى أُمْنِيَّتِهِ} أى فى تلاوته، والأمانىّ أيضا أن يفتعل الرجل الأحاديث المفتعلة؛ قال بعض العرب لابن دَأْب وهو يحدّث الناس: أهذا شئ رويتَه أم شئ تَمنَّيته؟ يريد افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب الله. وهذا أبين الوجهين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً...}
يقال: كيف جاز فى الكلام: لآتينك أياما معدودة، ولم يبين عددها؟ وذلك أنهم نَوَوا الأيام التى عبدوا فيها العجل، فقالوا: لن نُعذَّب فى النار إلا تلك الأربعين الليلة التى عبدنا فيها العجل. فلما كان معناها مؤقّتا معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات، فقال الله: قل يا محمد: هل عندكم من الله عهدٌ بهذا الذى قلتم {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونََ}.

{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقوله: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً...}

وُضِعت {بَلَى} لكل إقرار فى أوّله حَجْد، ووُضِعت "نَعَم" للاستفهام الذى لا حَجْدَ فيه، فـ"بلى" بمنزلة "نَعَمْ" إلا أنها لا تكون إلاّ لمَا فى أوّله حَجْد؛ قال الله تبارك وتعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حقاً قَالُوا نَعَمْ} فـ"بلى" لا تصلح فى هذا الموضع. وأما الحجد فقوله: {أَلَمْ يَِِِأتِِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} ولا تصلح ها هنا "نَعَمْ" أداة؛ وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب بـ "نَعَمْ" و"لا" ما لم يكن فيه حَجْدٌ، فإذا دخل الحجدُ فى الاستفهام لم يستقم أن تقول فيه "نَعَمْ" فتكونُ كأنك مقرٌّ بالحجد وبالفعل الذى بعدَه؛ ألا ترى أنّك لو قلتَ لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلتَ "نعم" كنتَ مقرّاً بالكلمة بطَرْح الاستفهام وحدَه، كأنك قلت "نعم" مالى مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الحجد ويُقرّوا بما بعده فاختاروا "بَلَى" لأنّ أصلها كان رجوعا مَحْضاً عن الحجد إذا قالوا: ما قال عبدالله بل زيدٌ، فكانت "بَلْ" كلمة عَطْف ورُجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الحجد فقط، وإقرارا بالفعل الذى بعد الحجد، فقالوا: "بلى"، فدلّت على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ "بل" على الرجوع عن الحجد فقط.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }

وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ...}

رُفِعت {تَعْبُدُونَ} لأنّ دخول "أَنْ" يصلح فيها، فلمّا حُذف الناصب رُفِعت، كما قال الله: {أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ} (قرأ الآية) وكما قال: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} وفى قراءة عبدالله "وَلاَتَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِر" فهذا وجهٌ من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعتَ. وفى قراءة أُبىٍّ: "وإِذْ أَخَذْنَا مِيثاَقَ بَنِى إِسْرائيلَ لاَ تَعْبُدُوا"، ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين. ألا ترى أنه قد قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيِثَاقَكُم ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ} فأُمِروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون فى الكلام أن تقول: واللّهِ قُمْ، ولا أن تقول: والله لا تَقُمْ. ويدلّ على أنه نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وَقُولُوا لِلنّاَسِ حُسْناً} كما تقول: أفعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا. وإن شئت جعلت {لاَتَعْبُدُونَ} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد. وإنّما جاز أن تقول لا يعبدون ولا تعبدون وهم غُيَّبٌ كما قال: {قُلْ لِلّذينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ} و "سَتُغْلَبُونَ" بالياء والتاء؛ "سَيُغْلَبُونَ" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين. وكذلك قولك: استحلفتُ عبدَالله ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفتُه لتقومنّ (لأنى) قد كنتُ خاطبته. ويجوز فى هذا استحلفتُ عبدالله لأقومَنّ؛ أى قلتُ له احلِفْ لأقومنّ، كقولك: قُلْ لأقومَنّ. فإذا قلتَ: استحلفتُ فأوقعتَ فعلك على مستحلَفٍ جاز فعلُه أن يكون بالياء والتاء والألف, وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلَف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك حَلَف عبدُالله ليقومنّ فلم يَقُمْ، وحَلَف عبدالله لأقومَنّ؛ لأنهّ كقولك قال لأقومَنّ، ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطِبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل تُخاطبه، فلما

لم يكن مستحلَفٌ سقَط الخطاب. وقوله: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللّهِ لَنُبَيِّنَنَّهُ وأَهْلَهُ} فيها ثلاثةُ أوجهٍ: "لَتُبَيِّتُنَّهُ" و"لَيُبَيِّتُنَّهُ" و "لَنُبَيِّتَنَّهُ" بالتاء والياء والنون. إذا جعلت "تَقَاسَمُوا" على وجه فَعَلوا، فإذا جعلتَها فى موضع جَزْمٍ قلتَ: تقاسموا لتبيتنُه ولنبيتنَه، ولم يجز بالياء، ألاتَرى أنكّ تقولُ للرجل: احلِفْ لتقومَنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ. ولا يجوز أن تقول للرَّجل احلِف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما فى اليَمين.
الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ...}

إن شئت جعلت {هُوَ} كناية عن الإخراج {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} أى وهو محرّم عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا حالَ (بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ)، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بمجرم؛ كما قال الله جل وعزّ: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أنْ يُعَمَّرَ} فالمعنى - والله أعلم - ليس بمزحزحه من العذاب التّعمِير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد فى الظَّنّ لأنّه ناصب، وفى "كان" و "ليس" لأنهما يرفعان، وفى "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصِبْن، ولا ينبغى للواو وهى لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ، قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع فى كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا رأيت الواو فى موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح فى ذلك العمادُ؛ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛ لأنّ الواو تطلب الأبَ، فلما بدأتَ بالفعل وإنما تطلب الواوُ الاسمَ أدخلوا لها "هو" لأنّه اسمٌ . قال الفرّاء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاسَ أحسابُهم. وأنشدنى بعض العرب:
فأَبلِغْ أبا يَحيى إذا ما لَقِيتَهُ * على العِيسِ فى آباطِها عَرَقٌ يَبْسُ
بِأنّ السُّلاَمِىَّ الذى بِضَريَّةٍ * أَمِيرَ الحِمَى قَدْ باعَ حَقّى بَنِى عَبْسِ
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرهمٍ * فهَلْ هو مَرْفوعٌ بما هْا هنا رَأْسُ
فجعل مع "هَلْ" العمادَ وهى لا ترفع ولا تنصب؛ لأن هل تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا", تقول: ماهو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد.

{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ...}
يقول القائل: هل كان لهم قليلٌ من الإيمان أو كثيرٌ؟ ففيه وجهان من العربية: أحدهما - ألاّ يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب بالقِلّة على أن ينفوا الفعل كلّه قولهم: قَلَّ ما رأيتُ مثلَ هذا قَطّ. وحكى الكسائى عن العرب: مررتُ بِبلادٍ قَلَّ ما تُنبت إلاّ البصلَ والكرّاث. أى ما تنبت إلاّهذين. وكذلك قول العرب: ما أكاد أَبرحُ منزلى؛ وليس يَبرحُه وقد يكون أَنْ يبرحه قليلا. والوجه الآخر - أن يكونوا يصدقون بالشىء قليلا ويكفرون بما سواه: بالنبى صلى الله عليه وسلم فيكونون كافرين؛ وذلك أنه يقال: مَن خلقكم؟ وَمن رزقكم؟ فيقولون الله تبارك وتعالى. ويكفرون بما سواه: بالنبى صلى الله عليه وسلم وبآيات الله، فذلك قوله: {قَلِيلاً مَا يُؤْمنُونَ}. وكذلك قال المفسرون فى قول الله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} على هذا التفسير.

{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ...}

[إن شئت] رفعتَ المصدِّق ونويتَ أن يكون نعتاً للكتاب لأنّه نكرةٌ، ولو نصبته على أن تجعل المصدِّق فِعْلا للكتاب لكان صوابا. وفى قراءة عبدالله فى آل عمران: "ثُمَّ جاءكم رَسُولٌ مُصَدِّقاً" فجعله فِعلا. وإذا كانت النكرة قد وُصِلت بشىءٍ سوى نعتها ثم جاء النّعت، فالنّصْب على الفعل أمكنُ منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأنّ صلة النكرة تَصيرُ كالموقِّتة لها، ألا تَرى أنك إذا قلتَ: مررتُ برجل فى دارك، أو بعبدٍ لك فى دارك، فكأنّك قلت: بعبدك أو بسايس دابّتك، فقس على هذا؛ وقد قال بعض الشعراء:
لو كان حَىٌّ ناجياً لَنجَا * مِنْ يومِهِ المُزَلَّمُ الأَعْصَمْ
فنصب ولم يصل النّكرةَ بشىء وهو جائزٌ. فأما قوله: {وَهَذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً} فإنّ نصب الِّلسان على وجهين؛ أحدُهما أن تُضْمر شيئا يقعُ عليه المصدّقُ، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراةَ والإنجيلَ {لِساناً عربيّاً} (لأنّ التوراة والإنجيل لم يكونا عربيّين) فصار اللسان العربىّ مفسِّرا. وأما الوجْهُ الآخرُ فعلى ما فسّرت لك لما وصلت الكتاب بالمصدِّق أخرجتَ "لساناً" ممّا فى "مُصَدّق" مِن الرّاجع مِن ذكره. ولو كان الّلسان مرفوعا لكان صواباً؛ على أنه نعتٌ وإن طال.
وقوله: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ...}

وقبلها " وَلَمَّا". وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه فى الفاء التى فى الثانية، وصارت {كَفَرُواْ بِهِ} كافية من جوابهما جميعا. ومثله فى الكلام: ما هو إلاّ أنْ أتانى عبدالله فلما قَعدَ أوسعتُ له وأكرمتُه. ومثله قوله: {فإمّا يَأتيَنَّكُمْ مِنِّى هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىْ} فى البقرة {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ} فى "طه" اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فى البقرة {فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} فى "طه". وصارت الفاء فى قوله {فَمَنْ تَبِعَ} كأنها جواب لـ"إمّا"، ألاَ تَرى أنّ الواو لا تصلحُ فى موضع الفاء، فذلك دليلٌ على أن الفاء جواب وليست بنَسَقٍ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

وقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ...}
معناه - والله أعلم - باعوا به أنفسَهم. وللعرب فى شَرَوْا واشْتَروا مذهبان، فالأكثرُ منهما أن يكون شَرَوْا: باعوا، واشتروا: ابتاعو, وربمّا جعلوهما جميعا فى معنى باعوا، وكذلك البيع؛ يقال: بعت الثوب. على معنى أخرجتُه من يدى، وبعته: اشتريتُه، وهذه اللُّغة فى تميم وربيعة. سمعت أبا ثَرْوانَ يقول لرجل: بِعْ لى تمرا بدرهم. يريد اشتر لى؛ وأنشدنى بعض ربيعة:
ويأْتِيكَ بالأَخْبارِ مَنْ لَم تَبِعْ لَهُ * بَتَاتاً ولم تَضْرِبْ له وقْتَ مَوْعِدِ

على معنى لم تشتر له بتاتا؛ قال الفرّاء: والبتاتُ الزاد. وقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} "أَنْ يَكْفُروا" فى موضع خفض ورفع؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التى فى "به" على التكرير على كلامين كأنّك قلتَ اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع "ما" التى تلى "بِئس". ولا يجوز أن يكون رفعاً على قولك بئس الرجل عبدالله، وكان الكسائىّ يقول ذلك. قال الفراء: وبئس لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوبٌ موقَّت، ولها وجهان؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفةً بحدوث ألِفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرةَ، كقولك: بِئس رجلاً عمرو، ونِعم رجلاً عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقَّتة، فى سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نِعم الرجلُ عمرو، وبِئس الرجلُ عمرو، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعتَ ونصبتَ، كقولك: نِعم غلامُ سفر زيدٌ، وغلامَ سفر زيدٌ وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعتَ، فقلت: نِعم سائسُ الخيل زيدٌ، ولا يجوز النّصب إلا أن يُضطرَّ إليه شاعرٌ، لأنهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أَحْرى ألاّ يَنْصبوا. وإذا أوليتَ نِعم وبِئس من النكرات مالا يكون معرفةً مثل "مثْل" و "أَى" كان الكلام فاسدا؛ خطأٌ أن تقول: نِعْمَ مِثْلُك زيدٌ، ونعم أَىُّ رجل زيد؛ لأن هذين لا يكونان مفسِّرين، ألا ترى أنك لا تقول: [لله] دَرُّك مِن أىّ رجل، كما تقول: لِلّه دَرُّك مِن رجل. ولا يصلح أن تُولِى نِعْم وبِئْسَ "الذى" ولا "مَنْ" ولا "ما" إلا أن تَنْوى بهما الاكتفاء دون أن أتى بعد ذلك اسمٌ مرفوع. من ذلك قولك: بِئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما صنيعك. وقد أجازه الكسائى فى كتابه على هذا المذهب. قال الفراء: ولا نعرف ماجهته، وقال: أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا تامّاً، ثم أضمروا لِصنعتَ "ما" كأنّه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا أجيزه.

فإذا جعلت "نِعْمَ" (صلة لما) بمنزلة قولك "كُلّما" و "إنّما" كانت بمنزلة "حَبّذَا" فرفعت بها الأسماء؛ من ذلك قول الله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ} رفعت "هِىَ" بـ "نِعِمَّا" ولا تأنيث فى "نِعم" ولا تثنيةَ إذا جعلت "ما" صلة لها فتصير "ما" مع " نِعم" بمنزلة "ذا" من "حَبّذَا" ألا ترى أنّ "حبذا" لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ. ولو جعلت "ما" على جهة الحشو كما تقول: عما قليلٍ آتيك، جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جاريةً جاريتُك. وسمعت العرب تقول فى "نِعم" المكتفية بما: بئسما تزويجٌ ولا مهر، فيرفعون التزويج بـ "بئسما".
وقوله: {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...}
موضع "أنْ" جزاءٌ، وكان الكسائى يقول فى "أنْ": هى فى موضع خفض، وإنما هى جزاءٌ.
إذا كان الجزاء لم يقع عليه شىءٌ قبله (وكان) ينوى بها الاستقبال كسرتَ "إنْ" وجزمت بها فقلت: أكرمك إنْ تَأتنِى. فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تَأتِيَنى. وأبْيَنُ من ذلك ان تقول: أكرمك أنْ أتَيْتَنى؛ كذلك قال الشاعر:
أتَجْزَعُ أنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدّعُ * وحَبْلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةَ المُتَقَطِّعُ
يريد أتجزع بِأنْ، أو لأنْ كان ذلك. ولو أراد الاستقبالَ ومَحْض الجزاء لكسر "إنْ" وجزم بها، كقول الله جلّ ثناؤه: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نفْسَكَ على آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} فقرأها القُرَّاء بالكسر، ولو قرِئت بفتح "أن" على معنى [إذ لم يؤمنوا] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] وتأويلُ "أن" فى موضع نصب، لأنها إنما كانت أداة بمنزلة "إذْ" فهى فى موضع نصب إذا ألقيتَ الخافضَ وتَمَّ ما قبلها، فإذا جعلتَ لها الفعل أو أوْقَعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهى فى موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض.
وقوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ...}

لا يكون (بَاءُوا) مفردةً حتى توصل بالباء. فيقال: باءَ بإثم يَبُوءُ بَوْءاً. وقوله {بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أن الله غضب على اليهود فى قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}. ثم غَضِب عليهم فى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة، فذلك قوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ...}
يريد سِواه، وذلك كثيرٌ فى العربية أن يتكلّم الرجلُ بالكلام الحسن فيقول السّامع: ليس وراء هذا الكلام شىءٌ، أى ليس عنده شىءٌ سواه.
وقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ...}
يقول القائل: إنما "تقتلون" للمستقبل فكيف قال: "مِن قَبْلُ"؟ ونحن لا نجيز فى الكلام أنا أضربُك أمسِ، وذلك جائز إذا أردتَ بتفعلون الماضى، ألا ترى أنّك تعنِّف الرجلَ بما سلف من فعله فتقول: وَيْحَك لِمَ تَكذب! لِم تُبغِّض نفسك إلى الناس! ومثله قول الله: {وَاتَّبَعْوا ما تَتْلُو الشَّياطينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ}. ولم يقل ما تَلَت الشياطين، وذلك عربىّ كثير فى الكلام؛ أنشدنى بعضُ العرب:
إذا ما انتَسَبْنا لم تَلِدْنى لئِيمةٌ * ولم تَجِدِى مِن أَنْ تُقِرِّى بها بُدَّا

فالجزاء للمستقبل، والوِلادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروفٌ؛ ومثله فى الكلام: إذا نظرت فى سِيرِ عمر رحمه الله لم يُسِئ؛ المعنى لم تجده أساء؛ فلما كان أمرُ عمر لا يشك فى مضيّه لم يقع فى الوهم أنه مستقبل؛ فلذلك صلحت "مِنْ قَبْلُ". مع قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياءَ أسلافُهم الذين مَضَوا فتولَّوهم على ذلك ورَضُوا به فنُسِب القتلُ إليهم.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا...}
معناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
وقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ...}
فإنه أراد: حُبَّ العِجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثيرٌ؛ قال الله: {واسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِى كُنَّا فِيهَا والْعِيرَ الّتى أَقْبَلْنَا فِيهَا} والمعنى سل أهل القرية وأهل العِير؛ وأنشدنى المفضَّل:
حَسِبْتَ بُغَامَ راحِلَتى عَنَاقاً * وما هِىَ وَيْبَ غَيْرِك بالَعَنَاقِ
ومعناه: بُغام عَناق؛ ومثله من كتاب الله: {ولكِنّ البِرَّ مَنْ آمنَ باللَّه} معناه والله أعلم: ولكنّ البِرّ بِرُّ من فعل هذه الأفاعيل التى وصف الله. والعرب قد تقول: إذا سرّك أن تنظر إلى السّخاء فانظر إلى هَرِم أو إلى حاتم. وأنشدنى بعضهم:
يَقُولون جاهِدْ يا جَمِيلُ بغَزْوَةٍ * وإنّ جِهاداً طَىِّءٌ وقِتالُها
يجزئ ذكر الاسم من فعله إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة وأشباه ذلك.

الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ...}
يقول: إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فأَبَوْا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يقوله أحد إِلا غصّ برِيقه". ثم إنه وصفهم فقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} معناه والله أعلم: وأَحْرصَ من الذين أشركوا على الحياة. ومثْلُه أن تقول: هذا أسْخَى النّاسِ ومِن هَرم. لأن التأويل للأوّل هو أسخى من الناس ومن هَرِم؛ ثمّ إنه وصف المجوس فقال: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وذلك أن تحيتهم فيما بينهم: (زِهْ هَزَارْ سَالْ). فهذا تفسيره: عِشْ ألفَ سنة.

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }

وأما قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ...}

[يعنى القران] {عَلَى قَلْبِكَ} [هذا أمرٌ] أمر الله به محمدا صلىالله عليه وسلم فقال: قل لهم لما قالوا عدوّنا جبريل وأخبره الله بذلك، فقال: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} يعنى قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان فى هذا الموضع "على قلبى" وهو يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم لكان صوابا. ومثله فى الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندى، وعندَك؛ أمّا عندكَ فجازَ؛ لأنه كالخطاب، وأمّا عندى فهو قول المتكلم بعينه. يأتى هذا من تأويل قوله: "سَتُغْلَبُونَ" و "سَيُغْلَبُونَ" بالتاء والياء.

{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ...}
(كما تقول فى ملك سليمان). تصلح "فى" و "على" فى مثل هذا الموضع؛ تقول: أتيته فى عهد سليمان وعلى عهده سواء.
وقوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ...}
الفرّاء يقرءون "الملَكَين" من الملائِكة. وكان ابن عباس يقول: "الملِكين" من الملوك.
وقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ...}

أما السِّحْر فمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا قيل أُخِّذَ به الرجلُ عن امرأته. ثم قال: ومن قول الملكين إذا تُعلِّم منهما ذلك: لا تكفر. {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ, فَيَتَعَلَّمُونَ} ليست بجواب لقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ} إنما هى مردودة على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيتعَلَّمُون ما يضرهم ولا ينفعهم؛ فهذا وجه. ويكون "فَيَتعلَّمُونَ" متصلة بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فيأْبَوْن فَيتَعلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ، وكأنه أجود الوجهين فى العربية. والله أعلم.
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ...}

{مَنْ} فى موضع رفع وهى جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت علىالجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فَعل. ولا يكادون يجعلونه على يَفْعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم؛ ألا ترى أنهم يقولون: سل عمّا شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" فى تأويل جزاءٍ وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى فَعل؛ لأن الحزم لا يستبين فى فَعل، فصيّروا حدوث اللام - وإن كانت لا تُعرِّب شيئا - كالذى يُعَرِّب، ثم صيّروا جواب الجزاء بما تُلْقى به اليمين - يريد تستقبل به - إمّا بلامٍ، وإما بـ "لا" وإما بـ "إنّ" وإمّا بـ "ما" فتقول فى "ما": لئن أتيتنى ما ذلك لك بضائع، وفى "إِنّ": لئن أتيتنى إنّ ذلك لمشكور لك - قال الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن - وفى "لا": "لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ" وفى اللام {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} وإنما صيّروا جواب الجزاء كجواب اليمين لأن اللام التى دخلت فى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ} وفى قوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} وفى قوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا} إنما هى لام اليمين؛ كان موضعها فى آخر الكلام، فلمّا صارت فى أوله صارت كاليمين، فلُقيت بما يُلْقَى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته؛ فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر:
لَئِنْ تَكُ قد ضاقتْ عليكم بُيوتُكُمْ * لَيَعْلَمُ ربِّى أنّ بَيْتِى واسِعُ
وأنشدنى بعضُ بنى عُقَيل:
لئِن كان ما حُدِّثْتَهُ اليومَ صادِقاً * أَصُمْ فى نهارِ الْقَيْظِ لِلشَّمسِ بادِيَا
وأَرْكَبْ حِماراً بين سَرْجٍ وفَرْوَةٍ * وأُعْرِ مِن الخاتامِ صُغْرَى شِمالِيَا
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه فى الكلام أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال الاخر:

فَلاَ يَدْعُنِى قَوْمِى صَرِيحاً لُحِرَّةٍ * لئنْ كُنتُ مقتولاً ويَسْلَمُ عامِرُ
فاللام فى "لئن" ملغاة، ولكنها كثرت فى الكلام حتى صارت بمنزلة " إِنْ"، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فَلئِنْ قومٌ أصابُوا غِرَّةً * وأَصَبْنا من زمانٍ رَقَقَا
لَلَقدْ كانوا لَدَى أزمانِنَا * لِصَنِيعين لِبَأْسٍ وتُقَى
فأدخل على "لَقَد" لاما أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام فى "لَقَد" حتى صارت كأنها منها. وأنشدنى بعض بنى أسد:
لَدَدْتُهُمُ النَّصِيحةَ كلَّ لَدٍّ * فَمَجُّوا النُّصْح ثم ثَنَوْا فقَاءُوا
فَلاَ واللّهِ لا يُلْفَى لِمَا بِى * ولا لِلِمَا بِهِم أبداً دَواءُ
ومثله قول الشاعر:
كَمَا ما امرؤٌ فى مَعْشَرٍ غيرِ رَهْطِهِ * ضَعيفُ الكلامِ شَخْصُهُ مُتضائِلُ
قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" فى الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عن غِبِّ مَعْرَكةٍ * لا تُلْفِنَا مِن دِماءِ القومِ نَنْتَفِلُ
فجزم "لا تلفِنا" والوجه الرفع كما قال الله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} ولكنه لمَّا جاء بعد حرفٍ يُنْوى به الجزمُ صُيِّر جزما جوابا للمجزوم وهو فى معنى رفع. وأنشدنى القاسم بن مَعْنٍ (عن العرب):
حَلَفْتُ له إِنْ تُدْلِجِ اللَّيْلَ لا يَزَلْ * أَمَامكَ بيتٌ مِنْ بُيوتِى سائِرُ
والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صُيِّر جوابا للجزم. ومثله فىالعربية: آتيك كى (إن تُحدّثْنى بحديث أَسمعْه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم).

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا...}

هو من الإِرعاء والمراعاة، (وفى) قراءة عبدالله "لاَ تَقُولُوا راعُونَا" وذلك أنها كلمة باليهودية شتم، فلمّا سمعت اليهودُ أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: يانبىّ الله راعنا، اغتنموها فقالوا: قد كنا نسبّه فى أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السَّبَّ، فجعلوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعِنا، ويضحك بعضهم إلى بعض، ففطن لها رجلٌ من الأنصار، فقال لهم: والله لا يتكلم بها رجل إلا ضربت عنقه، فأنزل الله {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} ينهى المسلمين عنها؛ إذْ كانت سبّاً عند اليهود. وقد قرأها الحسن البصرىّ: "لاَ تَقُولُوا رَاعِناً" بالتنوين، يقول: لا تقولوا حُمْقا، وينصب بالقول؛ كما تقول: قالوا خيرا وقالوا شرّا.
وقوله: {وَقُولُواْ انْظُرْنَا} أى انتظرنا. و(أَنْظِرنا): أخِّرنا، (قال الله): {[قَالَ] أَنْظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يريد أخِّرنى, وفى سورة الحديد {[يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالْمنافِقَاتُ] لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} خفيفة الألِف على معنى الانتظار. وقرأها حمزة الزيّات: "لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْظِرُونَا" على معنى التأخير.

{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

وقوله: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ...}

معناه: ومن المشركين، ولو كانت "المشركون" رفعاً مردودةً على "الّذِينَ كَفَروا" كان صوابا [تريد ما يودّ الذين كفروا ولا المشركون]، ومثلها فى المائدة: {[يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً] مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ}، قُرئت بالوجهين: [والكفارِ، والكفارَ]، وهى فى قراءة عبدالله: "ومِن الكفّارِ أولِياء". وكذلك قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} فى موضع خفض على قوله: {مِن أَهلِ الكِتابِ}: ومن المشركين، ولو كانت رفعا كان صوابا؛ تردّ على الذين كفروا.

{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا...}
(أَوْ نُنْسِئْهَا - أَوْ نُنْسِهَا) عامة القرّاء يجعلونه من النسيان، وفى قراءة عبدالله: "مَانُنْسِكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَخْها نَجِئْ بِمِثْلها أَوْ خَيْرٍ مِنها" وفى قراءة سالم مولى أبى حذيفة: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِكَهَا"، فهذا يقوّى النّسيان. والنّسخ أن يُعمَل بالآية ثم تَنزل الأخرى فيعمل بها وتُترك الأولى. والنّسيان ها هنا على وجهين: أحدهما - على الترك؛ نتركها فلا ننسخها كما قال الله جل ذكره: {نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} يريد تركوه فتركهم. والوجه الآخر - من النّسيان الذى ينسى، كما قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وكان بعضهم يقرأ: "أَوْ نَنْسَأْهَا" يَهمز يريد نؤخرها من النَّسِيئة؛ وكلٌّ حسن. حدثنا الفرّاء قال: وحدّثنى قيس عن هشام بن عروة بإسناد برفعه إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرأ فقال: "يرحم الله هذا، هذا أذكرنى آياتٍ قد كنت أُنسِيتهنّ".

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ }

وقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ...}
(أَمْ) (فى المعنى) تكون ردّا على الاستفهام على جهتين؛ إحداهما: أن تفرّق معنى "أىّ" والأخرى أن يُسْتفهم بها. فتكون على جهة النسق، والذى يُنوى بها الابتداءُ إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلامٌ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألِفِ أو بهَلْ؛ ومن ذلك قول الله: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، فجاءت "أَمْ" وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ على كلامٍ قد سبقه. وأمّا قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فرُدّ عليه؛ وهو قول الله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرَ}. وكذلك قوله: {مَالَنَا لاَنَرَى رِجَالاً كُنّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ. اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله: {مَالَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً} وقد قرأ بعض القُرّاء: "أَتَّخَذْنَاهُمْ سخْرِيّاً" يستفهم فى "أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيّاً" بقطع الألف لِينسِّق عليه "أَمْ" لأن أكثَر ما تجىءُ مع الألف؛ وكلٌّ صواب. ومثله: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى} ثم قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا} والتفسير فيهما واحد. وربّما جعلتِ العربُ "أَمْ" إذا سبقها استفهام لا تصلح أىٌّ فيه على جهة بل؛ فيقولون: هل لك قِبلنَا حق أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم.

يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظُّلم؛ وقال الشاعر:
فَوَاللّهِ ما أدْرِى أَسَلْمَى تَغَوّلَتْ * أَمِ النَّوْمُ أَمْ كُلٌّ إِلَىّ حَبِيبٌ
معناه [بل كلّ إلىّ حبيب].
وكذلك تفعل العرب فى "أَوْ" فيجعلونها نسَقاً مُفرِّقة لمعنى ما صلحت فيه "أحَدٌ"، و "إِحْدَى" كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو عمرا، فإذا وقعت فى كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على جهة بل؛ كقولك فى الكلام: اذهب إلى فلانٍ أو دَعْ ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دَلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّلِ وجعل "أو" فى معنى "بل"؛ ومنه قول الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وأنشدنى بعض العرب:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشّمسِ فى رَوْنَقِ الضُّحى * وصُورَتِها أَوْ أَنْتِ فى الْعَيْنِ أَمْلَحُ
يريد: بل أنتِ.
وقوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ...}
و "سواء" فى هذا الموضع قصد، وقد تكون "سواء" فى مذهب غير؛ كقولك للرجل: أتيت سواءك.

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {كُفَّاراً...}
ها هنا انقطع الكلامُ، ثم قال: (حَسَداً) كالمفسِّر لم يُنصبْ على أنه نعتٌ للكفار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد بك الشر حسدا وبغيا.
وقوله:{مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ...}
من قِبَل أنفسهم لم يؤمروا به فى كتبهم.

{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى... }

يريد يهوديّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهوديّة. وهى فى قراءة أُبىٍّ وعبدالله: "إِلاّ مَنْ كان يهودِيا أو نصرانِيّا" وقد يكون أن تجعل اليهود جمعاً واحدُه هائِد (ممدود، وهو مثل حائِل ممدود) - من النوق - وحُول، وعائِط وعُوط وعِيط وعُوطَط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ...}
هذه الرُّومُ كانوا غَزَوا بيت المقدس فقتلوا وحرّقوا وخرّبوا المسجد. وإنما أظهر الله عليهم المسلمين فى زمن عمر - رحمه الله - فبنوه، (ولم) تكن الروم تدخله إلا مستخفِين، لو عُلِم بهم لقتِلوا.
وقوله: { لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ...}
يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر الله عليها المسلمين فقتلوا مقاتِلتَهم، وسبوَا الذرارى والنساء، فذلك الخزى.
وقوله: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ...}
يقول فيما وعد الله المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد.

{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ }

وقوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ...}
يريد مطيعون، وهذه خاصّة لأهل الطاعة ليست بعامّة.

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

وقوبه: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ...}

رفعٌ ولا يكون نصبا، إنما هى مرودة على "يقول" [فإنما يقول فيكون]. وكذلك قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} رفعٌ لا غير. وأمّا التى فى النحل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ} فإنها نصب، وكذلك التى فى "يس" نصبٌ؛ لأنّها مردوةٌ على فعل قد نُصب بأن، وأكثر القرّاء على رفعهما. والرفع صوابٌ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله: {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ} فقد تمّ الكلام، ثم قال: فسيكون ما أراد الله. وإنّه لأحبُّ الوجهين إلىّ، وإن كان الكسائىّ لا يُجيز الرفعَ فيهما ويذهبُ إلى النَّسق.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }

وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ...}
يقول: تشابهت قلوبهم فى اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشّابهت بالتثقيل؛ لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين فى تفاعلت ولا فى أشباهها. وإنما يجوز الإدغام إذا قلت فى الاستقبال: تتشابه (عن قليل) فتدغم التاء الثانية عند الشين.

{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }

وقوله: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ...}
قرأها ابن عباس [وأبو جعفر] محمد بن علىّ بن الحسين جزما، وقرأها بعض أهلِ المدينة جزما، وجاء التفسير بذلك، [إلا أنّ التفسير] على فتح التاء على النهى. والقرّاء [بعد] على رفعها علىالخبر: ولستَ تُسْئلُ، وفى قراءة أبىّ "وما تُسألُ" وفى قراءة عبدالله: "ولن تُسألَ" وهما شاهدان للرفع.

{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }

وقوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ...}
يقال: فِدْيةٌ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ...}
يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السُّنّة؛ خمسٌ فى الرأس، وخمس فى الجسد؛ فأما اللاتى فى الرأس فالفَرْق، وقصّ الشّارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسِّواك. وأما اللاتى فى الجسد فالخِتان، وحَلْق العانة، وتقليم الأظافر، ونتف الرُفْغَين يعنى الإبطين. قال الفرّاء: * ويقال للواحد رُفْغ * َوَالاستنجاء.
{فَأَتَمَّهُنَّ}: عمل بهنّ؛ فقال الله تبارك وتعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}: يُهتدَى بهَدْيك ويُستنّ بك، فقال: ربِّ {وَمِن ذُرِّيَّتِي} على المسئلة.
وقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ...}
يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفى قراءة عبدالله: "لاَيَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمُونَ". وقد فسّر هذا لأن ما نالك فقد نِلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالنى خيرُك.

{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }

وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ...}
يثوبون إليه - من المثابة والمثاب - أراد: من كل مكان. والمثابة فى كلام العرب كالواحد؛ مثل المقام والمقامة.

وقوله: {وَأَمْناً...}
يقال: إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثم عاذ بالحرم لم يُقَم عليه حدّه حتى يخرج من الحرم، ويؤمر بِأَلاَّ يخالَط ولا يبايَع، وأن يضيَّق عليه (حتى يخرج) ليقام عليه الحدّ، فذلك أمنه. ومنّ جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه فى الحَرَم.
وقوله:{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...}
وقد قرأت القُرَّاء بمعنى الجزم [والتفسير مع أصحاب الجزم]، ومن قرأ "واتَّخَذوا" ففتح الخاء كان خبرا؛ يقول: جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكلّ صواب إن شاء الله.
وقوله: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ...}
يريد: من الأصنام ألاّ تعلَّق فيه.
وقوله: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ...}
يعنى أهله {والرُّكَّعِ السُّجُودِ} يعنى أهل الإسلام.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

وقوله: {وَمَن كَفَرَ..}
من قول الله تبارك وتعالى {فَأُمَتِّعُهُ} على الخبر. وفى قراءة أُبَىّ "وَمنْ كَفَرَ فَنُمَتِّعُه قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُ إلى عذابِ النارِ" (فهذا وجه). وكان ابن عباس يجعلها متّصلة بمسئلة إبراهيم صلى الله عليه على معنى: رَبّ "ومَنْ كَفَر فأمْتِعْه قليلا ثم اضطَرَّه" (منصوبة موصولة). يريد ثم اضْطَرِرْه؛ فإذا تركت التضعيف نصبت، وجاز فى هذا المذهب كسر الراء فى لغة الذين يقولون مُدِّهِ. وقرأ يحيى بن وَثَّاب: "فَإِمْتِعُه قلِيلا ثم إضطَرُّة" بكسر الألف كما تقول: أَنا إعلَم ذلك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ...}
يقال هى إساس البيت. واحدتها قاعدة، ومن النساء اللواتى قد قعدن عن المحيض قاعد بغير هاء. ويقال لامرأة الرجل قعيدته.
وقوله:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ...}
يريد: يقولان ربنا. وهى فى قراءة عبدالله "ويقولانِ ربنا".

{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا...}
وفى قراءة عبدالله: "وأَرِهِم مناسِكهم" ذهب إلى الذُّرِّيَّة. "وأرِنا" ضمَّهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلّمين عن أنفسهم؛ يدلّك على ذلك قوله: {وابعث فيهم رسولا} رجع إلى الذُّرِّيَّة خاصّة.

{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }

وقوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ...}

العرب توقع سفِه على (نَفْسه) وهى مَعْرِفة. وكذلك قوله: {بِطرت معِيشتها} وهى من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسِّر، والمفسِّر فى أكثر الكلام نكرة؛ كقولك: ضِقت بهِ ذَرْعا، وقوله: {فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىءٍ مِّنْهُ نَفْساً} فالفعل للذَرْع؛ لأنك تقول: ضاق ذَرْعى به، فلمَّا جعلت الضِيق مسنَدا إليك فقلت: ضقت جاء الَّذْرع مفسرا لأن الضيق فيه؛ كما تقول: هو أوسعكم دارا. دخلتِ الدار لتدلّ على أن السعة فيها لافى الرَّجُل؛ وكذلك قولهم: قد وَجِعْتَ بَطْنَك، ووثِقْتَ رأيك - أو - وَفِقْت، [قال أبو عبدالله: أكثر ظنِّى وثِقت بالثاء] إنما الفعل للأمر، فلمَّا أُسند الفعل إلى الرجُل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير؛ ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال: رأيَه سَفِهَ زيدٌ، كما لا يجور دارا أنت أوسعهم؛ لأنه وإن كان معرفة فإنه فى تأويل نكرة، ويصيبه النصب فى موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

وقوله: {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ...}
فى مصاحف أهل المدينة "وأَوصى" وكلاهما صوابٌ كثيرٌ فى الكلام.
وقوله: { وَيَعْقُوبُ...}

أى ويعقوبُ وصّى بهذا أيضا. وفى إحدى القراءتين قراءة عبدالله أو قراءة أُبَىٍّ: "أَنْ يَا بنَىَّ إن الله اصطفى لكم الدين" يوقع وصى على "أن" يريد وصّاهم "بأن" وليس فى قراءتنا "أن"، وكلّ صواب. فمن ألقاها قال: الوصيَّة قول، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أَنْ، وجاز إلقاء أنْ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ فى النساء: {يوصِيكم اللّهُ فى أولادِكم لِلذكرِ مثل حظِّ الأنثيين} لأن الوصيَّة كالقول؛ وأنشدنى الكسائى:
إنى سأُبدى لك فيما أُبدى * لى شَجَنان شَجن بنجد
* وشجَن لى ببلاد السِنْد *
لأن الإبداء فى المعنى بلسانه؛ ومثله قول الله عزّ وجلّ {وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمنُوا وعَمِلوا الصالِحاتِ مِنْهم مغفِرةً} لأن العِدَة قول. فعلى هَذا يُبنى ما ورد من نحوه.
وقول النحويّين: إنما أراد: أن فأُلقِيتْ ليس بشىء؛ لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون فى معنى القول وغيره.
وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه معنى القول ثم ظهرت فيه أن فهى منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
فأمّا الذى يأتى بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول الله تبارك وتعالى: {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِه أَنْ أَنذِر قومك} جاءت أن مفتوحة؛ لأن الرسالة قول. وكذلك قوله {فانْطَلَقُوا وهم يَتَخَافَتُونَ. أَنْ لاَ يَدْخُلنا} والتخافت قول. وكذلك كلّ ماكان فى القرآن. وهو كثير. منه قول الله {وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمدُ لِلّه}. ومثله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ [عَلَى الظَّالِمين]} الأذان قول، والدعوى قول فى الأصل.

وأمّا ما ليس فيه معنى القول فلم تدخله أن فقول الله {ولو تَرَى إِذ المجرِمون ناكِسُوا رُءُوسِهِم عِندَ رَبّهِم رَبَّنَا أَبْصِرنَا} فلمّا لم يكن فى "أبصرنا" كلام يدلّ على القول أضمرت القول فأسقطت أن؛ لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول الله {والملائِكةُ باسِطوا أَيدِيهم أَخرِجوا أَنفسكم}. معناه: يقولون أخرجوا. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وإِذْ يَرْفَعُ إِبراهِيمُ القَواعِدَ مِن البيتِ وإِسمعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّا}. معناه يقولانِ "رَبَّنَا تَقَبَّلْ منَّا" وهو كثير. فقِس بهذا ما ورد عليك.
[وقوله:... قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ].
قرأتِ القُرّاء "نعبد إِلهك وإِله آبائِك"، وبعضُهم قرأ "وإِله أَبِيك" واحدا. وكأن الذى قال: أبيك (ظنّ أن العمّ لا يجوز فى الآباء) فقال "وإِله أبِيك إِبراهِيم"، ثم عدّد بعد الأب العَّم. والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهلَ الأمّ كالأخوال. وذلك كثير فى كلامهم.

{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً...}
أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن نصبتها بـ "نكون" كان صوابا؛ وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا؛ كقولك بل نتّبِع "مِلّة إِبراهِيم"، وإنما أمر الله النبى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال "قل بل مِلّة إِبراهِيم".

{ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

وقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ...}
يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }

وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ...}
نَصْب, مردودة على المِلَّلة, وإنما قيل "صبغة اللهِ" لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه فى ماء لهم يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك هى فى إحدى القراءتين. قل "صِبغة اللّهِ" وهى الخِتَانة، اختتن إبراهيم صلىالله عليه وسلم فقال: "صِبغة اللّهِ" يأمر بها محمدا صلى الله عليه وسلم فجرت الصِبْغة على الخِتَانة لصَبغهم الغِلْمان فى الماء، ولو رفعت الصبغة والمِلل‍ّة كان صوابا كما تقول العرب: جَدُّك لاكَدُّك، وجَدَّك لا كَدَّك. فمن رفع أراد: هى مِلَّة إبراهيم، هى صبغة الله، هو جَدُّك . ومن نصب أضمر مثل الذى قلتُ لك من الفعل.

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...}

يعنى عَدْلا {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} يقال: إن كلّ نبىّ يأتى يوم القيامة فيقول: بلّغت، فتقول أمَّته: لا، فيكذّبون الأنبياء، (ثم يجاء بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيصدِّقون الأنبياء ونبيّهم)، ثم يأتى النبىُّ صلى الله عليه وسلم فيصدّق أمَّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، ومنه قول الله: {فكيف إذا جِئنا مِن كل أمَّةٍ بِشهيدٍ [وجئنا بك على هؤلاء شهيدا]}.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ...}
أسند الإيمان إِلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوَّل القبلة. فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يريد إيمانهم لأنهم داخلون معهم فى الملَّلة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم بالقتل وهم أحياء.

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ...}
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله فى الكلام: ولِّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتُجَاهه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ...}
أجيبت (لئن) بما يجاب به لو. ولو فى المعنى ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفَعَل فأُجيبتا بجواب واحدٍ، وشُبِّهت كلّ واحدة بصاحبتها. والجواب فى الكلام فى (لئن) بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنَّ، ولئن أحسنت لتُكرمنّ، ولئن أسأت لا يُحْسَنْ إليك. وتجيب لو بالماضى فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنَّ. فهذا الذى عليه يُعمل، فإذا أُجيبت لو بجواب لئن فالذى قلت لك من لفظ فِعْلَيهما بالمضىّ، ألا ترى أنك تقول: لو قمت, ولئن قمت، ولا تكاد ترى (تَفْعل تأتى) بعدهما، وهى جائزة، فلذلك قال {ولئن أرسلنا رِيحا فرأَوْه مُصْفَرّاً لَظَلُّوا} فأجاب (لئن) بجواب (لو)، وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال {ولو أنهم آمنوا واتقَوْا لمثوبة مِن عِندِ الله خير} الآية.

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ... الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ...}

المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القِبْلة التى صُرِف إليها محمد صلى الله عليه وسلم قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف (الحقُّ) فقال: يا محمد هو {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}، إنها قبلة إبراهيم {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: فلا تشكَّنّ فى ذلك. والممترِى: الشاكّ.

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ...}
يعنى قبلة {هُوَ مُوَلِّيهَا}: مستقبِلها، الفعل لِكلٍّ، يريد: مولٍّ وجهَه إليها. والتولية فى هذا الموضع إقبال، وفى {يولُّوكُم الأدبار}، {ثُمَّ وَلَّيتم مُدْبِرين} انصراف. وهو كقولك فى الكلام: انصرِف إلىّ، أى أقبِل إلىّ, وانصرف إلى أهلك أى اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عباس وغيره "هو مُوَلاَّها"، وكذلك قرأ أبو جعفر محمد بن علىّ، فجعَل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله أعلم.
وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ...( )}
إذا رأيت حروف الاستفهام قد وُصِلت بـ (ما)، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأىٌّ ما، وحيث ما، وكيف ما، و {أيّاًمَََّا تدعوا} كانت جزاء ولم تكن استفهاما. فإذا لم توصَل بـ (ما) كان الأغلبَ عليها الاستفهامُ، وجاز فيها الجزاء.
فإذا كانت جزاء جزمْتَ الفعلين: الفعلَ الذى مع أينما وأخواتها، وجوابَه؛ كقوله {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ} فإن أدخلت الفاء فى الجواب رفعت الجواب؛ فقلت فى مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول الله - تبارك وتعالى - {ومن كفر فَأُمتِّعه}.

فإذا كانت استفهاما رفعْتَ الفعل الذى يلى أين وكيف، ثم تجزم الفعل الثانى؛ ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنْجِيِكم مِن عَذابٍ أليم} ثم أجاب الاستفهام بالجزم؛ فقال - تبارك وتعالى - {يغفرْ لَكُمْ ذنوبَكم}.
فإذا أدخلت فى جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال الله - تبارك وتعالى - {لولا أًخَّرْتنِى إلى أَجلٍ قرِيبٍ فأًصَّدّقَ} فنصب.
فإذا جئت إلى العُطُوف التى تكون فى الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك فى العطف ثلاثة أوجه؛ إن شئت رفعت العطف؛ مثل قولك: إن تأتنى فإنى أهل ذاك، وتُؤْجَرُ وتحمدُ، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت, وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفعُ على ما بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء "من يضلِلِ الله فلا هادِى له ويَذَرْهُم". رَفْع وجَزْم . وكذلك {إِنْ تُبْدُوا الصّدقاتِ فَنِعِمَّا هِى وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفقراءَ فَهْوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ويُكَفِّرُْ} جَزْم ورفع. ولو نصبْتَ على ما تنصب عليه عُطُوف الجزاء إذا استغنى لأصبت؛ كما قال الشاعر:
فإن يَهْلِكِ النعمانُ تُعْرَ مِطَّيةٌ * وتُخْبَأَ فى جوفِ العِيابِ قُطُوعُها
وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت تردّه على الأوّل، كان صوابا؛ كما قال بعد هذا البيت:
وتَنْحِطْ حَصَانٌ آخِرَ اللّيلِ نَحْطةً * تَقَصَّمُ مِنها - أَو تَكادُ - ضُلوعها
وهو كثير فى الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب فى العُطُوف إذا لم تكن فى جواب الجزاء الفاءُ، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.

وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصِبِ العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله فى المنافقين {لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّق وأََكُنْ" رددت "وأَكُنْ" على موضع الفاء؛ لانها فى محلّ جزمٍ؛ إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جُزم. والنصب على أن تردّه على ما بعدها، فتقول: "وأكونَ" وهى فى قراءة عبدالله بن مسعود "وأكون" بالواو، وقد قرأ بها بعض القُرّاء. قال: وأرى ذلك صوابا؛ لأن الواو ربما حذفت من الكتَاب وهى تراد؛ لكثرة ما تُنْقَص وتُزاد فى الكلام؛ ألا ترى أنهم يكتبون "الرحمن" وسُلَيمن بطرح الألف والقراءةُ بإثباتها؛ فلهذا جازت. وقد أُسقطت الواو من قوله {سَنَدْعُ الزَّبانِية} ومن قوله {وَيَدْعُ الإِنْسانُ بالشّرِّ} الآية، والقراءة على نيَّة إثبات الواو. وأسقطوا من الأَيكةِ ألِفين فكتبوها فى موضع ليكة، وهى فى موضع آخر الأَيْكة، والقُرَّاء علىالتمام، فهذا شاهد على جواز "وأكون من الصَّالِحينَ".
وقال بعض الشعراء:
فأَبلُونِى بَلِيَّتَكُم لَعَلِّى * أُصلُكُمْ وأَسْتَدْرِجْ نَوَيّا
فجزم (وأستدرجْ). فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة فى لعلّى، وإن شئت جعلته فى موضع رفع فسكّنْت الجيم لكثرة توالى الحركات. وقد قرأ بعض القراء "لا يَحْزُنْهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَر" بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا "أَنُلْزِمْكُموها وأَنْتُمْ لها كارِهون" والرفع أحبُّ إلىَّ من الجزم.
وقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ...)}
العرب تقول: هذا أمر ليس له وِجهة، وليس له جِهة، وليس له وَجْه؛ وسمعتهم يقولون: وجِّه الحَجَر، جِهَةٌ مّاله، ووِجْهةُ مّاله، ووَجْهٌ مّاله. ويقولون: ضَعْه غير هذه الوضْعة، والضِّعة، والضَعَة. ومعناه: وجّه الحَجَر فله جهة؛ وهو مَثَل، أصله فى البناء يقولون: إذا رأيت الحجر فى البناء لم يقع موقعه فأدِرْه فإنك ستقع على جهته. ولو نصبوا على قوله: وجِّهه جِهتَه لكان صوابا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ...}
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظَلَموا فى هذا الموضع؟ ولعلهم توهَّموا أن ما بعد إلاّ يخالف ما قبلها؛ فإن كان ما قبل إلاّ فاعلا كان الذى بعدها خارجا من الفعل الذى ذُكر, وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا؛ كما تقول: ذهب الناس إلاّ زيدا، فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زيد، فزيد ذاهب، والذهاب مثبَت لزيد.
فقوله {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} [معناه: إلا الذين ظلموا منهم]، فلا حجَّة لهم {فلا تَخْشَوْهُمْ} وهو كما تقول فى الكلام: الناسُ كلّهم [لك] حامدون إلا الظالم لك المعتدِىَ عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجَّة له. وقد سُمِّى ظالما.

وقد قال بعض النحويين: إلا فى هذا الموضع بمنزلة الواو؛ كأنه قال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ولا للذين ظلموا. فهذا صواب فى التفسير، خطأ فى العربية؛ إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو؛ كقولك: لى على فلان ألْف إلا عشرة إلا مائة، تريد بـ (إلاّ) الثانية أن ترجع على الألْف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت:اللهمّ إلا مائة. فالمعنى له علىّ ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهمّ إلا أباك. فتستثنى الثانى، تريد: إلا أباك وإلا أخاك؛ كما قال الشاعر:
ما بالمدينةِ دار غيرُ واحدةٍ * دارُ الخليفة إلا دارُ مَروْانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقوله: {وَاخْشَوْنِي...}
اثبتت فيها الياء ولم تثبت فى غيرها، وكلّ ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تَهَيَّبُ العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من ذلك "رَبِّى أَكْرَمَنِ - و - أَهانَنِ" فى سورة "الفجر" وقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} ومن غير النون "المُناد" و"الداع" وهو كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمّة ما قبلها؛ مثل قوله: {سَنَدْعُ الزَّبانيةَ - وَيدْعُ الإنْسانُ} وما أشبهه، وقد تُسقط العرب الواو وهى واو جَماع، اكتُفِى بالضمَّة قبلها فقالوا فى ضربوا: قد ضَرَبُ، وفى قالوا: قد قالُ ذلك، وهى فى هوازن وعُلْيا قيس؛ أنشدنى بعضهم :
إذا ما شاءُ ضرُّوا من أرادوا * ولا يألو لهم أحد ضرارا
وأنشدنى الكسائى:
متى تقول خَلَتْ من أهلِها الدارُ * كأنهم بجناحى طائر طاروا
وأنشدنى بعضهم:
فلو أَن الأطبّا كانُ عِندِى * وكان مع الأَطِباءِ الأسَاة
وتفعل ذلك فى ياء التأنيث؛ كقول عنترة:
إن العدوّ لهم إِليك وسِيلة * إِن يأْخذوكِ تكحَّلِى وتَخَضَّبِ

يحذفون (ياء التأنيث) وهى دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
وقوله: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ...}
جواب لقوله: {فاذْكُرونِى أَذْكُرْكُمْ}: كما أرسلنا، فهذ جواب (مقدّم ومؤخَّر).
وفيها وجه آخر: تجعلها من صِلَة ما قبلها لقوله: {أذكركم} ألا ترى أنه قد جعل لقوله: {اذكرونى} جوابا مجزوما، (فكان فى ذلك دليل) على أن الكاف التى فى (كما) لِمَا قبلها؛ لأنك تقول فى الكلام : كما أحسنتُ فأَحسِن. ولا تحتاج إلى أن تشترط لـ (أحسن)؛ لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو فى العربية أنفذ من الوجه الأوّل مما جاء به التفسير؛ وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان؛ مثل قولك: إذا أتاك فلان فأتِه تُرْضِهِ. فقد صارت (فأتِه) و (ترضه) جوابين.

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }

وقوله: {وَاشْكُرُواْ لِي...}
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك. ولا يقولون: نصحتك، وربما قِيلتا؛ قال بعض الشعراء:
هُمُ جَمعوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَليكُمُ * فهلاّ شكرتَ القومَ إذ لم تقاتِلِ
وقال النابغة:
نصحتُ بنِى عوفٍ فلم يَتَقبّلوا * رسولى ولم تَنجحْ لديهِم وسائلِى

{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }

وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ...}

رَفْع بإضمار مَكْنِىّ مِن أسمائهم؛ كقولك: لا تقولوا: هم أموات بل هم أحياء. ولا يجوز فى الأموات النصب؛ لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أُضمرت وُصُوفها أو أظهِرت؛ كما لا يجوز قلت عبدَالله قائما، فكذلك لا يجوز نصب الأموات؛ لأنك مضمِر لأسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قَبله القول إذا كان الاسم فى معنى قولٍ؛ من ذلك: قلت خيرا، وقلت شرّا. فترى الخير والشرّ منصوبين؛ لأنهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هو بمنزلة قولك: قلت لك مال.
فابن على ذا ما ورد عليك؛ من المرفوع قوله: {سيقولُون ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} و"خمسةٌ" و"سبعةٌ"، لا يكون نصبا؛ لأنه إخبار عنهم فيه أسماء مضمرة؛ كقولك: هم ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله - تبارك وتعالى -: {ويَقُولُونَ طَاعةٌ} فإنه رَفْع على غير هذا المذهب. وذلك أن العرب كانوا يقال لهم: لا بدّ لكم من الغَزْو فى الشتاء والصيف، فيقولون: سمع وطاعة؛ معناه: مِنّا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا ونطيع طاعة كان صوابا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى فى سورة محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم: {فَأَوْلَى لَهُم طَاعةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوف}. عيَّرهم وتهدّدهم بقوله: "فأولى لهم"، ثم ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أُمِروا "طاعة". "فإذا عزم الأمر" نَكلُوا وكذبوا فلم يفعلوا. فقال الله تبارك وتعالى {فلَوْ صَدَقُوا الله لكانَ خَيْراً لهم}، وربما قال بعضهم: إنما رُفِعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشىء. والله أعلم. ويقال أيضا: "وذكِر فيها القِتال" و "طاعة" فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا مِن مذاهب العرب، فإنْ يك موافقا للتفسير فهو صواب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ...}
ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك أن مِن تدلّ على أن لكل صِنفٍ منها شيئا مضمرا: بشىء من الخوف وشىء من كذا، ولو كان بأشياء لكان صوابا.

{ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ }

وقوله: {قَالُواْ إِنَّا للَّهِ...}
لم تكسِرِ العرب (إنا) إلا فى هذا الموضع مع اللام فى التوجّع خاصَّة. فإذا لم يقولوا (لِلّه) فتحوا فقالوا: إنا لِزيد محِبُّون، وإِنا لِربِّنا حامدون عابدون. وإنما كسرت فى {إِنَّا للَّهِ} لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد، فأشير إلى النون بالكسرِ لِكسرة اللام التى فى "لِلّه"؛ كما قالوا: هالِك وكافِر، كسرت الكاف من كافِر لكسرة الألف؛ لأنه حرف واحد، فصارت "إنا لِلّهِ" كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما قالوا: الحمدِ لِلّهِ.

{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...}

كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة؛ لِصَنَمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما لِلصنمين، فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وقد قرأها بعضهم "أَلاَّ يطَّوف" وهذا يكون على وجهين؛ أحدهما أن تجعل "لا" مع "أنْ" صِلَة على معنى الإلغاء؛ كما قال: {ما مَنَعَك أَلاَّ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} والمعنى: ما منعك أَن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخَّص فى تركه. والأوّل المعمول به.
وقوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً...}
تنصب على (جهة فعل). وأصحاب عبدالله وحمزة "وَمَنْ يَطَّوَّعْ"؛ لأنها فى مصحف عبدالله "يتطوع".

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ }

وقوله: {أُولَائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ...}
قال ابن عباس: "اللاعِنون" كلّ شىء على وجه الأرض إلا الثَقَلين. [و] قال عبدالله بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان فلعن أحدهما صاحبه وليس أحدهما مستحِقّ اللعن رجعتِ اللعنة على المستحِقّ لها، فإن لم يستحقّها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ماأنزل الله تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسّر.

{ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

وقوله: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ...}

فـ "الملائكة والناس" فى موضع خفض؛ تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الحسن "لعنة اللّهِ والملائِكةُ والناسُ أجمعون" وهو جائز فى العربية وإن كان مخالفا للكتَاب. وذلك أن قولك (عليهم لعنة اللّهِ) كقولك يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسَك، فينصبون النفس؛ لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون: عجبت من غلبتك نَفْسُك، فيرفعون النفسَ؛ لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد عليك.
ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضُها على بعض، وبعضِها على بعض. فمن رفع رَدّ البعض إلى تأويل البيوت؛ لأنها رفع؛ ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطتْ بعضُها على بعض. ومَنْ خفض أجراه على لفظ البيوت, كأنه قال: من تساقطِ بعضِها على بعض.
وأجودُ ما يكون فيه الرفع أن يكون الأوّل الذى فى تأويل رفع أو نصب قد كُنى عنه؛ مثل قولك: عجبت من تساقطها. فتقول ها هنا: عجبت من تساقطها بعضُهاعلى بعض؛ لأن الخفض إذا كَنَيت عنه قبح أن ينعت بظاهر، فردّ إلى المعنى الذى يكون رفعا فى الظاهر، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول: عجبت من إدخالهم بعضَهم فى إثر بعض؛ تؤثر النصب فى (بعضهم)، ويجوز الخفض.

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

وقوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ...}
تأتى مرّة جَنُوبا، ومرّة شَمَالا، وقَبُولا، ودَبُورا. فذلك تصريفها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }

وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...}
يريد - والله أعلَم - يحبّون الأنداد، كما يحبّ المؤمنون الله. ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} من أولئك لأنداد.
وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ...}
يوقع "يرى" على "أن القوة لله وأن الله" وجوابه متروك. والله أعلم. (وقوله): {ولَوْ أنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ به الجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ} وتَرك الجواب فى القرآن كثير؛ لأن معانى الجنة والنار مكرر معروف. وإن شئت كسرت إنّ وإنّ وأوقعت "يرى" على "إذ" فى المعنى. وفَتْحُ أنّ وأنّ مع الياء أحسن من كسرها.
ومن قرأ "وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا" بالتاء كان وجه الكلام أن يقول "إن القوة..." بالكسر "وإِن..."؛ لأن "ترى" قد وقعت على (الذين ظلموا) فاستؤنفت "إِن - (وإنّ)" ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية مِن "ترى" ومِن "يرى" لكان صوابا؛ كأنه قال: "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب" يرون {أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً}.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }

وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ...}

تَنصب هذه الواو؛ لانها ولو عطفٍ أُدخلتْ عليها ألِفُ الاستفهام، وليست بـ (أو) التى واوها ساكنة؛ لأن الألِف مِن أَوْ لا يجوز إسقاطها، وألف الاستفهام تسقط؛ فتقول: ولو كان، أوَ لو كان إذا استفهمت.
وإنما عيَّرهم الله بهذا لِمَا قالوا {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} قال الله تبارك وتعالى: يا محمد قل {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } فقال "آباؤهم" لغَيبتهم، ولو كانت "آباؤكم" لجاز؛ لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا؛ مثل قولك: قل لزيد يَقُم، وقل له قُمْ. ومثله {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ}، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا}.
ومَنْ سَكَّن الواو من قوله: {أَوْ آبَاؤُنا الأَوَّلُونَ} فى الواقعة وأشباه ذلك فى القرآن، جعلها "أو" التى تُثْبت الواحدَ من الاثنين. وهذه الواو فى فتحها بمنزلة قوله {أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ} دخلت ألفُ الاستفهام على "ثُمّ" وكذلك "أفلم يسِيروا".

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ...}
أضاف المَثَل إلى الذين كفروا، ثم شبَّههم بالراعى. ولم يَقُل: كالغنم. والمعنى - والله أعلم - مثل الذين كفروا (كمثل البهائم) التى لا تفقه ما يقول الراعى أكثر من الصوت، فلو قال لها: ارعَىْ أو اشربى، لم تَدْرِ ما يقول لها. فكذلك مَثَل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرسول. فأضيف التشبيه إلى الراعى، والمعنى - والله أعلم - فى المَرْعِىّ. وهو ظاهر فى كلام العرب أن يقولوا: فلان يخافك كخوف الأسَد، والمعنى: كخوفه الأسَد؛ لأن الأسد هو المعروف بأنه المُخوف. وقال الشاعر:
لقد خِفْتُ حتى ما تزِيدُ مخافتِى * على وَعِلٍ فى ذى المَطَارة عاقِلِ

والمعنى: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتى. وقال الآخر:
كانت فرِيضةَ ما تقول كما * كان الزِناءُ فرِيضةَ الرَّجْمِ
والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزناء. فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحَّتها لاتّضاح المعنى عند العرب. وأنشدنى بعضهم:
إِن سِراجا لكرِيم مَفْخَرُهْ * تَحْلَى بِهِ العينُ إِذا ما تَجْهَرُهْ
والعينُ لا تحلى به، إنما يَحْلَى هو بها.
وفيها معنىً آخر: تضيف المَثَل إلى (الذين كفروا)، وإضافته فى المعنى إلى الوعظ؛ كقولك مَثَل وَعْظ الذين كفروا وواعظِهم كمثل الناعق؛ كما تقول: إذا لقيت فلانا فسلِّم عليه تسليمَ الأمير. وإنما تريد به: كما تسلّم على الأمير. وقال الشاعر:
فلستُ مُسَلَّما ما دمْتُ حيّاً * على زيدٍ بِتسلِيم الأمير
وكلٌّ صواب.
وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ...}
رَفْع؛ وهو وَجْه الكلام؛ لأنه مستأنفُ خبرٍ، يدلّ عليه قوله {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} كما تقول فى الكلام: هو أصَمّ فلا يسمع، وهو أخرس فلا يتكلّم. ولو نُصب على الشمّ مثل الحروف فى أوّل سورة البقرة فى قراءة عبدالله "وتركهم فى ظلماتٍ لا يبصِرون صُمّاً بُكْماً عُمْياً" لجاز.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ...}
نَصْب لوقوع "حرّم" عليها. وذلك أن قولك "إنّا" على وجهين: أحدهما أن تجعل "إنّما" حرفا واحدا، ثم تُعْمِل الأفعالَ التى تكون بعدها [فى] الأسماء، فإن كانت رافعة رفعت، وإن كانت ناصبة نصبت؛ فقلت: إنما دخلت دارَك، وإنما أعجبتنى دارُك، وإنّما مالى مالُك. فهذا حرف واحد.

وأمّا الوجه الآخَر فأن بجعل "ما" منفصِلة من (إنّ) فيكون "ما" على معنى الذى، فإذا كانت كذلك وَصَلْتَها بما يوصل به الذى، ثم يرفع الاسم الذى يأتى بعد الصلة؛ كقولك إنّ ما أخذت مالُكَ، إِن ما ركبت دابَّتُك. تريد: إن الذى ركبت دابتُك، وإن الذى أخذت مالك. فأجْرِهما على هذا.
وهو فى التنزيل فى غير ما موضع؛ من ذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الل‍ّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، {إِنَّمَا أَنْت نَذِيرٌ} فهذه حرف واحد، هى وإنَّ، لأن "الذى" لا تَحسُن فى موضع "ما".
وأمّا التى فى مذهب (الذى) فقوله: {إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} معناه: إِن الذى صنعوا كيدُ ساحرٍ. ولو قرأ قارِئ "إِنما صنعوا كيدَ ساحِرٍ" نصبا كان صوابا إذا جعل إنَّ وما حرفا واحدا. وقوله {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} قد نصب المودّة قوم، ورفعها آخَرون علىالوجهين اللذين فسَّرت لك. وفى قراءة عبدالله "إنما مودَّةُ بَيْنِكُمْ فِى الحياةِ الدنيا" فهذه حجَّة لمن رفع المودّة؛ لأنها مستأنفة لم يوقع الاتّخاذ عليها، فهو بمنزلة قولك: إن الذى صنعتموه ليس بنافع، مودّة بينكم ثم تنقطع بعد. فإن شئت رفعت المودّة بـ "بين"؛ وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها؛ كقوله "سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا" وكقوله {لم يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ}.
فإذا رأيت "إنَّما" فى آخِرها اسم من الناس وأشباههم ممَّا يقع عليه "مَنْ" فلا تجعلنَّ "ما" فيه على جهة (الذى)؛ لأن العرب لا تكاد تجعل "ما" للناس. من ذلك: إنَّما ضربت أخاك، ولا تقل: أخوك؛ لأن "ما" لا تكون للناس.
فإذا كان الاسم بعد "إنَّما" وصِلتِها مِن غير الناس جاز فيه لك الوجهان؛ فقلت: إنَّما سكنت دارَك. وإن شئت: دارُك.

وقد تجعل العرب "ما" فى بعض الكلام للناس، وليس بالكثير. وفى قراءة عبدالله "وَالنَّهَارِ إِذا تَجَلَّى والذَّكَرِ والأُنْثَى" وفى قراءتنا "ومَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثَى" فمن جعل "ما خلق" للذكر والأنثى جاز أن يخفض "الذكرِ والأنثى": كأنه قال والذى خلق: الذكرِ والأنثى. ومن نصب "الذكر" جعل "ما" و "خلق" كقوله: وخَلْقِه الذكر والأنثى, يوقع خَلَق عليه. والخفض فيه على قراءة عبدالله حَسَن، والنصب أكثر.
ولو رفعت "إنّما حَرَّم عليكم الميتةُ" كان وجها. وقد قرأ بعضهم: "إنما حُرِّم عليكم المِّيتةُ" ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم؛ لأنك إن جعلت "إنّما"حرفا واحدا رفعت الميتة والدم؛ لأنه فعل لم يسمَّ فاعله، وإن جعلت "ما" على جهة (الذى) رفعت الميتة والدم؛ لأنه خبر لـ"ما".
وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ...}
الإهلال: ما نودى به لغير الله على الذباحَ [وقوله] {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [(غير) فى هذا الموضع حال للمضطرّ؛ كأنك قلت: فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا] فهو له حلال. والنصب ها هنا بمنزلة قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ} ومثله {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} و "غير" ها هنا لا؛ تصلح "لا" فى موضعها؛ لأنّ "لا" تصلح فى موضع غير. وإذا رأيت "غير" يصلح "لا" فى موضعها فهى مخالفة "لغير" التى لا تصلح "لا" فى موضعها.
ولا تحِلّ الميتة للمضطَرّ إذا عدا على الناس بسيفه، أو كان فى سبيل من سُبُل المعاصى. ويقال: إنه لا ينبغى لآكلها أن يشبع منها، ولا أن يتزوّد منها شيئا. إنما رُخّص له فيما يُمْسِك نَفْسه.

{ أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }

وقوله: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ...}
فيه وجهان: أحدهما معناه: فما الذى صبَّرهم على النار؟. والوجه الآخر: فما أجرأهم على النار! قال الكسائىّ: سألنى قاضى اليمن وهو بمكَّة، فقال: اختصم إلىَّ رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه، فقال له: ما أصبرك على الله! وفي هذه أن يراد بها: ما أصبرك على عذاب الله، ثم تلقى العذاب فيكون كلاما؛ كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم.

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

وقوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ...}
إن شئت رفعت "البِرّ" وجعلت "أن تولوا" فى موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت "أن تولّوا" فى موضع رفع؛ كما قال: {فَكَانَ عاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النّارِ} فى كثير من القرآن. وفى إحدى القراءتين "ليس البِرُّ بِأن"، فلذلك اخترنا الرفع فى "البِرّ"، والمعنى فى قوله {ليس البِرُّ بِأن تولوا وجوهكم قِبل المشرِقِ والمغرِبِ} أى ليس البِرُّ كله فى توجّهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين {وَلَكِنّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} ثم وَصَف ما وصف إلى آخر الآية. وهى من صفات الأنبياء لا لغيرهم.

وأمَّا قوله: {وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} فإنه من كلامِ العرب أن يقولوا: إنما البِرُّ الصادق الذى يصل رَحِمه، ويُخفى صَدَقته فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعلَ خبراً للاسم؛ لأنه أمر معروف المعنى.
فأمّا الفعل الذى جُعِل خبرا للاسم فقوله: {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ} فـ (هو) كناية عن البخل. فهذا لِمن جعل "الذِين" فى موضع نصبٍ وقرأها "تحسبنَّ" بالتاء. ومن قرأ بياء جعل "الذِين" فى موضع رفع، وجعل (هو) عِمادا للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر فى "يبخلون" من ذكر البخل؛ ومثله فى الكلام:
هم الملوك وأبناء الملوكِ لهم * والآخِذون بِهِ والساسة الأُوَلُ
قوله: به يريد: بالمُلْك، وقال آخر:
إِذا نُهِى السفِيهُ جَرَى إليهِ * وخالف والسفِيه إِلى خِلافِ
يريد إلى السفه.
وأما الأفعال التى جُعِلت أخبارا لِلناس فقول الشاعر:
لعمرك ما الفِتيان أن تَنْبُت اللحى * ولكِنما الفِتانُ كُلُّ فتىً نَدِى
فجعل "أنْ" خبرا للفتيان.
وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (من) فى موضع رفع، وما بعدها صلة لها، حتى ينتهى إلى قوله {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} فتردّ "الموفون" على "مَنْ" و "والموفون" مِن صفة "مَن" كأنه: من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت "الصابرِين"؛ لأنها من صفة "مَنْ" وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح؛ والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجدّدٍ غير مُتْبَع لأوّل الكلام؛ من ذلك قول الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قومى الذين هُمُ * سُمُّ العُدَاةِ وآفة الجُزُرِ
النازِلِين بِكلّ معترَكٍ * والطَيِّبِينَ مَعاقِدَ الأُزُرِ

وربما رفعوا (النازلون) و (الطيبون)، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يُتْبَع آخِر الكلام أوّله. وقال بعض الشعراء:
إلى الملِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَام * وليثَ الكتِيبةِ فى المُزْدَحَمْ
وذا الرأى حين تُغَمُّ الأُمور * بِذاتِ الصليلِ وذاتِ الُّلجُمْ
فنصب (ليث الكتيبة) و (ذا الرأى) على المدح والاسم قبلهما مخفوض؛ لأنه من صفةِ واحدٍ، فلو كان الليث غير الملِك لم يكن إلا تابعا؛ كما تقول مررت بالرجل والمرأة, وأشباهه. قال: وأنشدنى بعضهم:
فليت التِى فيها النجوم تواضعت * على كل غثّ مِنهمُ وسَمينِ
غيوثَ الحَيَا فى كل مَحْلٍ ولَزْبَةٍ * أسود الشَّرَى يحمِين كلَّ عَرِينِ
فنصب. ونُرَى أنّ قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أنّ نصب "المقِيمِين" على أنه نعت للراسِخِين، فطال نعته ونُصِب على ما فسَّرت لك. وفى قراءة عبدالله "والمقِيمون - والمؤتون" وفى قراءة أبَىّ "والمقِيمين" ولم يُجتمع فى قراءتنا وفى قراءة أُبَىّ إلا على صوابٍ. والله أعلم.
حدّثنا الفرّاء: قال: وقد حدّثنى أبو مُعاوية الصرير عن هِشام بن عُرْوة عن أبيه عن عائشة أنها سئِلت عن قوله: {إنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وعن قوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} وعن قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فقالت: يا بن أَخِى هذا كان خطأ مِن الكاتِب.

وقال فيه الكسائىّ "والمقيمين" موضعه خفض يُرَدّ على قوله: {بِما أنزِل إليك وما أنزِل مِن قبلِك}: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم والمؤتون الزكاة. قال: وهو بمنزلة قوله: {يُؤْمِنُ بِاللهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وكان النحويّون يقولون "المقيمين" مردودة على {بما أنزِل إِليك وما أنزِل مِن قبلك... إلى المقِيمِين} وبعضهم "لكِنِ الراسِخون فِى العِلِم مِنهم" ومن "المقيمين" وبعضهم "من قبلك" ومن قَبْل "المقيمين".
وإنما امتنع مِن مذهب المدح - يعنى الكسائىّ - الذى فسَّرت لك لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتمم الكلام فى سورة النساء. ألا ترى أنك حين قلت "لكن الراسخون فى العلم منهم - إلى قوله "والمقيمين - والمؤتون" كأنك منتظر لخبره وخبره فى قوله : {أُولئِك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} والكلام أكثره على ما وَصَف الكسائىّ. ولكن العرب إذا تطاولتِ الصفةُ جعلوا الكلام فى الناقص وفى التامّ كالواحد؛ ألا ترى أنهم قالوا فى الشعر:
حتى إِذا قَمِلت بطونُكُمُ * ورأيتُم أبناءكم شبُّوا
وقلبتم ظهر المِجَنِّ لنا * إنّ اللئِيم العاجزُ الخِبُّ
فجعل جواب (حتى إذا) بالواو، وكان ينبغى ألا يكون فيه واو، فاجتزئ بالإتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ ما وصفت لك.
ومثله فى قوله {حَتّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُها} ومثله وفى قوله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} جعل بالواو. وفى قراءة عبدالله "فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ" وفى قراءتنا بغير واو. وكلٌّ عربىّ حسن.

وقد قال بعضهم: "وآتى المال على حبهِ ذوِى القربى - والصابِرِين" فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نَصْبا على نيَّة المدح؛ لأنه من صفة شىء واحد. والعرب تقول فى النكرات كما يقولونه فى المعرفة فيقولون: مررت برجل جميل وشابّاً بعد، ومررت برجل عاقل وشَرْمَحاً طُوَالا؛ وينشدون قوله:
ويَأوِى إلى نِسوةٍ بائساتٍ * وشُعْثاً مراضِيعَ مِثل السَّعَالِى
(وَشُعْثٍ) فيجعلونها خفضا بإتباعها أوّل الكلام، ونصبا على نية ذمّ فى هذا الموضع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى...}
فإنه نزل فى حَيَّين من العرب كان لأحدهما طَوْل على الآخر فى الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مُهُور، فقَتَل الأوضع مِن الحيَّيْن من الشريف قَتْلى، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذَكَر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعِفوا الجِراحاتِ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذا على نبيّه، ثم نسخه قوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يُحكَم بها.

وأما قوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فإنه رَفْع. وهو بمنزلة الأمر فى الظاهر؛ كما تقول: مَنْ لقى العدوّ فصبرا واحتِسابا. فهذا نصب؛ ورفعه جائز. وقوله تبارك وتعالى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام؛ لأنها عامَّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل. فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشئ يقع ليس بدائم؛ مثل قولك للرجل: إذا أخذت فى عملك فجِدّاً جِدّاً وسَيْرا سيرا. نصبت لأنك لم تنوِ به العموم فيصير كالشىءِ الواجب على من أتاه وفعله؛ ومثله قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ومثله {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} ومثله فى القرآن كثير، رفع كله؛ لأنها عامّة. فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمَّا قوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} فإنه حثَّهم على القتل إذا لَقُوا العدوَّ؛ ولم يكن الحثّ كالشىء الذى يجب بفعلٍ قبله؛ فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا وصِدْقا عند تِلك الوقعة ( - قال الفرّاء: ذلك وتِلك لغة قريشٍ، وتميم تقول ذاك وتيكَ الوقعة - ) كأنه حثّ لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا، وليس شىء من هذا إلا نصبه جائز على أن توقِع عليه الأمر؛ فليصم ثلاثة أيَّامٍ، فليمسك إمساكا بالمعروف أو يسرّح تسريحا بإحسانٍ.

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...}
يقول: إذا علم الجانى أنه يُقتصّ منه: إن قَتَل قُتِل انتهى عن القتل فحيى. فذلك قوله: "حياة".

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ...}
معناه فى كلّ القرآن: فرِض عليكم.
وَقوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ...}
كان الرجل يوصى بما أحبّ مِن ماله لِمن شاء من وارثٍ أو غيره، فنسختها آيةُ المواريث. فلا وصِية لوارثٍ، والوصيَّة فى الثلث لا يجاوَز، وكانوا قبل هذا يوصى بماله كلّه وبما أحبَّ مِنه.
و "الوصِيَّة" مرفوعة بـ "كُتِب"، وإن شئت جعلت "كُتِب" فى مذهب قِيل فترفع الوصية باللام فى "الوالدين" كقوله تبارك وتعالى: {يوصِيكم الله فِى أولادِكم لِلذكر مِثل حظّ الأنثيين}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً...}
والعرب تقول: وصيَّتك وأوصيتك، وفى إحدى القراءتين "وأوصى بِها إبراهِيم" بالألف. والجنَف: الجَوْر. {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} وإنما ذكر الموصِى وحده فإنه أنما قال "بينهم" يريد أهل المواريث وأهل الوصايا؛ فلذلك قال "بينهم" ولم يذكرهم؛ لأن المعنى يدلّ على أن الصلح إنما يكون فى الورثة والموصَى لهم.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ...}

يقال: ما كُتب على الذين قبلنا، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفى غير شهرنا،؟ حدّثنا الفرّاء قال: وحدّثنى محمد بن أبان القرشى عن أبى أُمَيّة الطنافِسىّ عن الشّعْبىّ أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذى يُشَكّ فيه فيقال: مِن شعبان، ويقال: مِن رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحوّلوه إلى الفَصْل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه فى القيظ فعدّوه ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قَرْن منهم فأخذوا بالثقة فى أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخِر يستّن سُنَّة الأوّل حتى صارت إلى خمسين. فذلك قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}.

{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ...}
نصبت على أن كلّ ما لم تسمِّ فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحدا ونصبت الآخر؛ كما تقول: أُعطِى عبدُالله المال. ولا تبالِ أكان المنصوب معرفة أو نكرة. فإن كان الآخِر نعتا للأوّل وكانا ظاهرين رفعتهما جميعا فقلت: ضرِب عبدالله الظريف، رفعته؛ لأنه عبدالله. وإن كان نكرة نصبته فقلت: ضرِب عبدالله راكبا ومظلوما وماشيا وراكبا.
قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...}
رفع على ما فسرت لك فى قوله "فاتباع بالمعروفِ" ولوكانت نصبا كان صوابا.
وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ...}

يقال: وعلىالذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم مِسكينا مكان كل يومٍ يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه الفِدية يريد الفِداء، ثم نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الإطعام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ...}
رَفْع مستأنَف أى: ولكم "شهر رمضان" {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقرأ الحسن نصبا علىالتكرير "وان تصوموا" شهر رمضان "خير لكم" والرفع أجود. وقد تكون نصبا من قوله "كتِب عليكم الصيام" شهرَ رمضان" توقع الصِيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
وقوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} دليل على نَسْخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قضَى ذلك. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فى الإفطار فى السفر {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الصومَ فيه.
وقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ...}

فى قضاء ما أفطرتم. وهذه اللام فى قوله "وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" لام كَىْ لو ألْقِيت كان صوابا. والعرب تدخلها فى كلامها على إضمار فعلٍ بعدها. ولا تكون شرطا للفعل الذى قبلها وفيها الواو. ألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إلىّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إلىّ. فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن إلىّ جئتك. وهو فى القرآن كثير. منه قوله {ولِتصغى إليهِ أفئدة الذِين لا يؤمنون بالآخرة} ومنه قوله {وكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْموُقِنِينَ} لو لم تكن فيه الواو كان شرطا، على قولك: أريناه مَلَكُوت السموات ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها {ولِيكون مِن الموقنين} أريناه. ومنه (فى غير) اللام قوله {إِنّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ثم قال "وحِفْظاً" لولم تكنِ الواو كان الحفظ منصوبا بـ "زينا". فإذا كانت فيه الواو وليس قبله شىء يُنْسَق عليه فهو دليل على أنه منصوب بفعلٍ مضمرٍ بعد الحفظ؛ كقولك فى الكلام: قد أتاك أخوك ومكرِما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...}
قال المشركون للنبىّ صلى الله عليه وسلم: كيف يكون ربُّنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا أن بيننا وبينه سبع سمواتِ غِلظَ كلّ سماءٍ مسيرة خمسمائة عامٍ وبينهما مِثل ذلك؟ فأنزل الله تبارك وتعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أسمع ما يَدْعُون {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى} يقال: إنها التلبية.

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...}
وفى قراءة عبدالله "فلا رُفُوث ولا فسوق" وهو الجِماع فيما ذكروا؛ رفعته بـ "أحل لكم"؛ لأنك لم تسمّ فاعله.
وقوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ...}
يقول: عند الرُّخْصة التى نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم. وقوله {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} يقال: الولد، ويقال: "اتبِعوا" بالعيِن. وسئل عنهما ابن عباس فقال: سواء.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ...}
فقال رجل للنبىّ صلىالله عليه وسلم: أهو الخيط الأبيض والخيط الأسود؟ فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: "إنك لعريض القفا؛ هو الليل من النهار".

وقوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلىَ الْحُكَّامِ} وفى قراءة أبىّ "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بِالباطِلِ ولا تدلوا بِها إِلَى الحُكَّامِ" فهذا مِثْل قوله {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} معناه: ولا تكتموا. وإن شِئت جعلته إذا ألقيت منه "لا" نَصْبا على الصرفِ؛كما تقول: لا تسْرِقْ وتَصَدَّقَ. معناه: لا تجمع بين هذين كذا وكذا؛ وقال الشاعر:
لا تنه عن خُلُقٍ وتأتِىَ مِثله * عارٌ عليك إذا فعلتَ عظِيم
والجزم فى هذا البيت جائز أى لا تفعلن واحا من هذين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ...}
سئل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هو؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحلّ ديونكم وانقضاء عِدَد نسائكم.
وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا...}

وذلك أن أهل الجاهلية - ألا قريشا ومن ولدته قريش من العرب - كان الرجل منهم إذا أحرم فى غير أشهر الحج فى بيت مَدَرٍ أو شعَرٍ أو خِباءٍ نقب فى بيته نَقْبا مِن مُؤَخَّره فخرج منه ودخل ولم يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبِية والفساطِيطِ خرج مِن مُؤَخَّره ودخل منه. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرِم ورجل محرم يراه، دخل من باب حائطٍ فاتّبعه ذلك الرجل، فقال له: تنحّ عنى. قال: ولِم؟ قال دخلتَ من الباب وانت مُحْرِم. قال: إنى قد رضيت بسنَّتك وهَدْيك. قال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: "إِنى أحْمَس" قال: فإذا كنت أحمس فإنى أحمس. فوفّق الله الرجل، فأنزل الله تبارك وتعالى {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ...}
فهذا وجه قد قرأتْ به العامَّة. وقرأ أصحاب عبدالله "ولا تَقْتلوهم عِند المسجِد الحرام حتى يَقْتلوكم فيه، فإن قَتَلوكم فاقتلوهم" والمعنى ها هنا: فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول: قد قُتِل بنو فلان إذا قُتِل منهم الواحد. فعلى هذا قراءة أصحاب عبدالله. وكلّ حسن.
وقوله: {فإنِ انْتَهَوْا} فلم يبدءوكم {فلا عُدْوَانَ} على الذين انتهوا، إنما العُدْوان على من ظَلَم: على من بدأكم ولم ينته.

فإن قال قائل: أرأيت قوله {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالمِينَ} أعدوانٌ هو وقد أباحه الله لهم؟ قلنا: ليس بعُدْوان فى المعنى، إنما هو لفظ على مثل ما سبق قبله؛ ألا ترى أنه قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فالعدوان من المشركين فى اللفظ ظلم فى المعنى، والعدوان الذى أباحه الله وأمر به المسلمين إنما هو قِصَاص. فلا يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهُا} وليست مِن الله على مثل معناها من المسىء؛ لأنها جزاء.

{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ...}
وفى قراءة عبدالله "وأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إلى البيت لِلّهِ" فلو قرأ قارئ "والعمرةُ لله" فرفع العمرة لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حلّ من عمرته. والحج يأتى فيه عرفاتٍ وجميعَ المناسك؛ وذلك قوله {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ} يقول: أتِموا العمرة إلى البيت فى الحج إلى أقصى مناسكه.

{فَإنْ أُحْصِرْتُمْ} العرب تقول للذى يمنعه مِن الوصول إلى إتمامِ حَجّه أو عمرته خوف أو مرض، وكل ما لم يكن مقهورا كالحَبْس والسِّجْن (يقال للمريض): قد أُحْصر، وفى الحبس والقهر: قد حُصِر. فهذا فَرْق بينِهما. ولو نويت فى قهر السلطان أنها علَّة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أُحصر الرجل. ولو قلت فى المرض وشبهه: إن المرض قد حصره أو الخوف، جاز أن تقول: حُصِرتم. وقوله "وسَيِّدا وحصورا" [يقال] إنه المحصَر عن النساء؛ لأنها علَّة وليس بمحبوسٍ. فعلى هذا فابنِ.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...}
"ما" فى موضع رفع؛ لأن أكثر ما جاء من أشباهه فى القرآن مرفوع. ولو نصبت على قولك: أهدوا "ما استيسر".
وتفسير الهدْى فى هذا الموضع بَدَنة أو بقرة أو شاة.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهَدْىَ صام ثلاثة أيامٍ يكون آخِرها يوم عرفة، واليومان فى العَشْر، فأمّا السبعة فيصومها إذا رجع فى طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و "السبعة" فيها الخفض على الإتباع للثلاثة. وإن نصبتها فجائز على فعل مجدّد؛ كما تقول فى الكلام: لا بدّ من لقاء أخيك وزيدٍ وزيدا.
وقوله: {ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يقول: ذلك لمن كان من الغُرَباء من غير أهل مكَّة، فأمّا أهل مكة فليس ذلك عليهم. و "ذلِك" فى موضع رفع. وعلى تصلح فى موضع اللام؛ أى ذلك على الغرباء.

وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} معناه: وقتُ الحج هذه الأشهر. فهى وإن كانت "فى" تصلح فيها فلا يقال إلاّ بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البَردْ شهران، والحَرّ شهران، لا ينصبون؛ لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: {ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب. ووجه الكلام الرفع؛ لأن الاسم إذا كان فى معنى صِفةٍ أو محلّ قوِى إذا أسند إلى شىء؛ ألا ترى أن العرب يقولون: هو رجل دونَك وهو رجل دونٌ، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانِبٌ، والكفَّار جانب، فإذا قالوا: المسلمون جانِبَ صاحبِهم نصبوا. وذلك أن الصاحب يدلّ على محلّ كما تقول: نحوَ صاحبهم، وقُرْبَ صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلاّ تقيده قرب شىء أو بعده.
والأشهر المعلومات شوّالٌ وذو القَعْدة وعَشْر من ذى الحجة. والأشهر الحُرُم المحرَّم ورجب وذو القعدة وذو الحِجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ؛ لأن العرب إذا كان الوقت لشىء يكون فيه الحج وشِبهه جعلوه فى التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللّهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ} وإنما يتعجَّل فى يومٍ ونِصف، وكذلك هو فى اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شىء تامّ, وكذلك تقول العرب: له اليومَ يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعضُ آخرَ، وهذا ليس بجائزٍ فى غير المواقيت، لأن العرب قد تفعل الفِعْل فى أقلَّ من الساعة، ثم يوقعونه على اليوم وعلى العام والليالى والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقُتل فلان ليالىَ الحجَّاجُ أمير، لأنه لا يراد أوّل الوقت وآخِره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين).

وأما قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ} يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السِباب، والجدال المماراة {فِى الْحَجِّ} فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكلّ ذلك جائز. فمن نصب أتبع آخِر الكلام أوّلَه، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك فى غير القرآن؛ لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها بـ "لا" كان فيها وجهانِ، إن شئت جعلت "لا" معلَّقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون؛ لأن "لا" فى معنى صِلةٍ، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلَّقة فتنصبَ بلا نونٍ؛ قال فى ذلك الشاعر:
رأت إبلى برمل جَدُودَ أ[نْ] لا * مَقِيلَ لها ولا شِرْباً نَقُوعا
فنوَّن فى الشرب، ونوى بـ "لا" الحذف؛ كما قال الآخر:
فلا أبَ وابنا مِثلَُ مروان وابنِهِ * إذا هو بالمجدِ ارتدى وتأزّرا
وهو فى مذهبهِ بمنزلة المدعوّ تقول: يا عمرو والصَّلْتَ أقبِلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرٍو وفيه الألف واللام؛ لأنك نويت به أن يتبعه بلا نيَّة "يا" فى الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا زيد ويأيها الصَّلْتُ أقبِلاَ. فإن حذفت "يأيها" وأنت تريدها نصبت؛ كقول الله عز وجل {يَا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ} نصب الطير على جهتين: على نيَّة النداء المجدَّد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له "الطير" فتكون النية على سخرنا. فهو فى ذلك متبع؛ كقول الشاعر:
ورأيت زوجَكِ فى الوغى * متقلِّدا سيفا ورمحا
وإن شئت رفعت بعض التبرئة ونصبت بعضا، وليس مِن قراءة القراء ولكنه يأتى فى الأشعار؛ قال أميَّة:
فلا لَغْوٌ ولا تأْثِيمَ فِيها * وما فاهوا به لَهُمُ مقيم
وقال الآخَر:

ذاكم - وجَدِّكم - الصَّغَار بِعينهِ * لا أمَّ لِى إِن كان ذاك ولا أب
وقبله:
وإِذا تكونُ شدِيدةٌ أُدعَى لها * وإِذا يحاس الحَيْس يدْعى جُنْدب
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }

وقوله: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً...}
كانِت العرب إذا حجُّوا فى جاهلَّيتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدُهم أباه بأحسنِ أفاعِيلهِ: اللهمَّ كان يَصِل الرَحِم، ويَقْرِى الضيف. فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} فأنا الذى فعلت ذلك بِكم وبِهِم.
وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا...}
كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل والغنم فأنزل الله: "مِنهم من يسأل الدنيا فليس له فى الآخرة خَلاَق" يعنى نصيبا.

{ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

وقوله: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ...}
هى العَشْر [و] المعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق. فمِن المفسرين من يجعل المعدوداتِ أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات فإنهم يجعلونها يوم النحر ويومين من أيام التشريق؛ لأن الذبح إنما يكون فى هذه الثلاثة الأيام، ومِنهم من يجعل الذبح فى آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها العشر.

وقوله: {لِمَنِ اتَّقَى...}
يقول: قتل الصيدِ فى الحَرَم.

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }

وقوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ...}
كان ذلك رجلا يُعجب النبى صلى الله عليه وسلم حديثُه، ويُعلمه أنه معه ويحلف على ذلك فيقول: (الله يعلم). فذلك قوله "ويشهِد الله" أى ويستشهِد الله. وقد تقرأ "ويَشْهَدُ اللّهُ" رفع "على ما فِى قلبِهِ".
وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ...}
يقال للرجل: هو ألدّ من قوم لُدّ، والمرأة لدَّاء ونسوة لُدّ، وقال الشاعر:
اللدُّ أقرانُ الرجالِ اللُدِّ * ثم أُرَدِّى بِهِمُ مَنْ يَرْدِى
ويقال: ما كنتَ أَلَدَّ فقد لَدِدْتَ، وأنت تَلَدّ. فإذا غلبت الرجل فى الخصومة (قلت: لدَدته) فأنا ألُدّه لَدّاً.
وقول الله تبارك وتعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} نُصِبت، ومنهم من يرفع "ويهلكُ" رَفَع لا يردّه على "لِيفسِد" ولكنه يجعله مردودا على قوله: {ومِن الناسِ من يعجِبك قوله...ويهلِك} والوجه الأوّل أحسن.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }

وقوله: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ...}
مِن العرب من يقول: فسد الشىءُ فسودا، مثل قولهم: ذهب ذُهوبا وذهابا، وكسد كُسودا وكسادا.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...}
أى لا تتبعوا آثاره؛ فإنها معصية.

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }

وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ...}
رَفْع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض أهلِ المدينة. يريد "فى ظللٍ مِن الغمامِ وفى الملائكةِ". والرفع أجود؛ لأنها فى قراءة عبدالله "هل ينظرون إِلا أن يأتيهم الله والملائكة فى ظللٍ من الغمامِ".
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...}
لا تُهمز فى شىءٍ من القرآن؛ لأنها لو همزت كانت "اسْأَل" بألفٍ. وإنما (ترك همزها) فى الأمر خاصَّة؛ لأنها كثيرة الدَّوْر فى الكلام؛ فلذلك ترك همزه كما قالوا: كُلْ، وخُذْ، فلم يهمِزوا فى الأمر، وهمزوه فى النهى وما سِواه. وقد تهمزه العرب. فأمَّا فى القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزَّيات يهمز الأمر إذا كانت فيه الفاء أو الواو؛ مثل قوله: {واسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِى كُنَّا فِيهَا} ومثل قوله: {فاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} ولست أشتهى ذلك؛ لأنها لو كانت مهموزة لكُتبت فيها الألف كما كتبوها فى قوله {فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً}, {واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} بالألف.
وقوله: {كَمْ آتَيْنَاهُم...}
معناه: جئناهم به [من آية]. والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا ألقَوُا الباء قالوا: آتيتك آية؛ كما جاء فى الكهف "آتِنا غداءنا" والمعنى: ايتنا بغدائِنا.

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...}
ولم يقل "زُينت" وذلك جائز، وإنّما ذُكِّر الفعل والاسم مؤنث؛ لأنه مشتّق من فعل فى مذهب مصدر. فمن أَنَّث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكَّر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى} و {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} ، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} على ما فسَّرت لك. فأمَّا فى الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكِّر فعلَ مؤنَّثٍ إلا فى الشعر لضرورته. وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فِعلٍ، ويكون فيه معنى تأنيثٍ وهو مذكَّر فيجوز فيه تأنيث الفِعل وتذكيره على اللفظ مرَّة وعلى المعنى مرَّة؛ من ذلك قوله عزَّ وجلَّ {وكذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَق} ولم يقل "كَذَّبَتْ" ولو قِيلت لكان صوابا؛ كما قال {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} و {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} ذهب إلى تأنيثِ الأُمّة، ومثله من الكلام فى الشعر كثير؛ منه قول الشاعر:
فإن كِلاباً هذهِ عَشْرُ أَبطنٍ * وأَنت برِئ مِن قبائِلِها العَشْرِ
وكان ينبغى أن يقول: عشرة أبطنٍ؛ لأن البطن ذَكَر، ولكنه فى هذا الموضع فى معنى قبيلة, فأنّث لتأنيث القبيلة فى المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائِع فى مُضَرٍ تِسعة * وفى وائلٍ كانتِ العاشِره

فقال: تِسعة، وكان ينبغى له أن يقول: تِسع؛ لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام؛ لأن العرب تقول فى معنى الوقائع: الأيام؛ فيقال هو عالم بأيَّام العرب، يريد وقائعها. فأمّا قول الله تبارك وتعالى: {وجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فإنه أريد به - والله أعلم -: جُمِع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكّر فِعْل الشمس لأن الوقوف لا يحسن فى الشمس حتى يكون معها القمر بشىءٍ، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائزٍ، وإن شئت ذكَّرته؛ لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث، والعرب ربما ذكَّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفرّاء: أنشدنى بعضهم:
فهِى أَحوى مِن الربعِىّ خاذِلة * والعَين بالإثمد الحارِىّ مكحول
ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التى أنبأتك بها. قال: وأنشدنى بعضهم:
فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها * ولا أَرضَ أَبْقَل إبقالها
قال: وأنشدنى يونس - يعنى النحوىّ البصرىّ - عن العرب قول الأعشى:
إِلى رجلٍ مِنهم أَسِيفٍ كأنما * يضمّ إلى كَشْحَيهِ كفَّا مخضبا
وأمَّا قوله: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلمَّا لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض فى البيتين. ومِن العرب من يذكّر السماء؛ لأنه جَمْع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال: وأنشدنى بعضهم:

فلو رَفَع السماءُ إليهِ قوما * لحِقنا بالسماءِ مع السحابِ
فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادِر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنّى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكَّرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قالوا: يُذْهب به إلى المعنى، وهو فى التقديم والتأخير سواء؛ قال الشاعر:
فإن تعهدِى لامرِئ لِمَّةَ * فإن الحوادِث أَزْرَى بِها

ولم يقل: أزرين بها ولا أزْرت بها. والحوادث جَمْع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحَدَثانِ. وكذلك قال الآخر:
هنِيئا لِسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتِى * بِناقةِ سعدٍ والعشِيَّةُ باردُ
كأن العشية فى معنى العشِىّ؛ ألا ترى قول الله {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضُمِّنا * قبرا بِمَرْوَ على الطرِيقِ الواضح
ولم يقل: ضُمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان لِلهاءِ التى فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحَدَثانِ إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحَدَثانُ؟ قلت نعم؛ أنشدنى الكسائى:
ألا هَلَك الشِهاب المستنير * ومِدْرَهُنا الكَمىُّ إذا نغِير
وحَمَّال المئِين إذا ألمّت * بنا الحَدَثانُ والأَنفِ النَصُور
فهذا كافٍ مِما يُحتاج إليه من هذا النوع. وأما قوله: {وإِنّ لكم فِى الأنعامِ لعِبرة نسقِيكم مِما فِى بطونِهِ} ولم يقل "بطونِها" والأنعام هى مؤنثة؛ لأنه ذهب به إلى النَعَم والنَعَم ذَكَر وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتى فى المعنى على معنى الجمع؛ كما قال الشاعر:
إذا رأيت أنْجُما مِن الأَسَدْ * جَبْهتَهُ أو الخَرَاتَ والكَتَدْ
بال سُهَيلٌ فى الفَضِيخِ ففسدْ * وطاب أَلبانُ الِلقاحِ فبردْ
ألا ترى أن اللبن جمع يكفى مِن الألبان. وقد كان الكسائىّ يذهب بتذكيرِ الأنعام إلى مثلِ قول الشاعر:
ولا تَذْهَبْن عيناكِ فى كل شَرْمَح * طُوَالٍ فإن الأقصرين أمازِرُهْ

ولم يقل: أمازِرُهُمْ، فذَكَّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقَّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة؛ فلذلك قالت العرب: هو أحسن الرجلين وأجمله؛ لأن ضمير الواحد يصلح فى معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل فى الاثنين، وكذلك قولك هى أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شىء فى النساء، ومن قال: وأجملهن أخرجه على اللفظ؛ واحتجَّ بقول الشاعر:
* مثل الفِراخ نَتَقَتْ حواصله *
ولم يقل حواصلها. وإنما ذكَّر لأن الفراخ جمع لم يُبْن على واحده، فجاز أن يُذْهَب بالجمع إلى الواحد. قال الفرَّاء: أنشدنى المفضَّل:
ألا إن جيرانى العشيةَ رائح * دعتهم دواعٍ من هوى ومنازِحُ
فقال: رائح ولم يقل رائحون؛ لأن الجيران قد خرج مَخْرَج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحدِهِ.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز, لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحده. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز؛ لأن صورة الواحدة فى الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندى عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندى عشرون جِيادا فينصبون الجياد؛ لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يُفعل ذلك بالصالحين؛ قال عنترة:
فيها اثنتانِ وأربعون حَلُوبةً * سُوداً كخافِيةِ العرابِ الأسحمِ
فقال: سودا ولم يقل: سُود وهى من نعت الاثنتين والأربعين؛ للعِلة التى أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء "زَيَّن لِلذِين كفروا الحياةَ الدنيا" ويقال إنه مجاهد فقط.

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ...}
ففيها معنيان؛ أحدهما أن تجعل اختلافهم كفر بعضِهم بكتابِ بعضٍ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} للإيمان بما أُنزل كلِّه وهو حقّ. والوجه الآخر أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدِّلت التواراة. ثم قال {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} به للحق مما اختلفوا فيه. وجاز أن تكون اللام فى الاختلاف ومِن فى الحق كما قال الله تعالى: {ومثل الذِين كفروا كمثلِ الذِى ينعِق} والمعنى - والله أعلم - كمثل المنعوق به؛ لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: {صُمّ بكم عمى} كمثلِ البهائِم، وقال الشاعر:
كانت فريضةَ ما تقول كما * كان الزِناءُ فريضةَ الرجمِ
وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
إن سِراجا لكريم مفخره * تَحْلَى بِه العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُهْ
والعين لا تحلى إنما يحلى بها سِرَاج، لأنك تقول: حَلِيتَ بعينى، ولا تقول حَلِيَتْ عينى بك إلاّ فى الشعر.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }

وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ...}
استفهم بِأم فى ابتداءٍ ليس قبله ألِف فيكونَ أم رَدّاً عليه, فهذا مما أعلمتك أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتّصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام؛ كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز ها هنا أن تقول: أم عندك خير. ولو قلت: أنت رجل لا تنصِف أم لك سلطان تُدِلّ به، لجاز ذلك؛ إذ تقدَّمه كلام فاتّصل به.
وقوله: {أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [معناه: أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثلُ ما أصاب الذين قبلكم] فتُختَبروا. ومثله: {أم حسِبتم أن تدخلوا الجنة ولَمّا يعلمِ الله الذِين جاهدوا مِنكم ويَعْلَمَ الصابِرين} وكذلك فى التوبة {أَمْ حسِبتم أن تُتْرَكُوا ولَمّا يَعْلَمِ الله الذِين جاهدوا منكم}.
وقوله: { وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ...}
قرأها القرّاء بالنصب إلا مجاهدا وبعض أهل المدينة فإنهما رفعاها. ولها وجهان فى العربية: نصب، ورفع. فأمّا النصب فلأن الفعل الذى قبلها مما يَتطاول كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نُصِب بعده بحتَّى وهو فى المعنى ماضٍ. فإذا كان الفعل الذى قبل حتى لا يتطاول وهو ماضٍ رُفع الفعل بعد حتّى إذا كان ماضيا.
فأمّا الفعل الذى يَتطاول وهو ماضٍ فقولك: جَعَل فلان يديم النظر حتى يعرفك؛ ألا ترى أن إِدامة النظر تطول. فإذا طال ما قَبْل حتَّى ذُهِب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدنى [بعض العرب وهو] المفضَّل:
مَطَوتُ بهم حتَّى تَكِلّ غُزَاتهم * وحتّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأَرسان

فنصب (تكِلّ) والفعل الذى أدّاه قبل حتَّى ماض؛ لأنّ المَطْو بالإبل يتطاول حتى تكلّ عنه. ويدلّك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حتى كلّت غُزَاتهم. فبِحُسْن فَعَل مكان يفعل تعرف الماضى من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فَعَل؛ ألا ترى أنك لا تقول: أضرِب زيدا حتى أقَرَّ، لأنك تريد: حتى يكون ذلك منه.
وإنما رَفَع مجاهد لأنّ فَعَل يحسُن فى مثله من الكلام؛ كقولك: زُلزِلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكِسائىّ قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب. وهى فى قراءة عبدالله: "وزلزِلوا ثم زلزِلوا ويقول الرسول" وهو دليل على معنى النصب. ولحتى ثلاثة معان فى يفعل، وثلاثة معان فى الأسماء. فإذا رأيت قبلها فَعَل ماضيا وبعدها يفعل فى معنَى مُضِىّ وليس ما قبل (حتّى يفعل) يطول فارفع يفْعَل بعدها؛ كقولك جئت حتى اكونُ معك قريبا. وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأوّل، فيقولون: سرت حتى يدخلَها زيد، فزعم الكسائىّ أنه سمع العرب تقول: سرنا حتى تطلعُ لنا الشمس بزُبالة، فرفع والفعل للشمس، وسَمع: إنا لجلوس فما نَشْعُرُ حتى يسقطُ حَجَر بيننا، رفعا. قال: وأنشدنى الكسائى:
وقد خُضْن الهَجِير وعُمْن حتى * يفرّج ذاك عنهنّ المَسَاءُ
وأنشدَ (قول الآخر):
ونُنكِر يوم الروع ألوانَ خيلِنا * من الطعن حتى نحسب الجَوْن أشقرا
فنصب ها هنا؛ لأنّ الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثانى من باب حتى.

وذلك أن يكون ما قبل حتى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فيه وهو ماضٍ فى المعنى أحسنَ من فَعَل، فنصب وهو ماضٍ لِحُسْن يفعل فيه. قال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: إنّ البعير ليهرَم حتى يجعلَ إذا شرب الماء مجَّه. وهو أمر قد مضى، و(يجعل) فيه أحسن من (جعل). وإنما حسنت لأنها صفة تكون فى الواحد على معنى الجميع، معناه: إنّ هذا ليكون كثيراً فى الإبِل. ومثله: إنّ الرجل ليتعظَّم حتى يمرّ فلا يسلم على الناس. فتنصب (يمرّ) لحسن يفعل فيه وهو ماضٍ؛ وأنشدنى أبو ثَروْان:
أحِبّ لِحبّها السودان حتى * أحِبَّ لحبّها سُودَ الكلابِ
ولو رَفع لمِضيه فى المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بنى أَسَد رفعا. فإذا أدخلت فيه "لا" اعتدل فيه الرفع والنصب؛ كقولك: إنّ الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك سِرّا، ترفع لدخول "لا" إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.
ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت "لا" فى قول الله تبارك وتعالى: {وحسِبوا ألاّ تكون فِتنة} رفعا ونصبا. ومثله: "أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعَ إليهِم قولا ولا يَمْلِك لهم ضُرّا ولا نفعا" يُنصَبان ويُرفَعان، وإذا أَلقيت منه "لا" لم يقولوه إلاّ نصبا؛ وذلك أنّ "ليس" تصلح مكان "لا" فيمن رفع بِحتَّى وفيمن رفع بـ "أَنْ"؛ ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا، وتقول فى "أَن": حسبت أن لست تذهب فتخلّفتُ. وكلّ موضع حَسُنت فيه "ليس" مكان "لا" فافعَلْ به هذا: الرفع مرّة، والنصب مرّة. ولو رُفع الفعل فى "أن" بغير "لا" لكان صوابا؛ كقلوك حسبت أن تقولُ ذاك؛ لأنّ الهاء تحسن فى "أن" فتقول حسبت أنه يقول ذاك؛ وأنشدنى القاسم بن مَعْنٍ:
إنى زَعيم يا نُوَيْـ * قَةُ إن نَجوتِ مِن الزَوَاحِ
وسلِمتِ مِن عَرضِ الحُتُو * فِ مِن الغُدوّ إِلِى الرواحِ
أن تهبِطين بِلاد قو * م يَرتَعُون مِن الطِلاحِ
فرفع (أن تهبِطين) ولم يقل: أن تهبِطى.

فإذا كانت "لا" لا تصلح مكانها "ليس" فى "حتى" ولا فى "أن" فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حتى لا أحكم أمرك. ومثله فى "أن": أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز ههنا الرفع.
والوجه الثالث فى يفعل مِن "حتى" أن يكون ما بعد "حتى" مستقبلا، - ولا تبالِ كيف كان الذى قبلها - فتنصب؛ كقول الله جل وعز {لَنْ نَبْرَحَ عليهِ عاكِفين حَتَّى يَرْجِعَ إِلينا مُوسى}، و {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أبِى} وهو كثير فى القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة فى الأسماء فأن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شىء يشاكِلُه يصلح عطفُ ما بعد حتّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شىء. فالحرف بعد حتّى مخفوض فى الوجهين؛ مِن ذلك قول الله تبارك وتعالى {تَمَتَّعُوا حتى حِينٍ} و {سَلاَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلعِ الفجر} لا يكونان إلا خفضا؛ لأنه ليس قبلهما اسم يُعطف عليه ما بعد حتى، فذُهِب بحتى إلى معنى "إلى". والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاءِ أو الخميسِ، خفضا لا غير، وأضمن القوم حتى الاربعاءِ. والمعنى: أن أضمن القوم فى الأربعاء؛ لأنّ الأربعاء يوم من الأيام, وليس بمشاكِل للقوم فيعطفَ عليهم.

والوجه الثانى أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتى بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى؛ فإن كانت الأسماء التى بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل حتى؛ من ذلك: قد ضُرِب القوم حتى كبيرُهم، وحتى كبيرِهم، وهو مفعول به، فى الوجهين قد أصابه الضرب. وذلك أنّ إِلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه؛ من ذلك أن تقول: أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى: الأيام تُصام كلها حتى يومِ الفطر وأيامِ التشريق. معناه يمسَك عن هذه الأيامِ فلا تُصام. وقد حسنت فيها إِلى.
والوجه الثالث أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شىء مما أصاب ما قبلَ حتّى؛ فذلك خفض لا يجوز غيره؛ كقولك: هو يصوم النهار حتى الليلِ، لا يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حتى رأسِها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفصا.
وأمّا قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كُلَيْب تَسُبُّنِى * كأَنّ أباها نَهْشَل أو مُجاشِع
فإنّ الرفع فيه جيّد وإن لم يكن قبله اسم؛ لأنّ الأسماء التى تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتى من المواقيت؛ كقولك: أقِم حتى الليلِ. ولا تقول أضرب حتى زيدٍ؛ لأنه ليس بوقت؛ فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهِه، فرفع بفعله، فكأنه قال: يا عجبا أتسُّبنى اللئام حتى يسبنى كليبىّ. فكأنه عطفه على نيّة أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا فى كليبٍ ما توهموا فى المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليبٍ، كأنه قال: قد انتهى بى الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال: تسبنى.

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...}
تجعل "ما" فى موضع نصبِ وتوقِع عليها "ينفِقون", ولا تنصبها بـ (يَسْألونك) لأنّ المعنى: يسألونك أىَّ شىء ينفقون. وإن شِئت رفعتها من وجهين؛ أحدهما أن تجعل "ذا" اسما يرفع ما, كأنك قلت: ما الذى ينفقون. والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذى؛ فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟ فى معنى: من الذِى يقول ذاك؟ وأنشدوا:
عَدَسْ ما لِعبّادٍ عليكِ إِمارة * أَمِنْتِ وهذا تحمِلين طَلِيق
كأنه قال: والذى تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كلّ استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا؛ لأنّ الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الذى؛ إذ لم يعمل فيه الفعل الذى يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الذى ضربت أخوك، فيكون الذِى في موضع رفع بالأَخِ، ولا يقع الفعل الذى يليها عليها. فإذا نويت ذلك رفعت قولَه: {قلِ العفو كذلك}؛ كما قال الشاعر:
ألا تسأَلانِ المرء ماذا يُحاوِل * أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أم ضَلالٌ وباطِل
رفع النحب؛ لأنه نوى أن يجعل "ما" فى موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضى أم ضلالا وباطلا كان أبين فى كلام العرب. وأكثر العرب تقول: وأيُّهم لم أضرب وأيُّهم إلاّ قد ضربت رفع؛ للعلّة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألاّ يسبقها شىء.
ومما يشبه الاستفهام مما يُرفع إذا تأخَّر عنه الفعل الذى يقع عليه قولهم: كلُّ الناس ضربت. وذلك أن فى (كلّ) مِثْل معنى هل أحدٌ [إلاّ] ضربت، ومثل معنى أىُّ رجل لم أضرب، وأىُّ بلدة لم أدخل؛ ألا ترى أنك إذا قلت: كلُّ الناس ضربت؛ كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدنى أبو ثَرْوان:

وقالوا تعرَّفْها المنازلَ ممن مِنىً * وما كُلُّ من يغشى مِنىً أنا عارف
رفعا، ولم أسمع أحدا نَصَب كل. قال: وأنشدونا:
وما كُلُّ مَنْ يَظَّنُّنِى أنا مُعتِب * وما كُلُّ ما يُرْوَى علىَّ أقول
ولا تتوهَّم أنهم رفعوه بالفعل الذى سبق إليه؛ لأنهم قد أنشدونا:
قد عَلِقَت أُمّ الخيار تدَّعى * علىَّ ذنبا كُلُّه لم أصنع
رفعا. وأنشدنى أبو الجرَاح:
أرَجَزا تريد أم قريضا * أم هكذا بينهما تعريضا
* كلاهما أجِدُ مستريضا *
فرفع كُلاّ وبعدها (أجد)؛ لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هيّنا مستريضا. ويدلّك على أن فيه ضمير جحد قولُ الشاعر:
فكلهمُ جاشاك إلا وجدته * كعين الكذوب جهدها واحتفالها
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...}
وهى فى قراءة عبدالله "عن قتال فيه" فخفضته على نيّة (عن) مضمرة. {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ففى الصدّ وجهان: إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به. وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا؛ تريد: قل القتال فيه كبير؛ وكبير الصدّ عن سبيل الله والكفر به.

{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مخفوض بقوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد. فقال الله تبارك وتعالى: {وإِخراج أَهلِه} أهِل المسجد {مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} من القتال فى الشهر الحرام. ثم فسَّر فقال تبارك وتعالى: {وَالْفِتْنَةُ} - يريد الشرك - أَشدُّ من القتال فيه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

قوله: {قُلِ الْعَفْوَ...}
وجهُ الكلام فيه النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فَضْل المال [قد] نسخته الزكاة [تقول: قد عفا].
{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى...}

يقال للغلام يَتم ييتْمَ يُتْماً ويَتْماً. قال: وحُكِى لى يَتَم يَيْتِم. {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ترفع الإخوان على الضمير (فهم)؛ كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته كان صوابا؛ يريد: فإخوانَكم تخالطون، ومثله {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانُكم فى الدِينِ وموالِيكم} ولو نصبت ههنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم). وفى قراءة عبدالله "إِن تغذِّبْهُمْ فعِبادُكَ" وفى قراءتنا "فإنَّهم عبادك" وإنما يُرفع مِن ذا ما كان اسما يحسن فيه "هو" مع المرفوع. فإذا لم يحسن فيه "هو" أجريته على ما قبله؛ فقلت: إن اشتريت طعاما فجيِّدا، أى فاشترِ الجَّيد، وإن لبِست ثيابا فالبياضَ؛ تنصب لأن "هو" لا يحسن ههنا، والمعنى فى هذين ههنا مخالف للأوّل؛ ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جُحِدوا، ولا تجد كلّ ما يُلْبَس بياضا، ولا كلّ ما يشترى جَيّدا. فإن نويت أن ماولى شراءه فجيّد رفعت إذا كان الرجل قد عُرِف بجوْدَة الشراء وبلبوس البياض. وكذلك قول الله {فإن خفتم فرِجالا} نصب؛ لأنه شىء ليس بدائم، ولا يصلح فيه "هو" ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تُصَلُّوا قياما فصَلّوا رِجَالا أو ركبانا [رجالا يعنى: رجَّالة] فنُصِبا لأنهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} المعنى فى مثله من الكلام: الله يعلم أيُّهم يُفْسد وأيُّهم يُصلح. فلو وضعت أيّا أو مَنْ مكان الأوّل رفعته، فقلت: أنا أعلم أيُّهم قام مِن القاعد، قال [الفرّاء] سمعت العرب تقول: ما يعرِف أىّ مِن أىّ. وذلك أن (أىّ) و (مَن) استفهامان، والمفسد خبر. ومثله ما أبالى قيامَك أو قعودَك، ولو جعلت فى الكلام استفهاما بطل الفعل عنه فقلت: ماأبالى أقائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتّصل الفعل بما قبله فانتصب. والاستفهام كله منقطع مما قبله لِخلقة الابتداء به.
وقوله: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ...}

يقال: قد عَنِت الرجل عَنَتا، وأعنته الله إعناتا.

{ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

وقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ...}
يريد: لا تَزَوّجوا. والقُرَّاء على هذا. ولو كانت: ولا تُنْكِحوا المشركاتِ أى لا تُزوّجوهن المسلمين كان صوابا. ويقال: نكَحها نَكْحا ونِكاحا.
وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ...}
كقوله: وإن أعجبتكم. ولَوْ وإنْ متقارِبان فى المعنى. ولذلك جاز أن يجازَى لَو بجواب إِنْ، إِن بجواب لَوْ فى قوله: {ولئن أَرْسَلْنا رِيحاً فَرأَوْه مُصْفَراً لظَلُّوا من بعدِه يَكْفُرون}. وقوله: "فرأَوه" يعنى بالهاء الزَّرعَ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }

وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ...}
بالياء. وهى فى قراءة عبدالله إن شاء الله "يتطهرن" بالتاء، والقُرَّاء بعدُ يقرءون "حتى يَطْهُرن، وَيطَّهَّرن" [يَطْهُرْنَ]: ينقطع عنهن الدم، ويتطهرن: يغتسلن بالماء. وهو أحبُّ الوجهين إلينا: يطَّهَّرن.

{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ولم يقل: فى حَيْثُ، وهو الفرج. وإنما قال: من حيث كما تقول للرجل: اِيت زيدا من مأتاه من الوجه الذى يؤتى منه. فلو ظهر الفرج ولم يُكْنَ عنه قلت فى الكلام: اِيتِ المرأة فى فرجها. {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقال: اِيت الفرج من حيث شئت.

{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...}
[أى] كيف شئتم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى شيخ عن ميمون بن مِهران قال قلت لابن عباس: إن اليهود تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من ورائها فى قُبُلها خرج الولد أحول. قال فقال ابن عباس: كذبتْ يهودُ {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يقول: اِيت الفرج من حيث شئت.

{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ...}
يقول: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا معترِضا {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} يقول: لا يمتنعنَّ أحدُكم أن يَبرَّ ليمين إن حلف عليها، ولكن لِيكفّرْ يمينه ويأت الذى هو خير.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

وقوله: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ...}

فيه قولان. يقال: هو ممَّا جرى فى الكلام من قولهم: لا والله، وبلى والله. والقول الآخر: الأيمان أربع. فيمينان فيهما الكفَّارة والاستغفار، وهو قولك: والله لا أفعل، ثم تفعل، ووالله لأفعلنَّ ثم لا تفعل. ففى هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما مستقبل]. واللتان فيهما الاستغفار ولا كفَّارة فيهما قولك: والله ما فعلتُ وقد فعلتَ، وقولك: والله لقد فعلتُ ولم تفعل. فيقال هاتان لَغْو؛ إذ لم تكن فيهما كفَّارة. وكان القول الأوّل - وهو قول عائشة: إن اللغو ما يجرى فى الكلام على غير عَقْد - أشبهَ بكلام العرب.

{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ...}
التربّص إلى الأربعة. وعليه القرّاء. ولو قيل فى مثله من الكلام: تَربُّصٌ أربعةَ أشهر كان صوابا كما قرءوا "أو إِطعامٌ فى يومٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يتيما ذا مقربة" وكما قال {أَلَم نجعلِ الأَرْض كِفَاتاً أحياء وأمواتا} والمعنى تكفتهم أحياء وأمواتا. ولو قيل فى مثله من الكلام: كِفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ كان صوابا. ولو قيل: تربصٌ: أربعةُ أشهر كما يقال فى الكلام: بينى وبينك سير طويل: شهر أو شهران؛ تجعل السير هو الشهر، والتربّص هو الأربعة. ومثله {فشهادةُ أَحدِهِم أَرْبَعُ شهادات} وأَربعَ شهادات. ومثله {فجزاء مِثل ما قتل من النعم} فمن رفع (مثل) فإنه أراد: فجزاؤه مثلُ ما قتل. قال: وكذلك رأيتها فى مصحف عبد الله "فجزاؤه" بالهاء، ومن نصب (مثل) أراد: فعليه أن يَجزِى مِثْلَ ما قَتَل من النَّعَم.
{فإن فاءوا} يقال: قد فاءوا يفيئون فَيْئا وفُيُوءا. والفىء: أن يرجع إلى أهله فيجامع.

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ...}
وفى قراءة عبدالله "بردتهن".
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ...}
وفى قراءة عبدالله "إلا أَنْ تخافوا" فقرأها حمزة على هذا المعنى "ألا أَنْ يُخافا" ولا يعجبنى ذلك. وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهى فى قراءة أبّىً "إِلا أَنْ يَظنَّا أَلاَّ يُقيِمَا حُدُودَ الله" والخوف والظنّ متقاربان فى كلام العرب. من ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك، والمعنى واحد. وقال الشاعر:

أتانى كلامَ عن نُصَيب بقوله * وما خفتُ يا سلاَّم أنك عائبى
وقال الآخر:
إذا مت فادفنّى إلى جَنْب كَرْمة * تُرَوِّى عظامى بعد موتى عروقها
[ولا تدفنَنِّى فى الفلاة فإننى * أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقُها]
والخوف فى هذا الموضع كالظنّ. رفع "أذوقُها" كما رفعوا {وحَسِبُوا ألا تكون فِتنة} وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم "أُمِرتُ بالسواك حتى خفت لأَدْرَدَنَّ" كما تقول: ظَنَّ ليذهبنَّ.
وما ما قال حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبدالله فلم يصبه - والله أعلم - لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن؛ ألا ترى أن اسمهما فى الخوف مرفوع بما لم يسمَّ فاعله. فلو أراد ألاَّ يُخاف على هذا ، أو يُخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير اعتبار قول عبدالله [كان] جائزا؛ كما تقول للرجل: تُخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك....
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يقال كيف قال: فلا جناح عليهما، وإنما الجناح - فيما يذهب إليه الناس - على الزوج لأنه أخَذ ما أعطَى؟ ففى ذلك وجهان:

أن يراد الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذُكِرا جميعا؛ فى سورة الرحمن {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح لا من العذب. ومنه "نَسِيَا حُوتَهُما" وأنما الناسى صاحب موسى وحده. ومثله فى الكلام أن تقول: عندى دابَّتان أركبهما وأستقى عليهما، وإنما يُركب إحداهما ويُستقَى على الأخرى؛ وقد يمكن أن يكونا جميعا تُركبان ويُستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التى يحتجّ بسعتها. ومثله من كتاب الله {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جعل لكم الليل والنهار لِتسكنوا فِيهِ ولتبتغوا مِن فضله} فيستقيم فى الكلام أن تقول: قد جعل الله لنا ليلا ونهارا نتعيَّش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيُّش إلى النهار.
والوجه الآخر أن يشتركا جميعا فى ألاَّ يكون عليهما جُناح؛ إذ كانت تعطِى ما قد نُفى عن الزوج فيه الإثم، أُشركت فيه لأنها إذا أعطت ما يُطرح فيه المأثم احتاجت هى إلى مثل ذلك. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {فمن تعجَّلَ فى يومين فلا إِثم عليهِ ومن تأخَّر فلا إِثم عليهِ} وإنما موضع طرح الإثم فى المتعجِّل، فجعل للمتأخّر - وهو الذى لم يقصِّر - مثلُ ما جعل على المقصِّر. ومثله فى الكلام قولك: إن تصدَّقت سِرّاً فحسن [وإن تصدّقت جهرا فحسن].
وفى قوله {ومن تأخّر فلا إِثم عليهِ} وجه آخر؛ وذلك أن يريد: لا يقولنّ هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصِّر، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله {فلا إِثم عليهِ} أى فلا يؤثِّمَنَّ أحدُهما صاحبَه.
وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} يريد: فلا جناح عليهما فى أن يتراجعا، (أَن) فى موضع نصب إذا نُزِعت الصفة، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائىّ يقول: موضعه خفض. قال الفرّاء: ولا أعرف ذلك.
وقوله: {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا} (أن) فى موضع نصب لوقوع الظنّ عليها.

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ...}
كان الرجل منهم إذا طلَّق امرأته فهو أحقّ برَجْعتها ما لم تغتسل من الحَيْضة الثانية. وكان إذا أراد أن يُضِرّ بها تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة ثم يراجعها، ويفعل ذلك فى التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضِرار بها.

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ...}
يقول: فلا تضيِّقوا عليهنّ أن يراجعن أزواجهنّ بمهر جديد إذا بانت إحداهنّ من زوجها، وكانت هذه أخت معقِل، أرادت أن تزوّج زوجها الأوّل بعدما انقضت عدّتها فقال مَعْقِل لها: وجهى من وجهِك حرام إن راجعتِه، فأنزل الله عز وجل: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}.

وقوله {ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ} ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم "بذلك" لأنه حرف قد كثر فى الكلام حتى تُوُهّم بالكاف أنها(من الحرف) وليست بخطاب. ومن قال "ذلك" جعل الكاف منصوبة وإن خاطب امرأة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال "ذلكم" أسقط التوهّم، فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلكِ الرجل، وذالِكِ الرجلان، وأولئِك الرجال. [و] يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول فى سائر الأسماء إذا خاطبت إلا بإخراج المخاطب فى الاثنين والجميع والمؤنَّث؛ كقولك للمرأة: غلامِك فعل ذلك؛ لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها فى الغلام؛ لأن الكاف ههنا لا يتوهَّم أنها من الغلام. ويجوز أن تقول: غلامِك فعل ذاكِ وذاكَ، على ما فسَّرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقوله: {الرَّضَاعَةَ...}
القرّاء تقرأ بفتح الراء. وزعم الكسائىّ أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهى بمنزلة الوِكالة والوَكالة, والدِّلالة والدَّلالة, ومهرت الشىء مِهارة ومَهارة؛ والرَّضاع والرِّضاع فيه مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحِصاد والحَصاد.

وقوله {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يريد: لا تضارّرْ، وهو فى موضع جزم. والكسر فيه جائز "لا تضارِّ والدة" ولا يجوز رفع الراء على نيَّة الجزم، ولكن نرفعه على الخبر. وأمّا قوله {وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يضرُّكم كَيْدُهُمْم شَيْئا} فقد يجوز أن يكون رفعا على نيَّة الجزم؛ لأن الراء الأوّلى مرفوعة فى الأصل، فجاز رفع الثانية عليها، ولم يجز (لا تضارُّ) بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعَل فهى مفتوحة، وإن كانت تفاعِل فهى مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون فى معنى رفع. وقد قرأ عمر بن الخطَّاب "ولا يضارَرْ كاتِب ولا شهيد".
ومعنى {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يقول: لا يُنزَعنّ ولدها منها وهى صحيحة لها لبن فيدفَع إلى غيرها. { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} يعنى الزوج. يقول: إذا أَرضعت صبيَّها وألِفها وعرفها فلا تضارَّنَّ الزوجَ فى دفع ولده إليه.

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ...}

يقال: كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغى أن يكون الخبر عن (الذين)؟ فذلك جائز إذا ذكِرت أسماء ثم ذُكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأوّل ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك؛ لأن المعنى - والله أعلم - إنما أريد به: ومن مات عنها زوجها تربصتْ. فترِك الأوّل بلا خبر، وقُصِد الثانى؛ لأن فيه الخبر والمعنى. قال: وأنشدنى بعضهم:
بنى أسَد إنّ ابن قيس وقتلَه * بغير دم دارُ المذَلَّة حُلَّت
فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذُلّ. ومثله:
لعلِّىَ إن مالت بِىَ الرِّيح مَيْلة * على ابن أبى ذِبَّان أن يتندَّما
فقال: لعلِّى ثم قال: أن يتندما؛ لأن المعنى: لعلَّ ابن أبى ذبَّان أن يتندّم إِن مالت بى الريح. ومثله قوله: {والذِين يتوفَّوْن مِنكم ويذرون أَزواجا وصِيَّةً لأزواجِهِم} إلا أن الهاء من قوله {وصِيَّة لأزواجِهِم} رجعتْ على (الذين) فكان الإعراب فيها أبين؛ لأن العائد من الذِّكْر قد يكون خبرا؛ كقولك: عبدالله ضربته.
وقال: {وَعَشْراً} ولم يقل: "عشرة" وذلك ان العرب إذا أبهمت العدد من الليالى والأيام غلَّبوا عليه الليالىَ حتى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان لكثرة تغليهم الليالى على الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدُّكْران بالهاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {سَخَّرها عليهِم سبع ليالٍ وثمانية أَيامٍ حُسُوما} فأدخل الهاء فى الأيام حين ظهرت، ولم تدخل فى الليالى حين ظهرن. وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتّصل الخافض بما بعده غلَّبت الليالىَ أيضا على الأيَّام. فإن اختلطا فكانت ليالى وأيام غلَّبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثم تقول بعد: أيام فيها بَرْد شديد. وأمّا المحتلِط فقول الشاعر:
أقامت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تضِيف وتَجْارا

فقال: ثلاثا وفيها أيام. وأنت تقول: عندى ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث؛ لأن الليالى من الأيام تغِلب الأيام. ومثل ذلك فى الكلام أن تقول: عندى عَشْر من الإبل وإن عنيت أجمالا، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل البقر واحدته بقرة، فتقول: عندى عشر من البقر وإن نويت ذُكْرانا. فإذا اختلطا وكان المفسِّرمن النوعين قبل صاحبة أجريت العدد فقلت: عندى خمس عشرة ناقة وجملا, فأنَّثت لأنك بدأت بالناقة فغلَّبتها. وإن بدأت بالجمل قلت: عندى خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسَّرة غلَّبت التأنيث، ولم تبالِ أبدأت بالجَملَ أو بالناقة؛ فقلت: عندى خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندى خمس عشرة أمَة وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلاّ بالتذكير؛ لأن الذُكْران من غير ما ذكَرت لك لا يُجتزأ منها بالإناث، ولأن الذَكَر منها موسوم بغير سِمَة الأنثى، والغنم والبقر يقع على ذَكَرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكَّر لهذه الهاء التى لزِمت المذكَّر والمؤنَّث.
وقوله {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِِ} الخِطبة مصدر بمنزلة الخِطْب، وهو مثل قولك: إنه لحسن القِعدة والجِلسة؛ يريد القعود والجلوس، والخُطْبة مثل الرسالة التى لها أوّل وآخِر، قال: سمعت بعض العرب [يقول]: اللهم ارفع عنا هذه الضُغْطة، كأنه ذهب إلى أن لها أوّلا وآخِرا، ولو أراد مرّة لقال: الضَغْطة، ولو أراد الفعل لقال الضِغْطة؛ كما قال المِشْية. وسمعت آخَر يقول: غلبنى [فلان] على قُطْعةٍ لى من أرضى؛ يريد أرضا مفروزة مثل القِطعة لم تُقسم، فإذا أردت أنها قطعة من شىء [قطع منه] قلت: قِطْعة.
وقوله: { أَوْ أَكْنَنتُمْ} للعرب فى اكننت الشىء إذا سترته لغتان: كننته وأكننته، قال: وأنشدونى قول الشاعر:
ثلاثٌ من ثلاثِ قُدَامياتٍ * من اللاتى تَكُنّ من الصَقِيع

وبعضهم [يرويه] تُكِنّ من أكننت. وأمّا قوله: "لؤلؤ مكنون" و "بَيْض مكنون" فكأنه مذهب للشىء يصان، وإحداهما قريبة من الأخرى.
وقوله: {وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } يقول: لا يصفنَّ أحدكم نفسه فى عِدَّتها بالرغبة فى النكاح والإكثار منه. حدّثنا محمد بن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى حِبَّان عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال: السرُّ فى هذا الموضع النكاح. وأنشد عنه بيت امرئ القيس:
ألا زعمت بَسْباسة اليوم أننى * كبِرتُ وأَلاَّ يشهدَ السِرَّ أَمثالى
قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنى الله عنه قال: "أو جاء احد منكم من الغائط".

{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ }

قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ...}
بالرفع. ولو نُصب كان صوابا على تكرير الفعل على النيَّة، أى ليعط الموسع قدره، والمقتر قدره. وهو مِثل قول العربِ: أخذت صدقاتِهم، لكل أربعين شاةً شاةُ؛ ولو نصبت الشاة الآخِرة كان صوابا.
وقوله {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} منصوب خارجا من القَدَر؛ لأنه نكرة والقدر معرفة. وإن شئت كان خارجا من قوله "وَمَتِّعُوهُنَّ" مَتَاعاً ومُتْعة.

فأمَّا {حَقّاً} فإنه نَصْب من نيّة الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك فى الكلام: عبدُالله فى الدار حقاً. إنما نصب الحق من نيَّة كلام المخبِر؛ كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا؛ وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات؛ لأن الحق والباطل لا يكونان فى أنفُس الأسماء؛ إنما ياتى بالأخبار. من ذلك أن تقول: لى عليك المال حقّا، وقبيح أن تقول: لى عليك المال الحق، أو: لى عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حقّ لى عليك، فتخرجَه مُخرج المال لا على مذهب الخبر.

وكل ما كان فى القرآن مما فيه من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان فى معنى الحق فوجهُ الكلام فيه النصب؛ مثل قوله "وَعْدَ الحقِ" و "وعد الصدق" ومثل قوله {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُم جَمِيعا وَعْدَ اللّهِ حقاً} هذا على تفسير الأوّل. وأمّا قوله {هنالِك الوَلاية لِلّه الحقِّ} فالنصب فى الحقّ جائز؛ يريد حقّا، أى أخبركم أن ذلك حقّ. وإن شئت خفضت الحقّ، تجعله من صفة الله تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعلُه من صفة الوَلاية. وكذلك قوله {ورُدُّوا إلى اللّهِ مَوْلاَهُم الحقّ} تجعله من صفة الله عز وجلَّ. ولو نصبت كان صوابا، ولو رُفع على نيَّة الاستئناف كان صوابا؛ كما قال {الْحَقُّ مِن ربَّك فَلاَ تَكُونَنَّ مِن المُمْتَرِين} وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقّا أىْ] قلت حقا، والحقُّ، أى ذلك الحقُّ. وأمّا قوله فى ص {قَالَ فالْحقُّ والحقَّ أقول} فإن الفرّاء قد رفعتِ الأوّل ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عباس أنهما رفعا الأوّل وقالا تفسيره: الحقُّ منى، وأقول الحق؛ فينصبان الثانى بـ "أقول". ونصبهما جميعا كثير منهم؛ فجعلوا الأوّل على معنى: والحقِّ "لأملأَنَّ جَهَنَّمَ" وينصب الثانى بوقوع القول عليه. وقوله {ذلِكَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحقّ} رفعه حمزة والكسائىّ، وجعلا الحق هو الله تبارك وتعالى، لأنها فى حرف عبدالله " ذَلِكَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ قالَ اللّهِ" كقولك: كلمةَ الله، فيجعلون (قال) بمنزلة القول؛ كما قالوا: العاب والعَيْب. وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عيسى بن مريم قولا حقّا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ...}
تُماسُّوهن وتَمَسُّوهن واحد، وهو الجماع؛ المماسَّة والمسُّ.
وإنما قال {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة بالنون فى كل حال. يقال: هنَّ يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن؛ لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يَستَبِنْ لهنّ تأنيث. وإنّما قالت العرب "لن يعفُوا" للقوم، و"لن يعفُوَا" للرجلين لانهم زادوا للاثنين فى الفعل ألفا ونونا، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلَّت الألفُ على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدلّ على الجمع إذا أُسقِطت النون جزما أو نصبا. {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الزوج.

{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ }

وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى...}
فى قراءة عبدالله "وعلى الصلاة الوسطى" فلذلك آثرت القرَّاء الخفض، ولو نُصِب على الحثّ عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا. وهو كقولك فى الكلام: عليك بقرابتك والأمّ، فخصَّها بالبرّ.

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً...}
وهى فى قراءة عبدالله: "كتب عليهم الوصية لأزواجِهم" وفى قراءة أبىّ: "يتوفون منكم ويذرون أزواجا فمتاع لأزواجهم" فهذه حجَّة لرفع الوصيَّة. وقد نصبها قوم منهم حمزة على إضمار فعل كأنه أمر؛ أى ليوصوا لأزواجهم وصيَّة. ولا يكون نصبا فى إيقاعِ "ويذرون" عليه.
{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} يقول: من غير ان تخرجوهن؛ ومثله فى الكلام: أتيتك رغبة إليك. ومثله: {وأَدْخِل يَدَكَ فى جَيْبِك تَخْرُجْ بيْضَاء مِن غيرِ سُوءٍٍ} لو ألقيت "مِنْ" لقلت: غيرَ سوء. والسوء ههنا البرص. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء، قال حدثنا شرِيك عن يزيد بن زياد عن مِقْسَم عن ابن عباس أنه قال: من غير برص. قال الفراء كأنه قال: تخرج بيضاء غير برصاء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

وقوله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ...}
تقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل الفاء منسوقة على صلة (الذى)، ومن نصب أخرجها من الصلة وجعلها جوابا لـ (من)؛ لأنها استفهام، والذى فى الحديد مثلها.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }

وقوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}
(نُقَاتِلْ) مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء "يُقاتل" جاز رفعها وجزمها. فأمّا الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأمّا الرفع فإن تجعل (يُقاتل) صلة للملك؛ كأنك قلت: ابعث لنا الذى يقاتل.
فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يَرجع بذكره أو يصلح فى ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فيه الرفع والجزم؛ تقول فى الكلام: علِّمنى عِلْما أنتفعُ به، كأنك قلت: علمنى الذى أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت "به" لم يكن إلا جزما؛ لأن الضمير لا يجوز فى (انتفع)؛ ألا ترى أنك لا تقول: علِّمنى علما انتفعه.
فإن قلت: فهلاَّ رفعت وأنت تريد إضمار (به)؟
قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز فى قوله (نقاتل) إلا الجزم. ومثله {اقتُلُوا يُوسُفَ أو اطْرَحُوهُ أرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْه أبيكم} لا يجوز إلا الجزم لأن "يَخْلُ" لم يَعُدْ بذِكْر الأرض. ولو كان "أرضا تخل لكم" جاز الرفع والجزم؛ كما قال: {رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهم رَسُولا مِنهم يَتْلُو عليهم آياتِك ويعلِّمُهُمُ الكتَابَ والحِكمة ويزكِّيهم} وكما قال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِن أَمْوَالِهِم صدقة تُطَهِّرهم وتُزَكِّيهِم} ولو كان جزما كان صوابا؛ لأن فى قراءة عبدالله "أنزِل علينا مائدة من السماءِ تَكُنْ لنا عِيدا" وفى قراءتنا بالواو "تكون".

ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن؛ وذلك بأن يكون الفعل الذى قد يُجزم ويرفع فى آية، والاسم الذى يكون الفعل صلة له فى الآية التى قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته؛ من ذلك: {فهَبْ لِى مِن لدنك ولِيّاً. يرِثنى} جزمه يحيى ابن وَثّاب والأعمش - ورفعه حمزة "يرِثُنى" لهذه العلّة، وبعض القراء رفعه أيضا - لمَّا كانت (وليا) رأسَ آية انقطع منها قوله (يرثنى)، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله: {وابْعَثْ فى المدائن حاشِرين. يَأتُوك} على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة "الحاشرين" قلت: يأتوك.
فإذا كان الاسم الذى بعده فِعْل معرفةً يَرجع بذكره، مما جاز فى نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إلىّ أخاك يُصِب خبرا، لم يكن إلا جزما؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} الهاء معرفة و "غدا" معرفة فليس فيه إلا الجزم، ومثل قوله: {قاتِلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله} جَزْم لا غير.
ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعلٌ لها جاز فيه الرفع والجزم؛ مثل قوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فى أَرْضِ الله} وقوله: {ذَرْهُمْ يأْكُلُوا} ولو كان رفعا لكان صوابا؛ كما قال تبارك وتعالى: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فى خَوْضِهِم يَلْعَبُون} ولم يقل: يلعبوا. فأمّا رفعه فأن تجعل "يلعبون" فى موضع نصب كأنك قلت فى الكلام: ذرهم لاعبين. وكذلك دَعْهم وخلِّهم واتركهم. وكلّ فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فيه وجه الكلام؛ لأن الشرط يحسن فيه، ولأن الأمر فيه سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك. فإن رأيت الفعل الثانى يحسن فيه مِحنْة الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفى إحدى القراءتين: "ذَرْهُمْ يَأْكُلُونَ ويَتَمَتَّعون ويلهِيهم الأَمل".

وفيه وجه آخر يُحسن فى الفعل الأوّل. من ذلك: أوصِهِ يأتِ زيدا، أو مُرْه، أو أرسل إليه. فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر يُنْوَى له مجدَّدا. وإنما يجزم على أنه شرط لأوّله. من ذلك قولك: مُرْ عبدالله يذهبْ معنا؛ ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع فى موضع (مُرْ)، وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلذين لاَ يَرْجُونَ أيَّامَ الله} فـ "يَغْفِرُوا" فى موضع جزم، والتأويل - والله أعلم -: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للامر فيه تأويل الحكاية. ومثله: {قل لِعبادِى يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَن} فتجزمه بالشرط "قل"، وقال قوم: بنيَّه الأمر فى هذه الحروف: من القول والأمرِ والوصيَّة. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغى لكم أن تقولوا للرجل فى وجهه: قلت لك تَقُمْ، وينبغى أن تقول: أمرتك تذْهبْ معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.
فإن قلت: فقد قال الشاعر:
فلا تستطِلْ منّى بقائى ومُدّتِى * ولكن يكن للخير فيك نصيب
قلتُ: هذا مجزوم بنيَّة الأمر؛ لأن أوّل الكلام نهى، وقوله (ولكن) نَسَق وليست بجواب. فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:
من كان لا يزعم أنى شاعرُ * فَيَدْنُ منى تنهَه المزاجِر
فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضَّمن (فيدن) لاما يجزِم [بها]. وقال الآخر:
فقلت ادْعِى وأَدْعُ فإنَّ أَنْدَى * لصوتٍ أن ينادِىَ داعيان
أراد: ولأَدْعُ. وفى قوله (وأَدْع) طَرَف من الجزاء وإن كان أمرا قد نُسِق أوّله على آخِره. وهو مِثل قول الله عزّ وجلّ: {اتَّبِعوا سبِيلنا ولْنحمِل خطاياكم} والله أعلم. وأما قوله: {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّه} فليس تأويل جزاء، إنما هو أمر محض؛ لأن إلقاء الواو وردَّه إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء)؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذرونى أقتله يدع؛ كما حسن "اتَّبِعوا سبِيلنا تَحْمل خطاياكم"

. والعرب لا تجازِى بالنهى كما تجازِى بالأمر. وذلك أن النهى يأتى بالجحد، ولم تجاز العرب بشىء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهى إذا كان بلا، بليس وما وأخواتِهن من الجحود. فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فِعْل فارفع ذلك الفعل. فتقول: لا تدعَنّه يضربُه، ولا تتركْه يضربُك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخِره يشاكل أوّله؛ إذ كان فى أوّله جَحد وليس فى آخره جحد. فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع؛ إذ كان أوّله كآخره؛ كما تقول فى الأمر: دَعْه ينامُ، ودعه ينم؛ إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثم جعلت فى الفعل (لا) رفعت؛ لاختلافهما أيضا، فقلت: اِيتنا لا نسيء إليك؛ كقول الله تبارك وتعالى: {وأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عليها لا نسألك رِزقا} [لمّا كان] أوّل الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إلاّ نَفْسَكَ} وقوله: {يَأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أَنْفُسَكم لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتديتم} رَفْع، ومنه قوله: {فاجعل بيننا وبينك مَوْعِداً لا نُخلِفُهُ} ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز فى قياس النحو. وقد قرأ يحيى بن وثَّاب وحمزة: "فاضْرِبْ لهم طرِيقا فى البحر يَبَساً لا تخف دركا ولا تخشى" بالجزاء المحض.
فإن قلت: فكيف أثبتت الياء فى (تخشى)؟ قلت: فى ذلك ثلاثة أوجه؛ إن شئت استأنفت "ولا تخشى" بعد الجزم، وإن شئت جعلت (تخشى) فى موضع جزم وإن كانت فيها الياء؛ لأن من العرب من يفعل ذلك؛ قال بعض بنى عَبْس:
ألم يأتيك والأنباءُ تَنْمِى * بما لاقت لَبُونُ بنى زياد
فأُثبتت الياء فى (يأتيك) وهى فى موضع جزم؛ لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونا؛ كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدنى بعض بنى حَنِيفَة:
قال لها مِن تحتها وما استوى * هُزِّى إليِك الجِذْع يَجنِيك الجَنَى

وكان ينبغى أن تقول: يجنكِ. وأنشدنى بعضهم فى الواو:
هجوتَ زَبّان ثم جئت معتذِرا * من سبّ زَبَّان لم تهجو ولم تدع
والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين؛ كما قال امرؤ القيس:
* ألا أيُّها الليلُ الطويل ألا انجلى *
فهذه الياء ليست بلام الفعل؛ هى صلة لكسرة اللام؛ كما توصل القوافى بإعراب رَوِيّها؛ مثل قول الأعشى:
* بانت سُعَادُ وأمسى حبلُها انقطاعا *
وقولِ الآخر:
* أمِن أُمِّ أوفى دِمْنةٌ لم تكلمى *
وقد يكون جزم الثانى اذا كانت فيه (لا) على نيّة النهى وفيه معنىً مِن الجزاء؛ كما كان فى قوله {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} طرف من الجزاء وهو أمر. فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يأيُّها النَّمل ادْخُلُوا مَساكِنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُم سُلَيْمانُ وجُنُوده} المعنى والله أعلم: إن؟ تدخلن حُطّمتُنَّ، وهو نهى محض؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة؛ ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربنى أضربنَّك إلا فى ضرورة شعر؛ كقوله:
فمهما تشأ منه فَزَارةُ تُعْطِكُم * ومهما تَشَأ منه فَزَارةُ تمنعَا
وقوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ...}
جاءت (أَن) فى موضع، وأُسقطت من آخر؛ فقال فى موضع آخر: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنونَ بالله والرَّسُولُ يَدْعُوكم} وقال فى موضع آخر: {وما لنا ألاَّ نتوكّل على الله} فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربيّة التى لا عِلة فيها، والفعل فى موضع نصب؛ كقول الله - عزَّ وجل -: {فما لِلَّذينَ كفروا قِبَلَكَ مُهْطعين} وكقوله: {فما لَكُمْ فى المنافِقِين فِئَتَيْنِ} فهذا وجه الكلام فى قولك: مالك؟ وما بالُك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفَعه إذا كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ كقول الشاعر:
* مالك تَرْغِين ولا تَرْغُو الخَلِفْ *
الخَلِفَة: التى فى بطنها ولدها.

وأما إذا قال (أن) فإنه مِما ذهب إلى المعنى الذى يحتمل دخول (أن)؛ ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلى فى الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلى، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {مَا مَنَعَكَ أن لا تسجد إذ أمرتك} وفى موضع آخر: {مالك ألاّ تكون مع الساجدين} وقصة إبليس واحدة، فقال فيه بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا. ومثله ما حُمِل على معنى هو مخالف لصاحبه فى اللفظ قول الشاعر:
يقول إذا اقْلَوْلى عليها وأقْرَدَتْ * ألا هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم
فأدخل الباء فى (هل) وهى استفهام، وإنما تدخل الباء فى ما الجحدِ؛ كقولك: ما أنت بقائل. فلمّا كانت النيّة فى (هل) يراد بها الجحد أُدخِلت لها الباء. ومثله قوله فى قراءة عبدالله "كَيْفَ يكونُ لِلمشْرِكين عَهْدٌ": ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:
فاذهب فأىُّ فتىً فى الناس أحرزه * من يومه ظُلَمٌ دُعْج ولا جَبَل
(رد عليه بلا) كأن معنى أىّ فتى فى الناس أحرزه معناه: ليس يُحرِز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال الكسائى: سمعت العرب تقول: أين كنتَ لتنجو منى! لأن المعنى: ما كنت لتنجو منى، فأدخل اللام فى (أين) لأن معناها جحد: ما كنت لتنجو منى. وقال الشاعر:
فهذى سيوف يا صُدَىُّ بن مالك * كثير ولكن أين بالسيف ضارب
أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدّم صلة اسم قبله؛ ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حتى تقول: ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل؛ لأن (ليس) نظيرة لـ (ما)؛ لأنها لا ينبغى لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.

وقال الكسائى فى إدخالهم (أنْ) فى (مالَك): هو بمنزلة قوله: "مالكم فى ألا تقاتلوا" ولو كان ذلك على ما قال لجاز فى الكلام أن تقول: مالك أَنْ قمت، ومالك أنك قائم؛ لأنك تقول: فى قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتى بالاستقبال؛ تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمتَ. فلذلك جاءت فى (مالك) فى المستقبل ولم تأت فى دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك. وقد قال بعض النحويين: هى مما أضمِرت فيه الواو، حذِفت من نحو قولك فى الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن فى الأسماء.
فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال]: لأن القيام اسم صحيح و(أن) اسم ليس بالصحيح. واحتجّ بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فردّ ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة فى (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل, تريد: وأنت كفيل بالجارية, وأنك تقول: رأيتك وإيّانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيَّانا وتريد؛ قال الشاعر:
فبُحْ بالسرائر فى أهلها * وإيّاك فى غيرهم أن تبوحا
فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (فى غيرهم)، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو فى (أن) لا يجوز.
وأمّا قول الشاعر: * فإياك المَحَايِن أن تحينا *
فإنه حذّره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحايِن، ولو أراد مثل قوله: (إيّاك والباطلَ) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أُتبع اسما فى نصبه، فكان بمنزلة قوله فى [غير] الأمر: أنت ورأيُكَ وكلُّ ثوب وثمنُه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كلُّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إيَّاك الباطل) وأنت تريد: إيّاك والباطل.

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ...}
وفى إحدى القراءتين: "إلا قليلٌ منهم".

والوجه فى (إلاَّ) أن يُنصَب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه، فإذا كان ما قبل إلاّ فيه جحد جَعَلت ما بعدها تابعا لما قبلها؛ معرفة كان أو نكرة. فأمّا المعرفة فقولك: ما ذهب الناس إلا زيد. وأمّا النكرة فقولك: ما فيها أحَدٌ إلاَّ غلامُك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال الله تبارك تعالى: {ما فعلوه إلاّ قليل مِنهم} لأن فى (فعلوه) اسما معرفة، فكان الرفع الوجهَ فى الجحد الذى يَنفى الفعل عنهم، ويثبته لما بعد إلاّ. وهى فى قراءة أَبىّ "ما فعلوه إلا قليلا" كأنه نَفَى الفعل وجَعَل ما بعد إلاَّ كالمنقطِع عن أوّل الكلام؛ كقولك: ما قام القومُ، اللهم إلاّ رجلا فإذا نويت الانقطاع نصبت وإذا نويت الاتّصال رفعت. ومثله قوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إِيمانها إلا قوم يونس} فهذا على هذا المعنى، ومثله: {فلولا كان مِن القُرُونِ مِن قَبْلِكم أُولُو بقِيّةٍ ينهون عن الفساد فى الأرض} ثم قال: {إلا قلِيلا ممن أَنجينا منهم} فأوّل الكلام - وإن كان استفهاما - جحد؛ لأن لولا بمنزلة هَلاّ؛ ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هَلاّ قمت) أنّ معناه: لَم تَقُمْ. ولو كان ما بعد (إلاّ) فى هاتين الآيتين رفعا على نِيَّة الوصل لكان صوابا؛ مثل قوله: {لو كان فيهما آلهة إلاَّ اللّهُ لفسدتا} فهذا نيَّة وصل؛ لأنه غير جائز أن يوقَق على ما قبل (إلا).
وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمِلْ ما قبلها فيما بعدها. فتقول: (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام)؛ إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك: ماضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.

وإذا كان الذى قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تُتْبِع ما بعد إلا ما قبلها؛ كقولك: ما عندى أحد إلاّ أخوك. فإن قدّمت إلاَّ نصبت الذى كنت ترفعه؛ فقلت: ما أتانى ألا أخوك أحد. وذلك أن (إلاّ) كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه، فلما قُدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر:
لَمِيَّة مُوحِشاً طَلَلٌ * يلوح كأنه خِلَل
المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أُتبِع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه عل أن تجعله كالاسم يكون الطَلَل ترجمة عنه؛ كما تقول: عندى خُرَاسانيَّةٌ جاريةٌ، والوجه النصب فى خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدّم فى إلاَّ على هذا التفسير. قال: وأنشدونا:
بالثِنْىِ أسفلَ من جَمَّاءَ ليس له * إلاَّ بنيهِ وإلا عِرْسَه شِيعَ
وينشد: إلا بنوه وإلاّ عِرْسُه. وأنشد أبو ثَرْوان:
ما كان منذ تركنا أهل أَسْمنُةٍ * إلا الوجيفَ لها رِعْىٌ ولا عَلَفُ
ورفع غيره. وقال ذو الرَّمة:
مُقَزَّعٌ أطلسُ الأطمارِ ليس له * إلا الضِرَاءَ وإلا صيدَها نَشَبُ
ورَفْعُه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراءُ وإلا صيدُها، ثم ذكر فى آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه فى أوّل الكلام.

{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةًً} وفى قراءة أُبَىّ "كأيّن مِن فِئةٍ قليلة غلبت" وهما لغتان. وكذلك {وكأيّن من نبى} هى لغات كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا ألقيت (مِنْ) كان فى الاسم النكرةِ النصبُ والخفضُ. من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رأيت، وكم جيشا جَرّارا قد هزمت. فهذان وجهان، يُنصَبان ويُخفَضان والفعل فى المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا والخفض. وجاز أن تُعْمِل الفعل فترفعَ به النكرة، فتقول: كم رجلٌ كريمٌ قد أتانى، ترفعه بفعله، وتُعْمِل فيه الفعلَ إن كان واقعا عليه؛ فتقول: كم جيشا جرّارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمَّة لك يا جَرِيرُ وخالة * فَدْعاء قد حَلَبَتْ علىَّ عِشارِى
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسِّر كتفسير العدد، فتركناها فى الخبر على جهتها وما كانت عليه فى الاستفهام؛ فنصبنا ما بعد (كم) من النكرات؛ كما تقول: عندى كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صُحبة مِن للنكرة فى كَمْ، فلمَّا حذفناها أعملنا إرادتها، فخفضنا، كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحتَ؟ قال: خيرٍ عافاك الله، فخفض، يريد: بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخِر، [و] نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتانى رجل كريم. وقال امرؤ القيس:
تَبُوصُ وكَمْ مِن دونها من مفازةٍ * وكم أرضُ جَدْب دونها ولُصُوصُ
فرفع على نيّة تقديم الفعل. وإنما جعلت الفعل مقدّما فى النية لأن النكرات لا تَسبق أفاعيلها؛ ألا ترى أنك تقول: ما عندى شىء، ولا تقول ما شىء عندى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ...}

وإدخال العرب (إلى) فى هذا الموضع على جهة التعجُّب؛ كما تقول للرجل: أما ترى إلى هذا! والمعنى - والله أعلم -: هل رأيت مثل هذا أو رأيت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} فكأنه قال: هل رأيت كمِثْل الذى حاجّ إبراهيم فى ربه {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهذا فى جهته بمنزلة ما أخبرتُك به فى مالَك وما مَنَعك. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {قل لِمن الأرض وَمن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون لِلّه} ثم قال تبارك وتعالى: {قل من ربُّ السموات السّبْع وربّ العرش العظيم. سيقولون لله} فجعل اللام جوابا وليست فى أوّل الكلام. وذلك أنك إذا قلت: مَنْ صاحب هذه الدار؟ فقال لك القائل: هى لزيد، فقد أجابك بما تريد. فقوله: زيدٌ ولزيدٍ سواء فى المعنى. فقال: أنشدنى بعض بنى عامر:
فأَعلمُ أننى سأكونُ رَمْساً * إذا سار النواجعُ لا يَسير
فقال السائرون لمن حفرتم * فقال المخبرون لهم: وزير

ومثله فى الكلام أن يقول لك الرجل: كيف أصبحتَ؟ فتقول أنت: صالح، بالرفع، ولو أجبتَه على نفس كلمته لقلت: صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول الله تبارك وتعالى {ما كان محمد أَبا أَحدٍ مِن رِجالِكم ولكِن رسول الله} وإذا نصبت أردت: ولكن كان رسول الله، وإذا رفعت أخبرت، فكَفَاك الخبر مما قبله. وقوله: {ولا تحسبن الذيِن قتِلوا فِى سبيل الله أمواتا بل أَحياء} رفع وهو أوجه من النصب، لأنه لو نصب لكان على: ولكن احسبهم أحياء؛ فطرح الشكِّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما تقول: لا تظننه كاذبا، بل اظْنُنْه صادقا. وقال الله تبارك وتعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عِظامه بلى قادِرين على أن نسوّى بنانه} إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا التأويل، كأنه فى مثله من الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء الله، كأنه قال: بلى فاحسَبْنى زائِرَك. وإن كان الفعل قد وقع على (أن لن نجمع) فإنه فى التأويل واقع على الأسماء. وأنشدنى بعضُ بنى فَقْعَس:
أجِدَّك لن ترى بثُعَيلِبات * ولا بَيْدان نَاجيةً ذَمولا
ولا متداركٍ والشمسُ طِفْلٌ * ببعض نواشغ الوادى حُمولا
فقال: ولا متداركٍ، فدلَّ ذلك على أنه أراد ما أنت براءٍ بثعيلِبات كذا ولا بمتداركٍ. وقد يقول بعض النحويّين: إنا نصبنا (قادرين) على أنها صُرِفت عن نَقْدِر، وليس ذلك بشىء، ولكنه قد يكون فيه وجه آخر سوى ما فسَّرت لك: يكون خارجا من (نجمع) كأنه فى الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على قتلك، كأنه قال: بلى أضربك قادراً على أكثر من ضربك.

وقوله:{كَمْ لَبِثْتَ} وقد جرى الكلام بالإدغام للثاء؛ لقيت التاءَ وهى مجزومة. وفى قراءة عبدالله (اتَّخَتُّمُ العجل) (وإنى عُتُّ بربى وربكم) فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك أنهما متناسبتان فى قرب المخرج، والثاء والذال مخرجهما ثقيل، فأنزل الإدغام بهما لثقلهما؛ ألا ترى أن مخرجهما من طَرَف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن فى الثقل. فما أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الإِدغام بخطأ، إنما هو استثقال. والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا؛ كقوله: {أحطت بما لم تحِط به} تخرج الطاء فى اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأُوَل، تجدُ ذلك إذا امتجنت مخرجيهما.
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} جاء التفسير: لم يتغير [بمرور السنين عليه، مأخوذ من السنة]، وتكون الهاء من أصله [من قولك: بعته مسانهة، تثبت وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة؛ لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء والواو]، وتكون زائِدةً صلةً بِمنزلة قوله {فبِهداهم اقتدِهْ} فمن جعل الهاء زائدة جعل فعَّلت منه تسنيت؛ ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعَّلت على صحة, ومن قال في [تصغير] السنة سُنَينة وإن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعَّلت أبدلت النون بالياء لمَّا كثُرت النونات، كما قالوا تظنَّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو مأخوذ من قوله {من حمإٍ مسنون} يريد: متغيّر. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة؛ أى لم تُغيّره السنون. والله أعلم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفراء، قال حدّثنى سفيان بن عُيَيْنة رفعه إلى زيد ابن ثابت قال: كُتِب فى حَجَر ننشزها ولم يتسن وانظر إلى زيد بن ثابت فنقَط على الشين والزاى أربعا وكتب (يتسنه) بالهاء. وإن شئت قرأتها فى الوصل على وجهين: تثبت الهاء وتجزمها، وإن شئت حذفتها؛ أنشدنى بعضهم:

فليست بسَنْهاء ولا رُجَّبِيَّة * ولكنْ عَرَايَا فى السنينَ الجوائح
والرُجَّبِيَّة: التى تكاد تسقط فيُعْمَد حولها بالحجارة. والسنهاء: النخلة القديمة. فهذه قوّة لمن أظهر الهاء إذا وَصَل.
وقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} إنما أدخلت فيه الواو لنيّة فعل بعدها مضمر؛ كأنه قال: ولنجعلك آية فعلنا ذلك. وهو كثير فى القرآن. وقوله {آيَةً لِلنَّاسِ} حين بُعث أسودَ اللحية والرأس وبنو بنيه شِيب، فكان آية لذلك.
وقوله {ننشزها} قرأها زيد بن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها. وقرأها ابن عباس "نُنْشِرها". إنشارها: إحياؤها. واحتجَّ بقوله: {ثم إذا شاء أنشره} وقرأ الحسن - فيما بلغنا - (نَنْشُرُها) ذهب إلى النشر والطىّ. والوجه أن تقول: أنشر الله الموتى فنَشروا إذا حَيُوا، كما قال الأعشى:
* يا عجبا للميت الناشِرِ *
وسمعت بعض بنى الحارث يقول: كان به جَرَب فنَشَر، أى عاد وحيى. وقوله: "فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شىء قدير" جزمها ابن عبّاس، وهى فى قراءة أُبَىّ وعبدالله جميعا: "قيل له اعْلَمْ" واحتجَّ ابن عباس فقال: أهو خير من إبراهيم وأفقه؟ فقد قيل له: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} والعامّة تقرأ: "أعلم أن الله" وهو وجه حسن؛ لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين له من أمر الله: (أشهد أن لا إله إلا الله) والوجه الآخَر أيضا بيّن.
وقوله {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} ضمَّ الصادَ العامّة. وكان أصحاب عبدالله يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأمّا الضمُّ فكثير، وأما الكسر ففى هُذَيل وسُلَيم. وأنشدنى الكسائىّ عن بعض بنى سُلَيم:
وفَرْعٍ يصير الجِيدَ وَحْفٍ كأنه * على اللِيتِ قِنْوانُ الكروم الدوالح

ويفسّر معناه: قطِّعهن، ويقال: وجِّههن. ولم نجد قَطِّعْهُنَّ معروفة من هذين الوجهين، ولكنى أرى - والله أعلم - أنها إن كانت من ذلك أنها من صَرَيْت تصرِى، قدّمت ياؤها كما قالوا: عِثْتُ وعثَيْتُ، وقال الشاعر:
صَرَتْ نظرة لو صادفت جَوْزَ دارِع * غَدَا والعَوَاصِى من دمِ الجوف تنعَرُ
والعرب تقول: بات يَصْرِى فى حوضه إذا استقى ثم قطع واستقى؛ فلعله من ذلك . وقال الشاعر:
يقولون إن الشأم يقتلُ أهلَه * فمَنْ لِىَ إن لم آتِه بخُلُود
تَعَرَّب آبائى فهَلاَّ صَرَاهم * من الموت أن لم يذهبوا وجُدُودِى

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

وقوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ...}

ثم قال بعد ذلك {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} ثم قال {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } فيقول القائل: فهل يجوز فى الكلام أن يقول: أتودّ أنّ تصيب مالا فضاع، والمعنى: فيضيع؟ قلت: نعم ذلك جائز فى ودِدت؛ لأن العرب تَلْقاها مرَّة بـ (أن) ومرَّة بـ (لو) فيقولون: لودِدْت لو ذهبتَ عنا، [و] وددت أن تذهب عنا، فلمّا صلحت بَلْو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن يَرُدُّوا فَعَل بتأويل لوْ، على يفعل مع أن. فلذلك قال: فأصابها، وهى فى مذهبه بمنزلة لو؛ إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوُضعت فى مواضعها، وأُجيبت إن بجواب لو، ولو بجواب إن؛ قال الله تبارك وتعالى {ولا تنكِحوا المشرِكاتِ حتى يُؤْمِنَّ ولأَمَةٌ مؤمنة خير مِن مشرِكة ولو أعجبتكم} والمعنى - والله أعلم -: وإن أعجبتكم؛ ثم قال{ولئن أَرْسَلْنَا رِيحا فرأوه مصفرا لظلوا [من بعده يكفرون]} فأجيبت لئن بإجابة لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال فى قراءة أبىّ "ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلِحتكم وأمتِعتِكم فيمِيلوا" ردّه على تأويل: ودّوا أن تفعلوا. فإذا رفعت (فيميلون) رددت على تأويل لو؛ كما قال الله تبارك وتعالى {ودّوا لو تدهِن فيدهنون} وقال أيضا {وتودّون أن غير ذات الشوكةِ تكون لكْم} وربما جمعت العرب بينهما جميعا؛ قال الله تبارك وتعالى {وما عمِلت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} وهو مِثْل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد؛ قال الشاعر:
قد يكسِبُ المالَ الهِدَانُ الجافى * بغير لا عَصْفٍ ولا اصطراف
وقال آخر:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر* سُود الرءوس فوالج وفُيُول
وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أَحدهما لَغْوا. ومثله قولُ الشاعر:
من النفر اللاء الذين إذا هُمُ * تهاب اللئام حَلْقة الباب قعقعوا

ألا ترى أنه قال: اللاء الذين، ومعناهما الذين، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز ما ما قام زيد، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأمَّا قول الشاعر:
كماما أمرؤٌ فى معشرٍ غيرِ رَهطِه * ضعيفُ الكلام شخصُه متضائل
فإنما استجازوا الجمع بين ما وبين [ما] لأن الأولى وُصِلت بالكاف، - كأنها كانت هى والكاف اسماً واحدا - وَلم توصَل الثانية، واستُحسن الجمع بينهما. وهو فى قول الله {كلاَّ لا وَزَر} كانت لا موصولةً، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل: (ما ما قلتُ بحسَنٍ) جاز ذلك على غير عيب؛ لأنه يجعل ما الأولى جحدا والثانية فى مذهب الذى. [وكذلك لو قال: مَن مَنْ عندك؟ جاز؛ لأنه جعل من الأول استفهاما، والثانى على مذهب الذى]. فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.
وأمّا قول الشاعر:
* كم نِعْمةٍ كانت لهاكم كم وكم *
إنما هذا تكرير حرف، لو وقعْتَ على الأوّل أجزاك من الثانى. وهو كقولك للرجل: نعم نعم ، تكررها، أو قولك: اعجل اعجِل، تشديدا للمعنى. وليس هذا من البابين الأولين فى شىء. وقال الشاعر:
هلاَّ سألتَ جُمُوعَ كنـ * دَةَ يوم ولَّواْ أين أينا
وأمَّا قوله: (لم أَره مندُ يوم يوم) فإنه يُنوَى بالثانى غير اليوم الأوّل، إنما هو فى المعنى: لم أره منذ يوم تعلم. وأمَّا قوله:
نحمِى حقيقتَنا وبعـ * ضُ القوم يسقط بينَ بينا
فإنه أراد: يسقط هو لا بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. فكان اجتماعهما فى هذا الموضع بمنزلة قولهم: هو جارى بيتَ بيتَ، ولقِيته كَفَّة كفّة؛ لأن الكَفَّتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هو جارِى بيت بيتَ منها: بيتى وبيتُه لصِيقان. قال: كيف قال قوله: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ...}

وهذا الأمر قد مضى؟ قيل: أُضمرَت (كان) فصلح الكلام. ومثله أن تقول: قد أَعتقتُ عبدين، فإن لم أُعتِق اثنين فواحدا بقيمتهما، والمعنى إلاَّ أكن؛ لأنه ماض فلا بدَّ من إضمار كان؛ لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلِدْنى لئيمةٌ * ولم تجِدِى مِن أن تُقِرّى بها بُدّا

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ...}
فُتِحت (أن) بعد إلاَّ وهى فى مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفضٍ يصلح. فإذا رأيت (أن) فى الجزاء قد أصابها معنى خفضٍ أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من ذلك. والمعنى - والله أعلم - ولستم بآخذيه إلا على إغماض، أوبإغماض، أو عن إغماضٍ, صفة غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى: أو أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه. ومثله قوله: {إلا أن يخافا ألاَّ يقِيما حدودَ الله} ومثله {إلاَّ أن يعفون} هذا كلُّه جزاء، وقوله {ولا تقولنَّ لِشىءٍ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} ألا ترى أن المعنى: لا تقُلْ إنى فاعل إلا ومعها إن شاء الله؛ فلمَّا قطعتْها (إلا) عن معنى الابتداء، مع ما فيها من نيَّة الخافض فُتحت. ولو لم تكن فيها (إلاَّ) ترِكتْ على كسرتها؛ من ذلك أن تقول: أحسِنْ إن قُبِل منك . فإن أدخلت (إلاَّ) قلت: أحسن إلا ألاَّ يقبل منك. فمثله قوله {وأن تعفوا أقربُ للتقوى}، {وأن تصوموا خير لكم} هو جزاء، المعنى: إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أنْ صارت (أن) مرفوعة بـ (خير) صار لها ما يُرافِعها إن فتحت وخرجت من حدّ الجزاء. والناصب كذلك.

ومثله من الجزاء الذى إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عنه الجزم قولك: اضربه مَنْ كان، ولا آتيك ما عشت. فمَن وما فى موضع جزاء، والفعل فيهما مرفوع فى المعنى؛ لأنَّ كان والفعل الذى قبله قد وقعا على (مَن) و (ما) فتغيَّر عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء؛ قال الشاعر:
فلستُ مقاتِلا أبداً قُرَيشا * مُصيبا رَغْمُ ذلك مَنْ أصابا
فى تأويل رفع لوقوع مُصيب على مَنْ.
ومِثله قول الله عزَّ وجلَّ {وللّهِ على الناسِ حِجّ البيتِ منِ استطاع} إن جعلت (مَنْ) مردودة على خفض (الناس) فهو مِن هذا، و(استطاع) فى موضع رفع، وإن نويت الاستئناف بمَنْ كانت جزاء، وكان الفعل بعدها جزما، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول فى الكلام: أيُّهم يقم فاضرب، فإن قدّمْتَ الضرب فأوقعته على أىّ قلت اضرب أيَّهم يقوم؛ قال بعض العرب: فأيُّهم ما أخذها ركب على أيهم يريد. ومنه قول الشاعر:
فإنى لآتيكم تشَكُّرَ ما مضى * من الأمر واستيجابَ ما كان فى غد
لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول: كان فى غد؛ لأن (كان) إنما خُلِقتْ للماضى إلاَّ فى الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال: استيجاب أىّ شىء كان فى غد.
ومِثل إنْ فى الجزاء فى انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب: (قلت إنك قائم) فإنّ مكسورة بعد القول فى كل تصرّفه. فإذا وضعت مكان القول شيئا فى معناه مما قد يحدِث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أنّ، فقلت: ناديت أنك قائم، ودعوت، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول: ناديت زيدا، ودعوت زيدا، وناديت بزيد، (وهتفت بزيد) فتجد هذه الحروف تنفرد بزيد وحده؛ والقول لا يصلح فيه أن تقول: قلت زيدا، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية فى القول ولم تنفُذ فى النداء؛ لاكتفائه بالأسماء. إلا أن يُضطرَّ شاعر إلى كسر إنَّ فى النداء وأشباهه، فيجوز له؛ كقوله:
إنى سأبدى لك فيما أُبدِى * لى شَجَنان شَجَنٌ بنجد
* وشَجَن لى ببلاد الهند *

لو ظهرت إنّ فى هذا الموضع لكان الوجه فتحها. وفى القياس أن تكسر؛ لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول، ويلزم مِن فتح أنّ لو ظهرت أن تقول: لى شجنين شجنا بنجد.
فإذا رأيت القول قد وقع على شىء فى المعنى كانت أنّ مفتوحة. من ذلك أن تقول: قلت لك ما قلت أنك ظالم؛ لأنّ ما فى موضع نصب. وكذلك قلت: زيد صالح أنه صالح؛ لأن قولك (قلت زيد قائم) فى موضع نصب. فلو أردت أنْ تكون أنّ مردودة على الكلمة التى قبلها كَسَرتَ فقلت: قلت ما قلت: إن أباك قائم، (وهى الكلمة التى قبلها) وإذا فتحت فهى سواها. قول الله تبارك وتعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنَّا} وإنا، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أنّ فى موضع خفض، ويجعلها تفسيراً للطعام وسببه؛ كأنه قال: إلى صبّنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع من النظر عن إنّا؛ كأنه قال: فلينظر الإنسان إلى طعامه، ثم أخبر بالاستئناف.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

وقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً...}
ولا غيرَ إلحاف. ومثله قولك فى الكلام: قلَّما رأيت مثلَ هذا الرجل؛ ولعلَّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه.

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا...}
أى فى الدينا {لاَ يَقُومُونَ} فى الآخرة {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } والمسُّ: الجنون، يقال رجل مَمْسوس.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا...}
يقول القائل: ما هذا الربا الذى له بقيَّة، فإن البقيَّة لا تكون إلاَّ من شىء قد مضى؟ وذلك أن ثَقِيفا كانت تُرْبِى على قوم من قريش، فصولحوا على أن يكون ما لهم على قريش من الربا لا يُحَطّ، وما على ثَقيف من الربا موضوع عنهم. فلمَّا حلَّ الأجل على قريش، وطُلب منهم الحقُّ نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فهذه تفسير البقيَّة. وأُمِروا بأخذ رءوس الأموال فلم يجدوها متيسّرة، فأبوا أن يحطُّوا الربا ويؤخّروا رءوس الأموال، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىَ مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَّدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {وإن كان ذو عُسْرة} من قريش {فنظرة} يا ثقيف (إلى ميسرة) وكانوا محتاجين، فقال - تبارك وتعالى -: {وأن تصدّقوا} برءوس الأموال {خير لكم}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ...}
حدّثنا محمد بن الجَهْم عن الفرّاء قال: حدّثنى أبو بكر عَيّاش عن الكَلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال: آخر آية نزل بها جبريل صلى الله عليه وسلم {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}هذه، ثم قال: ضَعْها فى رأس الثمانين والمائتين من البقرة.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى...}

هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هو أدب ورحمة من الله تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مِثلْ قوله {وإذا حللتم فاصطادوا} أى فقد أُبيح لكم الصيد. وكذلك قوله {فإذا قُضِيت الصلاة فانتشروا فى الأرض} ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة، إنما هو إذن. وقوله {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أُمر الكاتب ألاّ يأبى لِقلّة الكُتَّاب كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} فأمر الذى عليه الدين بأن يمِلّ لأنه المشهود عليه.
ثم قال {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} يعنى جاهلا {أَوْ ضَعِيفاً} صغيرا أو امرأة {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} يكون عييّا بالإملاء {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}يعنى صاحب الدين. فإِن شئت جعلت الهاء للذى ولِىَ الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب. كلُّ ذلك جائز. ثم قال تبارك وتعالى {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أى فليكن رجل وامرأتان؛ فرفع بالردّ على الكون. وإن شئت قلت: فهو رجل وامرأتان. ولو كانا نصْبا أى فإن لم يكونا رجلين فاستشهِدوا رجلا وامرأتين. وأكثر ما أتى فى القرآن من هذا بالرفع، فجرى هذا معه.

وقوله {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} بفتح أن، وتكسر. فمن كسرها نوى بها الابتداء فجعلها منقطِعة مما قبلها. ومن فتحها فها أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون فيه تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه - والله أعلم - استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكِّر الذاكرة الناسيةَ إن نَسيت؛ فلمَّا تقدّم الجزاء اتَّصل بما قبله، وصار جوابه مردودا عليه. ومثله فى الكلام قولك: (إنه ليعجبنى أن يَسأل السائل فَيُعْطَى) فالذى يعجبك الإعطاءُ إنْ يَسأل، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله: استظهرتُ بخمسة أجمال أن يَسقط مُسْلم فأحمِلَه، إنما استظهرتَ بها لتَحمل الساقط، لا لأن يسقط مسلم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.
ومثله فى كتاب الله {ولولا أن تصِيبهم مصيبة بما قدّمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا} ألا ترى أن المعنى: لولا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم: هلاَّ أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بَيّن.
وقوله {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ} إلى الحاكم. {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} ترفع وتنصب. فإن شئت جعلت {تُدِيرُونَهَا} فى موضع نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت "تدِيرونها" فى موضع رفع. وذلك أنه جائز فى النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها؛ لأنك تقول: إن كان أحد صالح ففلان، ثم تُلْقى (أحدا) فتقول: إن كان صالح ففلان، وهو غير موقّت فصلح نعته مكان اسمه؛ إذ كانا جميعا غير معلومين، ولم يصلح ذلك فى المعرفة؛ لأن المعرفة موقَّتة معلومة، وفعلها غير موافق للفظها ولا لمعناها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: كان أخوك القاتل, فترفع؛ لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فَتُرْفعا للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق فى النكرة؟

قلت: لا يجوز ذلك من قِبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حُصِّلت، ونعت النكرة متّصل بها كصلة الذى. وقد أنشدنى المفضَّل الضبّىّ:
أفاطمَ إنى هالك فتبيَّنى * ولا تجزعى كُلُّ النساء يئيم
ولا أُنَبأنْ بأنَّ وجهك شانَه * خُمُوشٌ وإن كان الحميم الحميم
فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثانى لأنه تشديد للأول. ولولم يكن فى الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله فى الكلام: ما كنا بشىء حين كنت، تريد حين صرت وجئت، فتكتفى (كان) بالاسم.
ومما يرفع من النكرات قوله {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} وفى قراءة عبدالله وأُبىّ "وإن كان ذا عسرة" فهما جائزان؛ إذا نصبت أضمرت فى كان اسما؛ كقول الشاعر:
لله قومى أىُّ قوم لحُرَّة * إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا! ‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍
وقال آخر:
أعينَىَّ هلاَّ تبكِيان عِفَاقا * إذا كان طعنا بينهم وعِناقا
وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم فى (كان) مع المنصوب؛ لأنه بِنْية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا. وقوله {فإن كُنَّ نساء فوق اثنتين} فقد أظهرت الأسماء. فلو قال: فإن كان نساء جاز الرفع والنصب. ومثله {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ومثله {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} ومن قال (تكون ميتة) جاز فيه الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة، وقوله {إنها إن تك مثقال حبة من خردل} فإن قلت: إن المثقال ذكر فكيف قال (تكن)؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبَّة وفيها المعنى؛ كأنه قال: إنها إن تك حبّة؛ وقال الشاعر:
على قبضة مرجوّة ظهرُ كفّه * فلا المرء مُسْتَحْىٍ ولا هو طاعم
لأنه ذهب إلى الكفّ؛ ومثله قول الآخرَ:
وتَشْرَق بالقول الذى قد أذعته * كما شرِقت صَدْرُ القناة من الدم
وقوله:
أبا عُرْوَ لا تبعَدْ فكلُّ ابن حُرَّة * ستدعوه داعى مَوْتة فيجيب
فأنّث فعل الداعى وهو ذكر؛ لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر:

قد صرَّح السيرُ عن كُتْمانَ وابتُذِلت * وَقْعُ المحاجِن بالمَهْرِيَّة الذُّقُن
فأنث فعل الوقع وهو ذَكَر؛ لأنه ذهب إلى المحاجن. وقوله {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} أى لا يُدْعَ كاتب وهو مشغول، ولا شهيد.

{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

وقوله: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ...}
وقرأ مجاهد "فرُهُن" على جَمْع الرهان كما قال "كلوا من ثُمُره" لجمع الثمار. وقوله: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [وأجاز قوم (قَلبْهَ) بالنصب] فإن يكن حقا فهو من جهة قولك: سَفهتَ رأيَك وأثِمت قلبَكَ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا...}

مصدر وقع فى موضع أمر فنُصِب. ومثله: الصلاةَ الصلاة. وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمرنصبت. فأمَّا الأسماء فقولك: اللّهَ اللّهَ يا قوم؛ ولو رفع على قولك: هو الله، فيكون خبرا وفيه تأويل الأمر لجاز؛ أنشدنى بعضهم:
إن قوما منهم عُمَير وأشبا * ه عمير ومنهم السفّاح
لجديرون بالوفاء إذا قا * ل أخو النجدة السلاح ُالسلاحُ
ومثله أن تقول: يا هؤلاء الليلُ فبادروا، أنت تريد: هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل: غفرانُك ربَّنا لجاز.
وقوله {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
الوُسْع اسم فى مثل معنى الوُجْد والجُهْد. ومن قال فى مثل الوجد: الوَجْد، وفى مثل الجُهْد: الجَهْد قال فى مثله من الكلام: "لا يكلف الله نفسا إلاَّ وسْعها". ولو قيل: وَسْعَها لكان جائزا، ولم نسمعه.
وقوله {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} والإصر: العهد كذلك، قال فى آل عمران {وأخذتم على ذلكم إصرى} والإصر هاهنا: الإثم إثم العَقْد إذا ضيَّعوا، كما شُدِّد على بنى إسرائيل.
وقد قرأت القُرَّاء "فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله" يقول: فاعلموا أنتم به. وقرأ قوم: فآذنوا أى فأعلِموا.
وقال ابن عباس: "فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة" وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة ولا الدواة.

المعاني الواردة في آيات
سورة ( آل عمران ){ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }

قوله تعالى: {اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...}
حدثنا محمد بن الجهم عن الفراء (الحىّ القيُّوم) قراءة العامة، وقرأها عمر بن الخطاب وابن مسعود "القيَّام" وصورة القَيُّوم: الفيعول، والقيَّام الفيعال، وهما جميعا مَدْح. وأهل الحجاز أكثر شىء قولا: الفَيْعال من ذوات الثلاثة. فيقولون للصوَّاغِ: الصيَّاغ.

{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }

وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ...}
{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} يعنى: مبيّنات للحلال والحرام ولم يُنْسَخن. وهنّ الثلاث الآياتِ فى الأنعام أوّلها: {قل تعالَوا أَتل ما حرّم ربّكم عليكم} والآيتان بعدها. وقوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}. يقول: هنّ الأصل.
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وهنّ: ألمص، وألر، وألمر؛ اشتبهن على اليهود لأنهم التمسوا مدّة أَكْل هذه الأمّة من حساب الجُمَّل، فلمَّا لم يأتهم على ما يريدون قالوا: خلّط محمد - صلى الله عليه وسلم - وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقال الله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يعنى تفسير المدّة.
ثم قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ثم استأنف "والراسخون" فرفعهم بـ "يقولون" لا بإتباعهم إعراب الله. وفى قراءة أبىّ "ويقول الراسخون" وفى قراءة عبدالله "إنْ تأويله إلا عند الله، والراسخون فى العلم يقولون".

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ...}
يقول: كفرت اليهود ككفر آل فرعون وشأنهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }

وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ...}
تقرأ بالتاء والياء. فمن جعلها بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وإلى أن الغلبة على المشركين [بعد] يوم أُحُد. وذلك أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لمّا هزم المشركين يوم بدر وهم ثلثمائة ونيّف والمشركون ألف إلا شيئا قالت اليهود: هذا الذى لا تردّ له راية، فصدِّقوا. فقال بعضهم: لا تعجَلوا بتصديقه حتى تكون وقعةٌ أخرى. فلما نُكِب المسلمون يوم أُحُد كذَّبوا ورجعوا. فأنزل الله: قل لليهود سيُغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم. فليس يجوز فى هذا المعنى إلا الياء.
ومن قرأ بالتاء جعل اليهود والمشركين داخلين فى الخطاب. فيجوز فى هذا المعنى سيُغلَبون وستُغْلَبون؛ كما تقول فى الكلام: قل لعبدالله إنه قائم، وإنك قائم. وفى حرف عبدالله {قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف} وفى قراءتنا "[إن ينتهوا] يُغْفَر لهم ما قد سلف" وفى الأنعام {هذا لِلَّه بِزَعْمِهمْ وهَذَا لِشُركَائهم} وفى قراءتنا "لشركائنا".

{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ }

وقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا...}
يعنى النبىّ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، والمشركين يوم بدر. {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} قرئت بالرفع؛ وهو وجه الكلام على معنى: إحداهما تقاتل فى سبيل الله {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} على الاستئناف؛ كما قال الشاعر:
فكنتُ كذِى رِجْلينِ رجلٌ صحيحةٌ * ورِجْلٌ رمَى فيها الزّمان فشَلّتِ

ولو خفضت لكان جيدا: تردّه على الخفض الأوّل؛ كأنك قلت: كذى رجلين: كذى رجلٍ صحيحةٍ ورجلٍ سقيمةٍ. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أوّل الكلام. ولو قلت: "فئةً تقاتل فى سبيل الله أخرى كافرةً" كان صوابا على قولك: التقتا مختلفتين. وقال الشاعر فى مثل ذلك مما يستأنف:
إذ مُِتُّ كان الناس نصفين شامتٌ * وآخَرُ مُثْنٍ بالذى كنت أفعل
ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسَّره. وأراد: بعضٌ شامتٌ وبعض غيرُ شامت. والنصب فيهما جائز، يردّهما على النصفين. وقال الآخر:
حتى إذا ما استقلّ النجمُ فى غَلَس * وغودِر البقلُ ملْوِىٌّ ومحصود
ففسر بعض البقل كذا، وبعضه كذا. والنصب جائز.
وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الذى ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاتصال بما قبله؛ من ذلك: رأيت القوم قائما وقاعدا، وقائم وقاعد؛ لأنك نويت بالنصب القطع، والاستئناف فى القطع حسن. وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز؛ فتقول: أظنّ القوم قياما وقعودا، وقيام وقعود، وكان القوم بتلك المنزلة. وكذلك رأيت القوم فى الدار قياما وقعودا، وقيامٌ وقعود، وقائما وقاعدا، وقائم وقاعد؛ فتفسّره بالواحد والجمع؛ قال الشاعر:
وكتيبةٍ شَعْواء ذات أشِلّة * فيها الفوارس حاسر ومقنَّع
فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسّر الجمع بالاثنين، ولكن تجمع فتقول: فيها القوم قياما وقعودا.

وأمّا الذى على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله: اضرب أخاك ظالما أو مسيئا، تريد: اضربه فى ظلمه وفى إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع فى حاليه؛ لأنهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع؛ تقول: ضربت القوم مجرَّدين أو لا بسين ولا يجوز: مجردون ولا لابسون؛ إلا أن تستأنف فتخبر، وليس بشرط للفعل؛ ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم فى هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا؛ فتقول: اضرب القوم مجرّدين أو لا بسين؛ لأن الشرط فى الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا. فلذلك جاز الوجهان فى الماضى.
وقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ} زعم بعض مَن رَوَى عن ابن عبَّاس أنه قال: رأى المسلمون المشركين فى الحَزْر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين، فهذا وجه. ورُوى قول آخر كأنه أشبه بالصواب: أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلثمائة وأربعة عشر، فلذلك قال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ} يعنى اليهود "آيةٌ" فى قلّة المسلمين وكثرة المشركين.
فإن قلت: فكيف جاز أن يقال "مِثْلَيْهِمْ" يريد ثلاثة أمثالهم؟ قلت: كما تقول وعندك عبد: أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، وتقول: أحتاج إلى مِثلَىْ عبدى، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل: معى ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فلمّا نوى أن يكون الأَلْف داخلا فى معنى المِثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله فى الكلام أن تقول: أراكم مثلكم، كأنك قلت: أراكم ضعفكم، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم، فهذا على معنى الثلاثة.
فإن قلت: فقد قال فى سورة الأنفال: {وإِذْ يُرِيكُموهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فى أَعينِهِم} فكيف كان هذا ها هنا تقليلا، وفى الآية الأولى تكثيرا؟ قلت: هذه آية المسلمين أخبرهم بها، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول فى الكلام: إنى لأرى كثيركم قليلا، أى قد هُوّن علىّ، لا أنى أرى الثلاثة اثنين.

ومن قرأ (تَرَوْنَهم) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم، ومن قال (يَرَوْنهم) فعلى ذلك؛ كما قال: {حتى إِذا كُنْتُمْ فِى الفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِم} وإن شئت جعلت (يَرَوْنَهم) للمسلمين دون اليهود.

{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }

وقوله: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ...}
واحد القناطير قِنطار. ويقال إنه مِلء مَسْك ثَور ذهبا أو فضّة، ويجوز (القناطيرُ) فى الكلام، والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة. كذلك سمعت، وهو المضاعف.

الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }

وقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ...}

ثم قال {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} فرفع الجنات باللام. ولم يجز ردّها على أوّل الكلام؛ لأنك حُلْت بينهما باللام، فلم يضمر خافض وقد حالت اللام بينهما. وقد يجوز أن تحول باللام ومثلِها بين الرافع وما رَفَع، والناصبِ ومانَصَب. فتقول: رأيت لأخيك مالا, ولأبيك إبلا. وترفع باللام إذا لم تُعمِل الفعل, وفي الرفع: قد كان لأخيك مال ولأبيك إبل. ولم يجُز أن تقول فى الخفض: قد أمرتُ لك بألف بألف ولأخيك ألفين, وأنت تريد (بألفين) لأن إضمار الخفض غير جائز؛ ألا ترى أنك تقول: مَنْ ضربتَ؟ فتقول: زيدا، ومن أتاك؟ فتقول: زيدٌ. فيضمر الرافع والناصب. ولو قال: بمن مررت؟ لم تقل: زيدٍ؛ لأن الخافض مع ما خَفَض بمنزلة الحرف الواحد. فإذا قدّمت الذى أخرته بعد اللام جاز فيه الخفض؛ لأنه كالمنسوق على ما قبله إذا لم تَحُلْ بينهما بشىء. فلو قُدّمِت الجنّات قبل اللام فقيل: (بخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ جناتٍ للذين اتقوا) لجاز الخفض والنصب على معنى تكرير الفعل بإسقاط الباء؛ كما قال الشاعر:
أتيتَ بعبدالله فى القِدّ مُوثَقا * فهلا سعِيدا ذا الخيانةِ والغدرِ‍‍‍‍‍‍‍‍
كذلك تفعل بالفعل إذا اكتسب الباء ثم أضمرا جميعا نصب كقولك: أخاك، وأنت تريد امْرُرْ بأخيك. وقال الشاعر [فى] استجازة العطف إذا قدّمته ولم تَحُلْ بينهما بشىء:
ألا يا لقومٍ كُلُّ ما حُمَّ واقع * ولِلطيرِ مَجْرىً والجُنُوبِ مَصَارع
أراد: وللجنوبِ مصارع، فاستجاز حذف اللام، وبها ترتفع المصارع إذ لم تحل بينهما بشىء. فلو قلت: (ومصارعُ الجنوبِ) لم يجز وأنت تريد إضمار اللام. وقال الآخر:
أوعدنى بالسجن والأداهِم * رِجلِى ورِجلى شَثْنَة المناسِمِ
أراد: أوعد رجلى بالأداهم.
وقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاء إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} والوجه رفع يعقوب. ومن نصب نوى به النصب، ولم يجز الخفض إلا بإعادة الباء: ومن وراء إسحاق بيعقوب.

وكلّ شيئين اجتمعا قد تقدم [أحدهما] قبل المخفوض الذى ترى أن الإضمار فيه يجوز على هذا. ولا تبالِ أن تفرق بينهما بفاعل أو مفعول به أو بصفة. فمن ذلك أن تقول: مررت بزيد وبعمرو ومحمد [أو] وعمرو ومحمد. ولا يجوز مررت بزيد وعمرو وفى الدار محمدٍ، حتى تقول: بمحمد. وكذلك: أمرت لأخيك بالعبيد ولأبيك بالوِرِق. ولا يجوز: لأبيك الوِرِق. وكذلك: مَُرَّ بعبدالله موثَقا ومطلقا زيدٍ، وأنت تريد: ومطلقا بزيد. وإن قلت: وزيدٍ مطلقا جاز ذلك على شبيه بالنَسَق إذا لم تَحُل بينهما بشىء.
وقوله: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرّ مِن ذَلِكُمُ النارُ وَعَدها الله الَّذِينَ كَفَروا} فيها ثلاثة أوجه أجودها الرفع، والنصب من جهتين: من وعدها إذ لم تكن النار مبتدأة، والنصب الآخر بإيقاع الإنباء عليها بسقوط الخفض. جائِز لأنك لم تَحُلْ بينهما بمانع. والرفع على الابتداء.
فإن قلت: فما تقول فى قول الشاعر:
آلآن بعد لجاجتى تَلْحَوْننِى * هلا التقدّمُ والقلوبُ صِحاحُ
بِم رُفع التقدّم؟ قلت: بمعنى الواو فى قوله: (والقلوبُ صحاح) كأنه قال: العِظَة والقلوب فارغة، والرُطَبُ والحرّ شديد، ثم أدخلت عليها هلاّ وهى على ما رفعتها، ولو نصبت التقدّم بنية فِعل كما تقول: أتيتنا بأحاديث لا نعرفها فهلا أحاديثَ معروفة.
ولو جعلت اللام فى قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ} من صلة الإنباء جاز خفص الجنات والأزواج والرضوان.

{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

وقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ...}

إن شئت جعلته خفضا نعتا للذين اتقوا، وإن شئت استأنفتها فرفعتها إذ كانت آية وما هي نعت له آيةٌ قبلها. ومثله قول الله تبارك وتعالى {إنّ اللهََ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فلمّا انقضت الآية قال {التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}، وهى فى قراءة عبدالله "التائِبين العابدين".

{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ }

وكذلك: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ...}
موضعها خفض، ولو كانت رفعا لكان صوابا. وقوله {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} المصلّون بالأسحار، ويقول: الصلاة بالسحر أفضل مواقيت الصلاة. أخبرنا محمد ابن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى شريك عن السُّدِّىّ فى قوله {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} قال: أخّرهم السَحَر.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ...}
قد فتحت القُرّاء الألِف من (أنه) ومن قوله "أنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإِسْلاَمُ". وإن شئت جعلت (أنه) على الشرط وجعلت الشهادة واقعة على قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} وتكون (أنّ) الأولى يصلح فيها الخفض؛ كقلوك: شهد الله بتوحيده أن الدين عنده الإسلام.

وإن شئت استأنفت (إِن الدين) بكسرتها، وأوقعت الشهادة على {أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ}. وكذلك قرأها حمزة. وهو أحبّ الوجهين إلىّ . وهى فى قراءة عبدالله "إن الدين عند الله الإسلام". وكان الكسائىّ يفتحهما كلتيهما. وقرأ ابن عباس بكسر الأوّل وفتح "أن الدين عند الله الإسلام"، وهو وجه جيد؛ جعل {أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ} مستأنفة معترضة -كأنّ الفاء تراد فيها - وأووقع الشهادة على "أن الدين عند الله". ومثله فى الكلام قولك للرجل: أشهد - إنى أعلم الناس بهذا - أنّك عالم، كأنك قلت: أشهد - إنى أعلم بهذا من غيرى - أنك عالم. وإذا جئت بأنّ قد وقع عليها العلم أو الشهادة أو الظن وما أشبه ذلك كسرت إحداهما ونصبت التى يقع عليها الظنّ أو العلم وما أشبه ذلك؛ نقول للرجل: لا تحسبن أنك عاقل؛ إنك جاهل، لأنك تريد فإنك جاهل، وإن صلحت الفاء فى إن السابقة كسرتها وفتحت الثانية. يقاس على هذه ما ورد.
وقوله {وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} منصوب على القطع؛ لأنه نكرة نعت به معرفة. وهو فى قراءة عبدالله "القائِمُ بالقسط" رَفْع؛ لأنه معرفة نعت لمعرفة.

{ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }

وقوله: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ...}

==============ج2. كتاب : معانى القرآن للفراء

المؤلف : أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء

{وَمَنِ اتَّبَعَنِ} للعرب فى الياءات التى فى أواخر الحروف - مثل اتبعن، وأكرمن، وأهانن، ومثل قوله "دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ - وَقَدْ هَدَانِ" - أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة. فمن حذفها اكتفى بالكسرة التى قبلها دليلا عليها. وذلك أنها كالصلة؛ إذ سكنت وهى فى آخر الحروف واستثقلت فحذفت. ومن أتمهّا فهو البناء والأصل. ويفعلون ذلك فى الياء وإن لم يكن قبلها نون؛ فيقولون هذا غلامى قد جاء، وغلامِ قد جاء؛ قال الله تبارك وتعالى {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ} فى غير نداء بحذف الياء. وأكثر ما تحذف بالإضافة فى النداء؛ لأن النداء مستعمل كثير فى الكلام فحذف فى غير نداء. وقال إبراهيم {رَبَّنَا وتَقَبَّل دُعَاءِ} بغير ياء، وقال فى سورة الملك {كَيْفَ كَانَ نَكِير} و "نذِير" وذلك أنهن رءوس الآيات، لم يكن فى الآيات قبلهن ياء ثانية فأُجرين على ما قبلهن؛ إذ كان ذلك من كلام العرب.
ويفعلون ذلك فى الياء الأصلية؛ فيقولون: هذا قاض ورام وداع بغير ياء، لا يثبتون الياء فى شىء من فاعِل. فإذا أدخلوا فيه الألف واللام قالوا بالوجهين؛ فأثبتوا الياء وحذفوها. وقال الله {من يهدِ الله فهو المهتدِ} فى كل القرآن بغير ياء. وقال فى الأعراف "فهو المهتدى" وكذلك قال {يَوْمَ يُنَادِى المُنَادِ} و {أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ}. وأحبّ ذلك إلىّ أن أثبت الياء فى الألف واللام؛ لأن طرحها فى قاض ومفترٍ وما أشبهه بما أتاها من مقارنة نون الإعراب وهى ساكنة والياء ساكنة، فلم يستقم جمع بين ساكنين، فحذفت الياء لسكونها. فإذا أدخلت الألف واللام لم يجز إدخال النون، فلذلك أحببت إثبات الياء. ومن حذفها فهو يرى هذه العلّة: قال: وجدت الحرف بغير ياء قبل أن تكون فيه الألف واللام، فكرهت إذ دخلت أن أزيد فيه ما لم يكن. وكلّ صواب.

وقوله {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} وهو استفهام ومعناه أمر. ومثله قول الله {فهل أَنْتُم مُنتهون} استفهام وتأويله: انتهوا. وكذلك قوله {هل يَسْتَطِيع ربُّك} وهل تستطيع رَبَّك إنما [هو] مسألة. أوَ لا ترى أنك تقول للرجل: هل أنت كافّ عنا؟ معناه: اكفف، تقول للرجل: أين أين؟: أقِم ولا تبرح. فلذلك جوزى فى الاستفهام كما جوزى فى الأمر. وفى قراءة عبدالله "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. آمِنوا" ففسّر (هل أدلكم) بالأمر. وفى قراءتنا على الخبر. فالمجازاة فى قراءتنا على قوله (هل أدلكم) والمجازاة فى قراءة عبدالله على الأمر؛ لأنه هو التفسير.

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ...}
تقرأ: ويقتلون، وهى فى قراءة عبدالله "وقاتلوا" فلذلك قرأها من قرأها (يقاتلون), وقد قرأ بها الكسائىّ دَهْراً (يقاتلون) ثم رجع، وأحسبه رآها فى بعض مصاحف عبدالله {وقَتَلوا} بغير الألف فتركها ورجع إلى قراءة العامّة؛ إذ وافق الكتاب فى معنى قراءة العامّة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ...}

قيلت باللام. و (فى) قد تصلح فى موضعها؛ تقول فى الكلام: جُمِعوا لِيوم الخميس. وكأنّ اللام لفعل مضمر فى الخميس؛ كأنهم جُمِعوا لِمَا يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا فى يوم الخميس لم تضمِر فعلا. وفى قوله: {جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أى للحساب والجزاء.

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ...}
{اللهم} كلمة تنصبها العرب. وقد قال بعض النحويين: إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بيا؛ كما تقول: يا زيد، ويا عبدالله، فجعلت الميم فيها خَلَفا من يا. وقد أنشدنى بعضهم:
وما عليكِ أن تقولى كُلَّما * صلَّيتِ أو سبَّحتِ يا اللهمَّ ما
* اُردُدْ علينا شيخنا مسلما *
ولم نجد العرب زادت مثل هذه الميم فى نواقص الأسماء إلا مخفَّفة؛ مثل الفم وابنم وهم، ونرى أنها كانت كلمة ضمّ إليها؛ اُمّ، تريد: يا ألله اُمّنا بخير، فكثرت فى الكلام فاختلطت. فالرفعة التى فى الهاء من همزة أُمّ لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. ونرى أن قول العرب: (هَلُمَّ إلينا) مثلها، إنما كانت (هل) فضمّ إليها أُمّ فتركت على نصبها. ومن العرب من يقول إذا طرح الميم: يا ألله اغفر لى، ويا الله اغفر لى، فيهمزون ألفها ويحذفونها. فمن حذفها فهو على السبيل؛ لأنها ألف ولام مثل الحارث من الأسماء. ومن همزها توهّم أنها من الحرف إذ كانت لا تسقط منه؛ أنشدنى بعضهم:
مباركٌ هُوّ ومَن سمَّاه * على اسمك اللهمَّ يا ألله
وقد كثرت (اللهم) فى الكلام حتى خُفِّفت ميمها فى بعض اللغات؛ أنشدنى بعضهم:
كَحَلْفَةٍ من أبى رياح * يسمعها اللهمَ الكُبار
وإنشاد العامّة: لاهه الكبار. وأنشدنى الكسائىّ:
* يسمعها الله والله كبار *

وقوله تبارك وتعالى: {تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}. (إذا رأيت من تشاء مع من تريد من تشاء أن تنزِعه منه). والعرب تكتفى بما ظهر فى أوّل الكلام ممّا ينبغى أن يظهر بعد شئت. فيقولون: خذ ما شئت، وكن فيما شئت. ومعناه فيما شئت أن تكون فيه. فيحذف الفعل بعدها؛ قال تعالى: "اعملوا ما شِئتم" وقال تبارك وتعالى {فى أىّ صورةٍ مّا شاء ركّبك} والمعنى -والله أعلم -: فى أىّ صورة شاء أن يركّبك ركّبك. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شَاءَ الله} وكذلك الجزاء كله؛ إن شئت فقم، وإن شئت فلا تقم؛ المعنى: إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت ألاَّ تقوم فلا تقم. وقال الله {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فهذا بيّن أنّ المشيئة واقعة على الإيمان والكفر، وهما متروكان. ولذلك قالت العرب: (أَيُّها شئت فلك) فرفعوا أيّا لأنهم أرادوا أيُّها شئت أن يكون لك فهو لك. وقالوا (بِأيِّهم شئت فمرّ) وهم يريدون: بأيّهم شئت أن تمرّ فمرّ.

{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

وقوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ...}
جاء التفسير أنه نقصان الليل يولَج النهار، وكذلك النهار يولَج فى الليل، حتى يتناهى طولُ هذا وقِصَر هذا.
وقوله {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ذُكر عن ابن عباس أنها البيضة: ميتة يخرج منها الفرخ حيّا، والنُطْفة: ميتة يخرج منها الولد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }

وقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ...}
نهى، ويُجزم فى ذلك. ولو رُفع على الخبر كما قرأ من قرأ: {لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِها} . وقوله {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} هى أكثر كلام العرب، وقرأه القرّاء. وذكِر عن الحسن ومجاهد أنهما قرءا "تَقِيَّة" وكلّ صواب.

{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ...}
جزم على الجزاء. {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} رفع على الاستئناف؛ كما قال الله فى سورة براءة {قاتِلوهم يعذِّبْهم الله} فجزم الأفاعيل، ثم قال {ويتوبُ الله على من يشاء} رفعا على الائتناف. وكذلك قوله {فإن يشأ الله يختِمْ على قلبِك} ثم قال {ويمح الله الباطِل} ويَمْحُ فى نِيَّة رفع مستأنفة وإن لم تكن فيها واو؛ حذفت منها الواو كما حذفت فى قوله {سندعُ الزّبانية}. وإذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم. وأمّا قوله {وإن تبدوا ما فِى أنفسِكم أو تخفوه يحاسِبْكم بِهِ الله فيغفِرُ} وتقرأ جزما على العطف ومسكَّنة تشبه الجزم وهى فى نية رفع تدغم الراء من يغفر عند اللام، والباء من يعذب عند الميم؛ كما يقال {أرَأَيْتَ الذِى يُكذِّب بِالدّين} وكما قرأ الحسن {شهر رمضان}.

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }

وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً...}
ما فى مذهب الذى. ولا يكون جزاء لأن (تجد) قد وقعت على ما.
وقوله {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ} فإنك تردّه أيضا على (ما) فتجعل (عملت) صلة لها فى مذهب رفع لقوله {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} ولو استأنفتها فلم توقع عليها (تجد) جاز الجزاء؛ تجعل (عملت) مجزومة. ويقول فى تودّ: تودَّ بالنصب وتودِّ. ولو كان التضعيف ظاهر لجاز تَوْدَدْ. وهى فى قراءة عبدالله "وما عملت من سوء ودَّت" فهذا دليل على الجزم، ولم أسمع أحدا من القراء قرأها جزما.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ...}
يقال اصطفى دينهم على جميع الأديان؛ لأنهم كانوا مسلمين، ومثله مما أضمر فيه شىء فأُلقِى قوله {واسألِ القرية التِى كنا فيها}. ثم قال {ذرية بعضها مِن بعضٍ} فنصب الذرّية على جهتين؛ إحداهما أن تجعل الذرّية قطعا من الأسماء قبلها لأنهن معرفة. وإن شئت نصبت على التكرير، اصطفى ذرّية بعضها من بعض، ولو استأنفت فرفعت كان صوابا.

{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً...}
لبيت المقدس: لأ أشغله بغيره.

{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ...}
قد يكون من إخبار مريم فيكون "والله أعلم بِما وضعْتُ" يسكن العين، وقرأ بها بعض القراء، ويكون من قول الله تبارك وتعالى، فتجزم التاء؛ لانه خبرعن أنثى غائبة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

وقوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا...}
من شدّد جعل زكريا في موضع نصب؛ كقولك: ضمَّنها زكريا, ومن خفف الفاء جعل زكرياء فى موضع رفع. وفى زكريا ثلاث لغات: القصر فى ألِفه, فلايستبِين فيها رفع ولا نصب ولا خفض, وتمدّ ألفه فتنصب وترفع بلا نون؛ لأنه لا يُجْرَى, وكثير من كلام العرب أن تحذف المدّة والياء الساكنة فيقال: هذا زكرىّ قد حاء فيُجْرَى؛ لأنه يشبه المنسوب من أسماء العرب.

{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ }

وقوله: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً...}
الذرّية جمع، وقد تكون فى معنى واحد. فهذا من ذلك؛ لأنه قد قال: {فهب لِى مِن لدنك ولِيا} ولم يقل أولياء. وإنما قيل "طيبة" ولم يقل طيبا لأن الطيبة أُخرِجت على لفظ الذرّية فأنثت لتأنيثها، ولو قيل ذرّية طيبا كان صوابا. ومثله من كلام العرب قول الشاعر:

أبوك خليفةٌ وَلَدتْه أخرى * وأنت خليفة ذاك الكمال
فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن تقول: وَلَدَه آخر. وقال آخر.
فما تزْدَرِى من حَيَّة جَبَليّةٍ * سُكَاتٍ إذا ماعَضّ ليس بأدْرَدَا
فقال: جَبَليّة، فأنّث لتأنيث اسم الحيّة، ثم ذكّر إذ قال: إذا ما عضَّ ولم يقل: عضّت. فذهب إلى تذكير المعنى. وقال الآخر:
تَجوبُ بنا الفلاةَ إِلى سعِيدٍ * إذا ما الشّاةُ فى الأَرطَاة قالا
ولا يجوز هذا النحو إلا فى الاسم الذى لا يقع عليه فلان؛ مثل الدابّة والذرّية والخليفة؛ فإذا سميت رجلا بشىء من ذلك فكان فى معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعتِه. فتقول فى ذلك: حدّثنا المغيرة الضّبىّ، ولا يجوز الضّبيّة. ولا يجوز أن تقول: حدّثَتْنا؛ لأنه فى معنى فلان وليس فى معنى فلانة. وأمّا قوله:
وعنترةُ الفلحاء جاء مُلأَّماً * كأنَّهُ فِنْدٌ من عَمَاية أَسود
فإنه قال: الفلحاء فنعته بشَفَته. قال: وسمعت أبا ثرْوان يقول لرجل من ضبَّة وكان عظيم العينين: هذا عينان قد جاء، جعله كالنعت له. وقال بعض الأعراب لرجل أقصم الثنِيَّة: قد جاءتكم القَصْماء، ذهب إلى سِنّه.

{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }

وقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ...}

يقرأ بالتذكير والتأنيث. وكذلك فِعْل الملائكة وما أشبههم من الجمع: يؤنّث ويذكّر. وقرأت القراء "يعرج الملائكة، وتعرج" و "تتوفاهم - و - يتوفاهم الملائكة" وكل صواب. فمن ذكّر ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنَّث فلِتأنيث الاسم، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه التأنيث. والملائِكة فى هذا الموضع جبريل صلّى الله عليه وسلم وحده. وذلك جائِز فى العربيّة: أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع؛ كما تقول فى الكلام: خرج فلان فى السُفُن, وإنما خرج فى سفينة واحدة، وخرج على البغال، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول: مِمَّن سمعت هذا الخبر؟ فيقول: من الناس, وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قال الله تبارك وتعالى: {وإذا مَسَّ النّاسَ ضُرّ} ، {وإذا مسَّ الإنسان ضر} ومعناهما والله أعلم واحد: وذلك جائِز فيما لم يُقصَد فيه قصدُ واحدٍ بعينه.

وقوله {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ} تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود فى العربيّة فمن فتح (أنّ) أوقع النداء عليها؛ كأنه قال: نادَوه بذلك أن الله يبشرك. ومن كسر قال: النداء فى مذهب القول، والقولُ حكاية. فاكسر إنّ بمعنى الحكاية. وفى قراءة عبدالله "فناداه الملائكة وهو قائم يصلِّى فى المحراب يا زكريا إن الله يبشرك" فإذا أُوقع النداء على منادىً ظاهر مثل (يا زكريا) وأشباهه كسرت (إن) لأن الحكاية تخلص، إذا كان ما فيه (يا) ينادَى بها، لا يخلص إليها رفع ولا نصب؛ ألا ترى أنك تقول: يا زيد إنك قائم، ولا يجوز يا زيد أنك قائم. وإذا قلت: ناديت زيدا أنه قائم فنصبت (زيدا) بالنداء جاز أن توقع النداء على (أنّ) كما أوقعته على زيد. ولم يجز أن تجعل إنّ مفتوحة إذا قلت يا زيد؛ لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال فى طه: {فلّما أتاها نودِى يا موسى إِنى أنا ربك} فكُسِرت (إِنى). ولو فُتحت كان صوابا من الوجهين؛ أحدهما أن تجعل النداء واقعا على (إنّ) خاصّة لا إضمار فيها، فتكون (أنّ) فى موضع رفع. وإن شئت جعلت فى (نودى) اسم موسى مضمرا، وكانت (أنّ) فى موضع نصب تريد: بأنى أنا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل فى الكلام: نودى أنْ يا زيد فجعلت (أن يا زيد) [هو المرفوع بالنداء] كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدّقت الرؤيا}.
فهذا ما فى النداء إذا أوقعت (إن) قيل يا زيد، كأنك قلت: نودى بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وإذا ضممت إلى النداء الذى قد أصابه الفعل اسما منادىً فلك أن تُحدِث (أن) معه فتقول ناديت أن يا زيد، فلك أن تحذفها من (يا زيد) فتجعلها فى الفعل بعده ثم تنصبها. ويجوز الكسر على الحكاية.

ومما يقوّى مذهب من أجاز "إن الله يبشرك" بالكسر على الحكاية قوله: {ونادَوا يا مالك ليقض علينا ربك} ولم يقل: أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال فى موضع آخر {ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة أن أفيضوا} ولم يقل: أفيضوا، وهذا أمر وذلك أمر؛ لتعلم أن الوجهين صواب.
و "يبشرك" قرأها [بالتخفيف] أصحابُ عبدالله فى خمسة مواضع من القرآن: فى آل عمران حرفان، وفى بنى إسرائيل، وفى الكهف، وفى مريم. والتخفيف والتشديد صواب. وكأنّ المشدّد على بِشارات البُشَراء، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور. وهذا شىء كان المشيخة يقولونه. وأنشدنى بعض العرب:
بَشَرتُ عِيالى إذْ رأيت صحيفةً * أتتك من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
وقد قال بعضهم: أبشرت، ولعلّها لغة حجازيّة. وسمعت سفيان بن عُيَيْنة يذكرها يُبْشِر. وبشرت لغة سمعتها من عُكل، ورواها الكسائىّ عن غيرهم. وقال أبو ثَروان: بَشرَنى بوجه حسن. وأنشدنى الكسائىّ:
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى * غُبْرا أكفُّهم بِقاع ممحِل
فأَعِنْهُمُ وابْشَرْ بما بَشِرُوا به * وإذا همُ نزلوا بضَنْك فانزِل
وسائر القرآن يشدَّد فى قول أصحاب عبدالله وغيرهم.
وقوله: {يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً} نصبت (مصدّقا) لأنه نكرة، ويحيى معرفة. وقوله: {بكلمة} يعنى مصدِّقا بعيسى.
وقوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً} مردودات على قوله: مصدّقا. ويقال: إن الحَصُور: الذى لا يأتى النساء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }

وقوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ...}

إذا أردت الاستقبال المحض نصبت (تكلِّم) وجعلت (لا) على غير معنى ليس. وإذا أردت: آيتك أنك على هذه الحال ثلاثةَ أيام رفعت، فقلت: أن لا تكلِّمُ الناس؛ ألا ترى أنه يحسن أن تقول: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره فى الشفتين. كلّ ذلك رَمْز.

{ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }

وقوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ...}
مما ذكرت لك فى قوله {ذُرّيَّةً طَيِّبَةً} قيل فيها (اسمه) بالتذكير للمعنى، ولو أنَّث كما قال {ذُرّيَّةً طَيِّبَةً} كان صوابا.
وقوله: (وَجِيهاً) قطعا من عيسى، ولو خفضت على أن تكون نعتا للكلمة لأنها هى عيسى كان صوابا.

{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }

قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً...}
والكهل مردود على الوجيه. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} ولو كان فى موضع (ويكلّم) ومكلما كان نصبا، والعرب تجعل يفعل وفاعِلٌ إذا كانا فى عطوف مجتمعين فى الكلام، قال الشاعر:
بِتّ أعَشِّيها بغَضْبٍ باتِرِ * يقصِد فى أَسْوُقِها وجائِر
وقال آخر:
من الذَّرِيحيَّات جَعْدا آرِكا * يقصُر يمشى ويطول باركا
كأنه قال: يقصر ماشيا فيطول باركا. فكذلك (فَعَلَ) إذا كانت فى موضع صلة لنكرة أتبِعها (فاعِل) وأُتبعته. تقول فى الكلام: مررت بفتىً ابنِ عشرين أو قد قارب ذلك, ومررت بغلام قد احتلم أو محتلمٍ؛ قال الشاعر:
يا ليتنى عَلِقْتُ غير خارج * قبل الصباح ذاتَ خَلْقٍ بارِج
* أُمّ الصبىّ قد حبا أو دارج *

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ...}
يذهب إلى الطين، وفى المائدة {فتنفخ فيها} ذهب إلى الهيئة، فأنث لتأنيثها، وفى إحدى القراءتين (فأنفخها) وفى قراءة عبدالله (فأنفخها) بغير فى، وهو مما تقوله العرب: ربّ ليلة قد بِتّ فيها وبِتُّها.
ويقال فى الفعل أيضا:
* ولقد أَبيت على الطَوَى وأظلهُّ *
تُلْقَى الصفات وإن اختلفت فى الأسماء والأفاعيل. وقال الشاعر:
إذا قالت حذامِ فأنصِتوها * فإن القول ما قالت حذام
وقال الله تبارك وتعالى وهو أصدق قِيلا: {وإِذا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرون} يريد: كالوا لهم، وقال الشاعر:
ما شُقّ جَيْب ولا قامتك نائحة * ولا بكتك جِياد عند أسلابِ
وقوله: (وما تدَّخِرون) هى تفتعلون من ذخرت، وتقرأ (وما تدْخَرون) خفيفة على تَفْعَلون، وبعض العرب يقول: تدَّخِرون فيجعل الدال والذال يعتقبان فى تفتعلون من ذخرت، وظلمت تقول: مظّلِم ومطَّلِم، ومُذَّكِر ومدَّكِر، وسمعت بعض بنى أَسَد يقول: قد اتَّغر، وهذه اللغة كثيرة فيهم خاصَّة. وغيرهم: قد اثَّغر.
فأمّا الذين يقولون: يدّخر ويدّكِر ومدّكِر فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت واستقبلتها ذال دخلت التاء فى الذال فصارت ذالا، فكرِهوا أن تصير التاء ذالا فلا يعَرفُ الافتعال من ذلك، فنظروا إلى حرف يكون عَدْلا بينهما فى المقارَبة، فجعلوه مكان التاء ومكان الذال.

وأمّا الذين غلَّبوا الذال فأمضوُا القياس، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال والتاء والطاء.
ولا تنكرنّ اختيارهم الحرف بين الحرفين؛ فقد قالوا: ازدجر ومعناها: ازتجر، فجعلوا الدال عدلا بين التاء والزاى. ولقد قال بعضهم: مُزجَّر،فغلَّب الزاى كما غلَّب التاء. وسمعت بعض بنى عُقَيل يقول: عليك بأبوال الظِباء فاصَّعِطْها فإنها شِفاء للطَحَل، فغلب الصاد على التاء، وتاءُ الافتعال تصير مع الصاد والضاد طاء، كذلك الفصيح من الكلام كما قال الله عز وجل: {فَمَن اضْطُرّ فى مَخْمَصَةٍ} ومعناها افتعل من الضرر. وقال الله تبارك وتعالى {وأْمُرْ أهْْلَكَ بالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها} فجعلوا التاء طاء فى الافتعال.

{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }

وقوله: {وَمُصَدِّقاً...}
نصبت (مصدّقا) على فِعل (جئت)، كأنه قال: وجِئتكم مصدّقا لِما بين يدىّ من التوراة، وليس نصبُه بتابع لقوله (وَجِيهاً) لأنه لو كان كذلك لكان (ومصدّقا لما بين يديه).
وقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُم} الواو فيها بمنزلة قوله {وكذَلِكَ نُرِى إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين}.

{ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

وقوله: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ...}

يقول: وجد عيسى. والإحساس: الوجود، تقول فى الكلام: هل أحسست أحدا. وكذلك قوله {هل تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}. فإذا قلت: حَسَسْت، بغير ألف فهى فى معنى الإفناء والقتل. من ذلك قول الله عز وجل {إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإذْنِهِ} والحَسّ أيضا: العطف والرِقّة؛ كقول الكُمَيت:
هل مَنْ بكى الدار راجٍ أن تحِسّ له * أو يُبْكِىَ الدارَ ماءُ العَبْرةِ الخَضِل
وسمعت بعض العرب يقول: ما رأيت عُقَيليّا إلا حَسَست له، وحسِست لغة. والعرب تقول: من أين حَسَيت هذا الخبر؟ يريدون: من أين تخبَّرته؟ [وربما قالوا حسِيت بالخبر وأحسيت به، يبدلون من السين ياء] كقول أبى زُبيد.
* حسِينَ بِه فَهُنّ إليه شُوس *
وقد تقول العرب ما أحَستْ بهم أحدا، فيحذفون السين الأولى، وكذلك فى وددت، ومسِست وهَمَمْت، قال: أنشدنى بعضهم:
هل ينفَعَنْك اليوم إِن هَمْت بِهَمّْ * كثرةُ ما تأتى وتَعْقاد الرَتَمْ
وقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} المفسِّرون يقولون: من أنصارى مع الله، وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل (إلى) موضع (مع) إذا ضممت الشىء إلى الشىء مما لم يكن معه؛ كقول العرب: إن الذود إلى الذود إبل؛ أى إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا. فإذا كان الشىء مع الشىء لم تصلح مكان مع إلى، ألا ترى أنك تقول: قدم فلان ومعه مال كثير، ولا تقول فى هذا الموضع: قدِم فلان وإليه مال كثير. وكذلك تقول: قدم فلان إلى أهله، ولا تقول: مع أهله، ومنه قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ} معناه: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم.
والحواريُّون كانوا خاصَّة عيسى. وكذلك خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع عليهم الحواريّون. وكان الزبير يقال له حوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما جاء فى الحديث لأبى بكر وعمر وأشباههما حوارىّ. وجاء فى التفسير أنهم سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }

ومعنى قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ...}
نزل هذا فى شأن عيسى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوّة وقد أيَّده الله تبارك وتعالى بجبريل صلى الله عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوّة، ودخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى الله على ذلك الرجل شَبَه عيسى بن مريم. فلمّا دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول: ما فى البيت أحد، فقتلوه وهم يَرُون أنه عيسى. فذلك قوله {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين.

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...}
يقال: إن هذا مقدّم ومؤخَّر. والمعنى فيه: إنى رافعك إلىَّ ومطهِّرك من الذين كفروا ومتوفِّيك بعد إنزالى إيّاك فى الدنيا. فهذا وجه.
وقد يكون الكلام غير مقدّم ولا مؤخَّر؛ فيكون معنى متوفّيك: قابضك؛ كما تقول: توفيت مالى من فلان: قبضته من فلان. فيكون التوفّى على أخذه ورفعه إليه من غير موت.

{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

وقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ...}

هذا لقول النصارى إنه ابنه، إذ لم يكن أب، فأنزل الله تبارك وتعالى عُلُوّا كبيرا {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} لا أب له ولا أم، فهو أعجب أمرا من عيسى، ثم قال: {خَلَقَهُ} لا أن قوله "خلقه" صلة لآدم؛ إنما تكون الصلات للنكرات؛ كقولك: رجل خلقه من تراب، وإنما فسَّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال "خلقه" على الانقطاع والتفسير، ومثله قوله {مَثَلُ الذين حُمِّلوا التّوْرَاة ثم لم يَحْمِلُوهَا كَمَثَل الْحِمَارِ} ثم قال {يَحْملُ أَسْفَاراً} والأسفار: كتب العلم يحملها ولا يَدْرى ما فيها. وإن شئت جعلت "يحمل" صلة للحمار، كأنك قلت: كمثل حمار يحمل أسفارا؛ لأن ما فيه الألف واللام قد يوصل فيقال: لا أمرَّ إلا بالرجل يقول ذلك، كقولك بالذى يقول ذلك. ولا يجوز فى زيد ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ }

وقوله: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ...}
رفعته بإضمار (هو) ومثله فى البقرة {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أى هو الحق، أو ذلك الحق فلا تَمْتَرِ.

{ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

وقوله: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}
وهى فى قراءة عبدالله "إلى كلمة عدل بيننا وبينكم" وقد يقال فى معنى عدل سِوىً وسُوىً، قال الله تبارك وتعالى فى سورة طه {فاجْعَلْ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَاناً سِوىً} وسُوىً؛ يراد به عَدْل ونصف بيننا وبينك.

ثم قال {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} فأن فى موضع خفض على معنى: تعالوا إلى ألاّ نعبد إلا الله. ولو أنك رفعت (ما نعبد) مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا نعبد إلا الله؛ لأن معنى الكلمة القول، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبدُ إلا الله. ولو جزمت العُطُوف لصَلَح على التوهّم؛ لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فيه أن؛ كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا.
ومثله مما يرِد على التأويل {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ولا تَكُونَنّ} فصيَّر (ولا تكونن) نهيا فى موضع جزم، والأول منصوب، ومثله {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} فردَّ أن على لام كى لأن (أن) تصلح فى موقع اللام. فردَّ أن على أن مثلها يصلح فى موقع اللام؛ ألا ترى أنه قال فى موضع {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} وفى موضع {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا}.

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ...}
فإن أهل نَجْران قالوا: كان إبراهيم نصرانيّا على ديننا، وقالت اليهود: كان يهوديا على ديننا، فأكذبهم الله فقال {وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} أى بعد إبراهيم بدهر طويل، ثم عيَّرهم أيضا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ هاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

فقال: {هاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ...}
إلى آخر الآية. ثم بيَّن ذلك.

فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً...}
إلى آخر الآية.

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }

وقوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ...}
يقول: تشهدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بصفاته فى كتابكم. فذلك قوله: (تشهدون).

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ...}
لو أنك قلت فى الكلام: لِمَ تقومُ وتقعدَ يا رجل؟ على الصرف لجاز، فلو نصبت (وتكتموا) كان صوابا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

وقوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ...}
يعنى صلاة الصبح {وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} يعنى صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لمّا صُرِفت القِبلة عن بيت المَقْدِس إلى الكعبة؛ فقالت اليهود: صَلُّوا مع محمد - صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم - الصبحَ، فإذا كانت الظهرُ فصلّوا إلى قبلتكم لتشكّكوا أصحاب محمد فى قبلتهم؛ لأنكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.

{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

فأما قوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...}
فأنه يقال: إنها من قول اليهود. يقول: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم. واللام بمنزلة قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} المعنى: ردِفكم.
وقوله: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ...}
يقول: لا تصدّقوا أن يؤتَى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت {تؤمنوا} على {أن يؤتى} كأنه قال: ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أُعطِيتم، فهذا وجه.
ويقال: قد انقطع كلام اليهود عند قوله {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}, ثم صار الكلام من قوله قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام، وجاءت (أن) لأنّ فى قوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى} مثلَ قوله: إن البيان بيان الله، فقد بيّن أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى أهلُ الإسلام. وصلحت (أحد) لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا} معناه: لا تضلّون. وقال تبارك وتعالى {كَذَلِكَ سَلَكْناهُ فِى قُلُوبِ المُجْرِمينَ. لاَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أن تصلح فى موضع لا.
وقوله {أوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْد رَبِّكُمْ} فى معنى حَتَّى وفى معنى إلاّ؛ كما تقول فى الكلام: تعلَّقْ به أبدا أو يعطيَك حقّك، فتصلح حتَّى وإلاَّ فى موضع أو.

{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...}

كان الأعمش وعاصم يجزمان الهاء فى يؤدِّه، و "نُولِّهْ ما تَوَلّى"، و "أرجِهْ وأخاه"، و "خيرا يرهْ"، و "شرا يرهْ". وفيه لهما مذهبان؛ أمّا أحدهما فإن القوم ظنّوا أن الجزم فى الهاء، وإنما هو فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهُّما؛ خطأٌ. وأمَّا الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرّك ما قبلها؛ فيقول ضربتهْ ضربا شديدا، أو يترك الهاء إذ سكَّنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم؛ ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرّك الهاء حركة بلا واو، فيقول ضربتهُ (بلا واو) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصَل بواو؛ فيقال كلمتهو كلاما، على هذا البناء، وقد قال الشاعر فى حذف الواو:
أنا ابن كِلاب وابن أوْس فمن يكنْ * قِناعهُ مَغْطِيّا فإنّى لمُجْتَلَى
وأمّا إذا سكن ما قبل الهاء فإنهم يختارون حذف الواو من الهاء؛ فيقولون: دَعْهُ يذهب، ومنْه، وعنْه. ولا يكادون يقولون: منهو ولا عنهو، فيصلون بواو إذا سكن ما قبلها؛ وذلك أنهم لا يقدِرون على تسكين الهاء وقبلها حرف ساكن، فلمَّا صارت متحرّكة لا يجوز تسكينها اكتفَوا بحركتها من الواو.
وقوله {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} يقول: ما دمت له متقاضيا. والتفسير فى ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسلام أدّى بعضهم الأمانه، وقال بعضهم: ليس للأمِّيِّين - وهم العرب - حُرْمة كحرمة أهل ديننا، فأخبر الله - تبارك وتعالى - أنّ فيهم أمانة وخيانة؛ فقال تبارك وتعالى {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فى استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ...}
تقرأ: تُعلِّمون وتَعْلَمون، وجاء فى التفسير: بقراءتكم الكتب وعِلمكم بها. فكان الوجه (تَعْلَمون) وقرأ الكسائىّ وحمزة (تُعَلِّمون) لأن العالِم يقع عليه يُعَلِّم ويَعلَم.

{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }

وقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ...}
أكثر القراء على نصبها؛ يردونها على {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ}: ولا أن يأمركم. وهى فى قراءة عبدالله (ولن يأمركم) فهذا دليل على انقطاعها من النَسَق وانها مستأنفة، فلمَّا وقعت (لا) فى موقع (لن) رفعت كما قال تبارك وتعالى {إِنّا أرْسَلْناكَ بالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيم} وهى فى قراءة عبدالله (ولن تسأل) وفى قراءة أبىّ (وما تُسأل عن أصحاب الجحيم).

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }

وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ...}

ولِما آتيتكم، قرأها يحيى بن وَثّاب بكسر اللام؛ يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم، ثم جعل قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} من الأخذ؛ كما تقول: أخذتُ ميثاقك لتعمَلَنّ؛ لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام فى (لما) جعل اللام لاما زائدة؛ إذْ أُوقعت على جزاء صيّر على جهة فعل وصيّر جواب الجزاء باللام وبإن وبلا ويما، فكأنّ اللام يمين؛ إذ صارت تُلْقَى يجواب اليمين. وهو وجه الكلام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

وقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً...}
أسلم أهل السموات طَوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لمّا كانت السُّنَّة فيهم أن يقاتَلوا إن لم يُسلموا أسلموا طوعا وكرها.

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }

وقوله: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً...}

نصبت الذهب لأنه مفسِّر لايأتى مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك: عندى عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله {أوْ عَدْلُ ذلك صِيَاماً} وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذى تراه قد ذكر قبله، مثل ملء الأرض، أو عَدْل ذلك، فالعَدْل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شىء له قدر؛ كقولك: عندى قدر قَفِيز دقيقا، وقدر حَمْلةٍ تبْنا، وقدر رطلين عسلا, فهذه مقادير معروفة يخرج الذى بعدها مفسِّرا؛ لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدلّ على جنس المقدارمن أىّ شىء هو؛ كما أنك إذا قلت: عندى عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تمّ خبره، وجهُل جنسُه وبقى تفسيره، فصار هذا مفسِّرا عنه، فلذلك نُصِب. ولو رفعته على الائتناف لجاز؛ كما تقول: عندى عشرون، ثم تقول بعد: رجالٌ، كذلك لو قلت: مِلْء الأرض، ثم قلت: ذَهَبٌ، تخبر على غير اتّصال.
وقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} الواو ها هنا قد يُستغنَى عنها، فلو قيل مِلْء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله: {ولِيكون مِن الموقِنِين} فالواو ها هنا كأن لها فعلا مضمرا بعدها.

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ...}
يُذكَر فى التفسير أنه أصابه عِرْق النَسَا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرِّم أحبّ الطعام والشراب إليه، فلمَّا برأ حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانهَا، وكان أحبّ الطعام والشراب إليه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }

وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ...}
يقول: إنّ أوّل مسجد وُضع للناس {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} وإنما سمّيت بَكّة لازدحام الناس بها؛ يقال: بَكَّ الناسُ بعضُهم بعضا: إذا ازدحموا.
وقوله: {هُدىً} موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنْما قيل: مباركا لأنه مغفِرة للذنوب.

{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ...}
يقال: الآيات المقامُ والْحِجر والحَطِيم، وقرأ ابن عباس "فيه آية بيِّنة" جعل المقام هو الآية لا غير.
وقوله: {وَمَن كَفَرَ} يقول: من قال ليس علىّ حجّ فإنما يجحد بالكفر فرضه لا يتركه.

{ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا...}
يريد السبيل فأنَّثها، والمعنى تبغون لها. وكذلك {يبغونكم الفِتنة}: يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون: ابغنى خادما فارِها، يريدون: ابتغِهِ لى، فإذا أرادوا: ابتغِ معِى وأعِنِّى على طلبه قالوا أَبْغنى (ففتحوا الألِف الأولى من بغيت، والثانية من أبغيت) وكذلك يقولون: المِسنى نارا وألمِسنى، واحلبنى وأَحلبنى، واحْمِلنى وأحملنى، واعكمنى وأعكمنى؛ فقوله: احلِبنى يريد: احلب لى؛ أى اكفنى الحَلَب، وأحلبنى: أعِنِّى عليه، وبقِيته على مثل هذا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً...}
الكلام العربىّ هكذا بالباء، وربما طرحت العربُ الباءَ فقالوا: اعتصمت بك واعتصمتك؛ قال بعضهم:
إذا أنت جازيت الإخاءَ بمثله * وآسيتنى ثم اعتصمتَ حباليا
فألقى الباء. وهو كقولك: تعلَّقت زيدا، وتعلقت بزيد. وأنشد بعضهم:
تعلَّقت هندا ناشئا ذات مِئزَرٍ * وأنت وقد قارَفْتَ لم تَدْر ما الحلُمْ

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ...}
لم يذكِّر الفعلَ أحد من القرّاء كما قيل {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} وقوله {لا يحِلّ لك النِساء مِن بعد} وإنما سهل التذكير فى هذين لأن معهما جحدا، والمعنى فيه: لا يحلّ لك أحد من النساء، ولن ينال الله شىء من لحومها، فذهب بالتذكير إلى المعنى، والوجوه ليس ذلك فيها، ولو ذكِّر فعل الوجوه كما تقول: قام القوم لجاز ذلك.

وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} يقال: (أمّا) لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هى؟ فيقال: إنها كانت مع قولٍ مضمر، فلمَّا سقط القول سقطت الفاء معه، والمعنى - والله أعلم - فأمّا الذين اسودّت وجوههم فيقال: أكفرتم، فسقطت الفاء مع (فيقال). والقول قد يضمر. ومنه فى كتاب الله شىء كثير؛ من ذلك قوله {ولو ترى إِذِ المجرِمون ناكِسوا رءوسِهِم عِند ربهم ربنا أبصرنا وسمِعنا} وقوله {وإِذ يرفع إِبراهِيم القواعِد من البيت وإِسماعيل ربنا تقبل منا} وفى قراءة عبدالله "ويقولان ربَّنا".

{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ }

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ...}
يريد: هذه آيات الله. وقد فسّر شأنها فى أوّل البقرة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }

وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ...}
فى التأويل: فى اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمّة؛ كقوله {واذكروا إِذ كنتم قلِيلا فكثركم}، و {إِذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض} فإضمار كان فى مثل هذا وإظهارها سواء.

{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }

وقوله: {يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ...}
مجزوم؛ لأنه جواب للجزاء {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} مرفوع على الائتناف، ولأن رءوس الآيات بالنون، فذلك مما يقوّى الرفع ؛ كما قال {ولا يؤذن لهم فيعتذِرون} فرفع، وقال تبارك وتعالى {لا يقضى عليهِم فيموتوا}.

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

وقوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ...}
يقول: إلا أن يعتصموا بحبل من الله؛ فأضمر ذلك، وقال الشاعر:
رأتنى بحبليها فصَدَّت مخافةً * وفى الحبل روعاء الفؤادِ فروق
أراد: أقبلْتُ بحبليها، وقال الآخر:
حنتنِى حانياتُ الدهِر حتى * كأنى خاتِل أَدنو لِصَيدِ
قريبُ الخَطْوِ يحسب من رآنى * ولست مقيَّدا أنى بِقَيْدِ
يريد: مقيَّدا بقيد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }

وقوله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ...}
ذَكَر أمّه ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبنىّ علىأخرى يراد؛ لأن سواء لا بدّ لها من اثنين فما زاد.
ورفع الأمة على وجهين؛ أحدهما أنك تَكُرُّه على سواء كأنك قلت: لا تستوى أمة صالحة وأخرى كافرة منها أمّة كذا وأمّة كذا، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان فى الكلام دليل عليه، قال الشاعر:
عصيت إليها القلب إنى لأمرها * سميع فما أَدرى أَرُشْد طِلابُها
ولم يقل: أم غىّ، ولا: أم لا؛ لأن الكلام معروف والمعنى. وقال الآخر:
أراك فلا أدرى أهمّ هممته * وذو الهمّ قِدماً خاشع متضائِل
وقال الآخر:
وما أدرى إذا يمَّمت وجها * أريد الخير أيُّهما يلِينى
أألخير الذى أنا أبتغيه * أم الشرُّ الذى لا يأتلينى

ومنه قول الله تبارك وتعالى:{أمَّن هو قانِت آناء الليلِ ساجِدا وقائِما} ولم يذكر الذى هو ضدّه؛ لأنّ قوله: {قل هل يستوِى الذِين يعلمون والذِين لا يعلمون} دليل على ما أضمِرمن ذلك.
وقوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} السجود فى هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود؛ لأن التلاوة لا تكون فى السجود ولا فى الركوع.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }

وقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ...}
وفى قراءة عبدالله "وقد بدا البغضاء من أفواههم" ذكَّر لأنّ البغضاء مصدر, والمصدر إذا كان مؤنّثا جاز تذكير فِعله إذا تقدّم؛ مثل {وأَخذ الذِين ظلموا الصيحةُ} و {قد جاءكم بينة مِن ربكم} وأشباه ذلك.

{ هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

وقوله: {هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ...}

العرب إذا جاءت إلى اسم مكنىّ قد وُصِف بهذا وهاذان وهؤلاء فرّقوا بين (ها) وبين (ذا) جعلوا المكنَّى بينهما، وذلك فى جهة التقريب لا فى غيرها، فيقولون: أين أنت؟ فيقول القائِل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه {هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء؛ فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى فى النساء: {ها أنتم هؤلاءِ جادلتم عنهم}.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفِى كلُّ واحد بصاحبه بلا فِعل، والتقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

وقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً...}
إن شئت جُعِلت جزما وإن كانت مرفوعة، تكون كقولك للرجل: مُدُّ يا هذا، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا؛ لأن من العرب من يقول مُدِّ يا هذا، والنصب فى العربية أهيؤها، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت (لا) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمِر للفاء؛ كما قال الشاعر:
فإن كان لا يُرضِيك حتى تردَّنى * إلى قَطَرِىّ لا إخالك راضِيا
وقد قرأ بعض القراء "لا يَضِرْكُمْ" تجعله من الضَيْر، وزعم الكسائى أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعنى ذلك وما يضورنى، فلو قرئت "لا يضُرْكم" على هذه اللغة كان صوابا.

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ...}
وفى قراءة عبدالله "تبوّى للمؤمنين مقاعد للقتال" والعرب تفعل ذلك، فيقولون: رَدِفك ورَدف لك. قال الفرّاء قال الكسائىّ: سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مائة، يريدون نقدتها مائة، لامرأة تزوّجها. وأنشدنى الكسائىّ:
أستغفر الله ذنبا لست مُحصِيَه * ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعمل
والكلام باللام؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {واستغفِرِى لِذنبِك} و {فاستغفروا لِذنوبِهِم} وأنشدنى:
أستغفر الله من جِدّى ومن لعبى * وِزرِى وكلُّ امرِئٍ لا بدّ مُتَّزِرُ
يريد لوزرى. ووزرى حين ألقيت اللام فى موضع نصب، وأنشدنى الكسائىّ:
إن أَجْزِ علقمةَ بن سعدٍ سعيه * لا تلقنِى أَجزِى بسعى واحدِ
لأحبنى حُبَّ الصبِىِّ وضمَّنِى * ضمَّ الهدِىّ إِلى الكرِيم الماجِدِ
وإنما قال (لأحبنى) لأنه جعل جواب إِن إذ كانت جزاء كجواب لو.

{ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا...}
وفى قراءة عبدالله "والله ولِيُّهم" رجع بهما إلى الجمع؛ كما قال الله عز وجل: {هذانِ خصمانِ اختصموا فِى ربهِم} وكما قال: {وإِن طائِفتانِ مِن المؤمِنِين اقتتلوا}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }

وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ...}

فى نصبه وجهان؛ إن شئت جعلته معطوفا على قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهُمْ} أى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حتَّى؛ كما تقول: لا أزال ملازِمك أو تعطِيَنِى، أو إلا أن تعطِينى حقىّ.

{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ...}
يقال [ما قبل إلا] معرفة، وإنما يرفع ما بعد إلا بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جَحد؛ كقولك: ما عندى أحد إلا أبوك، فإن معنى قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ما يغفر الذنوب أحد إلا الله، فجعل على المعنى. وهو فى القرآن فى غير موضع.

{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ...}
وقُرْح. وأكثر القرّاء على فتح القاف. وقد قرأ أصحاب عبدالله: قُرْح، وكأنّ القُرْح ألم الجراحات، وكأنّ القَرْح الجراح بأعيانها. وهو فى ذاته مثل قوله : {أَسْكِنُوهنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُم مِن وُجْدِكُم} ووَجْدكُم {والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ} وجَهْدهم، و {لاَ يُكَلّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [ووَسْعها].

وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} يعلم المؤمن من غيره، والصابر من غيره. وهذا فى مذهب أىّ ومَنْ؛ كما قال: {لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} فإذا جعلت مكان أىّ أو مَن الذى أو ألفا ولاما نصبت بما يقع عليه؛ كما قال الله تبارك: {فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الكّاذِبِين} وجاز ذلك لأن فى "الذى" وفى الألف واللام تأويل مَنْ وأىّ؛ إذ كانا فى معنى انفصال من الفعل.
فإذا وضعت مكانهما اسما لا فعل فيه لم يحتمل هذا المعنى. فلا يجوز أن تقول: قد سألت فعلمت عبدالله، إلا أن تريد علمت ما هو. ولو جعلت مع عبدالله اسما فيه دلالة على أىٍّ جاز ذلك؛ كقولك: إنما سألت لأعلم عبدالله مِن زيد، أى لأعرِف ذا مِن ذا. وقول الله تبارك وتعالى: {لم تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ} يكون: لم تعلموا مكانهم، ويكون لم تعلموا ما هم أكفار أم مسلمون. والله أعلم بتأويله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
يريد: يمحّص الله الذنوب عن الذين آمنوا، {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: ينقصهم ويفنيهم.

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ...}

خفض الحسن "ويعلمِ الصابِرين" يريد الجزم. والقرّاءُ بعدُ تنصبه. وتهو الذى يسمّيه النحويّون الصرف؛ كقولك: "لم آته وأُكرِمَهُ إلا استخفّ بى" والصرف أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثم أو الفاء أو أو، وفى أوّله جحد أو استفهام، ثم ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يُكَرَّ فى العطف، فذلك الصرف. ويجوز فيه الإتباع؛ لأنه نسق فى اللفظ؛ وينصب؛ إذ كان ممتنعا أن يحدث فيهما ما أحدث فى أوّله؛ ألا ترى أنك تقول: لست لأبى إن لم أقتلك أو إن لم تسبقنى فى الأرض. وكذلك يقولون: لا يسعُنى شىء ويضيقَ عنك، ولا تكرّ (لا) فى يضيق. فهذا تفسير الصرف.

{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ...}
معناه: رأيتم أسباب الموت. وهذا يومَ أُحُد؛ يعنى السيف وأشباهه من السلاح.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }

وقوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...}
كلُّ استفهام دخل على جزاء فمعناه أن يكون فى جوابه خبر يقوم بنفسه، والجزاء شرط لذلك الخبر، فهو على هذا، وإنما جزمته ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء؛ كقول الشاعر:
حلفت له إنْ تُدْلجِ اللَّيْلَ لاَ يَزَلْ * أَمَامكَ بَيْتٌ من بيُوتِىَ سائِرُ

فـ (لا يزل) فى موضع رفع؛ إلا أنه جُزِم لمجيئه بعد الجزاء وصار كالجواب. فلو كان "أفإن مات أو قتل تنقلبون" جاز فيه الجزم والرفع. ومثله {أفإن مِتَّ فَهُمُ الخالدون} المعنى: أنهم الخالدون إن مت. وقوله: {فكَيْفَ تَتَّقُون إِنْ كَفَرْتم يوما يَجْعَلُ الوِلدانَ شِيبا} لو تأخرت فقلت فى الكلام: (فكيف إن كفرتم تتقون) جاز الرفع والجزم فى تتقون.

{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...}
والربّيون الأُلوف.
تقرأ: قُتِل وقاتل. فمن أراد قُتل جعل قوله: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ} للباقين، ومن قال: قاتل جعل الوهن للمقاتِلين. وإنما ذكر هذا لأنهم قالوا يوم أُحُد: قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم، ففشِلوا، ونافق بعضهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وما محمد إِلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، وأنزل: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}.
ومعنى وكأين: وكم.
وقد قال بعض المفسرين: "وكأين من نبى قُتِل" يريد: و "معه ربيون" والفعل واقع على النبّى صلّى الله عليه وسلم، يقول: فلم يرجعوا عن دينهم ولَم ينهوا بعد قتله. وهو وجه حسن.

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ...}
نصبت القول بكان، وجعلت أنْ فى موضع رفع. ومثله فى القرآن كثير. والوجه أن تجعل (أن) فى موضع الرفع؛ ولو رفع القول وأشباهه وجعل النصب فى "أن" كان صوبا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ }

وقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ...}
رفع على الخبر، ولو نصبته: (بل أطيعوا الله مولاكم) كان وجها حسنا.

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ...}
يقال: إنه مقدّم ومؤخر؛ معناه: "حتى إذا تنازعتم فى الأمر فشِلتم". فهذه الواو معناها السقوط: كما يقال: {فلمَّا أسلما وتَلَّه للْجَبِين. وناديْناه} معناه: ناديناه. وهو فى "حتى إذا" و "فلمَّا أن" مقول، لم يأت فى غير هذين. قال الله تبارك وتعالى: {حتى إذا فُتِحتْ يأجوجُ ومأجوجُ وهُمْ مِن كل حَدَبٍ يَنْسِلون} ثم قال: {واقتربَ الوعدُ الحقُّ} معناه: اقترب، وقال تبارك وتعالى: {حتى إِذا جاءوها وفُتِحت أبوابها} وفى موضع آخر: {فتِحت} وقال الشاعر:
حتى إذا قَمِلت بطونُكُم * ورأيتُم أبناءكُمْ شَبُّوا
وقلبتُم ظهرَ المِجَنِّ لنا * إن اللئِيم العاجِزُ الخَبّ

الخَبّ: الغدّار، والخِبّ: الغَدْر. وأمَّا قوله: {إذا السماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لرَبِّها وحُقّت} وقوله: {وإِذا الأَرْضُ مُدَّتْ. وألْقَتْ ما فِيها وتَخَلّتْ} فإنه كلام واحد جوابه فيما بعده، كأنه يقول: "فيومئذ يلاقى حسابه". وقد قال بعض من رَوى عن قَتادة من البصريّين "إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ. أذنت لربها وحُقَّت" ولست أشتهى ذلك؛ لأنها فى مذهب {إذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ} و {إذا السَّماءُ انْفَطَرتْ} فجواب هذا بعده {عَلمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ} و {وعلِمت نفس ما قدَّمت وأخَّرت}.

{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ...}
الإصعاد فى ابتداء الأسفار والمخارج. تقول: أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان، وشبيهَ ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدّرجة ونحوهما قلت: صعِدت، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ: "إِذ تَصْعَدون ولا تلوون" جعل الصعود فى الجبل كالصعود فى السلم.
وقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ومن العرب من يقول: أُخراتِكم، ولا يجوز فى القرآن؛ لزيادة التاء فيه على كِتَاب المصاحف؛ وقال الشاعر:
ويتّقى السيف بأُخْراتِه * من دون كفّ الجارِ والمِعصمِ
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} الإثابة ها هنا [فى] معنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه * أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا

وقد يقول الرجل الذى قد اجترم إليك: لئن أتيتنى لأثِيبنّك ثوابك، معناه لأعاقبنَّك، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية. وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بعذَابٍ أليم} والبشارة إنما تكون فى الخير، فقد قيل ذاك فى الشرّ.
ومعنى قوله {غَمّاًً بِغَمٍّ} ما أصابهم يوم أُحُد من الهزيمة والقتل، ثم أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيله فخافوه، وغَمَّهم ذلك.
وقوله: {وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ} (ما) فى موضع خفض على "ما فاتكم" أى ولا على ما أصابكم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

وقوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ...}
تقرأ بالتاء فتكون للأمنة؛ وبالياء فيكون للنعاس، مثل قوله {يَغْلِى فى البُطون} وتغلى، إذا كانت (تغلى) فهى الشجرة، وإذا كانت (يغلِى) فهو للمُهْل.

وقوله: {يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ترفع الطائِفة بقوله (أهمتهم) بما رجع من ذكرها، وإن شئت رفعتها بقوله {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} ولو كانت نصبا لكان صوابا؛ مثل قوله فى الأعراف: {فَرِيقاً هَدَى وفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِم الضَّلاَلَةُ}.
وإذا رأيت اسما فى أوّله كلام وفى آخره فعل قد وقع على راجع ذِكره جاز فى الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله: {والسماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ} وقوله: {والأرضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون} يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل، ومن رفع جعل الواو للاسم، ورفعه بعائِد ذكرِه؛ كما قال الشاعر:
إن لَمَ اشفِ النفوسَ من حىِّ بَكْرٍ * وعدِىٌّ تطَاهُ جُرْبُ الجمِال
فلا تكاد العرب تنصب مثل (عدىّ) فى معناه؛ لأن الواو لا يصلح نقلها إلى الفعل؛ ألا ترى أنك لا تقول: وتطأ عدِيّا جُرْبُ الجِمال. فإذا رأيت الواو تحسن فى الاسم جعلت الرفع وجه الكلام. وإذا رأيت الواو يحسن فى الفعل جعلت النصب وجه الكلام. وإذا رأيت ما قبل الفعل يحسن للفعل والاسم جعلت الرفع والنصب سواء، ولم يغلَّب واحد على صاحبه؛ مثل قول الشاعر:
إذا ابنَ أبِى موسى بِلالاً أتيته * فقام بفأسٍ بين وُِصْلَيْكَ جازِر
فالرفع والنصب فى هذا سواء. وأمّا قول الله عز وجل: {وأمّا ثمودُ فَهَدَيْناهم} فوجه الكلام فيه الرفع؛ لأن أمّا تحسن فى الاسم ولا تكون مع الفعل.
وأمّا قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهما}فوجه الكلام فيه الرفع؛ لأنه غير موَقَّت فرفع كما يرفع الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله {والشعراءُ يَتَّبِعُهُم الغاوون} معناه والله أعلم من (قال الشعر) اتبعه الغاوون. ولو نصبت قوله (والسارقَ والسارقَة) بالفعل كان صوابا.

وقوله {وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائِرَهُ فى عُنُقه} العرب فى (كل) تختار الرفع، وقع الفعل على راجع الذكرِ أو لم يقع. وسمعت العرب تقول (وكُلُّ شَىْءٍ أحْصَيْنَاهُ فى إمَامٍ مُبِينٍ) بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدونى فيما لم يقع الفعلُ على راجع ذكرِه:
فقالوا تَعَرّفْها المنازِلَ مِن مِنىً * وما كلُّ من يَغْشَى مِنىً أنا عارِفُ
ألِفْنا دِيارا لم تكن مِن ديارِنا * ومن يُتَأَلّفْ بالكرامَةِ يَأْلَفُ
فلم يقع (عارف) على كلّ؛ وذلك أن فى (كل) تأويل: وما من أحد يغشى مِنىً أنا عارف، ولو نصبت لكان صوابا، وما سمعته إلا رفعا.وقال الآخر:
قد عَلِقَت أمُّ الخِيارِتدّعِى * علىّ ذنبا كلُّه لم أَصنعِ
رفعا، وأنشدنيه بعض بنى أسَد نصبا.
وقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ} فمن رفع جعل (كل) اسما فرفعه باللام فى لِلّه كقوله {ويومَ القيامة تَرَى الذِين كَذَبُوا على اللهِ وجوههم مسودّة} ومن نصب (كله) جعله من نعت الأمر.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ...}

كان ينبغى فى العربية أن يقال: وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا فى الأرض، لأنه ماض؛ كما تقول: ضربتك إذ قمت، ولا تقول ضربتك إذا قمت. وذلك جائز، والذى فى كتاب الله عربىّ حسن؛ لأن القول وإن كان ماضيا فى اللفظ فهو فى معنى الاستقبال؛ لأن (الذين) يُذهب بها إلى معنى الجزاء مِن مَنْ وما. فأنت تقول للرجل: أحبِب من أحبَّك، وأحبب كلّ رجل أحبَّك، فيكون الفعل ماضيا وهو يصلح للمستقبل؛ إذ كان أصحابه غير موَقَّتين، فلو وَقَّته لم يجز. من ذلك أن تقول: لأضربن هذا الذى ضربك إذ سلَّمت عليك، لأنك قد وقَّته فسقط عنه مذهب الجزاء. وتقول: لا تضرب إلا الذى ضربك إذا سلمت عليه، فتقول (إذا) لأنك لم توقته. وكذلك قوله: {إِنّ الذِين كَفَرُوا ويَصُدُّون عَنْ سَبيل الله} فقال {ويَصُدُّون} فردّها على (كفروا) لأنها غير موقَّتة، وكذلك قوله {إِلاَّ الذِين تابوا من قَبلِ أن تَقْدِروا عليهِم} المعنى: إلا الذِين يتوبون من قبلِ أن تقدِروا عليهم. والله أعلم. وكذلك قوله {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا} معناه: إِلا من يتوب ويعمل صالحا. وقال الشاعر:
فإنى لآتيكم تشَكُّرَ ما مضى * مِن الأَمرِ واستِيجابَ ما كان فى غدِ
يريد به المستقبل: لذلك قال (كان فى غد) ولو كان ماضيا لقال: ما كان فى أمس، ولم يجز ما كان فى غد. وأمّا قول الكميت:
ماذاقَ بُؤسَ معِيشةٍ ونعيمها * فيما مَضَى أَحدٌ إذا لم يَعْشقِ
فمن ذلك؛ إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق. وتقول: ماهلك امرؤ عرف قدره، فلو أدخلت فى هذا (إذا) كانت أجود من (إذ)؛ لأنك لم تخبر بذلك عن واحد فيكونَ بإذا، وإنما جعلته كالدأب فجرى الماضى والمستقبل. ومن ذلك أن يقول الرجل للرجل: كنتَ صابرا إذا ضربتك؛ لأن المعنى: كنت كلَّما ضُرِبت تصبر. فإذا قلت: كنت صابرا إذ ضُرِبت، فإنما أخبرت عن صبره فى ضربٍ واحد.

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }

وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...}
العرب تجعل (ما) صلة فى المعرفة والنكرة واحدا.
قال الله {فبِما نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ} والمعنى فبنقضِهِم، و {عَمَّا قَليلٍ لَيُصْبِحُنّ نادِمِينَ} والمعنى: عن قليل. والله أعلم. وربما جعلوه اسما وهى فى مذهب الصلة؛ فيجوز فيما بعدها الرفع على أنه صلة، والخفض على إتباع الصلة لما قبلها؛ كقول الشاعر:
فكفى بنا فضلا على من غيرِنا * حبُّ النبِىّ محمدٍ إيانا
وترفع (غير) إذا جعلت صلة بإضمار (هو), وتخفض على الاتباع لمَنْ, وقال الفرزدق:
إنى وإياك إن بلَّغن أرحُلَنا * كمن بِواديه بعد المَحْل ممطورِ
فهذا مع النكرات، فإذا كانت الصلة معرفة آثروا الرفع، من ذلك (فَبِما نَقْضِهِمْ) لم يقرأه أحد برفع ولم نسمعه. ولو قيل جاز. وأنشدونا بيت عدىّ:
لم أَرَ مثل الفتيان فى غِيَرِ الـ * أيامِ يَنْسَوْنَ ما عواقبُها
والمعنى: ينسون عواقبها صلة لما. وهو مما أكرهه؛ لأن قائِله يلزمه أن يقول: {أيّما الأجلان قضيت} فأكرهه لذلك ولا أردّه. وقد جاء، وقد وجَّهه بعض النحويين إلى: ينسون أىُّ شىء عواقبُها، وهو جائز، والوجه الأوّل أحبّ إلىّ. والقرّاء لا تقرأ بكل ما يجوز فى العربية، فلا يقبحنّ عندك تشنِيع مشنِّع مما لم يقرأه القرّاء مما يجوز.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ...}

يقرأ بعض أهل المدينة أن يُغَلَّ؛ يريدون أن يخان. وقرأه أصحاب عبدالله كذلك: أن يُغَلَّ؛ يريدون أن يُسرَّق أو يخوّن. وذلك جائز وإن لم يقل: يُغَلَّل فيكون مثل قوله: {فإنهم لا يكذِّبونك - ويُكْذِبونك} وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السُلَمِىّ "أن يَغُلَّ"، وذلك أنهم ظنُّوا يوم أحد أن لن تُقسم لهم الغنائم كما فعِل يوم بدر. ومعناه: أن يتَّهم ويقالَ قد غَلّ.

{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ...}
يقول: هم فى الفضل مختلفون: بعضهم أرفع من بعض.

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ...}
يأخذ منهم الزكاة؛ كما قال تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكّيهِم بها}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ...}
يقول: تركتم ما أمِرتم به وطلبتم الغنيمة، وتركتم مراكزكم، فمِن قِبَلكم جاءكم الشرّ.

{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }

وقوله: {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ...}
يقول: كثّروا، فإنكم إذا كثّرتم دفعتم القوم بكثرتكم.

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ...}
وقوله: {فَرِحِينَ...}
[لو كانت رفعا على "بل أحياء فرحون" لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء فى "ربهم". وإن شئت يرزقون فرحين] {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} من إخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذى رأوا من ثواب الله فهم يستبشرون بهم.
وقوله: {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم "ولا حزن".

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ...}
تقرأ بالفتح والكسر. من فتحها جعلها خفضا متبعة للنعمة. ومن كسرها استأنف. وهى قراءة عبدالله "والله لا يضيع" فهذه حجَّة لمن كسر.

{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }

وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ...}

و(الناس) فى هذا الموضع واحد، وهو نُعَيم بن مسعود الأشجعىّ. بعثه أبو سفيان وأصحابه فقالوا: ثَبِّط محمدا - صلى الله عليه وسلم - أو خوّفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكانت ميعادا بينهم يوم أحُد. فأتاهم نُعَيم فقال: قد أتوكم فى بلدتكم فصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وردتم عليهم فى بلدتهم وهم أكثر وأنتم أقلّ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}.

{ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

أما قوله: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ...}
يقول: يخوّفكم بأوليائه "فلا تخافوهم" ومثل ذلك قوله: {لِينذِر يوم التلاقِ} معناه: لينذركم يوم التلاق. وقوله: {لِينذِر بأسا شدِيدا} المعنى: لينذركم بأسا شديدا؛ البأس لا ينذر، وإنما ينذَر به.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

وقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ...}
ومن قرأ "ولا تحسبن" قال "إنما" وقد قرأها بعضهم "ولا تحسبن الذِين كفرا أنما" بالتاء والفتح على التكرير: لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملى لهم، وهو كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم} على التكرير: هل ينظرون إلا أن تأتيهم.

{ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ...}
قال المشركون للنبىّ صلى الله عليه وسلم: مالك تزعم أن الرجل منا فى النار، فإذا صبأ إليك وأسلم قلت: هو فى الجنة، فأعلمنا من ذا يأتيك مِنَّا قبل أن يأتيك حتّى نعرفهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} على ما تقولون أيها المشركون "حتّى يَميزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ" ثم قال: لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه.

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

وقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ...}
[يقال: إنما "هو" ههنا عماد، فأين اسم هذا العماد؟ قيل: هو مضمر، معناه: فلا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم] فاكتفى بذكر يبخلون من البخل؛ كما تقول فى الكلام: قدم فلان فسُرِرت به، وأنت تريد: سررت بقدومه، وقال الشاعر:
إِذا نُهى السفِيهُ جَرَى إليه * وخالف، والسفِيهُ إلى خِلافِ
يريد: إلى السفه. وهو كثير فى الكلام.

وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} يقال: هى الزكاة، يأتى الذى مَنَعها يوم القيامة قد طُوِّق شجاعا أقرع بفيه زبيبتان يلدغ خدّيه، يقول: أنا الزكاة التى منعتنى.
وقوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. المعنى: يميت الله أهل السموات وأهل الأرض ويبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك وتعالى: أنه يبقى ويفنى كل شىء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }

وقوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ...}
وقرئ "سيُكتب ما قالوا" قرأها حمزة اعتبارا؛ لانها فى مصحف عبدالله.
{ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ...}
كان هذا. والقربان نار لها حفيف وصوت شديد كانت تنزل على بعض الأنبياء.
فلمَّا قالوا ذلك للنبىّ صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى "قل" يا محمد {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} وبالقربان الذى قلتم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ...}

يقول: بما فعلوا؛ كما قال: {لقد جئتِ شيئا فرِيا} كقوله: {واللذان يَأْتِيانِها مِنكم} وفى قراءة عبدالله "فمن أتى فاحشة فعله". وقوله: {ويُحِبُّون أَن يُحْمَدُوا بِما لم يفعلوا} قالوا: نحن أهل العلم الأوّل والصلاة الأولى، فيقولون ذلك ولا يقرّون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: {ويُحِبُّون أن يُحْمدوا بِما لم يَفْعَلُوا}.
وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ}. يقول: ببعيد من العذاب. (قال قال الفراء: من زعم أن أوفى هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على الله؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يَشُكّ، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وأرسلناه إلى مِائةِ ألفٍ أَو يزِيدون}.)

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...}
يقول القائل: كيف عطف بعلى على الأسماء؟ فيقال: إنها فى معنى الأسماء ألا ترى أن قوله: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}: ونياما، وكذلك عطف الأسماء على مثلها فى موضع آخر، فقال: "دعانا لِجنْبِه"، يقول: مضطجعا "أو قاعدا أو قائما" فلجنبه، وعلى جنبه سواء.

{ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ }

وقوله: {يُنَادِي لِلإِيمَانِ...}
كما قال: "الذى هدانا لهذا" و "أوْحَى لهَا" يريد إليها، وهدانا إلى هذا.

{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ }

وقوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ...}
كانت اليهود تضرب فى الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عزّ وجلّ: لا يغرَّنك ذلك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }

وقوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ...}
فى الدنيا.

{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }

وقوله: {نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ...}
و(ثوابا) خارجان من المعنى: لهم ذلك نزلا وثوابا، مفسِّرا؛ كما تقول: هو لك هبةً وبيعا وصدقة.

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

وقوله: {خَاشِعِينَ للَّهِ...}
معناه: يؤمنون به خاشعين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ...}
مع نبيكم على الجهاد (وصابِروا) عدوّكم فلا يكوننّ أصبر منكم.

المعاني الواردة في آيات
سورة ( النساء )
{ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

وقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ...}
قال (واحدة) لأن النفس مؤنثة، فقال: واحدة لتأنيث النفس، وهو [يعنى] آدم. ولو كانت (من نفس واحد) لكان صوابا، يذهب إلى تذكير الرجل.
وقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} العرب تقول: بثَّ الله الخلق: أى نشرهم. وقال فى موضع آخر: {كالفَراشِ المَبْثوث} ومن العرب من يقول: أَبثّ الله الخلق. ويقولون: بثثتك ما فى نفسى، وأبثثتك.
وقوله: {الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} فنصب الأرحام؛ يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثنى شريك بن عبدالله عن الأعمش عن إبراهيم أنه خفض الأرحام، قال: هو كقولهم: بالله والرحم؛ وفيه قبح؛ لأن العرب لا تردّ مخفوضا على مخفوض وقد كُنِى عنه، وقد قال الشاعر فى جوازه:
نُعَلّق فى مثلِ السَّوارِى سيوفَنا * وما بينها والْكَعبِ غَوْط نَفَانِف
وإنما يجوز هذا فى الشعر لضيقه.
وقرأ بعضهم "تَسَّاءلون به" يريد: تتساءلون به، فأدْغم التاء عند السين.

{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }

وقوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ...}
يقول: لا تأكلوا أموال اليتامى بدل أموالكم، وأموالهم عليكم حرام، وأموالكم حلال.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} الحوب: الإثم العظم. ورأيت بنى أَسَد يقولون الحائب: القاتل، وقد حاب يحوب. وقرأ الحسن (إنه كان حَوْبا كبيرا)

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }

وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ...}
واليتامى فى هذا الموضع أصحاب الأموال، فيقول القائل: ما عَدَل الكلامَ من أموال اليتامى إلى النكاح؟ فيقال: إنهم تركوا مخالطة اليتامى تحرّجا، فأنزل الله تبارك وتعالى: فإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحْرَجوا من جمعكم بين النساء ثم لا تعدلون بينهن، {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ} يعنى الواحدة إلى الأربع. فقال تبارك وتعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ} ولم يقل: من طاب. وذلك أنه ذهب إلى الفعل كما قال {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يريد: أو ملك أيمانكم. ولو قيل فى هذين (من) كان صوابا، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول فى الكلام: خذ من عبيدى ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: من شئت، فمعناه: خذ الذى تشاء.
وأما قوله: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} فإنها حروف لا تُجْرَى. وذلك أنهن مصروفات عن جهاتهنّ؛ ألا ترى أنهنّ للثلاث والثلاثة، وأنهن لا يضفن إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث. فكان لا متناعه من الاضافة كأنّ فيه الألف واللام. وامتنع من الألف واللام لأن فيه تأويل الإضافة؛ كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى جنسها، فيقال: ثلاث نسوة، وثلاثة رجال. وربما جعلوا مكان ثُلاَث ورُبَاع مَثْلَث ومَرْبَع، فلا يُجْرى أيضا؛ كما لم يُجْرَ ثُلاث ورُباع لأنه مصروف، فيه من العلّة ما فى ثُلاث ورُباع. ومن جعلها نكرة وذهب بها إلى الأسماء أجراها. والعرب تقول: ادخلوا ثُلاثَ ثُلاثَ، وثُلاثا ثلاثا. وقال الشاعر:
[وإنَّ الغلام المستهام بذكره] * قتَلْنا به مِن بَين مَثْنىً ومَوْحدِ
بأربعةٍ منكم وآخر خامسٍ * وسادٍ مع الإظلام فى رمح معبدِ
فوجه الكلام ألاّ تُجرى وأن تجعل معرفة؛ لأنها مصروفة، والمصروف خِلْقته أن يُترك على هيئته، مثل: لُكَع ولَكاع. وكذلك قوله: {أُولِى أَجنِحةٍ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباع}.

والواحد يقال فيه مَوْحَدُ وأُحاد ووُحاد، ومثنى وثُنَاء؛ وأنشد بعضهم:
تَرى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تحتَ لَبانه * أُحادَ ومَثْنَى أَصْعَقَتْها صَواهله
وقوله: {فَوَاحِدَةً} تنصب على: فإن خفتم ألاّ تعدلوا على الأربع فى الحبّ والجماع فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم لا وقت عليكم فيه. ولو قال: فواحدةٌ، بالرفع كان كما قال {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} كان صوابا على قولك: فواحدة (مقنع، فواحدة) رِضا.
وقوله: {ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}: ألاّ تميلوا. وهو أيضا فى كلام العرب: قد عال يعول. وفى قراءة عبدالله: (ولا يَعُلْ أن يأتِينِى بهم جميعا) كأنه فى المعنى: ولا يشقْ عليه أن يأتينى بهم جميعا. والفقر يقال منه عال يعيل عَيْلة؛ وقال الشاعر:
ولا يدرى الفقير متى غناه * ولا يردى الغنِىُّ متى يَعِيل

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }

وقوله: {وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...}
يعنى أولياء النساء لا الأزواج: وذلك أنهم كانوا فى الجاهلية لا يعطون النساء من مهورهن شيئا، فأنزل الله تعالى: أعطوهن صدقاتهن نحلة، يقول: هبة وعطية.
وقوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً}. ولم يقل طبن. وذلك أن المعنى - والله أعلم -: فإن طابت أنفسهن لكم عن شىء. فنقِل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسّرة؛ كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل فى الأصل للوجه، فلمّا حوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسِّرا لموقِع الفعل. ولذلك وحّد النفس. ولو جمعت لكان صوابا؛ ومثله ضاق به ذراعى، ثم تحول الفعل من الذراع إليك: فتقول قَرِرت به عينا. قال الله تبارك وتعالى: {فكلِى واشربى وقرّى عينا}. وقال: {سِىء بِهِم وضاق بهم ذرعا}؛ وقال الشاعر:

إذا التّيَّازُ ذو العَضلات قلنا * إليك إليك ضاق بها ذراعا
وإنما قيل: ذرعا وذراعا لأن المصدر والاسم فى هذا الموضع يدلاّن على معنى واحد، فلذلك كَفَى المصدر من الاسم.

{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }

وقوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ...}
السفهاء: النساء والصبيان {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يقول التى بها تقومون قواما وقياما. وقرأ نافع المدنى (قِيَما) والمعنى - والله أعلم - واحد.
والعرب تقول فى جمع النساء (اللاتى) أكثر مما يقولون (التى)، ويقولون فى جمع الأموال وسائر الأشياء سوى النساء (التى) أكثر مما يقولون فيه (اللاتى).

{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }

وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً...}
يريد: فإن وجدتم. وفى قراءة عبدالله "فإن أحَسْتم منهم رشدا".
{فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يعنى الأوصياء واليتامى.
وقوله: {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} (أن) فى موضع نصب. يقول: لا تبادروا كبرهم.
وقوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} هذا الوصىّ. يقول: يأكل قرضا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }

وقوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ...}
ثم قال الله تبارك وتعالى: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً}. وإنما نصب النصيب المفروض وهو نعت للنكرة لأنه أخرجه مخرج المصدر. ولو كان اسما صحيحا لم ينصب. ولكنه بمنزلة قولك: لك علىّ حقّ حقّا، ولا تقول: لك على حقّ درهما. ومثله عندى درهمان هبةً مقبوضة. فالمفروض فى هذا الموضع بمنزلة قولك: فريضة وفرضا.

{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }

وقوله: {يُورَثُ كَلاَلَةً...}
الكلالة: ما خلا الولد والوالد.

وقوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ولم يقل: ولهما؛ وهذا جائز؛ إذا جاء حرفان فى معنى واحد بأو أسندتَ التفسير إلى أيّهما شئت. وإن شئت ذكرتهما فيه جميعا؛ تقول فى الكلام: من كان له أخ أو أخت فليصِلْه، تذهب إلى الأخ (و) فليصِلها، تذهب إلى الأخت. وإن قلت (فليصلهما) فذلك جائز. وفى قراءتنا (إن يكن غنِيا أو فقِيرا فالله أولى بِهِما) وفى إحدىالقراءتين (فالله أولى بهم) ذهب إلى الجِمَاع لأنهما اثنان غير موَقَّتين. وفى قراءة عبدالله (والذين يفعلون مِنكم فآذوهما) فذهب إلى الجمع لأنهما اثنان غير موقتين، وكذلك فى قراءته: (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما).
وقوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} يقول: يوصى بذلك غير مضارّ.
ونصب قوله وصية من قوله: {لِكلّ واحِدٍ منهما السُّدسُ - وصِيةً مِن الله} مثل قولك: لك درهمان نفقةً إلى أهلك، وهو مثل قوله {نصيبا مفروضا}.

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ...}}
معناه: هذه حدود الله .

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }

وقوله: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ...}

وفى قراءة عبدالله (واللاتى يأتِين بالفاحشة) والعرب تقول: أتيت أمرا عظيما، وأتيت بأمر عظيم، وتكلمت كلاما قبيحا، وبكلام قبيح. وقال فى مريم {لقد جِئتِ شيئا فرِيّا} و {جِئتم شيئا إِدّا} ولو كانت فيه الباء لكان صوابا.
وقوله: {فأمسِكوهن فِى البيوتِ} كن يُحبَسن فى بيوت لهن إذا أتين الفاحشة حتى أنزل الله تبارك وتعالى: قولَه: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا...}
فنسحَتْ هذه الأولى.

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ...}
يقول: قبل الموت. فمن تاب فى صحَّته أو فى مرضه قبل أن ينزل به الموت فتوبته مقبوله.
وقوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} لا يجهلون أنه ذنب، ولكن لا يعلمون كُنْه ما فيه كعلم العالِم.

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

وقوله: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ...}
(الذين) فى موضع خفض. يقول: إن أسلم الكافر فى مرضه قبل أن ينزل به الموت كان مقبولا، فإذا نزل به الموت فلا توبة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }

وقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً...}
كان الرجل إذا مات عن امرأته وله ولد من غيرها وثب الولد فألقى ثوبه عليها، فتزوّجها بغير مهر إلا مهر الأول، ثم أضرَّ بِها ليرثها ما ورثت من أبيه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (تعضلوهن) فى موضع نصب بأن. وهى فى قراءة عبدالله (ولا أن تعضلوهنّ) ولو كانت جزما على النهى كان صوابا.

{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }

وقوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ...}
الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.
وقوله {مِّيثَاقاً غَلِيظاً} الغليظ الذى أخذنه قوله تبارك وتعالى {فإمساك بِمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان}.

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ...}
أن فى موضع رفع؛ كقولك: والجمع بين الأختين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ...}
المحصنات: العفائف. والمحصنات: ذوات الأزواج التى أحصنهنّ أزواجهن. والنصب فى المحصنات أكثر. وقد روى علقمة: "المحصنات" بالكسر فى القرآن كله إلا قوله {والمحصَنات من النّساء} هذا الحرف الواحد؛ لأنها ذات الزوج من سبايا المشركين. يقول: إذا كان لها زوج فى أرضها استبرأْتَها بحيضة وحلَّت لك.
وقوله {كِتابَ اللَّه عليكم} كقولك: كتابا من الله عليكم. وقد قال بعض أهل النحو: معناه: عليكم كتاب الله. والأوّل أشبه بالصواب. وقلّما تقول العرب: زيدا عليك، أو زيدا دونك. وهو جائز كأنه منصوب بشىء مضمر قبله، وقال الشاعر:
يأيُّها المائحُ دَلْوى دونكا * إنى رأيت الناس يَحْمَدُونكا
الدلو رفع، كقولك: زيد فاضربوه. والعرب تقول: الليلُ فبادروا، والليلَ فبادروا. وتنصب الدلو بمضمر فى الخلفة كأنك قلت: دونك دلوى دونك.
وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يقول: ما سوى ذلكم.
وقوله: {وَيَكْفُرون بما وَراءَه} يريد: سواه.
وقوله: {أن تَبْتَغُوا} يكون موضعها رفعا؛ يكون تفسيرا لـ (ما)، وإن شئت كانت خفضا، يريد: أحل الله لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا. وإذا فقدت الخافض كانت نصبا.
وقوله: {مُّحْصِنِينَ} يقول: أن تبتغوا الحلال غير الزنا. والمسافحة الزنا.

{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ...}
يقول: إنما يرخص لكم فى تزويج الإماء إذا خاف أحدكم أن يفجر. ثم قال: وأن تتركوا تزويجهن أفضل.

{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ...}
وقال فى موضع آخر {والله يُرِيدُ أن يتوبَ عليكم} والعرب تجعل اللام التى على معنى كى فى موضع أن فى أردت وأمرت. فتقول: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب, وأمرتك أن تقوم, وأمرتك لتقوم؛ قال الله تبارك وتعالى {وأُمِرنا لِنُسْلِم لِربِّ العَالمِين} وقال فى موضع آخر {قل إِنى أُمِرت أن أكون أوّل من أسلم} وقال {يرِيدون لِيطفِئوا} و {أن يطفِئوا} وإنما صلحت اللام فى موضع أن فى (أمرتك) وأردت لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضى؛ ألا ترى أنك تقول: أمرتك أن تقوم، ولا يصلح أمرتك أن قمت. فلما رأوا (أن) فى غير هذين تكون للماضى والمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكى وباللام التى فى معنى كى. وربما جمعوا بين ثلاثهن؛ أنشدنى أبو ثروان:
أردت لكيما لا ترى لىَ عَثْرَةً * ومَنْ ذا الذى يُعْطَى الكمالَ فيَكْملُ

فجمع (بين اللام وبين كى) وقال الله تبارك وتعالى: {لِكيلا تَأْسَوْا على ما فاتكم} وقال الآخر فى الجمع بينهن:
أردتَ لكيما أن تَطَير بِقرْبتى * فتتركهَا شَنّا ببيداءَ بلقع
وإنما جمعوا بينهنّ لاتفاقهنّ فى المعنى واختلاف لفظهن؛ كما قال رؤبة:
* بِغيرِ لا عَصْفٍ ولا اصْطِرافِ *
وربما جمعوا بين ما ولا وإن التى على معنى الجحد؛ أنشدنى الكسائى فى بعض البيوت: (لا ما إن رأيت مثلك) فجمع بين ثلاثة أحرف.
وربما جعلت العرب اللام مكان (أن) فيما أشبه (أردت وأمرت) مما يطلب المستقبل؛ أنشدنى الأنفىّ من بنى أنف الناقة من بنى سعد:
ألم تسأَلِ الأنفىَّ يومَ يَسُوقنى * ويَزْعم أنى مُبْطِلُ القولِ كاذِبُهْ
أحاولَ إعناتى بما قال أم رجا * ليضحك منى أو ليضْحك صاحبُهْ
والكلام: رجا أن يضحك منى. ولا يجوز: ظننت لتقوم. وذلك أنّ (أَن) التى تدخل مع الظنّ تكون مع الماضى من الفعل. فتقول: أظنّ (أن قد) قام زيد، ومع المستقبل، فتقول: أظنّ أن سيقوم زيد، ومع الأسماء فتقول: أظنّ أنك قائم. فلم تجعل اللام فى موضعها ولا كى فى موضعها إذ لم تطلب المستقبل وحده. وكلما رأيت (أن) تصلح مع المستقبل والماضى فلا تُدخلنَّ عليها كى ولا اللام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }

وقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً...}
وتقرأ: نَصْلِيه، وهما لغتان، وقد قرئتا، من صَلَيْتُ وأَصليت. وكأنّ صَلَيْت: تَصليه على النار، وكأنّ أصليت: جعلته يصلاها.

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }

وقوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً...}

ومَدخلا، وكذلك: {أَدْخلنى مَُدْخَل صدق وأخرجنى مَُخْرَج صدق} وإدخال صدق. ومن قال: مَدخلا ومَخرجا ومَنزلا فكأنه بناه على: أدخلنى دخول صدق وأخرجنى خروج صدق. وقد يكون إذا كان مفتوحا أن يراد به المنزل بعينه؛ كما قال: {ربّ أنزلنى مَنزِلا مباركا} ولو فتحت الميم كانت كالدار والبيت. وربما فتحت العرب الميم منه، ولا يقال فى الفعل منه إلأ أفعلت. من ذلك قوله:
* بمَصْبح الحمد وحيث يُمسى *
وقال الآخر:
الحمد لله ممسانا ومَُصْبَحنا * بالخير صبّحنا ربى ومسَّانا
وأنشدنى المفضَّل.
واعددت للحرب وثّابة * جواد المحثّة والمَرْود
فهذا مما لا يبنى على فعلت، وإنما يبنى على أرودت. فلمّا ظهرت الواو فى المُرود ظهرت فى المَرود كما قالوا: مَصْبح وبناؤه أصبحت لا غير.

{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }

وقوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ...}
ليس هذا بنهى محرّم؛ إنما هو من الله أدب. وإنما قالت أم سَلَمة وغيرها: ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال، فأنزل الله تبارك وتعالى {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ} وقد جاء: لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل: اللهمّ ارزقنى، اللهمّ أعطنى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }

وقوله: {فَالصَّالِحَاتُ...}
وفى قراءة عبدالله (فالصوالح قوانت) تصلح فواعل وفاعلات فى جمع فاعلة. وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} القراءة بالرفع. ومعناه: حافظات لغيب أزواجهن بما حفظهن اللّهُ حين أوصى بهن الأزواج. وبعضهم يقرأ (بما حَفظ اللَّه) فنصبه عل أن يجعل الفعل واقعا؛ كأنك قلت: حافظات للغيب بالذى يحفظ اللَّه؛ كما تقول: بما أرضى اللَّه، فتجعل الفعل لما، فيكون فى مذهب مصدر. ولست أشتهيه؛ لأنه ليس بفعل لفاعل معروف، وإنما هو كالمصدر.
وقوله: {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} يقول: لا تبغوا عليهن عِلَلا.
وقوله: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} جاء التفسير أن معنى تخافون: تعلمون. وهى كالظن؛ لأن الظانّ كالشاكّ والخائف قد يرجو. فلذلك ضارع الخوف الظنّ والعلم؛ ألا ترى أنك تقول للخبر يبلغك: أما والله لقد خفت ذاك، وتقول: ظننت ذلك، فيكون معناهما واحدا. ولذلك قال الشاعر:
ولا تدفِنَنِّى بالفَلاة فإننى * أخاف إذا ما مُِتُّ أنْ لا أذوقها
وقال الآخر:
أتانى كلام عن نُصَيْب يقوله * وما خفت يا سلاّم أنك عائبى
كأنه قال: وماظننت أنك عائبى. ونقلنا فى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت بالسواك حتى خفتُ لأَدْرَدَن. كقولك: حتى ظننت لأدردن.

{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }

وقوله: {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ...}
يقول: حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ليعلما من أيهما جاء النشوز. فينبغى للحكم أن يأتى الرجل فينتظر ما عنده هل يهوى المرأة، فإن قال: لا والله مالى فيها حاجة، علم أن النشوز جاء من قبله. ويقول حكم المرأة لها مثل ذلك، ثم يعلماهما جميعا على قدر ذلك، فيأتيا الزوج فيقولا: أنت ظالم أنت ظالم اتق الله، إن كان ظالما. فذلك قوله {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ} إذا فعلا هذا الفعل.

{ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }

وقوله: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً...}
أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. ومثله {وقضى ربُّك ألاّ تَعْبُدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانا} ولو رفع الإحسان بالباء إذ لم يظهر الفعل كان صوابا؛ كما تقول فى الكلام: أحسِنْ إلى أخيك، وإلى المسىء الإساءة.
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} بالخفض. وفى بعض (مصاحف أهل الكوفة وعُتُق المصاحف) (ذا القربى) مكتوبة بالألف. فينبغى لمن قرأها على الألف أن ينصب (والجارَ ذا القربى) فيكون مثل قوله {حافظوا على الصلواتِ والصلاَة الوسطى} يضمر فعلا يكون النصب به.

{وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: الجار الذى ليس بينك وبينه قرابة {وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ}: الرفيق {وَابْنِ السَّبِيلِ}: الضيف.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً }

وقوله: { فَسَآءَ قِرِيناً...}
بمنزلة قولك: نعم رجلا، وبئس رجلا. وكذلك {وساءت مصيرا} و {كَبُر مقتا} وبناء نعم وبئس ونحوهما أن ينصبا ما وليهما من النكرات، وأن يرفعا ما يليهما من معرفة غير موَقّتة وما أضيف إلى تلك المعرفة. وما أضيف إلى نكرة كان فيه الرفع والنصب.
فإذا مضى الكلام بمذكر قد جعل خبره مؤنثا مثل: الدار منزل صِدق، قلت: نِعمت منزلا، كما قال {وساءت مصيرا} وقال {حسنت مرتفقا} ولو قيل: وساء مصيرا، وحسن مرتفقا، لكان صوابا؛ كما تقول: بِئس المنزل النار، ونعم المنزل الجنة. فالتذكير والتأنيث على هذا؛ ويجوز: نعمت المنزل دارك، وتؤنث فعل المنزل لما كان وصفا للدار. وكذلك تقول: نعم الدار منزلك، فتذكّر فعل الدار إذ كانت وصفا للمنزل. وقال ذو الرمَّة:
أو حُرَّةٌ عَيْطَل ثبْجاءُ مُجْفِرةٌ * دعائمَ الزَّورِ نِعمت زورقُ البلد
ويجوز أن تذكر الرجلين فتقول بِئسا رجلين، وبِئس رجلين، وللقوم: نِعم قوما ونعموا قوما. وكذلك الجمع من المؤنث. وإنما وحَّدوا الفعل وقد جاء بعد الأسماء لأن بئس ونعم دلالة على مدح أو ذمّ لم يرد منهما مذهب الفعل, مثل قاما وقعدا. فهذا فى بئس ونعم مطرد كثير. وربما قيل فى غيرها مما هو فى معنى بئس ونعم. وقال بعض العرب: قلت أبياتا جاد أبياتا، فوحّد فعل البيوت. وكان الكسائىّ يقول: أضمِر حاد بهن أبياتا، وليس ها هنا مضمر إنما هو الفعل وما فيه.

وقوله: {وحَسُنَ أولئك رفيقا} إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع. فلذلك قال {وحَسُن أولئِك رفيقا} ولا يجوز فى مثله من الكلام أن تقول: حسن أولئك رجلا، ولا قبح أولئِك رجلا، إنما يجوز أن توحد صفة الجمع إذا كان اسما مأخوذا من فعل ولم يكن اسما مصرحا؛ مثل رجل وامرأة، ألا ترى أن الشاعر قال:
وإذا هُمُ طعِموا فألأم طاعم * وإذا هم جاعوا فشرّ جِياع
وقوله: {كَبُرَتْ كَلمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِم} كذلك، وقد رفعها بعضهم ولم يجعل قبلها ضميرا تكون الكلمة خارجة من ذلك المضمر. فإذا نصبت فهى خارجة من قوله: {ويُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أى كبرت هذه كلمة.

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا...}
ينصب الحسنة ويضمر فى (تك) اسم مرفوع. وإن شئت رفعت الحسنة ولم تضمر شيئا. وهو مثل قوله {وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظرَة إلى مَيْسرة}

{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }

وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ...}

(وتسوى) ومعناه: لو يسوون بالتراب. وإنما تمنّوا ذلك لأن الوحوش وسائر الدواب يوم القيامة يقال لها: كونى ترابا، ثم يحيا أهل الجنة، فإذا رأى ذلك الكافرون قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنقل إذا سئلنا: والله ما كنا مشركين، فإذا سئِلوا فقالوها ختِم على أفواههم وأذِن لجوارحهم فشهدت عليهم. فهنالك يودّون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. فكتمان الحديث ههنا فى التمنى. ويقال: إنما المعنى: يومئذ لا يكتمون الله حديثا ويودون لو تسوى بهم الأرض.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }

وقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى... }
نزلت فى نفر من أصحاب محممد صلى الله عليه وسلم شربوا وحضروا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر. فأنزل الله تبارك وتعالى {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ} مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن صلّوها فى رحالكم.
ثم قال {وَلاَ جُنُباًً} أى لا تقربوها جُنُباً {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ}
ثم استثنى فقال {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} يقول: إلا أن تكونوا مسافرين لا تقدرون على الماء
ثم قال {فَتَيَمَّمُواْ} والتيمم: أن تقصد الصعد الطيّب حيث كان. وليس التيمم إلا ضربة للوجه وضربة لليدين للجنب وغير الجنب.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ }

وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ...}
{أَلَمْ تَرَ} فى عامة القرآن: ألم تخبر. وقد يكون فى العربية: أما ترى، أما تعلم.

{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وقوله: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ...}
أن شئت جعلتها متصلة بقوله {ألم تر إلى الذين أوتوا نصِيبا من الكتاب}، {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} وإن شئت كانت منقطعة منها مستأنفة، ويكون المعنى: من الذين هادوا من يحرفون الكلم. وذلك من كلام العرب: أن يضمروا (من) فى مبتدأ الكلام. فيقولون: منَّا يقول ذلك، ومنا لا يقوله. وذلك أن (مِن) بعض لما هى منه، فلذلك أدَّت عن المعنى المتروك؛ قال الله تبارك وتعالى: {وما مِنّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم} وقال {وإِنْ مِنْكُمْ إِلا وارِدها} وقال ذو الرمَّة:
فظلّوا ومنهم دمعه سابِقٌ له * وآخرُ يثْنِى دَمْعَة العين بالْهَمْلِ
يريد: منهم من دمعه سابِق. ولا يجوز إضمار (من) فى شىء من الصفات إلا على المعنى الذى نبأتك به، وقد قالها الشاعر فى (فى) ولست أشتهيها، قال:
لو قلت ما فى قومها لم تأْثم * يَفْضُلها فى حسب ومِيسم

ويروى أيضا (تيثم) لغة. وإنما جاز ذلك فى (فى) لأنك تجد معنى (من) أنه بعض ما أضيفت إليه؛ ألا ترى أنك تقول؛ فينا صالحون وفينا دون ذلك، فكأنك قلت: منا، ولا يجوز أن تقول: فى الدار يقول ذلك؛ وأنت تريد فى الدار من يقول ذلك، إنما يجوز إذا أضفت (فى) إلى جنس المتروك.
وقوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} يعنِى: ويقولون (وراعِنا) يوجهونها إلى شتم محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك اللىّ.
وقوله: {وَأَقْوَمَ} أى أعدل.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ...}
فإن شئت جعلتها فى مذهب خفض ثم تلقى الخافض فتنصبها؛ يكون فى مذهب جزاء؛ كأنك قلت: إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك ولا عن شرك.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }

وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ...}
جاءت اليهود بأولادها إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل لهؤلاء ذنوب؟ قال: لا، قالوا: فإنا مثلهم ما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل. فذلك تزكيتهم أنفسهم.
وقوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الفتيل هو ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، ويقال: وهو الذى فى بطن النواة.

{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً }

وقوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً...}

النقير: النقطة فى ظهر النواة. و(إذاً) إذا استؤنف بها الكلام نصبت الفعل الذى فى أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ فيقال: إذا أضربك، إذاً أَجْزيَك. فإذا كان فيها فاء أو واو أو ثمّ أو (أو) حرف من حروف النسق، فإن شئت كان معناهما معنى الاستئناف فنصبت بها أيضاً. وإن شئت جعلت الفاء أو الواو إذا كانتا منها منقولتين عنها إلى غيرها. والمعنى فى قوله {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ} على: فلا يؤتون الناس نقيرا إِذاً. ويدلك على ذلك أنه فى المعنى - والله أعلم - جواب لجزاء مضمر، كأنك قلت: ولئن كان لهم، أو ولو كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذا نقيرا. وهى فى قراءة عبدالله منصوبة (فإذا لا يؤتوا الناس نقيرا) وإذا رأيت الكلام تامّا مثل قولك: هل أنت قائم؟ ثم قلت: فإذا أضربك، نصبت بإذاً ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل. وكذلك الأمر والنهى يصلح فى إذاً وجهان: النصب بها ونقلها. ولو شئت رفعت بالفعل إذا نويت النقل فقلت: إيته فإذاً يكْرِمُك، تريد فهو يكرمك إذاً، ولا تجعلها جوابها. وإذا كان قبلها جزاء وهى له جواب قلت: إن تأتنى إذا أُكْرِمُك. وإن شئت: إذا أُكْرِمَك وأُكْرِمْك؛ فمن جزم أراد أكرِمك إِذاً. ومن نصب نوى فى إذاً فاء تكون جوابا فنصب الفعل بإذاً. ومن رفع جعل إذاً منقولة إلى آخر الكلام؛ كأنه قال: فأُكرِمك إِذاً. وإذا رأيت فى جواب إِذاً اللام فقد أضمرت لها (لئن) أو يمينا أو (لو). من ذلك قوله عزّ وجل {ما اتّخذ اللَّهُ من ولدٍ وما كان مَعَه مِن إِلهٍ إِذاً لذهب كُلُّ إِلهٍ بِما خلق}. والمعنى - والله أعلم -: لو كان [معه] فيهما إله لذهب كل إله بما خلق. ومثله {وإِن كادوا لَيَفْتنونك عنِ الذِى أَوحينا إِليك لِتفترِىَ علينا غيرَه، وإذا لاتّخَذوك خلِيلا} ومعناه: لو فعلت لاتخذوك. وكذلك قوله {كِدْتَ تركن} ثم قال: {إِذاً لأذقناك}، معناه لو ركنت لأذقناك إِذاً. وإذا أوقعت (إذاً) على يفعل وقبله اسم بطلت فلم تنصب؛

فقلت: أنا إذا أَضربُك. وإذا كانت فى أوّل الكلام (إِنّ) نصبت يفعل ورفعت؛ فقلت: إنى إذاً أوذِيَك. والرفع جائز؛ أنشدنى بعض العرب:
لا تتركنِّى فِيهُم شَطيرا * إِنى إِذاً أهلِكَ أو أَطيرا

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }

وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...}
هذه اليهود حسدت النبى صلى الله عليه وسلم كثرة النساء, فقالوا: هذا يزعم أنه نبىّ وليس له همّ إلا النساء.
فأنزل الله تبارك وتعالى {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وفى آل إبراهيم سليمان بن داود، وكان له تسعمائة امرأة، ولداود مائة امرأة.
فلما تليت عليهم هذه الآية كذَّب بعضهم وصدَّق بعضهم.
وهو قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ...}
بالنبأ عن سليمان وداود {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} بالتكذيب والإعراض.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً...}
يقول: عُصَباً. إذا دعيتم إِلى السرايا، أو دعيتم لتنفروا جميعا.
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً }

وقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ...}

اللام التى فى (من) دخلت لمكان (إنّ) كما تقول: إنّ فيها لأخاك. ودخلت اللام فى (لَيُبَطِّئَنَّ) وهى صلة لمن على إِضمارِ شبيه باليمين؛ كما تقول فى الكلام: هذا الذى ليقومنَّ؛ وأرى رجلا ليفعلنَّ ما يريد. واللام فى النكرات إذا وصِلت أسهل دخولا منها فى من وما والذى؛ لأن الوقوف عليهن لا يمكن. والمذهب فى الرجل والذى واحِد إذا احتاجا إلى صلة. وقوله: {وإنّ كُلاّ لما لَيُوَفِّينّهم} من ذلك، دخلت اللام فى (ما) لمكان إنّ، ودخلت فى الصلة كما دخلت فى ليبطئن. ولا يجوز ذلك فى عبدالله، وزيد أن تقول: إن أخاك ليقومنّ؛ لأن الأخ وزيدا لا يحتاجان إلى صلة، ولا تصلح اللام أن تدخل فى خبرهما وهو متأخر؛ لأن اليمين إذا وقعت بين الاسم والخبر بطل جوابها؛ كما نقول: زيد والله يكرمك، ولا تقول زيد والله ليكرمك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }

وقوله: {يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً...}
العرب تنصب ما أجابت بالفاء فى ليت؛ لأنها تمنّ، وفى التمنى معنى يسّرنى أن تفعل فأفعلَ. فهذا نصب كأنه منسوق؛ كقولك فى الكلام: ودِدت أن أقوم فيتبعَنى الناس. وجواب صحيح يكون لجحد ينوى فى التمنّى؛ لأنّ ما تمنّى مما قد مضى فكأنه مجحود؛ ألا ترى أن قوله {يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} فالمعنى: أكن معهم فأفوز. وقوله فى الأنعام {يا ليتنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ} هى فى قراءة عبدالله بالفاء {نردّ فلا نكذبَ بآياتِ ربّنا} فمن قرأها كذلك جاز النصب على الجواب، والرفع على الاستئناف، أى فلسنا نكذب. وفى قراءتنا بالواو. فالرفع فى قراءتنا أجود من النصب، والنصب جائز على الصرف؛ كقولك: لا يسعنى شىء ويضيقَ عنك.

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً }

وقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ...}
و(المستضعفين) فى موضع خفض.
وقوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} خفض (الظالم) لأنه نعت للأهل، فلما أعاد الأهل على القربة كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها؛ كما تقول: مررت بالرجلِ الواسعةِ دارُه، وكما تقول: مررت برجلٍ حَسَنةٍ عينُه. وفى قراءة عبدالله: "أخرجنا من القرية التي كانت ظالمة". ومثله مما نسب الظلم إلى القرية وإنما الظلم لأهلها فى غير موضع من التنزيل. من ذلك {وكَمْ مِن قَرْيةٍ أهلكناها} ومنه قوله: {واسألِ القرية التِى كنا فِيها} معناه: سل أهل القرية.

{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هؤلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }

وقوله: {فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}

يشدّد ما كان من جمع؛ مثل قولك: مررت بثياب مُصَبَّغةٍ وأكبشٍ مذبّحةٍ. فجاز التشديد لأن الفعل متفرق فى جمع. فإذا أفردت الواحد من ذلك فإن كان الفعل يتردّد فى الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف؛ مثل قولك: مررت برجل مشجّج، وبثوب ممزّق؛ جاز التشديد؛ لأن الفعل قد تردد فيه وكثر. وتقول: مررت بكبشٍ مذبوح، ولا تقل مذبح لأن الذبح لا يتردّد كتردّد التخرق، وقوله: {وبِئرٍ مُعَطَّلةٍ وقصرٍ مَشِيد} يجوز فيه التشديد؛ لأن التشييد بناء فهو يتطاول ويتردّد. يقاس على هذا ما ورد.
وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ...}
وذلك أن اليهود لمّا أتاهم النبىّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة قالوا: ما رأينا رجلا أعظم شؤما من هذا؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا. فقال الله تبارك وتعالى: إن أمطروا وأخصبوا قالوا: هذه من عند الله، وإن غلت أسعارهم قالوا: هذا من قِبل محمد (صلى الله عليه وسلم).
وقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}.
وقوله: {فَمَالِ هؤلاء الْقَوْمِ} (فمال) كثرت فى الكلام، حتى توهَّموا أن اللام متصلة بـ (ما) وأنها حرف فى بعضه. ولا تصالِ القراءة لا يجوز الوقف على اللام؛ لأنها لام خافضة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }

وقوله: {طَاعَةٌ...}

الرفع على قولك: مِنّا طاعة، أو أمرُك طاعة. وكذلك {قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} معناه - والله أعلم -: قولوا: سمع وطاعةٌ. وكذلك التى فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم {فأَولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروف} ليست بمرتفعة بـ (لهم). هى مرتفعة على الوجه الذى ذكرت لك. وذلك أنهم أنزل عليهم الأمر بالقتال فقالوا: سمع وطاعة، فإذا فارقوا محمدّا صلى الله عليه وسلم غيّروا قولهم. فقال الله تبارك وتعالى {فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} وقد يقول بعض النحويين: وذكِر فيها القتال، وذكِرت (طاعة) وليست فيها واو فيجوزَ هذا الوجه. ولو رددت الطاعة وجعلت كأنها تفسير للقتال جاز رفعها ونصبها؛ أمّا النصب فعلى: ذكر فيها القتال بالطاعة أو على الطاعة. والرفع على: ذكر فيها القتال ذكِر فيها طاعة.
وقوله: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} القراءة أن تنصب التاء، لأنها على جهة فَعَل. وفى قراءة عبدالله: "بيّتَ مُبيّت منهم" غير الذى تقول. معناه: غَيّروا ما قالوا وخالفوا. وقد جزمها حمزة وقرأها بيَّتْ طائفة. جزمها لكثرة الحركات، فلما سكنت التاء اندغمت فى الطاء.

{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وقوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ...}

هذا نزل فى سرايا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها، فإذا غَلَبوا أو غُلِبوا بادر المنافقون إلى الاستخبار عن حال السرايا، ثم أفشوه قبل أن يفشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحدّثه، فقال {أَذَاعُواْ بِهِ} يقول أفشوه. ولو لم يفعلوا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يخبر به لكان خيرا لهم، أو ردّوه إلى أمراء السرايا. فذلك قوله {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وقوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} قال المفسرون معناه: لعلمه الذين يستنبطونه إِلا قليلا. ويقال: أذاعوا به إلا قليلا. وهو أجود الوجهين؛ لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكن فى بعضهم دون بعض. فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة.

{ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً }

وقوله: { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا...}
الكِفل: الحظّ. ومنه قوله: {يؤتِكم كِفْلَيْنِ مِن رحمتِهِ} معناه: نصيبين.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} المقِيْت: المقدّر والمقتدر، كالذى يعطى كل رجل قُوته. وجاء فى الحديث: كفى بالمرء (إثما) أن يضيع من يُقِيت، ويقوت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }

وقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ}...}

أى زيدوا عليها؛ كقول القائِل: السلام عليكم، فيقول: وعليكم ورحمة الله. فهذه الزيادة {أَوْ رُدُّوهَآ} قيل هذا للمسلمين. وأمّا أهل الكتاب فلا يزادون على: وعليكم.

{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

وقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ...}
إنما كانوا تكلّموا فى قوم هاجروا إلى المدينة من مكة، ثم ضجِروا منها واستوخموها فرجعوا سرّا إلى مكة. فقال بعض المسلمين: إن لقيناهم قتلناهم وسلبناهم، وقال بعض المسلمين: أتقتلون قوما على دينكم أن استوخموا المدينة؛ فجعلهم الله منافقين، فقال الله فما لكم مختلفين فى المنافقين. فذلك قوله (فئتين).
ثم قال تصديقا لنفاقهم {وَدُّوا لو تَكْفُرون كما كَفَروا} فنصب (فئتين) بالفعل، تقول: مالك قائما، كما قال الله تبارك وتعالى {فَمَا لِلّذِينَ كَفَروا قِبلك مُهْطِعِين} فلا تبالِ أكان المنصوب معرفة أو نكرة؛ يجوز فى الكلام أن تقول: مالك الناظرَ فى أمرنا، لأنه كالفعل الذى ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما. وكل موضع صلحت فيه فَعَل ويفعل من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة؛ كما تنصب كان وأظنّ؛ لأنهن نواقص فى المعنى وإن ظننت أنهن تامّات. ومثل مالِ، ما بالُك، وما شأنك. والعمل فى هذه الأحرف بما ذكرت لك سهل كثير. ولا تقل: ما أمرُك القائمَ، ولا ما خطبُك القائمَ، قياسا عليهن؛ لأنهن قد كثرن، فلا يقاس الذى لم يستعمل على ما قد استعمل؛ ألا ترى أنهم قالوا: أيش عندك؟ ولا يجوز القياس على هذه فى شىء من الكلام.
وقوله: {والله أَرْكَسَهُمْ بما كَسبوا} يقول: ردّهم إلى الكفر. وهى فى قراءة عبدالله وأبىّ {واللَّه رَكَسَهم}.
.

{ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }

وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ...}
يقول: إذا واثق القوم النبىّ صلى الله عليه وسلم ألاّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه، فكتبوا صلحا لم يحلّ قتالهم ولا من اتَّصل بهم، فكان رأيه فى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهم فلا يحلّ قتاله. فذلك قوله (يصلون) معناه: يتصلون بهم.
وقوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، يقول: ضاقت صدورهم عن قتالكم أو قتال قومهم. فذلك معنى قوله {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أى ضاقت صدورهم. وقد قرأ الحسن "حصِرةً صدورهم"، والعرب تقول: أتانى ذهب عقلُه، يريدون قد ذهب عقله. وسَمع الكسائىُّ بعضهم يقول: فأصبحتُ نظرت إلى ذات التنانِيرِ. فإذا رأيت فَعَل بعد كان ففيها قد مضمرة، إلا أن يكون مع كان جحد فلا تضمر فيها (قد مع جحد) لأنها توكيد والجحد لا يؤكَّد؛ ألا ترى أنك تقول: ما ذهبت، ولا يجوز ما قد ذهبت.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }

وقوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ...}

معناه: أن يأمنوا فيكم ويأمنوا فى قومهم. فهؤلاء بمنزلة الذين ذكرناهم فى أن قتالهم حلال إذا لم يرجعوا.

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ...}
مرفوع على قولك: فعليه تحرير رقبة. والمؤمنة: المصلِّية المدرِكة. فإن لم يقل: رقبة مؤمنة، أجزأت الصغيرة التى لم تصلِّ ولم تبلغ.
وقوله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} كان الرجل يسلم فى قومه وهم كفّار فيكتم إسلامه. فمن قُتِل وهو غير معلوم إسلامه من هؤلاء أعتق قاتله رقبة ولم تدفع دِيته إلى الكفار فيقْوَوْا بها على أهل الإسلام. وذلك إذا لم يكن بين قومه وبين النبىّ صلى الله عليه وسلم عهد. فإن كان عهد جرى مجرى المسلم.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ...}

(فَتَثَبَّتُوا - قراءة عبدالله بن مسعود وأصحابه. وكذلك التى فى الحجُرات. ويَقْرأ ان: فَتَثَبَّتُوا) وهما متقاربتان فى المعنى. تقول للرجل: لا تعجل بإقامة حتى تتبين وتتثبت.
وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} ذكروا أنه رجل سلّم على بعض سرايا المسلمين، فظنّوا أنه عائذ بالإسلام وليس بمسلم فقُتِل. وقرأه العامة: السَلَم. والسلم: الاستسلام والإعطاء بيده.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ...}
يرفع (غير) لتكون كالنعت للقاعدين؛ كما قال: {صِراطَ الذين أنعمت عليهم غيرِ المغضوب} وكما قال {أوِ التابِعِين غيرِ أولِى الإرْبةِ مِن الرجالِ} وقد ذكِر أن (غير) نزلت بعد أن ذكر فضل المجاهد على القاعد، فكان الوجه فيه الاستثناء والنصب. إلا أنّ اقتران (غير) بالقاعدين يكاد يوجب الرفع؛ لأن الاستثناء ينبغى أن يكون بعد التمام. فتقول فى الكلام: لا يستوى المحسنون والمسيئون إلا فلانا وفلانا. وقد يكون نصبا على أنه حال كما قال: {أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ إلا ما يُتْلَى عليكم غيرَ مُحِلِّى الصيدِ} ولو قرئت خفضا لكان وجها: تجعل من صفة المؤمنين.

{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ...}
إن شئت جعلت {تَوَفَّاهُمُ} فى موضع نصب. ولم تضمر تاء مع التاء, فيكون مثل قوله {إن البقر تشابه علينا} وإن شئت جعلتها رفعا؛ تريد: إن الذين تتوفاهم الملائكة. وكل موضع اجتمع فيه تاءان جاز فيه إِضمار إحداهما؛ مثل قوله {لعلكم تذكرون} ومثل قوله {فإن تَوَلَّوْا فقد أبلغتكم}.

{ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً }

وقوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ...}
فى موضع نصب على الاستثناء من {مأواهم جهنم}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقوله: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً...}
ومراغَمة مصدران. فالمراغَم: المضطَرب والمذهب فى الأرض.

{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }

وقوله: {فَلْتَقُمْ...}
وكلّ لام أمر إذا استؤنفت ولم يكن قبلها واو ولا فاء ولا ثُمَّ كُسرت. فإذا كان معها شىء من هذه الحروف سُكّنت. وقد تكسر مع الواو على الأصل. وإنما تخفيفها مع الواو كتخفيفهم (وهْوَ) قال ذاك، (وهْىَ) قالت ذاك. وبنو سُلَيم يفتحون اللام إذا استؤنفت فيقولون: لَيَقم زيد، ويجعلون اللام منصوبة فى كل جهة؛ كما نصَبت تميم لام كى إذا قالوا: جئت لآَخذ حقّى.

وقوله: {طَآئِفَةٌ أُخْرَى} ولم يقل: آخرون؛ ثم قال {لَمْ يُصَلُّواْ} ولم يقل: فلتصل. ولو قيل: "فلتُصل" كما قيل "أخرى" لجاز ذلك. وقال فى موضع آخر: {وإنْ طائفتانِ مِن المؤمِنِين اقتتلوا} ولو قيل: اقتتلتا فى الكلام كان صوابا. وكذلك قوله {هذانِ خَصْمانِ اختصموا فى ربِّهم} ولم يقل: اختصما. وقال {فِرقا هدى وفرِيقا حَقَّ عليهم الضّلالة} وفى قراءة أبىّ "عليه الضلالة". فإذا ذكرت اسما مذكّرا لجمع جاز جمع فعله وتوحيده؛ كقول الله تعالى {وإنا لجميع حاذرون}. وقوله: {أم يقولون نَحْن جَميعٌ مُنْتَصر} وكذلك إذا كان الاسم مؤنّثا وهو لجمع جعلت فعله كفعل الواحدة الأنثى الطائفة والعصبة والرفقة. وإن شئت جمعته فذكَّرته على المعنى. كلّ ذلك قد أتى فى القرآن.

{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ...}
قال بعض المفّسرين: معنى ترجون: تخافون. ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد. فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك؛ كقوله تعالى {قل لِلذِين آمنوا يغفِروا لِلذِين لا يرجون أَيّامَ اللهِ} هذه: للذين لا يخافون أيام الله، وكذلك قوله: {ما لكم لا تَرْجون لِلّهِ وقارا}: لا تخافون لله عظمة. وهى لغة حجازية. وقال الراجز:
لا ترتجِى حِين تلاقى الذائدا * أسبعة لاقت معا أم واحدا
وقال الهدلىّ:
إذا لسعته النحلُ لم يرجَ لَسْعها * وخالفها فى بيتِ نُوب عوامِلِ
ولا يجوز: رجوتك وأنت تريد: خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }

وقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً...}
يقال: كيف قال "به" وقد ذَكَر الخطيئة والإثم؟. وذلك جائز أن يُكْنَى عن الفعلين وأحدهما مؤنّث بالتذكير والتوحيد، ولو كثر لجاز الكناية عنه بالتوحيد؛ لأن الأفاعيل يقع عليها فعل واحد، فلذلك جاز. فإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلته كالواحد. وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصّة؛ كما قال {وإذا رَأَوْا تجارةً أو لَهْواً انفَضُّوا إِليها} فجعله للتجارة. وفى قراءة عبدالله (وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفَضُّوا إليها) فجعله للتجارة فى تقديمها وتأخيرها. ولو أتى بالتذكير فجعِلا كالفعل الواحد لجاز. ولو ذكّر على نِيّة اللهو لجاز. وقال {إِن يكن غَنِيّاً أو فَقِيرا فاللَّهُ أَوْلَى بهما} فثنّى. فلو أتى فى الخطيئة واللهو والإثم والتجارة مثنى لجاز. وفى قراءة أبىّ (إن يكن غنِىّ أو فقير فالله أولى بهم) وفى قراءة عبدالله (إِن يكن غنىّ أو فقير فالله أولى بهما) فأمَّا قول أبىّ (بهم) فإنه كقوله {وكم مِن مَلَكٍ فى السمواتِ لا تُغْنِى شفاعَتُهمْ} ذهب إلى الجمع، كذلك جاء فى قراءة أبىّ، لأنه قد ذكرهم جميعا ثم وحّد الغنىّ والفقير وهما فى مذهب الجمع؛ كما تقول: أصبح الناس صائما ومفطرا، فأدّى اثنان عن معنى الجمع.

{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }

وقوله: {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ...}
يريد: لقد همت طائفة فأضمرت.
وقوله: {أَن يُضِلُّوكَ}: يُخطِّئوك فى حكمك.

{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ...}
(من) فى موضع خفض ونصب؛ الخفض: إلا فيمن أمر بصدقة. والنجوى هنا رجال؛ كما قال {وإذْ هُمْ نَجوى} ومن جعل النجوى فعلا كما قال {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ} فـ (من) حينئذ فى موضع رفع. وأمّا النصب فأن تجعل النجوى فعلا. فإذا استثنيت الشىء من خلافه كان الوجه النصب، كما قال الشاعر:
وقفت فيها أُصَيلاناً أُسائلها * عَيَّت جوابا وما بالربْعِ مِن أحدِ
إِلا الأوارِىَّ لأْياً ما أُبيِّنها * والنُؤْىُ كالحوض بالمظلومةِ الجَلَدِ
وقد يكون فى موضع رفع وإن ردّت على خلافها؛ كما قال الشاعر:
وبلد ليس بِهِ أنيسُ * إلا اليعافِيرُ وإلاَّ العِيسُ

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً }

وقوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً...}
يقول: اللات والعُزَّى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. وقد قرأ ابن عباس {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} جمع الوثن فضم الواو فهمزها، كما قال {وإذا الرُّسُلُ أُقِّتَت} وقد قرئت (إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِه إلا أُنُثا) جمع الإناث، فيكون مثل جمع الثمار والثمر {كُلُوا مِنْ ثُمُرِه}.
{ لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }

وقوله: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً...}
جعل الله له عليه السبيل؛ فهو كالمفروض.

{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً }

وقوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ...}
وفى قراءة أُبىّ "وأُضلهم وأُمَنِّيهم".

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }

وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً...}
يقول القائل: ما هذه الخُلَّة؟ فذُكِر أنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يضيف الضيفان ويطعم الطعام، فأصاب الناس سنةُ جدب فعزَّ الطعام. فبعث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى خليل له بمصر كانت المِيرة من عنده، فبعث غلمانه معهم الغرائر والإبل ليميره، فردّهم وقال: إبراهيم لا يريد هذا لنفسه، إنما يريده لغيره. قال: فرجع غلمانه، فمرّوا ببطحاء لينة. فاحتملوا من رملها فملئوا الغرائر؛ استحياء من أن يردّوها فارغة، فرُدّوا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر وامرأه نائمة، فوقع عليه النوم هَمّا، وانتبهت والناس على الباب يلتمسون الطعام. فقالت للخبّازين: افتحوا هذه الغرائر واعتجنوا، ففتحوها فإذا أطيب طعام، فعجنوا واختبزوا. وانتبه إبراهيم صلى الله عليه وسلم فوجد ريح الطعام، فقال: مِن أين هذا؟ فقالت امرأة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: هذا من عند خليلك المصرىّ. قال فقال إبراهيم: هذا من عند خليلى الله لا من عند خليلى المصرىّ. قال: فذلك خُلّته.

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً }

وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى...}
(معناه: قل الله يفتيكم فيهنّ وما يتلى). فموضع (ما) رفع كأنه قال: يفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم. وإن شئت جعلت ما فى موضع خفض: يفتيكم الله فيهنّ وما يتلى عليكم غيرهنّ.
وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} فى موضع خفض، على قوله: يفتيكم فيهنّ وفى المستضعفين. وقوله: {وَأَن تَقُومُواْ} (أن) موضع خفض على قوله: ويفتيكم فى أن تقوموا لليتامى بالقسط.

{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله: {خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً...}
والنشوز يكون من قِبل المرأة والرجل. والنشوز هاهنا من الرجل لا من المرأة. ونشوزه أن تكون تحته المرأة الكبيرة فيريد أن يتزوج عليها شابّة فيؤثرها فى القسمة والجماع. فينبغى له أن يقول للكبيرة: إنى أريد أن أتزوّج عليك شابَّة وأوثرها عليك، فإن هى رضيت صلح ذلك له، وإن لم ترض فلها من القسمة ما للشابّة.
وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} إنما عنى به الرجل وامرأته الكبيرة. ضنّ الرجل بنصيبه من الشابة، وضنّت الكبيرة بنصيبها منه. ثم قال: وإن رضيت بالإمرة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقوله: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ...}
إلى الشابة، فتهجروا الكبيرة كل الهجر {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وهى فى قراءة أُبَىّ (كالمسجونة).

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ...}
هذا فى إقامة الشهادة على انفسهم وعلى الوالدين والأقربين. ولا تنظروا فى غِنى الغنِىّ ولا فقر الفقير؛ فإن الله أولى بذلك.
(فلا تَتَّبِعُوا الهوى [أن تعدِلوا]) فرارا من إقامة الشهادة. وقد يقال: لا تتبعوا الهوى لتعدلوا؛ كما تَقول: لا تتبِعنّ هواك لتُرضِى ربك، أى إنى أنهاك عن هذا كيما ترضِى ربك. وقوله {وَإِن تَلْوُواْ} وتَلُوا، قد قرئتا جميعا. ونرى الذين قالوا (تلوا) أرادوا (تَلْؤُوا) فيهمزون الواو لانضمامها، ثم يتركون الهمز فيتحوّل إعراب الهمز إلى اللام فتسقط الهمزة. إلا أن يكون المعنى فيها: وإن تلوا ذلك، يريد: تتولَّوه {أَوْ تُعْرِضُواْ} عنه: أوتتركوه، فهو وجه.

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ...}
وهم الذين آمنوا بموسى ثم كفرا من بعده بعُزَيْر، ثم آمنوا بعُزَيْر وكفروا بعيسى. وآمنت اليهود بموسى وكفرت بعيسى.
ثم قال: {[ثُمَّ] ازْدَادُواْ كُفْراً} يعنى اليهود: ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }

وقوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ...}
جَزْم. ولو نصبت على تأويل الصرف؛ كقولك فى الكلام: ألم نستحوذ عليكم وقد منعناكم، فيكون مثل قوله {ولمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِين جاهَدوا مِنْكم ويَعْلَمَ الصابرين} وهى فى قراءة أُبىّ (ومنعناكم من المؤمنين) فإن شئت جعلت "ومنعناكم" فى تأويل "وقد كنا منعناكم" وإن شئت جعلته مردودا على تأويل {أَلَمْ} كأنه قال: أما استحوذنا عليكم ومنعناكم. وفى قراءة أُبىّ (أَلَمْ تُنْهيَا عن تِلْكُما الشّجَرَةِ وقِيلَ لكما).

{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }

وقوله: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...}
يقال الدرْك، والدرَك، أى أسفل دَرَج فى النار.

{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ...}
جاء فى التفسير: (من المؤمنين).

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }

وقوله: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ...}
وظَلَمَ. وقد يكون (مَنْ) فى الوجهين نصبا على الاستثناء على الانقطاع من الأوّل. وإن شئت جعت (من) رفعا إذا قلت (ظُلم) فيكون المعنى: لا يحبُّ الله أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وهو الضيف إذا أراد النزول على رجل فمنعه فقد ظلمه، ورخّص له أن يذكره بما فعل؛ لأنه منعه حقَّه. ويكون {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} كلاما تاما، ثم يقول: إلا الظالم فدعوه، فيكون مثل قول الله تبارك وتعالى {لئلاّ يكونَ لِلناسِ عليكم حُجّة إِلا الِذين ظَلَموا} فإن الظالم لا حجَّة له، وكأنه قال إلا مَنْ ظلم فَخلُّوه. وهو مثل قوله {فذكِّر إنما أنت مُذَكِّر} ثم استثنى فقال {إِلا مَنْ تَوَلَّى وكفر} فالاستثناء من قوله {إنما أنت مُذَكّر} وليست فيه أسماء. وليس الاستثناء من قوله {لَسْتَ عَلَيْهم بمصيطر} ومثله مّما يجوز أن يستثنى (الأسماء ليس قبلها) شىء ظاهر قولك: إنى لأكره الخصومة والمِرَاء، اللهم إلاَّ رجلا يريد بذلك الله. فجاز استثناء الرجل ولم يذكر قبله شىء من الأسماء؛ لأن الخصومة والمِرَاء لا يكونان إلا بين الآدمييّن.

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وقوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ...}

أى أوعية للعلم تعلمه وتعقله، فما لنا لا نفهم ما يأتى به (محمد صلى الله عليه وسلم) فقال الله تبارك وتعالى {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}.

{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }

وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ...}
الهاء ها هنا لعيسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} الهاء ها هنا للعلم, كما تقول قتلته علما، وقتلته يقينا، للرأى والحديث والظنّ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }

وقوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ...}
معناه: من ليؤمنَّن به قبل موته. فجاء التفسير بوجهين؛ أحدهما أن تكون الهاء فى موته لعيسى، يقول: يؤمنون إذا أنزل قبل موته، وتكون المِلَّة والدين واحدا. ويقال: يؤمن كل يهودىّ بعيسى عند موته. وتحقيق ذلك فى قراءة أبىّ (إلا ليؤمنُنَّ به قبل موتهم).
{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }

وقوله: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ...}
كما أوحينا إلى كلهم.

{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }

وقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ...}
نصبه من جهتين. يكون من قولك: كما أوحينا إلى رسل من قبلك، فإذا ألقيت (إلى) والإرسال اتصلت بالفعل فكانت نصبا؛ كقوله {يُدْخِل من يشاء فِى رحمتِهِ والظالِمين أَعدّ لهم عذابا أَليما} ويكون نصبا من (قصصناهم). ولو كان رفعا كان صوابا بما عاد من ذكرهم. وفى قراءة أُبىّ بالرفع (ورُسُلٌ قَدْ قَصَصْناهم عليك من قَبْل ورسلٌ لم نَقْصُصْهُمْ عليك).

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ...}
(خير) منصوب باتصاله بالأمر؛ لأنه من صفة الأمر؛ وقد يستدلّ على ذلك؛ ألم تر الكناية عن الأمر تصلح قبل الخير، فتقول للرجل: اتق الله هو خير لك؛ أى الاتقاء خير لك، فإذا سقطت (هو) اتصل بما قبله وهو معرفة فنصب، وليس نصبه على إضمار (يكن)؛ لأن ذلك يأتى بقياس يبطل هذا؛ ألا ترى أنك تقول: اتق الله تكن محسنا، ولا يجوز أن تقول: اتق الله محسنا وأنت تضمر (تكن) ولا يصلح أن تقول: انصرنا أخانا (وأنت تريد تكن أخانا).

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ اله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }

وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ...}
أى تقولوا: هم ثلاثة؛ كقوله تعالى {سيقولون ثلاثَةٌ رابعهم} فكل ما رأيته بعد القول مرفوعا ولا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
وقوله: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} يصلح فى (أن) مِن وعن، فإذا أُلقيتا كانت (أن) فى موضع نصب. وكان الكسائىّ يقول: هى فى موضع خفض، فى كثير من أشباهها.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }

وقوله: {وَلاَ يَجِدُونَ...}
ردّت على ما بعد الفاء فرفعت، ولو جزمت على أن تردّ على موضع الفاء كان صوابا، كما قال {من يضلِلِ الله فلا هادِى له ويذرهم}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ...}
(هلك) فى موضع جزم. وكذلك قوله {وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} لو كان مكانهما يفعل كانتا جزما؛ كما قال الكُمَيت:
فإن أنت تفعل فللفاعلين * أنت المجيزين تلك الغمارا
وأنشد بعضهم:
صعدة نابتة فى حائِرٍ * أَينما الريح تُمَيِّلْها تمِل
إلا أن العرب تختار إذا أتى الفعل بعد الاسم فى الجزاء أن يجعلوه (فَعَل) لأن الجزم لا يتبين فى فَعَل، ويكرهون أن يعترض شىء بين الجازم وما جزم. وقوله {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} معناه: ألاَّ تضلوا. ولذلك صلحت لا فى موضع أن. هذه محنة لـ (أن) إذا صلحت فى موضعها لئلا وكيلا صلحت لا.

المعاني الواردة في آيات
سورة ( المائدة )
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }

ومن قوله تبارك وتعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُود...}
يعنى: بالعهود. [والعقود] والعهود واحد.
وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} وهى بقر الوحش والظباء والحُمُر الوحشيَّة.

وقوله: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فى موضع نصب بالاستثناء، ويجوز الرفع، كما يجوز: قام القوم إلا زيدا وإلاّ زيد. والمعنى فيه: إلا ما نبينه لكم من تحريم ما يَحْرُم وأنتم مُحرمون، أو فى الحَرَم. فذلك قوله {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} يقول: أحلّت لكم هذه غير مستحِلّين للصيد {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. ومثله {إلَى طَعَامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إنَاهُ} وهو بمنزلة قولك (فى قولك) أحلَّ لك هذا الشىء لا مفرطا فيه ولا متعدّيا. فإذا جعلت (غير) مكان (لا) صار النصب الذى بعد لا فى غير. ولو كان (محلِّين الصيد) نصبت؛ كما قال الله جل وعز {ولا آمِّين الْبَيْتَ الحَرَامَ} وفى قراءة عبدالله (ولا آمِّى البيتِ الحرامِ).
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}: يقضى ما يشاء.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ...}
كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فأنزل الله تبارك وتعالى: لا تستحلّوا ترك ذلك.
وقوله: {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ}: ولا القتالَ فى الشهر الحرام.

{وَلاَ الْهَدْيَ} وهو هَدْى المشركين: أن تعرضوا له ولا أن تخيفوا من قلّد بعيره. وكانت العرب إذا أرادت أن تسافر فى غير أشهر الحُرُم قلّد أحدُهم بعيِره، فيأمن بذلك، فقال: لا تخيفوا من قلّد. وكان أهل مكَّة يقلِّدون بِلحاء الشجر، وسائر العرب يقلِّدون بالوَبَر والشعَر.
وقوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} يقول: ولا تمنعوا مَن أمّ البيت الحرام أو أراده من المشركين. ثم نَسَختْ هذه الآيةُ التى فى التوبة {فاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} إلى آخر الآية.
وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} قرأها يحيى بن وثَّاب والأعمش: ولا يُجْرِمنَّكم، من أجرمت، وكلام العرب وقراءة القرّاء {يَجرِمنكم} بفتح الياء. جاء التفسير: ولا يحملنَّكم بغض قوم. قال الفرّاء: وسمعت العرب تقول: فُلان جَريِمة أهله، يريدون: كاسب لأهله، وخرج يجرِمهم: يكسب لهم. والمعنى فيها متقارب: لا يكسبنَّكم بغضُ قوم أن تفعلوا شَرّا. فـ (أن) فى وضع تصب. فإذا جعلت فى (أن) (على) ذهبتَ إلى معنى: لا يحملنَّكم بغضهم على كذا وكذا، على أن لا تعدلوا، فيصلح طرح (على)؛ كما تقول: حملتنى أن أسال وعلى أن أسأل. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} وقد ثقّل الشنآن بعضهم، وأكثر القُرّاء على تخفيفه. وقد رُوى تخفيفه وتثقيله عن الأعمش؛ وهو: لا يحمِلنكم بغض قوم، فالوجه إذا كان مصدرا أن يثقَّل، وإذا أردت به بَغيض قوم قلت: شَنْآن.

و{أَن صَدُّوكُمْ} فى موضع نصب لصلاح الخافض فيها. ولو كسرت على معنى الجزاء لكان صوابا. وفى حرف عبدالله (إِن يَصدُّوكم) فإن كسرت جعلت الفعل مستقبلا، وإن فتحت جعلته ماضيا. وإن جعلته جزاء بالكسر صلح ذلك كقوله {أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً إِنْ كُنْتُمْ} وأن، تفتح وتكسر. وكذلك {أَوْلِيَاءَ إِن اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ} تكسر. ولو فتحت لكان صوابا، وقوله {باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [فيه] الفتح والكسر. وأمّا قوله {بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمانِ} فـ (أَنْ) مفتوحة؛ لأنّ معناها ماضٍ؛ كأنك قلت: منّ عليكم أن هداكم. فلو نويت الاستقبال جاز الكسر فيها. والفتح الوجه لمضىّ أوّل الفعلين. فإذا قلت: أكرمتك أن أتيتنى، لم يجز كسر أن؛ لأنّ الفعل ماضٍ.
وقوله: {وَتَعَاوَنُواْ} هو فى موضع جزم. لأنها أمر، وليست بمعطوفة على {تَعْتَدُواْ}.

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...}
{وَمَآ}: فى موضع رفع بما لم يسمّ فاعله.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ}: ما اختنقت فماتت ولم تُدرَك.
{وَالْمَوْقُوذَةُ}: المضروبة حتى تموت ولم تُذَكَّ.

{وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: ما تردّى من فوق جبل أو بئر، فلم تدرَكْ ذكاتُه.
{وَالنَّطِيحَةُ}: مانُطِحت حتى الموت. كل ذلك محرّم إذا لم تُدرك ذكاته.
وقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} نصب ورفع.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: ذبح للأوثان. و(ما ذبح) فى موضع رفع لا غير.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ} رَفْع بما لم يسمَّ فاعله. والاستقسام: أنّ سهاما كانت تكون فى الكعبة، فى بعضها: أمرنى ربى، (وفى موضعها: نهانى ربى) فكان أحدهم إذا أراد سفرا أخرج سهمين فأجالهما، فإن خرج الذى فيه (أمرنى ربى) خرج. وإن خرج الذى فيه (نهانى ربى) قعد وأمسك عن الخروج.
قال الله تبارك وتعالى: {ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ} والكلام منقطع عند الفسق، و {الْيَوْمَ} منصوب بـ (يئِس) لا بالفسق.
{اليومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطّيِّباتُ} نصب (اليوم) بـ (أُحِلّ).
وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } مثل قوله {غير محلّى الصيد} يقول: غير معتمد لإثم. نصبت (غير) لأنها حال لـ (مَنْ)، وهى خارجة من الاسم الذى فى (اضطرّ).
المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ...}
يعنى الكلاَب. و {مُكَلِّبِينَ} نصب على الحال خارجة من (لكم)، يعنى بمكلِّبين: الرجال أصحاب الكِلاب، يقال للواحد: مكلِّب وكلاَّب. وموضع (ما) رفع.
وقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ}: تؤدّبونهن ألاَّ يأكلن صيدهنّ.
ثم قال تبارك وتعالى {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ممَّا لم يأكلن منه، فإن أكل فليس بحلال؛ لأنه إنما أمسَكَ على نفسه.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ...}
مردودة على الوجوه. قال الفراء: وحدَّثنى قيس بن الربيع عن عاصم عن زِرّ عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ (وأرجلكم) مقدّم ومؤخر. قال الفراء: وحدّثنى محمد بن أبان القريشى عن أبى إسحاق الهَمْدانىّ عن رجل عن علىّ أنه قال: نزل الكتاب بالمسح، والسُنَّة الغَسْل. قال الفراء: وحدّثنى أبو شهاب عن رجل عن الشعبىّ قال: نزل جبريل صلى الله عليه وسلم بالمسح على محمد صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء. قال الفراء: السنة الغسل.
وقوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ} كناية عن خلوة الرجل إذا أراد الحاجة.

{ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...}

لو لم تكن (هو) فى الكلام كانت (أقرب) نصبا. يكنى عن الفعل فى هذا الموضع بهو وبذلك؛ تصلحان جميعا. قال فى موضع آخر {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُم صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} وفى الصفّ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} فلو لم تكن (هو) ولا (ذلك) فى الكلام كانت نصبا؛ كقوله {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ...}
معناه: كى لا تقولوا: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} مثل ما قال {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا}.

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ }

وقوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ...}
يعنى السبعين الذين اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الجبل، سمَّاهم أنبياء لهذا.
{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} يقول: أحدكم فى بيته ملِك، لا يُدخَل عليه إلا بإذن.
{وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} ظَلَّلَكُم بالغمام الأبيض، وأنزل عليكم المنّ والسَّلوى.

{ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }

وقوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ...}
ذُكر أن الأرض المقدّسة دِمَشْق وفِلسطون وبعض الأُرْدُنّ (مشدّدة النون).

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }

وقوله: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا...}
فقال (أنت) ولو ألقيت (أنت) فقيل: اذهب وربك فقاتِلا كان صوابا؛ لأنه فى إحدى القراءتين (إِنه يراكم وقبِيلُه) بغير (هو) وهى بهو و(اذهب أنت وربك) أكثر فى كلام العرب. وذلك أنّ المردود على الاسم المرفوع إذا أضمر يكره؛ لأن المرفوع خفىّ فى الفعل، وليس كالمنصوب؛ لأنّ المنصوب يظهر؛ فتقول ضربته وضربتك، وتقول فى المرفوع: قام وقاما، فلا ترى اسما منفصلا فى الأصل من الفعل، فلذلك أُوثِر إظهاره، وقد قال الله تبارك وتعالى {أَئِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} ولم يقل(نحن) وكلّ صواب.
وإذا فرقت بين الاسم المعطوف بشىء قد وقع عليه الفعل حسن بعضَ الحسن. من ذلك قولك: ضربت زيدا وأنت. ولو لم يكن زيد لقلت: قمت أنا وأنت، وقمت وأنت قليل. ولو كانت (إِنا ها هنا قاعدين) كان صوابا.

{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }

وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً...}
منصوبة بالتحريم. ولو قطعت الكلام فنصبتها بقوله (يَتِيهُونَ) كان صوابا. ومثله فى الكلام أن تقول: لأعطينَّك ثوبا ترضى، تنصب الثوب بالإعطاء، ولو نصبته بالرضا تقطعه من الكلام من (لأعطينك) كان صوبا.

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ...}

ولم يقل: قال الذى لم يتقبل منه (لأقتلنَّك) لأن المعنى يدلّ على أن الذى لم يتقبل منه هو القائِل لحسده لأخيه: لأقتلنك. ومثله فى الكلام أن تقول: إذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، تنوى بالحمد الحليم، وإذا رأيت الظالم والمظلوم أعَنْتَ، وأنت تنوى: أعنت المظلوم، للمعنى الذى لا يُشْكِل. ولو قلت: مرّ بى رجل وامرأة فأعنْتُ، وأنت تريد أحدهما لم يجز حتى يبيّن؛ لأنهما ليس فيهما علامة تستدلّ بها على موضع المعونة، إلا أن تريد: فأعنتهما جميعا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ...}
يريد: فتابعته.

{ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذالِكَ...}
جواب لقتل ابن آدم صاحبه.
وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} يقول: عفا عنها، والإحياء ها هنا العفو.

{ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ...}
(أن) فى موضع رفع.

فإذا أصاب الرجل الدم والمال وأخاف السبيل صِلب، وإذا أصاب القتل ولم يصب المال قتِل، وإذا أصاب المال ولم يصب القتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى "من خلاف" ويصلح مكان (مِن) على، والباء، واللام.
ونفيه أن يقال: من قتله فدمه هدر. فهذا النفى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا...}
مرفوعان بما عاد من ذكرهما. والنصب فيهما جائز؛ كما يجوز أزيد ضربته، وأزيدا ضربته. وإنما تختار العرب الرفع فى "السارق والسارِقة" لأنهما [غير] موَقَّتين، فوجِّها توجيه الجزاء؛ كقولك: مَنْ سرق فاقطعوا يده، فـ (من) لا يكون إلا رفعا، ولو أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها كان النصب وجه الكلام. ومثله {واللذانِ يأتيانها مِنكم فآذوهما} وفى قرءة عبدالله "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما".
وإنما قال (أيدِيهما) لأنّ كل شىء موحَّد من خَلْق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع. فقيل: قد هشمت رءوسهما، وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا. ومثله {إِن تَتُوبَا إِلى الله فقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}.
وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين فى الإنسان: اليدين والرجلين والعينين. فلما جرى أكثره على هذا ذهِب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية. وقد يجوز تثنيتهما؛ قال أبو ذُؤيب:
فتخالسا نَفْسَيهِما بنوافذ * كنوافِذِ العُبُط التى لا ترقَع
وقد يجوز هذا فيما ليس من خَلْق الإنسان. وذلك أن تقول للرجلين: خلَّيتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قُمُصكما.

وإنما ذكرت ذلك لأن من النحويين من كان لا يجيزه إلاّ فى خَلْق الإنسان، وكلٌّ سواء. وقد يجوز أن تقول فى الكلام: السارق والسارِقة فاقطعوا يمِينهما؛ لأن المعنى: اليمين من كل واحد منهما؛ كما قال الشاعر:
كُلُوا فى نصف بطنِكم تعِيشوا * فإنَّ زمانكم زمن خمِيص
وقال الآخر:
الواردون وتَيْم فى ذرى سبأٍ * قد عضَّ أعناقهم جِلدُ الجوامِيس
من قال: (ذَرَى) جعل سبأ جِيلا، ومن قال: (ذُرَى) أراد موضعا.
ويجوز فى الكلام أن تقول: أْتِنِى برأس شاتين، ورأس شاة. فإذا قلت: برأس شاة فإنما أردت رأسَىْ هذا الجنس، وإذا قلت برأس شاتين فإنك تريد به الرأس من كل شاة؛ قال الشاعر فى غير ذلك:
كأنه وَجْه تركِيَّينِ قد غضِبا * مستهدف لِطعانٍ غيرِ تذبيب

{ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ...}

إن شئت رفعت قوله "سمَّاعون للكذب" بِمِن ولم تجعل (مِن) فى المعنى متصلة بما قبلها، كما قال الله: {فمِنهم ظالِم لِنفسِهِ ومِنهم مقتصِد} وإن شئت كان المعنى: لا يحزنك الذِين يسارِعون فِى الكفرِ من هؤلاء ولا {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ} فترفع حينئِذ (سمَّاعون) على الاستئناف، فيكون مثل قوله {لِيستأذِنكم الذِين ملكت أيمانُكُمْ والذِين لم يبلغوا الحُلُم مِنكم} ثم قال تبارك وتعالى: {طوَّافون عليكم} ولو قيل: سماعين، وطوّافين لكان صوابا؛ كما قال: {ملعونِين أينما ثُقِفوا} وكما قال: {إن المتَّقِين في جَنَّاتٍ وعُيونٍ} ثم قال: {آخِذين، وفاكِهِين، ومتكئِين} والنصب أكثر. وقد قال أيضا فى الرفع: { كلاَّ إِنها لظى نزَّاعة لِلشوى} فرفع (نزَّاعة) على الاستئناف، وهى نكرة من صفة معرفة. وكذلك قوله: {لا تبقِى ولا تذر لَوَّاحَة} وفى قراءة أبىّ "إِنها لإِحدا الكُبَر نِذير لِلبشرِ" بغير ألف. فما أتاك من مثل هذا فى الكلام نصبته ورفعته. ونصبه على القطع وعلى الحال. وإذا حسن فيه المدح أو الذمّ فهو وجه ثالث. ويصلح إذا نصبته على الشتم أو المدح أن تنصب معرفته كما نصبت نكرته. وكذلك قوله {سمَّاعون لِلكذبِ أكَّالون لِلسُّحتِ} على ما ذكرت لك.

{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...}

تنصب (النفس) بوقوع (أَنّ) عليها. وأنت فى قوله {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} إلى قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} بالخيار. إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت. وقد نصب حمزة ورفع الكسائىّ. قال الفراء: وحدّثنى إبراهيم بن محمد ابن أبى يحيى عن أبان بن أبى عياش عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (والعين بِالعين) رفعا. قال الفرّاء: فإذا رفعت العين أتبع الكلام العين، وإن نصبنه فجائز. وقد كان بعضهم ينصب كله، فإذا انتهى إلى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} رفع. وكل صواب، إِلا أن الرفع والنصب فى عطوف إِنّ وأنّ إنما يسهلان إذا كان مع الأسماء أفاعيل؛ مثل قوله {وإذا قيل إن وعد اللّهِ حق والساعة لا ريب فِيها} كان النصب سهلا؛ لأنّ بعد الساعة خبرها. ومثله {إن الأرض لِلّهِ يورِثها من يشاء مِن عبادِهِ والعاقِبة لِلمتقِين} ومثله {وإِن الظالِمِين بعضُهم أولياءُ بعضٍ والله وَلِىُّ المتقِين} فإذا لم يكن بعد الاسم الثانى خبر رفعته، كقوله عزَّ وجلّ {أنَّ الله برئ مِن المشرِكِين ورسوله} وكقوله {فإن الله هو مولاه وجِبرِيل وصالِح المؤمِنين} وكذلك تقول: إِنّ أخاك قائِم وزيد، رفعت (زيد) بإتباعه الاسم المضمر فى قائم. فابنِ على هذا.
وقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ...}
كنى (عن [الفعل] بهو) وهى فى الفعل الذى يجرى منه فعل ويفعل، كما تقول: قد قدِمت ِ القافلة ففرحت به، تريد: بقدومها.
وقوله {كَفَّارَةٌ لَّهُ} يعنى: للجارح والجانى، وأجر للمجروح.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى...}

ثم قال {وَمُصَدِّقاً} فإن شئت جعل {مُصَدِّقاً} من صفة عيسى، وإن شئت من صفة الإنجيل.
وقوله {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} متبع للمصدّق فى نصبه، ولو رفعته على أن تتبعهما قوله {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كان صوابا.

{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

وقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ...}
قرأها حمزة وغيره نصبا، وجعلت اللام فى جهة كى. وقرئت {وَلْيَحْكُمْ} جزما على أنها لام أمر.

{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }

وقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ...}
دليل على أنّ قوله (وليحكم) جزم. لأنه كلام معطوف بعضه على بعض.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ }

وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
مستأنفة فى رفع. ولونصبت على الردّ على قوله {فعسى الله أَن يأْتِى بِالفتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ} كان صوابا. وهى فى مصاحف أهل المدينة (يقول الذين آمنوا) بغير واو.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ...}
خفض، تجعلها نعتا (لقوم) ولو نصبت على القطع من أسمائِهم فى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} كان وجها. وفى قراءة عبدالله (أَذلَّة على المؤمنين غلظاء على الكافرين) أذله: أى رحماء بهم.

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ...}
وفى فى قراءة أبىّ (ومن الكفار)، ومن نصبها ردّها على {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }

وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ...}
(أنّ) فى موضع نصب على قوله {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} إلا إيماننا وفسقكم. (أن) فى موضع مصدر، ولو استأنفت (وإن اكثركم فاسقون) فكسرت لكان صوابا.

{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ }

وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً...}
نصبت (مثوبة) لأنها مفسّرة كقوله {أَنا أَكثر مِنك مالا وأَعزُّ نَفَرا}.
وقوله: {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ } (من) فى موضع خفضٍ تردّها على (بِشرّ) وإن شئت استأنفتها فرفعتها؛ كما قال: {قل أَفَأُنبئكم بِشر مِن ذلِكم النار وعدها الله الذِين كفروا} ولو نصبت (من) على قولك: أُنبئكم (من) كما تقول: أنبأتك خيرا، وأنبأتك زيدا قائما، والوجه الخفض.وقوله {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} على قوله: "وجعل مِنهم القِردة [والخنازير] ومن عبد الطاغوتَ" وهى فى قراءة أُبىّ وعَبْدالله (وعبدوا) على الجمع، وكان أصحاب عبدالله يقرأون "وعَبَد الطاغوتِ" على فَعَل، ويضيفونها إلى الطاغوتِ، ويفسّرونها: خَدَمة الطاغوتِ. فأراد قوم هذا المعنى، فرفعوا العين فقالوا: عُبُد الطاغوتِ؛ مثل ثِمار وثُمُر، يكون جمع جمع. ولو قرأ قارئ (وعَبَد الطاغوتِ) كان صوابا جيّدا. يريد عبدة الطاغوت فيحذف الهاء لمكان الإضافة؛ كما قال الشاعر:
* قام وُلاَها فسقَوها صَرْخدا *
يريد: ولاتها. وأَما قوله (وعَبُد الطاغوت) فإن تكن فيه لغة مثل حَذِر وحَذُر وعَجُل فهو وجه، وإلا فإنه أراد - والله أعلم - قول الشاعر:
أَبَنِى لُبَيْنَى إِنّ أمَّكُمُ * أَمَةٌ وإِن أباكم عَبُد
وهذا فى الشعر يجوز لضرورة القوافى، فأمّا فى القراءة فلا.

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ...}
أرادوا: ممسكة عن الإنفاق والإسباغ علينا. وهو كقوله {ولا تجعلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقك ولا تَبْسُطْها كلَّ البَسْطِ} فى الإنفاق.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وفى حرف عبدالله (بل يداه بُِسْطَانِ) والعرب تقول: الق أخاك بوجه مبسوط، وبوجه بُِسْط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...}
يقول: من قَطْر السماء ونبات الأرض من ثمارها وغيرها. وقد يقال: إن هذا على وجه التوسعة؛ كما تقول: هو فى خير قَرْنه إلى قَدَمه.

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى...}
فإن رفع (الصابِئين) على أنه عطف على (الذين)، و(الذين) حرف على جهة واحدة فى رفعه ونصبه وخفضه، فلمَّا كان إعرابه واحدا وكان نصب (إنّ) نصبا ضعيفا - وضعفه أنه يقع على (الاسم ولا يقع على) خبره - جاز رفع الصابئين. ولا أستحبُّ أن أقول: إنّ عبداللهِ وزيد قائِمان لتبيّن الإعراب فى عبدالله. وقد كان الكسائى يجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا:
فمن يك أمسى بالمدينةِ رحلُهُ * فإنِى وقَيَّارا بها لغرِيب

وقَيَّارٌ. ليس هذا بحجَّة للكسائىّ فى إجازته (إنّ عمرا وزيد قائِمان) لأن قيّارا قد عطف على اسم مكنىّ عنه، والمكنى لا إعراب له فسهل ذلك (فيه كما سهل) فى (الذين) إذا عطفت عليه (الصابئون) وهذا أقوى فى الجواز من (الصابئون) لأنّ المكنىّ لا يتبين فيه الرفع فى حال، و (الذين) قد يقال: اللذون فيرفع فى حال. وأنشدنى بعضهم:
وإلاَّ فاعلموا أَنَّا وأَنتم * بُغَاة ما حيِينا فى شِقاقِ
وقال الآخَر:
يا ليتنى وأَنتِ يا لَمِيسُ * ببلدٍ ليس به أنِيس
وأنشدنى بعضهم:
يا ليتنى وهما نخلو بمنزِلةٍ * حتى يرى بعضُنا بعضا ونأتلِف
قال الكسائىّ: أرفع (الصابِئون) على إتباعه الاسم الذى فى هادوا، ويجعله من قوله (إنا هدنا إليك) لا من اليهودية. وجاء التفسير بغير ذلك؛ لأنه وَصَف الذين آمنوا يأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم فله كذا، فجعلهم يهودا ونصارى.

{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ...}
فقد يكون رفع الكثير من جهتين؛ إحداهما أن تكرّ الفعل عليها؛ تريد: عمِى وصَمَّ كثير منهم، وإن شئت جعلت {عَمُوا وصَمُّوا} فعلا للكثير؛ كما قال الشاعر:
يلوموننى فى اشترائى النخيـ * لَ أَهلِى فكلُّهم أَلْوَمُ
وهذا لمن قال: قاموا قومك. وإن شئت جعلت الكثير مصدرا فقلت أى ذلك كثير منهم، وهذا وجه ثالث. ولو نصبت على هذا المعنى كان صوابا. ومثله قول الشاعر.
وسوَّد ماءُ المَرْدِ فاها فلونه * كَلَون النَؤُور وهى أدماء سارُها

ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وأَسَرّوا النَّجْوَى الذِين ظلموا} إن شئت جعلت (وأسَرّوا) فعلا لقوله {لاهِيةً قلوبُهم وأسَرّوا النجوى} ثم تستأنف (الذين) بالرفع. وإن شئت جعلتها خفضا (إن شئت) على نعت الناس فى قوله "اقترب لِلناسِ حِسابهم" وإن شئت كانت رفعا كما يجوز (ذهبوا قومك).

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ اله إِلاَّ اله وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ...}
يكون مضافا. ولا يجوز التنوين فى (ثالث) فتنصب الثلاثة. وكذلك قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة؛ ألا ترى أنه لا يكون ثانيا لنفسه ولا ثالثا لنفسه. فلو قلت: أنت ثالث اثنين لجاز أن تقول: أنت ثالث اثنين، بالإضافة، وبالتنوين ونصب الاثنين؛ وكذلك لو قلت: أنت رابع ثلاثة جاز ذلك؛ لأنه فعل واقع.
وقوله: {وَمَا مِنْ اله إِلاَّ اله وَاحِدٌ} لا يكون قوله (إِله واحِد) إلا رفعا؛ لأن المعنى: ليس إِله إِلا إِله واحد، فرددت ما بعد (إلا) إلى المعنى؛ ألا ترى أن (مِن) إذا فُقِدت من أوّل الكلام رفعت. وقد قال بعض الشعراء:
ما من حوِىّ بين بدرٍ وصاحةٍ * ولا شُعْبةٍ إلا شِبَاعٌ نسورها
فرأيت الكسائى قد أجاز خفضه وهو بعد إلا، وأنزل (إلا) مع الجحود بمنزلة غير، وليس ذلك بشىء؛ لأنه أنزله بمنزلة قول الشاعر:
أبنِى لبينى لستُم بِيدٍ * إِلا يدٍ ليست لها عُضد
وهذا جائز؛ لأن الباء قد تكون واقعة فى الجحد كالمعرفة والنكرة، فيقول: ما أنت بقائِم، والقائِم نكرة، وما أنت بأخينا، والأخ معرفة، ولا يجوز أن تقول: ما قام من أخيك، كما تقول ما قام من رجل.

{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ...}
وقع عليها التصديق كما وقع على الأنبياء. وذلك لقول الله تبارك وتعالى: {فأَرسلنا إِليها رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لها} فلما كلَّمها جبريل صلى الله عليه وسلم وصدّقته وقع عليها اسم الرسالة، فكانت كالنبىّ.

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }

وقوله: {ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ...}
نزلت فيمن أسلم من االنصارى. ويقال: هو النَّجَاشى وأصحابه. قال الفرّاء ويقال: النِجَاشِى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }

وقوله: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ...}
هم نفر من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يرفضوا الدنيا، ويُحبُّوا أنفسهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} أى لا تجبُّوا أنفسكم.

{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ...}
فى حرف عبدالله "ثلاثة أيام متتابعات" ولو نوّنت فى الصيام نصبت الثلاثة؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {أو إِطعامٌ فِى يومٍ ذِى مَسْغَبةٍ. يتيما} نصبت (يتيما) بإيقاع الإطعام عليه. ومثله قوله: {أَلَمْ نجعلِ الأرض كِفَاتاً أحياءً وأمواتا}: تكْفِتُهم أحياء وأمواتا. وكذلك قوله {فجزاءٌ مِثلُ ما قتل من النعم} ولو نصبت (مثل) كانت صوابا. وهى فى قراءة عبدالله "فجزاؤه مثل ما قتل" وقرأها بعض أهل المدينة "فجزاءُ مِثلِ ما قَتَل" وكلُّ ذلك صواب.
وأما قوله {ولا نَكْتُم شهادةَ اللّهِ} لو نوّنت فى الشهادة جاز النصب فى إعراب (اللّه) على: ولا نكتم اللّهَ شهادةً. وأمّا من استفهم بالله فقال (اللّهِ) فإنما يخفض (اللّهِ) فى الإعراب كما يخفض القسم، لا على إضافة الشهادة إليه.

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وقوله: {;لْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...}
الميسر: القمار كلّه، والأنصاب: الأوثان، والأزلام: سهام كانت فى الكعبة يقتسمون بها فى أمورهم، وواحدها زَلَم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {إِذَا مَا اتَّقَواْ...}
أى اتقَوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها.

{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ...}
فما نالته الأيدى فهو بَيْض النعام وفِراخها، وما نالت الرماحُ فهو سائر الوحش.

{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }

قوله: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ...}

يقول: من أصاب صيدا ناسيا لإحرامه معتمِدا للصيد حكم عليه حاكِمان عدلان فقيهان يسألانه: أقتلت قبل هذا صيدا؟ فإن قال: نعم، لم يحكما عليه، وقالا: ينتقم الله منك. وإن قال: لا، حكما عليه، فإن بلغ قيمةُ حكمها ثمن بَدَنة أو شاة حكما بذلك عليه {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وإن لم يبلغ ثمن شاة حكما عليه بقيمة ما أصاب: دراهم، ثمّ قوّماه طعاما، وأطعمه المساكين لكل مسكين نصفُ صاع. فإن لم يجد حَكَما عليه أن يصوم يوما مكان كل نصف صاع.
وقوله: {أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} والعَدْل: ما عادل الشىء من غير جنسه، والعِدل الْمِثل. وذلك أن تقول: عندى عِدل غلامك وعِدل شاتك إذا كان غلاما يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة. فإذا أردت قيمته من غير جنسه نضبت العين. وربما قال بعض العرب: عِدله. وكأنه منهم غلط لتقارب معنى العَدْل من العِدل. وقد اجتمعوا على واحد الأعدال أنه عِدل. ونصبك الصيام على التفسير؛ كما تقول: عندى رطلان عسلا، ومِلء بيت قَتّا، وهو مما يفسّر للمبتدئ: أن ينظر إلى (مِن) فإذا حسنت فيه ثم أُلقيت نصبت؛ ألا ترى أنك تقول: عليه عَدْل ذلك من الصيام. وكذلك قول الله تبارك وتعالى {فلَنْ يُقْبَل مِن أحَدِهِم مِلءُ الأرْضِ ذهبا}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ...}
الصيد: ما صِدته، وطعامه ما نضب عنه الماء فبقى على وجه الأرض.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

وقوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...}
خطب النبىّ صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم أن الله تبارك وتعالى قد فرض عليهم الحّج، فقام رجل فقال: يا رسول الله (أَوَفى) كلّ عام فأعرض عنه. ثم عاد (فقال: أفى كل عام فأعرض عنه، ثم عاد) فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "ما يؤمنك أن أقول (نعم) فيجب عليكم ثم لا تفعلوا فتكفروا اتركونى ما تركتكم".
و(أشياء) فى موضع خفض لا تُجْرَى. وقد قال فيها بعض النحويين: إنما كثرت فى الكلام وهى (أفعال) فأشبهت فَعْلاء فلم تُصرف؛ كما لم تصرف حمراء، وجمعها أشاوَى - كما جمعوا عذراء عذارَى، وصحراء صحارى - وأشياوات؛ كما قيل: حمراوات. ولوكانت على التوهّم لكان أملك الوجهين بها أن تُجْرَى؛ لأن الحرف إذا كثر به الكلام خَفّ؛ كما كثرت التسمية بيزيد فأجَروه وفيه ياء زائِدة تمنع من الإجراء. ولكنا نرى أن أشياء جُمعت على أفعِلاء، كما جمع لَيِّن وأَلْيِناء، فحذف من وسط أشياء همزة، كان ينبغى لها أن تكون (أَشْيِئاء) فحذفت الهمزة لكثرتها. وقد قالت العرب: هذا من أبناوات سعد، وأُعيذك بأسماوات الله، وواحدها أسماء وأبناء تجرى، فلو مَنعتُ أشياء الجَرْى لجمعهم إياها أشياوات لم أُجر أسماء ولا أبناء؛ لأنهما جُمِعتا أسماوات وأبناوات.

{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ...}

قد اختُلِف فى السائِبة. فقيل: كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء، يذهب به إلى الذين يقومون على خدمة آلهتهم. قال بعضهم: السائبة إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهنّ إناث سيِّبت فلم تركَب ولم يُجَزَّ لها وَبَر، ولم يَشرب لبنهَا إلا ولدها أو ضيف حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء وبُحِرت أذن ابن ابنتها - يريد: خُرِقت - فالبَحِيرة ابنة السائِبة، وهى بمنزلة أمّها. وأمَّا الوصيلة فمن الشاء. إذا ولدت الشاة سبعة أبطن عَنَاقين عَناقين فولدت فى سابعها عَناقا وَجْديا قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبنها النساء وكان للرجال، وجرت مجرى السائِبة. وأما الحامى فالفحل من الإبل؛ كان إذا لَقِح ولدُ ولده حَمَى ظهره، فلا يُركب ولا يجزّ له وَبَر، ولا يُمنع من مرعىً، وأىّ إبل ضَرب فيها لم يُمنع.
فقال الله تبارك وتعالى {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} هذا أنتم جعلتموه كذلك. قال الله تبارك وتعالى {وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

وقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ...}

هذا أمر من الله عزّ وجلّ؛ كقولك: عليكم أنفسكم. والعرب تأمر من الصفات بغليك، وعندك، ودونك، وإليك. يقولون: إليك إليك، يريدون: تأخّر؛ كما تقول: وراءك وراءك. فهذه الحروف كثيرة. وزعم الكسائىّ أنه سمع: بينكما البعير فخَذاه. فأجاز ذلك فى كلّ الصفات التى قد تُفرد، ولم يُجِزه فى اللام ولا فى الباء ولا فى الكاف. وسمع بعض العرب تقول: كما أنت زيدا، ومكانَك زيدا. قال الفراء: وسمعت [بعض] بنى سُلَيم يقول فى كلامه: كما أَنتَنِى، ومكانَكَنِى، يريد انتظرنى فى مكانك.
ولا تقدّمنّ ما نصبته هذه الحروفُ قبلها؛ لأنها أسماء، والاسم لا يَنصب شيئا قبله؛ تقول: ضرباً زيدا، ولا تقول: زيدا ضربا. فإن قلته نصبت زيدا بفعل مضمر قبله كذلك؛ قال الشاعر:
* يأيها المائِح دلوى دونكا *
إن شئت نصبت (الدلو) بمضمر قبله، وإن شئت جعلتها رفعا، تريد: هذه دلوى فدونكا.
{لاَ يَضُرُّكُمْ} رفع، ولو جزمت كان صوابا؛ كما قال (فاضرِبْ لهم طَرِيقا فِى البحر يَبَسا لا تخَفْ، ولا تخافُ) جائزان.

{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ }

وقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ...}
يقول: شاهدان أو وصيّان، وقد اختلِف فيه. ورفع الاثنين بالشهادة، أى ليشهدكم اثنان من المسلمين.

{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير دينكم. هذا فى السَّفَر، وله حديث طويل. إلا أنّ المعنى فى قوله {مِن الذِين استَحَقَّ عليهِم الأَوْلَيانِ} فمن قال: الأَوليان أراد ولَّي الموروث؛ يقومان مَقَام النصرانيَّين إذا اتُّهِما أنهما اختانا، فيحلفان بعد ما حلف النصرانيَّان وظُهِر على خيانتهما، فهذا وجه قد قرأ به علىّ، وذُكر عن أبىّ بن كعب. حدّثنا الفراء قال حدّثنى قيس بن الربيع عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس أنه قال (الأَوَّلِين) يجعله نعتا للذين. وقال أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مَقامهما. وقوله (استحقَّ عليهِم) معناه: فيهم؛ كما قال {واتَّبعوا ماتَتْلُو الشياطِينُ على مُلْكِ سُلَيمان} أى فى مُلْك، وكقوله {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوع النخل} جاء التفسير: على جذوع النخل. وقرأ الحسن (الأوّلان) يريد: استحقَّا بما حقَّ عليهما من ظهور خيانتهما. وقرأ عبدالله بن مسعود (الأَوّلِين) كقول ابن عباس. وقد يكون (الأَوليان) ها هنا النصرانيَّين - والله أعلم - فيرفعهما بـ (استَحَقَّ)، ويجعلهما الأوْلَيَيْن باليمين؛ لأن اليمين كانت عليهما، وكانت البيِّنة على الطالب؛ فقيل الأوليان بموضع اليمين. وهو على معنى قول الحسن.
وقوله أَن{تُرَدَّ أَيْمَان} غيرِهم على ايمانِهِم فتبطلها.
{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }

وقوله: {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ...}
قالوا: فيما ذكر من هول يوم القيامة. ثم قالوا: إلا ما علمتنا، فإن كانت على ما ذكر فـ (ما) التى بعد (إلا) فى موضع نصب؛ لحسن السكوت على قوله: (لا علم لنا)، والرفع جائز.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

وقوله: {إِذْ أَيَّدتُّكَ...}
على فعَّلتك؛ كما تقول: قويتك. وقرأ مجاهد (آيدتك) على أفعلتك. وقال الكسائىّ: فاعلتك، وهى تجوز. وفى مثل عاونتك.
وقوله: {فِي الْمَهْدِ} يقول: صبِيّا {وَكَهْلاً} فردّ الكهل على الصفة؛ كقوله {دعانا لجنبِهِ أَو قاعِدا أَو قائِما}.
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }

وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي...}
يقول: ألهمتهم؛ كما قال {وأَوحى ربُّك إِلى النحلِ أَنِ اتخِذِى مِن الجبال بيوتا} أى ألهمَها.

{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ...}

بالتاء والياء. قرأها أهل المدينة وعاصم بن أبى النَجُود والأعمشُ بالياء: (يستطيع ربُّك) وقد يكون ذلك على قولك: هل يستطيع فلان القيام معنا؟ وأنت تعلم أنه يستطيعه، فهذا وجه. وذُكِر عن علىّ وعائشة رحمهما الله أنهما قرآ (هل تستطيعُ ربَّك) بالتاء، وذكر عن مُعَاذ أنه قال: أقرأنى رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل تستطيع ربَّكَ) بالتاء، وهو وجه حسن. أى هل تقدر على أن تسأل ربك {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }

وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيداً...}
(وتَكُن لَنا). وهى فى قراءة عبدالله (تكْن لنا عِيدا) بغير واو. وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز فىالفعل بعده الجزم والرفع. وأمّا المائدة فذُكر أنها نزلت، وكانت خبزا وسمكا. نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرَّتين، فلذلك اتخذوه عيدا. وقال بعض المفسّرين: لم تنزل؛ لأنه اشترط عليهم أنه إن أنزلها فلم يؤمنوا عذَّبهم، فقالوا: لا حاجة لنا فيها.

{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }

وقوله: {ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ...}

(عيسى) فى موضع رفع، وإن شئت نصبت. وأمّا (ابن) فلا يجوز فيه إلا النصب. وكذلك تفعل فى كل اسم دعوته باسمه ونسبته إلى أبيه؛ كقولك: يا زيدُ بنَ عبدِالله، ويا زيدَ بنَ عبدالله. والنصب فى (زيد) فى كلام العرب أكثر. فإذا رفعت فالكلام على دعوتين، وإذا نصبت فهو دعوة. فإذا قلت: يا زيد أخا تميم، أو قلت: يا زيد ابن الرجلِ الصالح رفعت الأوّل، ونصبت الثانى؛ كقول الشاعر:
يا زِبْرِقانُ أخا بنى خَلَفٍ * ما أنتَ ويلَ أبيك والفَخْرُ

{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ...}
ترفع (اليوم) بـ (هذا)، ويجوز أن تنصبه؛ لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما قالت العرب: مضى يومَئذٍ بما فيه. ويفعلون ذلك به فى موضع الخفض؛ قال الشاعر:
رددنا لشعثاءَ الرسولَ ولا أرى * كيوْمَئِذٍ شيئا تُردّ رسائِله
وكذلك وجه القراءة فى قوله: {مِن عذابِ يومَئِذٍ}؛ {ومن خزىِ يومَئذ} ويجوز خفضه فى موضع الخفض؛ كما جاز رفعه فى موضع الرفع. وما أُضيف إلى كلام ليس فيه مخفوض فافعل به ما فعلت فى هذا؛ كقول الشاعر:
على حينَِ عاتبتُ المشيب على الصِبا * وقلتُ أَلَمَّا تَصْحُ والشيب وازِع
وتفعل ذلك فى يوم، وليلة، وحين، وغَدَاة، وعشيَّة، وزمن، وأزمان وأيام، وليال. وقد يكون قوله: {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ} كذلك. وقوله: {هذا يوم لا ينطِقون} فيه ما فى قوله: (يوم ينفع) وإن قلت "هذا يومٌ ينفع الصادقين" كما قال الله: {واتقوا يوما لا تَجْزِى نَفْسٌ} تذهب إلى النكرة كان صوابا. والنصب فى مثل هذا مكروه فى الصفة؛ وهو على ذلك جائِز، ولا يصلح فى القراءة.

المعاني الواردة في آيات
سورة ( الأنعام ){ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ...}
القرن ثمانون سنة. وقد قال بعضهم: سبعون.

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }

وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً...}
فى صورة رجل؛ لأنهم لا يقدرون علىالنظر إلى صُورة المَلَك.

{ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...}
إن شِئت جعلت (الرحمة) غاية كلام، ثم استأنفت بعدها (ليَجْمَعَنَّكم) وإن شِئت جعلته فى موضع نصب؛ كما قال: {كَتَب ربكم على نفسِهِ الرحمة أَنه من عمل مِنكم} والعرب تقول فى الحروف التى يَصْلح معها جواب الأَيْمان بأن المفتوحة وباللام. فيقولون: أرسلت إليه أن يقوم، وأرسلت إليه ليقومنّ. وكذلك قوله: {ثم بدا لهم مِن بعدِ ما رأَوُا الآياتِ ليسجُنُنَّهُ} وهو فى القرآن كثير؛ ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أن يسجنوه كان صوابا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ }

وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ...}
مخفوض فى الإعراب؛ تجعله صفة من صفات الله تبارك وتعالى. ولو نصبته على المدح كان صوابا، وهو معرفة. ولونويت الفاطرَ الخالِق نصبته على القطع؛ إذ لم يكن فيه ألف ولام. ولو استأنفته فرفعته كان صوابا؛ كما قال: (ربُّ السمواتِ والأَرضِ وما بينهما الرحمن).

{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...}
كلُّ شىء قهر شيئا فهو مُسْتعلٍ عليه.

{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَاذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }

وقوله: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ...}
يريد: ومن بلغه القرآن من بعدكم، و(بلغ) صِلة لـ (من). ونصبت (من) بالإنذار. وقوله: {آلِهَةً أُخْرَى} ولم يقل: أُخَر؛ لأن الآلهة جمع، (والجمع) يقع عليه التأنيث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {ولِلّهِ الأَسماءُ الحسنى} وقال الله تبارك وتعالى: {فما بال القُرونِ الأُولى} ولم يقل: الأُوَل والأوّلين. وكلّ ذلك صواب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ...}
ذُكر أنّ عمر بن الخطاب قال لعبدالله بن سَلاَم: ما هذه المعرفة التى تعرفون بها محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله لأَنابِهِ إذا رأيته أعرفُ مِنى بابنى وهو يلعب مع الصبيان؛ لأنى لا أشكُّ فيه أنه محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولست أدرى ما صنع النساء فى الابن. فهذه المعرفة لصفته فى كتابهم.
وجاء التفسير فى قوله: {خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} يقال: ليس من مؤمن ولا كافر إلا له منزل فى الجنة وأهل وأزواج، فمن أسلم وسعد صار إلى منزله وأزواجه (ومن كفر صار منزله وأزواجه) إلى من أسلم وسعد. فذلك قوله {الذِين يَرِثُون الفِردوسَ} يقول: يرثون منازل الكفار، وهو قوله: {الذِين خسِروا أنفسهم وأهليهم}.

{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }

وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ...}
تقرأ: ربِّنَا وربَّنا خفضا ونصبا. قال الفرّاء: وحدّثنى الحسن بن عيَّاش أخو أبى بكر بن عياش عن الأعمش عن الشعبىّ عن علقمة أنه قرأ (واللّهِ ربَّنا) قال: معناه: والله يا ربَّنا. فمن قال (ربِّنا) جعله محلوفا به.

{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ...}

جعلت الدار ها هنا اسما، وجُعِلت الآخِرة من صفتها، وأضيفت فى غير هذا الموضع. ومثله ممَّا يضاف إلى مثله فى المعنى قوله {إِنّ هذا لهو حَقُّ اليَقِين} والحق هو اليقين؛ كما أَنّ الدار هى الآخرة. وكذلك أتيتك بارحة الأولى، والبارحة الأولى. ومنه: يوم الخميس، وليلة الخميس. يضاف الشىء إلى نفسه إذا اختلف لفظه؛ كما اختلف الحق واليقين، والدار [و] والاخرة، واليوم الخميس. فإذا اتفقا لم تقل العرب: هذا حقُّ الحقّ، ولا يقين اليقين؛ لأنهم يتوهمون إذا اختلفا فى اللفظ أنهما مختلفان فى المعنى. ومثله فى قراءة عبدالله (وذلك الدِين القَيِّمة) وفى قراءتنا (دِين القَيِّمة) والقَيِّمُ والقَيِّمة بمنزلة قولك: رجل راوية وَهَّابة للأموال؛ ووهَّاب وراو، وشبهه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }

وقوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ...}
قرأها العامَّة بالتشديد. قال: حدّثنا الفراء قال حدّثنى قيس بن الربيع الاْسَدىّ عن أبى إسحاق السَبِيعىّ عن ناجية بن كعب عن علىّ أنه قرأ (يُكْذِبونك) مخفّفة. ومعنى التخفيف - والله أعلم -: لا يجعلونك كذَّابا، وإنما يريدون أن ما جئت به باطل؛ لأنهم لم يجرّبوا عليه صلى الله عليه وسلم كذبا فيكذِّبوه وإنما أكذبوه؛ أى ما جئت به كذب لا نعرفه. والتكذيب: أن يقال: كَذَبت. والله أعلم.

{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

وقوله: {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ...}
فافعل، مضمَرة، بذلك جاء التفسير، وذلك معناه. وإنما تفعله العرب فى كل موضع يُعرف فيه معنى الجواب؛ ألا ترى أنك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدق، إن رأيت أن تقوم مَعَنا، بترك الجواب؛ لمعرفتك بمعرفته به. فإذا جاء ما لا يُعرف جوابه إلا بظهوره أظهرته؛ كقولك للرجل: إن تقم تُصِب خيرا، لا بدّ فى هذا من جواب؛ لأن معناه لا يُعرف إذا طُرح.

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

وقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ...}
(الطائر) مخفوض. ورفعه جائز (كما تقول: ماعندى من) رجل ولا امرأةٍ، وامرأةٌ؛ من رفع قال: ما عندى من رجلٍ ولا عندى امرأة. وكذلك قوله: {وما يعزُبُ عن ربِّك مِن مِثقالِ ذرةٍ} ثم قال (ولا أصغرَ مِن ذلك، ولا أَصغرُ ولا أَكبرَ، ولا أَكبرُ) إذا نصبت (أصغر) فهو فى نيَّة خفض، ومَن رفع ردّه على المعنى.
وأَمّا قوله {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} فإنّ الطائر لا يطير إلا بجناحيه. وهو فى الكلام بمنزلة قوله (له تِسع وتسعون نعجة [ولى نعجة] أنثى)، وكقولك للرجل: كلَّمته بفِىّ، ومشيت إليه على رِجْلَىَّ، إبلاغا فىالكلام.
يقال: إنّ كل صنف من البهائم أمّة، والعرب تقول صِنْف [وصَنْف].
{ثم إِلى ربِّهِم يحشرون} حَشْرها: موتها، ثم تحشر مع الناس فيقال لها: كونى ترابا. وعند ذلك يتمنّى الكافر أنه كان ترابا مِثلها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم...}
العرب لها فى (أرأيت) لغتان، ومعنيان. أحدهما أن يسأَل الرجلُ الرجل: أرأيت زيدا بعينك؟ فهذه مهموزة. فإذا أوقعتها على الرجُل منه قلت: أرأيتَك على غير هذه الحال؟ تريد: هل رأيتَ نفسك على غير هذه الحال. ثم تثنّى وتجمع، فتقول للرجلين: أرايتماكما، وللقوم: أَرَأَيتموكم، وللنسوة: أَرَأَيْتُنَّكُنَّ، وللمرأة: أَرَأَيْتِكِ، تخفض التاء والكاف، لا يجوز إلا ذلك.
والمعنى الآخر أن تقول: أرأيتَكَ، وأنت تريد: أَخبِرْنى (وتهمزها ) وتنصب التاء منها؛ وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحَّدة مفتوحة للواحد والواحدة [والجميع فى] مؤنّثه ومذكّره. فتقول للمرأة: أرايتَكِ زيدا هل خرج، وللنسوة: أرايتَكُنَّ زيدا ما فعل. وإنما تركت العرب التاء واحدة لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل منها واقعا على نفسها، فاكتفَوْا بذكرها فى الكاف، ووجَّهوا التاء إلى المذكَّر والتوحيد؛ إذ لم يكن الفعل واقعا. وموضع الكاف نصب وتأويله رفع؛ كما أنك إذا قلت للرجل: دونك زيدا وجدت الكاف فى اللفظ خفضا وفى المعنى رفعا؛ لأنها مأمورة.

والعرب إذا أوقعَتْ فِعْل شىء على نفسه قد كُنِى فيه عن الاسم قالوا فى الأفعال التامَّة غير ما يقولون فى الناقصة. فيقال للرجل: قتلتَ نفسك، وأحسنت إلى نفسِك، ولا يقولون: قتلتَكَ ولا أحسنتَ إليك. كذلك قال الله تبارك وتعالى {فاقتلوا أنفسكم} فى كثير من القرآن؛ كقوله {وماظلمناهم ولكِن ظلموا أنفسهم} فإذا كان العفل ناقصا - مثل حسبت وظننت - قالوا: أَظُنُّنى خارجا، وأَحسِبنى خارجا، ومتى تراك خارجا. ولم يقولوا: متى ترى نفسك، ولا متى تظنّ نفسك. وذلك أنهم أرادوا أن يفرُقوا بين الفعل الذى قد يُلْغى، وبين الفعل الذى لا يجوز إلغاؤه؛ ألا ترى أنك تقول: أنا - أظن ّ- خارج، فتبطل (أظنّ) ويعمل فى الاسم فعله. وقد قال الله تبارك وتعالى {إِن الإِنسان ليطغى. أَن رآه استغنى} ولم يقل: رأى نفسه. وربما جاء فى الشعر: ضربتَكَ أو شبههُ من التامّ. من ذلك قول الشاعر:
خُذَا حَذراً يا جارتىَّ فإننى * رأيتُ جِرَان العَوْدِ قد كاد يُصْلح
لقد كان لى فى ضَرّتين عدِمتُنى * وما كنت أَلقَى من رزينة أَبرحُ
والعربِ يقولون: عدِمتُنِى، ووجدتُنى، وفقدتُنى، وليس بوجه الكلام.

{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ...}
معنى (فلولا) فهلاَّ. ويكون معناها على معنى لولا؛ كأنك قلت: لولا عبدالله لضربتك. فإذا رأيت بعدها اسما واحدا مرفوعا فهو بمعنى لولا التى جوابها اللام؛ وإذا لم تر بعدها اسما فهى استفهام؛ كقوله: {لولا أَخَّرْتَنِى إلى أَجلٍ قريب [فأصدّق وأَكُن مِنَ الصالِحِين]} وكقوله: {فلولا إِن كنتم غير مدِينين [ترجِعونها إن كنتّم صادِقِين]} وكذلك (لوما) فيها ما فى لولا: الاستفهام والخبر.

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }

وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...}
يعنى أبواب الرزق والمطر وهو الخير فى الدنيا لنفتنهم فيه. وهو مثل قوله: {حتى إذا أخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفها وازَّيَّنَتْ وظنّ أَهْلُها أنهم قادِرون عليها أتاها أَمْرُنا ليلا أَوْ نهارا} ومثله {وأن لوِ استقاموا على الطرِيقةِ لأسقيناهم ماءً غدَقا لِنفتِنهم فيه} والطريقة طريقة الشِرْك؛ أى لو استمرّوا عليها فعلنا ذلك بهم.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} المبلِس: اليائس المنقطع رجاؤه. ولذلك قيل للذى يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون عنده جواب: قد أبلس؛ وقد قال الراجز:
يا صاحِ هل تعرف رَسْما مُكْرَسَا * قال نعم أعرِفه، وأبلسا
أى لم يُحِرْ إلىّ جوابا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ }

وقوله: {يَأْتِيكُمْ بِهِ...}
كناية عن ذهاب السمع والبصر والختم على الأفئدة. وإذا كنيت عن الأفاعيل وإن كثرت وحَّدت الكناية؛ كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذينى. وقد يقال: إن الهاء التى فى (به) كناية عن الهدى، وهو كالوجه الأوّل.

{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ...}
يقول: يخافون أن يحشروا إلى ربهم عِلْما بأنه سيكون. ولذلك فسّر المفسرون (يخافون): يعلمون.

{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...}
يقول القائل: وكيف يَطْرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوا ربه حتى يُنْهَى عن ذلك؟ فإنه بلغنا أن عُيَيْنة بن حِصْن الفَزَارىّ دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وعنده سَلْمان وبِلال وصُهَيب وأشباههم، فقال عُيَينة: يا رسول الله لو نحَّيتَ هؤلاء عنك لأتاك أشراف قومك فأسلموا. فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ...}

تكسر الألف من (أنّ) والتى بعدها فى جوابها على الائتناف، وهى فى قراءة القرّاء. وإن شئت فتحت الألف من (أنّ) تريد: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل. ولك فى (أنّ) التى بعد الفاء الكسر والفتح. فأمّا من فتح فإنه يقول: إنما يحتاج الكتاب إلى (أنّ) مرة واحد؛ ولكن الخبر هو موضعها، فلما دخلت فى ابتداء الكلام أعيدت إلى موضعها؛ كما قال: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فلمَّا كان موقع أنّ: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم دخلت فى أوّل الكلام وآخره. ومثله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} بالفتح. ومثله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ولك أن تكسر (إن) التى بعد الفاء فى هؤلاء الحروف على الاستئناف؛ ألا ترى أنك قد تراه حسنا أن تقول: "كتب أنه من تولاه فهو يضله" بالفتح. وكذلك "وأصلح فهو غفور رحيم" لو كان لكان صوابا. فإذا حسُن دخول (هو) حسن الكسر.

{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }

وقوله: {وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ...}
ترفع (السبيل) بقوله: (وليستبين) لأنّ الفعل له. من أنَّث السبيل قال: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}. وقد يجعل الفعل للنبىّ صلى الله عليه وسلم فتنصب السبيل، يراد به: ولتستبين يا محمد سبيلّ المجرمين.

{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }

وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ...}

كتبت بطرح الياء لاستقبالها الألف واللام؛ كما كتب {سَنَدْعُ الزَّبَانيَةَ} بغير واو، وكما كتب {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} بغير ياء على اللفظ. فهذه قراءة أصحاب عبدالله. وذُكِر عن علىّ أنه قال: (يَقُصُّ الْحَقَّ) بالصاد. قال حدّثنا الفرّاء قال: وحدّثنى سفيان بن عُيَينة عن عمرِو بنِ دينارٍ عن رجلٍ عن ابنِ عباسٍ أنه قرأ (يقضِى بالحق) قال الفرّاء: وكذلك هى فى قراءة عبدالله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ...}
يجوز رفعها.

{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }

وقوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...}
يقال: خُفيَة وخِفية. وفيها لغة بالواو، - ولا تصلح فى القراءة -: خُفوة وخِفوة؛ كما قيل: قد حَلّ حُبْوته وحِبوته وحِبْيته.
وقوله: {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ...}
قراءة أهل الكوفة، - وكذلك هى فى مصاحفهم - "أن جِ ى ن ألف" وبعضهم بالألف (أنجانا) وقراءة الناس (أنجيتنا) بالتاء.

{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }

وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً...}
كما فعل بقوم نوح: المطر والحجارة والطوفان {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: الخَسْف {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}: يخلطكم شِيَعا ذوى أهواء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {وَلَاكِن ذِكْرَى...}
فى موضع نصب أو رفع؛ بفعل مضمر؛ (ولكِن) نذكرهم (ذِكرى) والرفع على قوله (ولكن) هو (ذكرى).

{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

وقوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً...}
يقال: ليس من قوم إلاَّ ولهم عيد فهم يَلهُون فى أَعيادهم، إلا أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن أعيادهم بِرّ وصلاة وتكبير وخير.
وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ} أى ترتهن (والعرب تقول: هذا عليك بَسْل أى حرام. ولذلك قيل: أسَد باسل أى لا يُقْرَب) والعرب تقول: أعْطِ الراقِىَ بُسْلته، وهو أجر الرقية.

{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }

قوله: {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا...}
كان أبو بكر الصدّيق وامرأته يدعوان عبد الرحمن ابنهما إلى الإسلام. فهو قوله: {إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أى أطِعْنا، ولو كانت "إِلى الهدى أن ائتنا" لكان صوابا؛ كما قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} فى كثير من أشباهه، يجىء بأَنْ، ويطرحُها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

وقوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ...}
مردودة على اللام التى فى قوله: {وأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} والعرب تقول: أمرتك لتذهب (وأن تذهب) فأَن فى موضع نصب بالردّ على الأمر. ومثله فى القرآن كثير.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

وقوله: {كُن فَيَكُونُ...}
يقال إنّ قوله: (فيكون) للصُّور خاصَّة، أى يقول للصُّور: (كُنْ فَيَكُونُ). ويقال إن قوله: (كن فيكون) لقوله هو الحقّ من نعت القول، ثم تجعل فعله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} يريد: يكون قوله الحقّ يومئذ. وقد يكون أن تقول: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} لكل شىء فتكون كلمة مكتفِية وترفع القول بالحقّ، وتنصب (اليوم) لأنه محل لقوله الحقّ.

والعرب تقول: نِفخ فى الصورِ ونُفِخَ، وفى قراءة عبدالله: (كهيئة الطير فأنفخها فتكون طيرا بإذنى) وقال الشاعر:
لولا ابنُ جَعْدة لم يُفتَح قُهُنْدُزكم * ولا خُراسانُ حتى يُنْفَخَ الصورُ
ويقال: إن الصُّور قَرن، ويقال: هو جمع للصور ينفخ فى الصور فى الموتى. والله أعلم بصواب ذلك.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ...}
يقال: آزر فى موضع خفض ولا يُجْرى لأنه أعجمىّ. وقد أجمع أهل النسب على أنه ابن تارَحَ، فكأن آزر لقب له. وقد بلغنى أن معنى (آزر) فى كلامهم معوجّ، كأنه عابه بزيغه وبِعِوجه عن الحقّ. وقد قرأ بعضهم (لأبيه ازرُ) بالرفع على النداء (يا) وهو وجه حسن. وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} نصبت الأصنام بإيقاع الفعل عليها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ }

وقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ...}
يقال: جنّ عليه الليل، وأَجَنَّ، وأَجنَّه الليل وجَنّه الليل؛ وبالألف أجود إذا ألقيت (على) وهى أكثر من جنَّه الليل.
يقال فى قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّي} قولان: إنما قال: هذا ربّى استدراجا للحجَّة على قومه ليعيب آلهتهم أَنها ليست بشىء، وأن الكوكب والقمر والشمس أكبر منها ولسن بآلهة؛ ويقال: إنه قاله على الوجه الآخر؛ كما قال الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاّ فَهَدَى} واحتجوا ها هنا بقول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنى رَبِّى لأَكُونَنّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}.

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ...}
وذلك أنهم قالوا له: أما تخاف أن تخبِلك آلهتنا لسبِّك إياها؟ فقال لهم: أَفلا تخافون أنتم ذلك منها إذ سوّيتم بين الصغير والكبير والذَكَر والأنثى أن يغضب الكبير إذ سوّيتم به الصغير. ثم قال لهم: أمن يعبد إلها واحدا أحقّ أن يأمن أم من يعبد آلهة شَتَّى؟ قالوا: من يعبد إلها واحدا، فغضبوا على أنفسهم. فذلك قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}.

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ...}
هذه الهاء لنوح: و(هدينا) من ذرِّيتِه داود وسليمان. ولو رفع داود وسليمان على هذا المعنى إذ لم يظهر الفعل كان صوابا؛ كما تقول: أخذت صدقاتِهِم لكل مائة (شاةٍ شاةً) وشاةٌ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ }

وقوله: {وَالْيَسَعَ...}
يشدّد أصحاب عبدالله اللام، وهى أشبه بأسماء العجم من الذين يقولون (والْيَسَعَ) لا تكاد العرب تدخل الألف واللام فيما لا يُجْرى؛ مثل يزيد ويعمر إلا فى شعر؛ أنشد بعضهم:
وَجَدْنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأَحْنَاء الخِلافةِ كاهِله
وإنما أَدخل فى يزيد الألف واللام لمَّا أدخلها فى الوليد. والعرب إذا فعلت ذلك فقد أمسَّت الحرف مدحا.

{ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }

وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء...}
يعنى أهل مكَّة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} يعنى أهل المدينة {لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} بالآية.

{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

وقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}
ما عظَّموه حقّ تعظيمه. وقوله {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} يقول: كيف قلتم: لم يُنزل الله على بشر من شىء وقد أنزلت التوراة على موسى {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} والقِرطاس فى هذا الموضع صحيفة. وكذلك قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فى قِرْطَاسٍ} يعنى: فى صحيفة.
{تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يقول: تبدون ما تحبون، وتكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أُمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول {قُلِ اللَّهُ} أى: أنزله الله عليكم. وإن شئت قلت: قل (هو) الله. وقد يكون قوله {قُلِ اللَّهُ} جوابا لقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى}, {قُلِ اللَّهُ} أنزله. وإنما اخترت رفع {اللَّهُ} بغير الجواب لأن الله تبارك وتعالى الذى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ} وليست بمسألة منهم فيجابوا، ولكنه جاز لانه استفهام، والاستفهام يكون له جواب.

وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لو كانت جزما لكان صوابا؛ كما قال {ذَرْهُمْ يأكُلُوا وَيَتَمتّعُوا}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }

وقوله: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى...}
يقال فى التفسير: إنّ أمّ القرى مَكَّة.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الهاء تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم وللتنزيل.

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً...}
يقال: إنها نزلت فى مسيلمة الكذَّاب، وذلك أنه ادّعى النبوّة.

{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ} ومن فى موضع خفض. يريد: ومن أظلم من هذا ومن هذا الذى قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. نزلت فى عبدالله بن سعد بن أبى سَرْح. وذلك أنه كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: {وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمُ} كتب (سميع عليم) أو (عزيزحكيم) فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم: سواء؛ حتى أملَّ عليه قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} فقال ابن أبى سَرْح {فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} تعجُّبا من تفصيل خَلْق الإنسان, قال فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزِلتْ علىّ، فشكَّ وارتدّ. وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا لقد أوحى إلىّ (كما أوحى إليه) ولئن كان كاذبا لقد قلتُ مثل ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ}.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} ويقال: باسطو أيديهم بإخراج أنفس الكفار. وهو مثل قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ولو كانت (باسطون) كانت (أيدِيَهُمْ) ولو كانت "باسطو أيديهم أن أخرِجوا" كان صوابا. مثله مما تركت فيه أن قوله: {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهدَى ائْتِنَا} وإذا طرحت من مثل هذا الكلام (أن) ففيه القول مُضمَرٌ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يقولون: {رَبَّنا}.
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى...}

وهو جمع. والعرب تقول: [قوم] فرادى وفرادُ يا هذا فلا يجُرونها، شبهت بثُلاَث ورُبَاع. وفرادى واحدها فَرْد, وفرِد، وفريد، وفراد للجمع، ولا يجوز فرد فى هذا المعنى. وأنشدنى بعضهم:
ترى النُعَراتِ الزُرْق تحت لَبَانه * فُرَادَ ومثنى أصعقتها صواهِله
وقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ...}
قرأ حمزة ومجاهد (بينُكُمْ) يريد وصلكم. وفى قراءة عبدالله (لقد تقطع ما بينَكم) وهو وجه الكلام. إذا جعل الفعل لبين ترك نصبا؛ كما قالوا: أتانى دونك من الرجال فترك نصبا وهو فى موضع رفع؛ لأنه صفة. وإذا قالوا: هذا دون من الرجال رفعوه فى موضع الرفع. وكذلك تقول: بين الرجلين بين بعيد، وبون بعيد؛ إذا أفردته أجريته فى العربية وأعطيته الإعراب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }

وقوله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ...}
والإصباح مصدر أصبحنا إصباحا، والأصباح صُبْح كل يوم بمجموع.
وقوله: {وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} الليل فى موضع نصب فى المعنى. فردّ الشمس والقمر على معناه لما فرق بينهما بقوله: (سكنا) فإذا لم تفرق بينهما بشىء آثروا الخفض. وقد يجوز أن ينصب وإن لم يحل بينهما بشىء؛ أنشد بعضهم:
وبينا نحن ننظره أتانا * معلِّقَ شَكْوةٍ وزِنادَ راع
وتقول: أنت آخذٌ حقَّك وحَقِّ غيرك فتضيف فى الثانى وقد نوَّنت فى الأوّل؛ لأن المعنى فى قولك: أنت ضارب زيدا وضاربُ زيدٍ سواء. وأحسن ذلك أن تحول بينهما بشىء؛ كما قال امرؤ القيس:
فظلّ طُهاة اللحم من بينِ مُنْضِج * صفيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ معجَّلِ
فنصب الصفيف وخفض القَدِير على ما قلت لك.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ...}
يعنى فى الرحم {وَمُسْتَوْدَعٌ} فى صُلْب الرجُل. ويقرأ (فمستقِرّ) يعنى الولد فى الرحم (ومستودع) فى صلب الرجل. ورفعها على إضمار الصفة؛ كقولك: رأيت الرجلين عاقل وأحمق، يريد منهما كذا وكذا.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ...}
يقول: رزق كل شىء، يريد ما ينبت ويصلح غذاء لكل شىء. وكذا جاء التفسير، وهو وجه الكلام. وقد يجوز فى العربية أن تضِيف النبات إلى كل شىء وأنت تريد بكل شىء النبات أيضا، فيكون مثل قوله: {إنّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} واليقين هو الحقّ. وقوله: {مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} الوجه الرفع فى القنوان؛ لأن المعنى: ومن النخل قِنوانه دانية. ولو نصب: وأخرج من النخل من طلعها قنوانا دانية لجاز فىالكلام، ولا يقرأ بها لمكان الكتاب.
وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} نصب, إلا أن جمع المؤنث بالتاء يخفض فى موضع النصب، ولو رفعت الجنات تتبع القنوان كان صوابا.
وقوله: {وَفِى الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ} الوجه فيه الرفع، تجعلها تابعة للقطع. ولو نصبتها وجعلتها تابعة للرواسى والأنهار كان صوابا.

وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} يريد شجرة الزيتون وشجر الرمان، كما قال: {وَاسْأَلَ الْقَرْيَةَ} يريد أهل القرية.
وقوله: {انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد (وَيَنْعِهِ): بلوغه وقد قرئت (ويُنْعِهِ، ويانِعِهِ). فأما قوله: {ويُنْعِهِ} فمثل نضجه، ويانعه مثل ناضجه وبالغه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...}
المقسمون الكفار. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآية التى نزلت فى الشعراء {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها وحلفوا ليؤمنن, فقال المؤمنون: يارسول الله سل ربك ينزلها عليهم حتى يؤمنوا, فأنزل الله تبارك وتعالى: قل لِلذِين آمنوا: وما يشعِركم أنهم يؤمِنون. فهذا وجه النصب فى أنّ؛ وما يشعركم أنهم يؤمنون (وَ) نحن {نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا}، وقرأ بعضهم: (إنها) مكسور الألف (إذَا جَاءَتْ) مستأنفة، ويجعل قوله (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) كلاما مكتفِيا. وهى فى قراءة عبدالله: (وما يشعِركم إذا جاءتهم أنهم لا يؤمنون).
و (لا) فى هذا الموضع صِلة؛ كقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}: المعنى: حرام عليهم أن يرجعوا. ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ} معناه: أن تسجد.

وهى فى قراءة أُبَىّ: (لعلها إِذا جاءتهم لا يؤمِنون) وللعرب فى (لعلّ) لغة بأن يقولوا: ما أدرى أنك صاحبها، يريدون: لعلك صاحبها، ويقولون: ما أدرى لو أنك صاحبها، وهو وجه جيد أن تجعل (أنّ) فى موضع لعل.

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ...}
هذا أمر قد كانو سألوه، فقال الله تبارك وتعالى: لو فعلنا بهم ذلك لم يؤمنوا {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}.
وقوله: (قُبُلاً) جمع قبيل. والقبيل: الكفيل. وإنما اخترت ها هنا أن يكون القُبُل فى معنى الكفالة لقولهم: {أَوْ تَأتِى بِاللّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} يَضْمَنون ذلك. وقد يكون (قُبُلا): من قبل وجوههم؛ كما تقول: أتيتك قُبُلا ولم آتك دُبُرا. وقد يكون القبيل جميعا للقبيلة كأنك قلت: أو تأتينا بالله والملائكة قبيلة قبيلة وجماعة جماعة. ولو قرئت قَبَلا على معنى: معاينةً كان صوابا, كما تقول: أنا لقيته قبلا.

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ...}
نصبت العدوّ والشياطين بقوله: جعلنا.

وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} فإن إبليس - فيما ذكر - جعل فرقة من شياطينه مع الإنس، وفرقة مع الجنّ، فإذا التقى شيطان الإنسىّ وشيطان الجنىّ قال: أضللتُ صاحبى بكذا وكذا، فأضلِل به صاحبك، ويقوله له (شيطان الجنىّ) مثل ذلك. فهذا وحى بعضهم إلى بعض. قال الفرّاء: حدّثنى بذلك حيان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }

وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ...}
الاقتراف: الكسب؛ تقول العرب: خرج فلان يقترف أهله.

{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

وقوله: {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ...}
من الشاكّين أنهم يعلمون أنه منزل من ربك.

{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }

وقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ...}
فى أكل الميتة {يُضِلُّوكَ} لأن أكثرهم كانوا ضُلاّلا. وذلك أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قَتَلتم ولا تأكلون ما قَتَل ربّكم! فأنزلت هذه الآية {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }

وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ...}

(من) فى موضع رفع كقوله: {لِنَعْلَمَ أىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} إذا كانت (من) بعد العلم والنظر والدراية - مثل نظرت وعلمت ودريت - كانت فى مذهب أىّ. فإن كان بعدها فعل لها رفعتها به، وإن كان بعدها فعل يقع عليها نصبتها؛ كقولك: ما أدرى من قام، ترفع (من) بقام، وما أدرى من ضربت، تنصبها بضربت.

{ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }

وقوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ...}
فأما ظاهره فالفجور والزنى، وأما باطنه فالمخالّة: أن تتخذ المرأة الخليل وأن يتخذها.

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ...}
يقول: أكلكم ما لم يذكر اسم الله عليه فسق أى كفر. وكنى عن الأكل، كما قال: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} يريد: فزادهم قول الناس إيمانا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ...}
أى كان ضالاّ فهديناه.
وقوله: {نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يعنى إيمانه.

{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }

وقوله: {الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ...}
أى من عند الله، كذلك قال المفسرون. وهو فى العربية؛ كما تقول: سيأتينى رزق عندك، كقولك: سيأتينى الذى عند الله. سيصيبهم الصغار الذى عنده، ولمحمد صلى الله عليه وسلم أن ينزله بهم. ولا يجوز فى العربية أن تقول: جئت عند زيد، وأنت تريد: من عند زيد.
وقد يكون قوله: {صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} أنهم اختاروا الكفر تعَزُّزا وأنَفَة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل الله ذلك صَغَارا عنده.

{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ...}
[من] ومن فى موضع رفع بالهاء التى عادت عليهما من ذكرهما.
وقوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً) قرأها ابن عبّاس وعمر (حرِجا). وقرأها الناس: حَرَجا. والحرج - فيما فسر ابن عباس - الموضع الكثير الشجر الذى لا تصل إليه الراعية. قال: فكذلك صَدْر الكافر لا تصل إليه الحكمة. وهو فى كسره وفتحه بمنزلة الوحَد والوحِد، والفَرَد والفرِد، والدنَف والدنِف: تقوله العرب فى معنى واحد.
وقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} يقول: ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد فى السماء وليس يقدر. وتقرأ (كأنما يصَّاعَد) يريد يتصاعد، (ويَصْعد) مخففة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }

وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ...}
يقول: قد أضللتم كثيرا.
وقوله: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} فالاستمتاع من الإنس بالجنّ أن الرجل كان إذا فارق فاستوحش أو قتل صيدا من صيدهم فخاف قال: أعوذ بسيّد هذا الوادى، فيبيت آمنا فى نفسه. وأما استمتاع الجنّ بالإنس فما نالوا بهم من تعظيم الإنس إيّاهم، فكان الجِنّ يقولون: سُدْنا الجنّ والإنس.

{ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }

وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ...}
فيقول القائل: إنما الرسل من الإنس خاصّة، فكيف قال للجنّ والإنس (منكم)؟ قيل: هذا كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}. ثم قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلْح دون العَذْب. فكأنك قلت: يخرج من بعضهما، ومن أحدهما.

{ ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }

وقوله: {ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ...}

إن شئت جعلت (ذلك) فى موضع نصب، وجعلت (أن) مما يصلح فيه الخافض فإذا حذفته كانت نصبا. يريد: فعل ذلك أن لم يكن مهلك القرى. وإن شئت جعلت (ذلك) رفعا على الاستئناف إن لم يظهر الفعل. ومثله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} و {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. ومثله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}،و {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهُ مُوهِنُ كَيْد الْكَافِرِينَ} الرفع والنصب فيه كله جائز.
وقوله: {مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم وهم غافلون لَمَّا يأتهم رسول ولا حُجَّة. وقوله فى هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم، يقول: بشركهم (وأهلها مصلحون) يتعاطَون الحقَّ فيما بينهم. هكذا جاء التفسير. وفيها وجه - وهو أحبّ إلىّ من ذا؛ لأن الشرك أعظم الذنوب - والمعنى والله أعلم: لم يكن ليهلكهم بظلم منه وهم مصلحون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }

وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ...}
(مَنْ تَكُونُ لَهُ) فى موضع رفع، ولو نصبتها كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.

وقوله: {مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} إذا كان الفعل فى مذهب مصدر مؤنثا مثل العاقبة، والموعظة، والعافية، فإنك إذا قدّمت فعله قبله أنَّثته وذكّرته؛ كما قال الله عزّ وجلّ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بالتذكير، وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} بالتأنيث. وكذلك {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} {وَأَخَذَتِ} فلا تهابنّ من هذا تذكيرا ولا تأنيثا.

{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

وقوله: {هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ...}
وبرُعْمِهم، وزِعمِهم, ثلاث لغات. ولم يقرأ بكسر الزاى أحد نعلمه. والعرب قد تجعل الحرف فى مثل هذا؛ فيقولون: الفَتْك والفُتْك والفِتك، والوُدّو الوِدّو الوَدّ، فى أشباه لها. وأجود ذلك ما اختارته القرّاء الذين يؤثر عنهم القراءة. وفى قراءة عبدالله "وهذا لشركائِهم" وهو كما تقول فى الكلام: قال عبدالله: إنّ له مالا، وإنّ لى مالا، وهو يريد نفسه. وقد قال الشاعر:
رَجْلانِ من ضَبّة أَخبرانا * إنا رأينا رجلا عريانا
ولو قال: أخبرانا أنهما رأيا كان صوابا.

{ وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

وقوله: {وكذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ...}

وهم قوم كانو يخدمون آلهتهم، فزيَّنوا لهم دفن البنات وهنّ أحياء. وكان أيضا أحدهم يقول: لئن وُلد لى كذا وكذا من الذكور لأنحرنّ واحداً. فذلك قتل أولادهم. والشركاء رفع؛ لأنهم الذين زيَّنوا.
وكان بعضهم يقرأ: "وكذلك زُيِّن لِكثِيرٍ مِن المشركين قتلُ أولادِهم" فيرفع القتل أذا لم يسمّ فاعله، ويرفع (الشركاء) بفعل ينوِيه؛ كأنه قال: زيَّنه لهم شركاؤهم. ومثله قوله: (يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) ثم قال: {رجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ}. وفى بعض مصاحف أهل الشام (شركايهم) بالياء، فإن تكن مثبتة عن الأوّلين فينبغى أن يقرأ (زُيِّنَ) وتكون الشركاء هم الأولاد؛ لأنهم منهم فى النسب والميراث. فإن كانوا يقرءون (زَيَّنَ) فلست أعرف جهتها؛ إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عِشايا ثم يقولون فى تثنية (الحمراء: حمرايان) فهذا وجه أن يكونوا قالوا: "زَيَّنَ لكثيرٍ من المشركين قتل أولادِهم شركايُهُمْ" وإن شئت جعلت (زَيَّنَ) إذا فتحته فعلا لإبليس ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد. وليس قول من قال: إنما أرادوا مثل قول الشاعر:
فزججتها متمكّنا * زجَّ القَلوصَ أبِى مزاد
بشىء. وهذا مِما كان يقوله نَحْويُّو أهلِ الحجاز، ولم نجد مثله فى العربية.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا...}

وفى قراءة عبدالله "خالص لذكورنا" وتأنيثه لتأنيث الأنعام؛ لأن ما فى بطونها مثلها فأنث لتأنيثها. ومن ذكّره فلتذكير (ما) وقد قرأ بعضهم "خالصُهُ لذكورِنا" يضيفه إلى الهاء وتكون الهاء لما. ولو نصبت الخالص والخالصة على القطع وجعلت خبر ما فى اللام التى فى قوله (لِذُكُورِنَا) كأنك قلت: ما فى بطون هذه الأنعام لذكورنا خالصا وخالصةً كما قال: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} والنصب فى هذا الموضع قليل؛ لا يكادون يقولون: عبدالله قائما فيها، ولكنه قياس.
وقوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} إن شئت رفعت الميتة، وإن شئت نصبتها فقلت (ميتةً) ولك أن تقول تكن ويكن بالتاء والياء.
وقد تكون الخالصة مصدرا لتأنيثها كما تقول: العاقبة والعافية. وهو مثل قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ...}
هذه الكروم، ثم قال: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً} فى لونه و {غَيْرَ مُتَشَابِهٍ} فى طعمه، منه حلو ومنه حامض.
وقوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هذا لمن حضره من اليتامى والمساكين.
وقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} فى أن تعطوا كله. وذلك أن ثابت بن قيس خلَّى بين الناس وبين نخله، فذُهِب به كله ولم يبق لأهله منه شىء، فقال الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

{ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

وقوله: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً...}
يقول: وأنشأ لكم من الأنعام حمولة، يريد ما أطاق الحمل والعمل: والفرش: الصغار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ...}
فإن شئت جعلت الثمانية مردودة على الحمولة. وإن شئت أضمرت لها فعلا. وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الذكر زوج، والأنثى زوج، ولورفعت اثنين واثنين لدخول (مِن) كان صوابا كما تقول: رأيت القوم منهم قاعد ومنهم قائم، وقاعد وقائما.
والمعنى قى قوله: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} يقول: أجاءكم التحريم فيما حرمتم من السائبة والبَحِيرة والوَصِيلة والحام من الذكرين أم من الأنثيين؟ فلو قالوا: من قِبل الذكر حرم عليهم كل ذكر، ولو قالوا: من قبل الأنثى حرمت عليهم كل أنثى.
ثم قال: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ} يقول أم حرّم عليكم اشتمال الرحم؟ فلو قالوا ذلك لحرّم عليهم الذكر والأنثى؛ لأن الرحم يشتمل على الذكر والأنثى. و (ما) فى قوله: "أمّا اشْتَمَلَتْ" فى موضع نصب، نصبته بإتباعه الذكرين والأنثيين.

{ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ...}
يقول: أوَصَّاكم الله بهذا معاينة؟

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً...}
ثم قال جلَّ وجهه: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وإن شئت (تَكُونَ) وفى (الميتة) وجهان الرفع والنصب. ولا يصلح الرفع فى القراءة؛ لأنّ الدم منصوب بالردّ على الميتة وفيه ألف تمنع من جواز الرفع. ويجوز (أن تكون) لتأنيث الميتة، ثم تردّ ما بعدها عليها.

ومن رفع (الميتة) جعل (يكون) فعلا لها، اكتفى بيكون بلا فعل. وكذلك (يكون) فى كل الاستثناء لا تحتاج إلى فعل؛ ألا ترى أنك تقول: ذهب الناس إلا أن يكون أخاك، وأخوك. وإنما استغنت كان ويكون عن الفعل كما استغنى ما بعد إلا عن فعل يكون للاسم. فلما قيل: قام الناس إلا زيدا وإلا زيد فنصب بلا فعل ورفع بلا فعل صلحت كان تامة. ومن نصب: قال كان من عادة كان عند العرب مرفوع ومنصوب، فأضمروا فى كان اسما مجهولا، وصيّروا الذى بعده فعلا لذلك المجهول. وذلك جائز فى كان، وليس، ولم يزل، وفى أظنّ وأخواتها: أن تقول (أظنه زيد أخوك و) أظنّه فيها زيد. ويجوز فى إنّ وأخواتها؛ كقول الله تبارك وتعالى: {يَا بُنَىّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} وكقوله: {إِنَّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فتذكّر الهاء وتوحّدها، ولا يجوز تثنيتها ولا جمعها مع جمع ولا غيره. وتأنيثها مع المؤنث وتذكيرها مع المؤنث جائز؛ فتقول: إنها ذاهبة جاريتك، وإنه ذاهبة جاريتك.
فإن قلت: كيف جاز التأنيث مع الأنثى، ولم تجز التثنية مع الاثنين؟
قلت: لأن العرب إنما ذهبت إلى تأنيث الفعل وتذكيره، فلما جاز {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} {وَأَخَذَتِ} جازالتأنيث، والتذكير. ولما لم يجز: قاما أخواك ولا قاموا قومك، لم يجز تثنيتها ولا جمعها.
فإن قلت: أتجيز تثنيتها فى قول من قال: ذهبا أخواك؟ قلت: لا، من قِبل أنّ الفعل واحد، والألف التى فيها كأنها تدلّ على صاحِبى الفعل، والواو فى الجمع تدل على أصحاب الفعل، فلم يستقم أن يكنى عن فعل واسم فى عقدة، فالفعل واحد أبدا؛ لأن الذى فيه من الزيادات أسماء.

وتقول فى مسألتين منه يستدلّ بهما على غيرهما: إنها أسَد جاريتك، فأنثت لأن الأسد فعل للجارية، ولو جعلت الجارية فعلا للأسد ولمثله من المذكر لم يجز إلا تذكير الهاء. وكذلك كل اسم مذكّر شبهته بمؤنث فذكِّر فيه الهاء، وكل مؤنث شبهته بمذكر ففيه تذكير الهاء وتأنيثها؛ فهذه واحد. ومتى ما ذكَّرت فعل مؤنث فقلت: قام جاريتك، أو طال صلاتك، (ثم أدخلت عليه إنه) لم يجز إلا تذكيرها، فتقول: إنه طال صلاتك؛ فذكَّرتها لتذكير الفعل، لا يجوز أن تؤنث وقد ذكّر الفعل.
وإذا رأيت الاسم مرفوعا بالمحالّ - مثل عندك، وفوقك، وفيها - فأنِّثْ وذكّر فى المؤنث ولا تؤنث فى المذكر. وذلك أن الصفة لا يُقَدر فيها على التأنيث كما يقدر (فى قام) جاريتك على أن تقول: قامت جاريتك. فلذلك كان فى الصفات الإجراء على الأصل.
وإذا أخليت كان باسم واحد جاز أن ترفعه وتجعل له الفعل. وإن شئت أضمرت فيه مجهولا ونصبت ما بعده فقلت: إذا كان غدا فأتنا. وتقول: اذهب فليس إلا أباك، وأبوك. فمن رفع أضمر أحدا؛ كأنه قال: ليس أحد إلا أبوك، ومن نصب أضمر الاسم المجهول فنصب؛ لأن المجهول معرفة فلذلك نصبت. ومن قال: إذا كان غُدْوةً فأتنا لم يجز له أن يقول: إذا غدوةً كان فأتنا، كذلك الاسم المجهول لا يتقدمه منصوبه. وإذا قرنت بالنكرة فى كان صفة فقلت: إن كان بينهم شرّ فلا تقربهم، رفعت. وإن بدأت بالشر وأخرت الصفة كان الوجه الرفع فقلت: إن شر بينهم فلا تقربهم، ويجوز النصب. قال وأنشدنى بعضهم:
فعينَىَّ هلاَّ تبكيان عِفَاقا * إذا كان طعنا بينهم وعِناقا
فإذا أفردت النكرة بكان اعتدل النصب والرفع. وإذا أفردت المعرفة بكان كان الوجه النصب؛ يقولون: لو كان إلا ظله لخاب ظله. فهذه على ما وصفت لك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }

وقوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ...}
حرّم عليهم الثَّرْب، وشحوم الكُلَى.
ثم قال: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} و (ما) فى موضع نصب بالفعل بالاستثناء. و (الحَوَايَا) فى موضع رفع، تردّها على الظهور: إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا,وهى المباعر وبنات اللبن. والنصب على أن تريد (أو شحوم الحوايا) فتحذف الشحوم وتكتفى بالحوايا؛ كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يريد: واسأل أهل القرية.
وقوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} وهى الأَلْية. و (ما) فى موضع نصب.

{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً...}

إن شئت جعلت (لاَ تُشْرِكُوا) نهيا أدخلت عليه (أن). وإن شئت جعلته خبرا و(تشِركوا) فى موضع نصب؛ كقولك: أمرتك ألاَّ تذهبَ (نَصْب) إلى زيد، وأن لا تذهبْ (جَزْم)، وإن شئت جعلت ما نسقته على (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِه) بعضه جزما ونصبا بعضه؛ كما قال: {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ}، فنصب أوله ونهى عن آخره؛ كما قال الشاعر:
حجَّ وأوصى بسليمى الأعبدا * ألاّ ترى ولا تكلمْ أحدا
* ولا تُمَشِّ بفَضاء بعدَا *
فنوى الخبر فى أوّله ونهى فى آخره. قال: والجزم فى هذه الآية أحبّ إلىّ لقوله: (وَأَوفُوا الْكَيْلَ). فجعلت أوّله نهيا لقوله: (وَأَوفُوا الْكَيْلَ).

{ وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

وقوله: {وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً...}
تكسر إنَّ إذا نويت الاستئناف، وتفتحها من وقوع (أتل) عليها. وإن شئت جعلتها خفصا، تريد {ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} و { وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}.
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} يعنى اليهودية والنصرانية. يقول: لا تتبعوها فتضلوا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ...}

تماما على المحسن. ويكون المحسن فى مذهب جمع؛ كما قال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ}. وفى قراءة عبدالله (تَمَاماً عَلَى الذِين أحسنوا) تصديقا لذلك. وإن شئت جعلت (الذى) على معنى (ما) تريد: تماما على ما أحسن موسى، فيكون المعنى: تماما على إحسانه. ويكون (أحسن) مرفوعا؛ تريد على الذى هو أحسن، وتنصب (أحسن) ها هنا تنوى بها الخفض؛ لأن العرب تقول: مررت بالذى هوخير منك، وشر منك, ولا يقولون: مررت بالذى قائم؛ لأن (خيرا منك) كالمعرفة؛ إذ لم تدخل فيه الألف واللام. وكذلك يقولون: مررت بالذى أخيك، وبالذى مثلِك، إذا جعلوا صلة الذى معرفة أو نكرة لا تدخلها الألف واللام جعلوها تابعة للذى؛ أنشدنى الكسائىّ:
إن الزُّبيرىَّ الذى مِثْلَ الحَلَمْ * مَشَّى بأسلابك فى أهل العَلَم

{ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وقوله: {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ...}
جعلت مباركا نعت الكتاب فرفعته. ولونصبته على الخروج من الهاء فى (أَنْزَلْنَاهُ) كان صوابا.

{ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ }

وقوله: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ...}
(أن) فى موضع نصب من مكانين. أحدهما: أنزلناه لئلا تقولوا إنما أنزل. والآخر من قوله: واتقوا أن تقولوا، (لا) يصلح فى موضع (أن) ها هنا كقوله: {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} يصلح فيه (لا تضلون) كم قال: {سَلَكْنَاهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }

وقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ...}
لقبض أرواحهم: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: القيامة {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}: طلوع الشمس من مغربها.

{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ...}
قرأها عَلِىّ (فارقوا)، وقال: والله ما فرَّقوه ولكن فارقوه. وهم اليهود والنصارى. وقرأها الناس (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) وكلّ وجه.
وقوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} يقول من قتالهم فى شىء، ثم نسختها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} .

{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...}
من خفض يريد: فله عشر حسناتٍ أمثالها. ولو قال هاهنا: فله عشر مِثْلِها؛ يريد عشر حسنات مثلها كان صوابا. ومن قال: عشْرٌ أَمثالها جعلهنّ من نعت العشر. و(مثل) يجوز توحيده: أن تقول فى مثله من الكلام: هم مثلكم، وأمثالكم؛ قال الله تبارك وتعالى: {إِنكم إِذاً مثلهم} فوحَّد، وقال: {ثم لا يكونوا أَمثالكم} فجمع. ولو قلت: عَشْرٌ أمثالها كما تقول: عندى خمسةٌ أثوابٌ لجاز.
وقوله: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ}: بلا إله إلا الله، والسيئة: الشِّرك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وقوله: {دِيناً قِيَماً...}
و"قَيِّما". حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنى عمرو بن أبى المقدام عن رجل عن عمران بن حذيفة قال: رآنى أبى حذيفة راكعا قد صوّبت رأسى، قال ارفع رأسك، دينا قيما. (دينا قيما) منصوب على المصدر. و(مِلةَ إِبراهِيم) كذلك.

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ...}
جعلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خلائف كل الأمم {ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ} فى الرزق (لِيبلوكم) بذلك (فِيما آتاكم).

المعاني الواردة في آيات
سورة ( الأعراف ){ المص }

قلت: أرأيت ما يأتى بعد حروف الهِجاء مرفوعا؛ مثل قوله: {المص كتابٌ أنزل إِليك} ومثل قوله: {الم تنزِيلُ الكتابِ}، وقوله: {الر كِتابٌ أحكمت آياتهُ} وأشباه ذلك بم رفعت الكتاب فى هؤلاء الأحرف؟

قلت: رفعته بحروف الهجاء الى قبله؛ كأنك قلت: الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتابٌ أنزل إليك مجموعا. فإن قلت: كأنك قد جعلت الألف واللام والميم والصاد يؤدّين عن جميع حروف المعجم، وهو ثلاثة أحرف أو أربعة؟ قلت: نعم، كما أنك تقول: اب ت ث ثمانية وعشرون حرفا، فتكتفى بأربعة أحرف من ثمانية وعشرين. فإن قلت: إن ألف ب ت ث قد صارت كالاسم لحروف الهجاء؛ كما تقول: قرأت الحمد، فصارت اسما لفاتحة الكتاب. قلت: إن الذى تقول ليقع فى الوَهْم، ولكنك قد تقول: ابنى فى ا ب ت ث، ولو قلت فى حاط لجاز ولعلمت بأنه يريد: ابنى فى الحروف المقطَّعة. فلما اكتفى بغير أوّلها علمنا أن أوّلها ليس لها باسم وإن كن أوّلها آثر فى الذكر من سائرها. فإن قلت: فكيف جاءت حروف (المص) (كهيعص) مختلفة ثم أنزلا منزل باتاثا وهنّ متواليات؟ قلت: إذا ذكرن متواليات دللن على أ ب ت ث بعينها مقطَّعة، وإذا لم يأتين متواليات دللن على الكلام المتصل لا على المقطّع. أنشدنى الحارثىّ:
تعلمت باجاد وآل مُرامِرٍ * وسوّدتُ أثوابى ولست
بكاتب وأنشدنى بعض بنى أَسَد:
لّما رأيت أمرها فى حُطِّى * وفَنَكت فى كذب ولط
أخذتُ منها بقرونٍ شُمطِ * ولم يزل ضربى لها ومَعْطِى
* حتى على الرأسِ دم يغطِى *
فاكتفى بحطى من أبى جاد، ولو قال قائل: الصبى فى هوّز أو كلمن، لكفى ذلك من أبى جاد.
وقد قال الكسائى: رفعت {كتابٌ أنزل إليك} وأشباهه من المرفوع بعد الهجاء بإضمار (هذا) أو (ذلك) وهو وجه. وكأنه إذا أضمر (هذا) أو (ذلك) أضمر لحروف الهجاء ما يرفعها قبلها؛ لأنها لا تكون إلا ولها موضع.

قال: أفرأيت ما جاء منها ليس بعده ما يرافعه؛ مثل قوله: حم. عسق، ويس، وق, وص، مما يقلّ أو يكثر، ما موضعه إذ لم يكن بعده مرافع؟ قلت: قبله ضمير يرفعه، بمنزلة قول الله تبارك وتعالى: {براءة مِن اللّهِ ورسولِهِ} المعنى والله أعلم: هذه براءة من الله. وكذلك {سورة أَنزلناها} وكذلك كل حرف مرفوع مع القول ما ترى معه ما ريفعه فقبله اسم مضمر يرفعه؛ مثل قوله: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا} المعنى والله أعلم: لا تقولوا هم ثلاثة، يعنى الآلهة. وكذلك قوله: {سيقولون ثلاثة رابِعهم} المعنى والله أعلم: سيقولون هم ثلاثة.
وقد قيل فى (كهيعص): إنه مفسّر لأسماء الله. فقيل: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والعين والياء من عليم، والصاد من صدوق. فإن يك كذلك (فالذكر) مرفوع بضمير لا بـ (كهيعص). وقد قيل فى (طه) إنه: يا رجل، فإن يك كذلك فليس يحتاج إلى مرافع؛ لأن المنادى يرفع بالنداء؛ وكذلك (يس) جاء فيها يا إنسان، وبعضهم: يا رجل, والتفسير فيها كالتفسير فى طه.

{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ...}
يقول: لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك، وكما قال الله تبارك وتعالى: {فلعلك باخِع نفسك على آثارِهِم إِن لم يؤمِنوا}. وقد قيل: {فلا يكن فى صدرك حرج}: شك.
{لِتُنذِرَ بِهِ} مؤخر، ومعناه: المص كتاب أنزِل إِليك لِتنذِر بِهِ فلا يكن فِى صدرِك حرج مِنه.
{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فى موضع نصب ورفع. إن شئت رفعتها على الردّ على الكتاب؛ كأنك قلت: كتاب حقّ وذكرى للمؤمنين؛ والنصب يراد به: لتنذر وتذّكر به المؤمنين.

{ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }

وقوله: {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ...}
وإنما خاطب النبىّ صلى الله عليه وسلم وحده لأن ما أنذر به فقد أنذرت به أمته؛ كما قال: {يأيها النبِىّ إِذا طلقتم النِساء} فخاطبه، ثم جعل الفعل للجميع، وأنت قد تقول للرجل: ويحك أما تتقون الله، تذهب إليه وإلى أهل بيته أو عشيرته. وقد يكون قوله: (اتبِعوا) محكيا من قوله (لتنذر به) لأن الإنذار قول، فكأنه قيل له: لتقول لهم اتبعوا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {يوصِيكم الله فِى أولادِكم للذكرِ مِثل حظِّ الأنثيينِ} لأن الوصية قول.
ومثله: {يأيها النبِىُّ لِم تحرِّم ما أحلَّ الله لك}. ثم قال: {قد فرض الله لكم} فجمع.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }

وقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا...}
يقال: إنما أتاها البأس من قَبْل الإهلاك، فكيف تقدم الهلاك؟ قلت: لأن الهلاك والبأس يقعان معا؛ كما تقول: أعطيتنى فأحسنت، فلم يكن الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله: إنما وقعا معا، فاستجيز ذلك. وإن شئت كان المعنى: وكم من قرية أهلكناها فكان مجىء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كان. وإنما جاز ذلك على شبيه بهذا المعنى، ولا يكون فى الشروط التى خَلَفتْها بمقدّم معروف أن يقدم المؤخر أو يؤخر المقدم؛ مثل قولك: ضربته فبكى، وأعطيته فاستغنى، إلا أن تدع الحروف فى مواضعها. وقوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا} قد يكونان خبرا بالواو: أهلكناها وجاءها البأس بياتا.
وقوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ...}
ردّ الفعل إلى أهل القرية وقد قال فى أولها (أهلكناها) ولم يقل: أهلكناهم فجاءهم، ولو قيل، كان صوابا. ولم يقل: قائلة، ولو قيل لكان صوابا.

وقوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} واو مضمرة. المعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق، ولو قيل لكان جائزا؛ كما تقول فى الكلام: أتيتنى واليا، أو وأنا معزول، وإن قلت: أو أنا معزول، فأنت مضمر للواو.

{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }

وقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ...}
الدعوى فى موضع نصب لكان. ومرفوع كان قوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} فأن فى موضع رفع. وهو الوجه فى أكثر القرآن: أن تكون أن إذا كان معها فعل، أن تجعل مرفوعة والفعل منصوبا؛ مثل قوله: {فكان عاقِبتَهما أنهما فِى النار} و{ما كان حجتهم إِلا أن قالوا}. ولو جعلت الدعوى مرفوعة (وأن) فى موضع نصب كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {ليس البرُّ أن تُولوا} وهى فى إحدى القراءتين: ليس البر بأن تولوا.

{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

وقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ...}
وإن شئت رفعت الوزن بالحقّ، وهو وجه الكلام. وإن شئت رفعت الوزن بيومئذ، كأنك قلت: الوزن فى يوم القيامة حقّاً، فتنصب الحقّ وإن كانت فيه ألف ولام؛ كما قال: {فالحقَّ والحقَّ أقول}الأولى منصوبة بغير أقول. والثانية بأقول.
وقوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ} ولم يقل (فذلك) فيوحِّدَ لتوحيد من، ولو وحّد لكان صوابا. و(مَن) تذهب بها إلى الواحد وإلى الجمع. وهو كثير.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...}

لا تهمز؛ لأنها - يعنى الواحدة - مفعِلة، الياء من الفعل، فلذلك لم تهمز، إنما يهمز مِن هذا ما كانت الياء فيه زائدة؛ مثل مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائِل لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارفتها ألف مجهولة أيضا همزت، ومثل معايش من الواو مما لا يهمز لو جمعت، معونة قلت: (معاون) أو منارة قلت مناور. وذلك أن الواو ترجع إلى أصلها؛ لسكون الألف قبلها. وربما همزت العرب هذا وشبهه، يتوهمون أنها فعلية لشبهها بوزنها فى اللفظ وعدّة الحروف؛ كما جمعوا مسِيل الماء أمسلة، شُبِّه بفعيل وهو مفعِل. وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة؛ شبهت بفعيلة لكثرتها فى الكلام.

{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }

وقوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ...}
المعنى - والله أعلم - ما منعك أن تسجد. و(أن) فى هذا الموضع تصحبها لا، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بما كان فى أوّله جحد. وربما أعادوا على خبره جحدا للاستيثاق من الجحد والتوكيد له؛ كما قالوا:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر * سود الرءوس فوالج وفيول

و(ما) جحد و(إن) جحد فجمعتا للتوكيد. ومثله: {وما يشعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمِنون}. ومثله: {وحرام على قريةٍ أهلكناها أنهم لا يرجِعون}. ومثله: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون} إلا أن معنى الجحد الساقط فى لئلا من أوّلها لا من آخرها؛ المعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون. وقوله: {مَا مَنَعَكَ} (ما) فى موضع رفع. ولو وضع لمثلها من الكلام جواب مصحح كان رفعا، وقلت: منعنى منك أنك بخيل. وهو مما ذكر جوابه على غير بناء أوله، فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} ولم يقل: منعنى من السجود أنى خير منه؛ كما تقول فى الكلام: كيف بتّ البارحة؟ فيقول: صالح، فيرفع؛ أو تقول: أنا بخير، فتستدلّ به على معنى الجواب، ولوصحح الجواب لقال صالحا، أى بتُّ صالحا.

{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }

وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ...}
المعنى - والله أعلم -: لأقعدن لهم على طريقهم أو فى طريقهم. وإلقاء الصفة من هذا جائز؛ كما قال: قعدت لك وجه الطريق، وعلى وجه الطريق؛ لأن الطريق صفة فى المعنى، فاحتمل ما يحتمله اليوم والليلة والعام إذا قيل: آتيك غدا أو آتيك فى غد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

وقوله: {يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً...}
"ورياشا". فإن شئت جعلت رياش جميعا واحده الريش، وإن شئت جعلت الرياش مصدرا فى معنى الريش كما يقال لِبْس ولباس؛ قال الشاعر:
فلما كشفن اللِّبْسَ عنه مَسَحْنَه * بأطراف طَفْلٍ زان غَيْلا مُوَشَّما

وقوله: {ورِيشاً ولِباسُ التقوى} و"لباسَ التقوى" يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل (ذلك) من نعته. وهى فى قراءة أبىّ وعبدالله جميعا: ولباس التقوى خير. وفى قراءتنا (ذلك خير) فنصب اللباس أحب إلىّ؛ لأنه تابع الريش، (ذلك خير) فرفع خير بذلك.

{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }

وقوله: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ...}
يقول: بدأكم فى الخلق شقيا وسعيدا، فكذلك تعودون على الشقاء والسعادة.
وقوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...}
يقول: إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصلّ فيه، ولا تقولن: آتى مسجد قومى. فإن كان فى غير وقت الصلاة صليت حيث شئت.

{ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }

وقوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ...}
ونصب الفريق بتعذون، وهى فى قراءة أُبَىّ: تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حقَّ عليهم الضلالة. ولو كانا رفعا كان صوابا؛ كما قال تبارك وتعالى: {كان لكم آيةٌ فى فِئَتْينِ التقتا فِئةٌ تقاتِلُ فى سبِيل اللّهِ وأُخرى كافِرةٌ} و "فِئَةً" ومثله: {وتُنذِرَ يوم الجمعِ لا ريب فِيهِ فرِيقٌ فى الجنةِ وفرِيقٌ فى السَّعِير}. وقد يكون الفريق منصوبا بوقوع "هَدَى" عليه؛ ويكون الثانى منصوبا بما وقع على عائِد ذكره من الفعل؛ كقوله: {يدخِل من يشاء فى رحمتِهِ والظالِمين أَعدَّ لهم عذاباً أَلِيماً}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}
نصبت خالصة على القطع وجعلت الخبر فى اللام التى فى الذين، والخالصة ليست بقطع من اللام، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة. والمعنى - والله أعلم -: قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا؛ يقول: مشتركة، وهى لهم فى الآخرة خالصة. ولو رفعتها كان صوابا، تردّها على موضع الصفة التى رفعت لأن تلك فى موضع رفع. ومثله فى الكلام قوله: إنا بخير كثير صيدنا. ومثله قول الله عز وجل {إِن الإنسان خُلِق هَلوعا. إِذا مسّه الشرّ جَزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا}. المعنى: خلق هلوعا، ثم فسر حال الهلوع بلا نصب؛ لأنه نصب فى أوّل الكلام. ولو رفع لجاز؛ إلا أن رفعه على الاستئناف لأنه ليس معه صفة ترفعه. وإنما نزلت هذه الآية أن قبائل من العرب فى الجاهلية كانوا لا يأكلون أيام حجهم إلا القوت، ولا يأكلون اللحم والدسم، فكانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجالُ نهارا والنساء ليلا، وكانت المرأة تلبس شيئا شبيها بالحَوْف ليواريها بعض المواراة؛ ولذلك قالت العامرية:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أُحله
قال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق بالاجتهاد لربنا، فأرادوا أن يفعلوا كفعل أهل الجاهلية، فأنزل الله تبارك وتعالى: {خذوا زِينتكم عِند كل مسجِدٍ} يعنى اللباس. {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} حتى يبلغ بكم ذلكم تحريم ما أحللت لكم، والأسراف ها هنا الغلوّ فى الدين.

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ...}
(والإثم) ما دون الحدّ (والبغى) الاستطالة على الناس.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }

وقوله: {أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ...}
يقال: ينالهم ما قضى الله عليهم فى الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين. وهو قوله: {ويوم القِيامةِ ترى الذِين كذبوا على الله وجوههم مسودة} ويقال هو ما ينالهم فى الدنيا من العذاب دون عذاب الآخرة، فيكون من قوله: {ولنذِيقنهم مِن العذابِ الأدنى دون العذابِ الأكبر}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا...}

يقول: التى سبقتها، وهى أختها فى دينها لا فى النسب. وما كان من قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} فليس بأخيهم فى دينهم ولكنه منهم.

{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }

وقوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ...}
ولا يَفتَّح وتُفَتَّح. وإنما يجوز التذكير والتأنيث فى الجمع لأنه يقع عليه التأنيث فيجوز فيه الوجهان؛ كما قال: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} و"يشهد" فمن ذكَّر قال: واحد الألسنة ذكر فأبنى على الواحد إذ كان الفعل يتوحد إذا تقدّم الأسماء المجموعة، كما تقول ذهب القوم.
وربما آثرت القراء أحد الوجهين، أو يأتى ذلك فى الكتاب بوجه فيرى من لا يعلم أنه لا يجوز غيره وهو جائز. ومما آثروا من التأنيث قوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فآثروا التأنيث. ومما آثروا فيه التذكير قوله: {لن ينال الله لحومها ولا دِماؤها} والذى أتى فى الكتاب بأحد الوجهين قوله: {فتِحت أبوابها} ولو أتى بالتذكير كان صوابا.
ومعنى قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ}: لا تصعد أعمالهم. ويقال: إن أعمال الفجار لا تصعد ولكنها مكتوبة فى صخرة تحت الأرض، وهى التى قال الله تبارك وتعالى: {كلا إِن كِتاب الفجارِ لفِى سجين}.
وقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الجمل هو زوج الناقة. وقد ذكر عن ابن عباس الجُمَّل يعنى الحبال المجموعة. ويقال الخياط والمِخْيَط ويراد الإبرة. وفى قراءة عبدالله (المِخْيَط) ومثله يأتى على هذين المثالين يقال: إزار ومِئزر، ولِحاف ومِلحف، وقِناع ومِقنع، وقِرام ومِقرم.

{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ }

وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ...}
وذلك أنهم على سُور بين الجنة والنار يقال له الأعراف، يرون أهل الجنة فيعرفونهم ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم، فذلك قوله: {يعرِفون كلا بسيماهم}. وأصحاب الأعراف أقوام اعتدلت حسناتهم وسيئاتهم فقصَّرت بهم الحسنات عن الجنَّة، ولم تبلغ بهم سيئاتهم النار، كانوا موقوفين ثم أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً...}
تنصب الهدى والرحمة على القطع من الهاء فى فصّلناه. وقد تنصبهما على الفعل. ولو خفضته على الإتباع للكتاب كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وهذا كِتاب أنزلناه مبارك} فجعله رفعا بإتباعه للكتاب.

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ...}
الهاء فى تأويله للكتاب. يريد عاقبته وما وعد الله فيه.

وقوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ} ليس بمعطوف على (فيشفعوا)، إنما المعنى - والله أعلم -: أو هل نردّ فنعمل غير الذى كنا نعمل. ولو نصبت (نردّ) على أن تجعل (أو) بمنزلة حتّى، كأنه قال: فيشفعوا لنا أبدا حتى نرد فنعمل، ولا نعلم قارئا قرأ به.

{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ...}
ذكرت قريبا لأنه ليس بقرابة فى النسب. قال: ورأيت العرب تؤنث القريبة فى النسب لا يختلفون فيها، فإذا قالوا: دارك منّا قريب، أو فلانة منك قريب فى القرب والبعد ذكَّروا وأنَّثوا. وذلك أن القريب فى المعنى وإن كان مرفوعا فكأنه فى تأويل: هى من مكان قريب. فجعل القريب خَلَفا من المكان؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وما هِى مِن الظالِمِين ببعِيد} وقال: {وما يدرِيك لعل الساعة تكون قريبا} ولو أنَّث ذلك فبنى على بعدَتْ منك فهى بعيدة وقَرُبت فهى قريبة كان صوابا حسنا. وقال عروة:
عشِيَّةَ لاعفراءُ مِنك قرِيبة * فتدنو ولا عفراء مِنك بعِيد
ومن قال بالرفع وذكَّر لم يجمع قريبا [ولم] يثنّه. ومن قال: إنّ عفراء منك قريبة أو بعيدة ثنَّى وجمع.

الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْراً...}

والنَشْر من الرياح: الطيبة اللينة التى تنشىء السحاب. فقرأ بذلك أصحاب عبدالله. وقرأ غيرهم (بُشْرا) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثنى قيس بن الربيع الأسَدىّ عن ابى إسحاق الهَمْدانى عن أبى عبد الرحمن السُلَمىّ عن علىّ أنه قرأ (بُشْرا) يريد بشيرة، و(بَشْرا) كقول الله تبارك وتعالى: (يرسل الرياح مبشِّرات).
وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} جواب لأنزلنا فأخرجنا به. يقال: إن الناس يموتون وجميع الخلق فى النفخة الأولى. وبينها وبين الآخرة أربعون سنة. ويبعث الله المطر فيمطر أربعين يوما كمنىّ الرجال، فينبتون فى قبورهم؛ كما ينبتون فى بطون أمّهاتهم. فذلك قوله: {كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} كما أخرجنا الثمار من الأرض الميتة.

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً...}
قراءة العامة؛ وقرأ بعض أهل المدينة: نَكَدا؛ يريد: لا يخرج إلا فى نَكَدٍ. والنكِد والنكَد مثل الدنِف والدنَف. قال: وما أُبعد أن يكون فيها نكُد، ولم أسمعها، ولكنى سمعت حذِر وحذُر وأشِر وأشُر وعجِل وعجُل.

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

وقوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ...}
تجعل (غير) نعتا للإله. وقد يرفع: يجعل تابعا للتأويل فى إله؛ ألا ترى أن الإله لو نزعت منه (مِن) كان رفعا. وقد قرئ بالوجهين جميعا.

وبعض بنى أَسَد وقُضَاعة إذا كانت (غير) فى معنى (إلا) نصبوها، تمّ الكلامُ قبلها أو لم يتم. فيقولون: ما جاءنى غيرَك، وما أتانى أحد غيرَك. قال: وأنشدنى المفضَّل:
لم يمنع الشربَ منها غير ان هتفت * حمامةٌ من سَحُوقٍ ذاتِ أوقال
فهذا نصب وله الفعل والكلام ناقص. وقال الآخر:
لاعيب فيها غيرَ شُهْلةِ عينِها * كذاك عِتاق الطير شُهْلاً عيونُها
فهذا نصب والكلام تامّ قبله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وقوله: {أَوَ عَجِبْتُمْ...}
هذه واو نَسَق أدخلت عليه ألف الاستفهام؛ كما تدخِلها على الفاء، فتقول: أفعجبتم، وليست بأو، ولو أريد بها أو لسكِّنت الواو.
وقوله: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يقال فى التفسير: مع رجل. وهو فى الكلام كقولك: جاءنا الخير على وجهك، وهُدِينا الخير على لسانك، ومع وجهك، يجوزان جميعا.

{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }

وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً...}

{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }

وقوله: {قَالَ الْمَلأُ...}
هم الرجال لا يكون فيهم امرأة. وكذلك القوم، والنَفَر والرّهْط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ }

وقوله: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ...}
يقول: قد كنت فيكم أمينا قبل أن أُبعث. ويقال: أمين على الرسالة.

{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً...}
منصوب بضمير أرسلنا. ولو رفع إذ فقد الفعل كان صوابا؛ كما قال: {فبشرناها بإسحاق ومِن وراءِ إسحاق يعقوبُ} وقال أيضا: {فأخرجنا بِهِ ثمراتٍ مختلِفا ألوانها} ثم قال: {ومِن الجِبالِ جُدَدٌ بِيض} فالوجه ها هنا الرفع؛ لأن الجبال لا تتبع النبات ولا الثمار. ولو نصبتها على إضمار: جعلنا لكم (من الجِبال جددا بيضا) كما قال الله تبارك وتعالى: {ختم الله على قلوبِهِم وعلى سمعِهِم وعلى أبصارِهم غشاوةً} أضمر لها جَعَل إذا نصبت؛ كما قال: {وختم على سمعِهِ وقلبِهِ وجعل على بصرِهِ غِشاوة} والرفع فى غشاوة الوجه. وقوله: {ومِن الناسِ والدوابِّ والأَنعامِ مختلِف ألوانه} ولم يقل: ألوانهم، ولا ألوانها. وذلك لمكان (مِن) والعرب تضمر مَن فتكتفى بمن مِن مَنْ، فيقولون: مِنا مَنْ يقول ذلك ومِنا لا يقوله. ولو جمع على التأويل كان صوابا مثل قول ذى الرمّة:
فظلُّوا ومنهم دمعه سابق له * وآخر يثنِى دَمْعَة العينِ بالمَهلِ
وقوله: {وزادكم فىالخلقِ بسطة} كان أطوالهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا.

{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }

وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ...}
والرجفة هى الزلزلة. والصاعقة هى النار. يقال: أحرقتهم.
وقوله: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} يقول: رمادا جاثما.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )

{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }

وقوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ...}
يقال: إنه لم يعذب أمّة ونبيّها فيها حتى يخرج عنها.

{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }

وقوله: {أَخْرِجُوهُمْ...}
يعنى لوطا أخرجوه وابنتيهِ.
وَقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يقولون: يرغبون عن أعمال قوم لوط ويتنزهون عنها.

{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...}
وإصلاحها بَعثة النبىّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالحلال وينهى عن الحرام. فذلك صلاحها. وفسادها العمل - قبل أن يبعث النبىّ - بالمعاصى.
وقوله شعيب: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} لم يكن له آية إلا النبوّة. وكان لثمود الناقة، ولعيسى إحياء الموتى وشبهه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }

وقوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ...}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اندكس بريد مكة

 الرابط